وصفة صندوق النقد الدولي في برامج التصحيحات الاقتصادية وإعادة الهيكلة في البلدان العربية


مصطفى العبد الله الكفري
2005 / 2 / 26 - 12:30     

الاختلالات التي يلحظها صندوق النقد الدولي في اقتصاديات الدول العربية هي حصيلة تراكمات لسياسات اقتصادية واجتماعية خاطئة أصلاً. ويكمن خطأ تلك السياسات في أنها قيدت المبادرات الخاصة وضيقت المجالات المفتوحة أمام القطاع الخاص، وحالت بين الاستثمار الأجنبي والاقتصاد الوطني، وأطلقت العنان للقطاع العام فدخل مجالات لا تتفق مع طبيعته، وعزلت الاقتصاد الوطني عن الاقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال التدخل في تحديد مستويات الأسعار والأجور وإقامة أسوار حماية الصناعة المحلية من المنافسة الأجنبية ونشرت مظلة الحماية الاجتماعية فوق قطاع عريض من الشعب بالدعم والتأمينات الاجتماعية والمشاركة بالأرباح مما أفقده الحافزية للعمل والإنتاج.
صندوق النقد الدولي يقترح برامج التصحيح وإعادة الهيكلة:
لذلك جاء العلاج الذي يقترحه الصندوق من خلال برامج التصحيح وإعادة الهيكلة التي قدمها وتستهدف تحرير الاقتصاد، أي جعله يسير على مذهب الاقتصاد الرأسمالي الحر (اقتصاد السوق) مع إدماجه دمجاً عضوياً في النظام الرأسمالي العالمي. وأضحت المهمة المطلوبة هي تعديل مستوى الطلب الكلي في الاقتصاد الوطني وخفضه بما يتناسب مع مستوى العرض الكلي. والهدف الأكثر مباشرة لبرامج التصحيح التي يقترحها الصندوق هو تحسين وضع ميزان المدفوعات. والعلاج هو الوصفة (الروشيتة) التي وضعها الصندوق والتي تتضمن تحرير الاقتصاد، تخفيض سعر الصرف، تخفيض الإنفاق العام، بيع القطاع العام للقطاع الخاص، إلغاء الدعم.
( ولم تختلف طريقة الصندوق في تقويم مدى نجاح برامج التصحيح التي يتبناها عن ذي قبل. فمازال التركيز الأكبر على عجز ميزان المدفوعات وعجز الموازنة العامة. وبرغم أن المؤشرات المستخدمة في التقويم قد تشمل معدل التضخم ومعدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي، فإن مقياس النجاح يظل هو إحداث خفض ملموس في العجزين الداخلي والخارجي ونسبة كل منهما إلى الناتج المحلي الإجمالي .وأي نقاط للضعف تظهر فيما يتعلق بالتضخم أو معدل النمو فهي واردة ولها تفسير جاهز، والتشديد قائم على أنه مع الاستمرار في تطبيق البرنامج وعدم التراجع عنه ستنخفض معدلات التضخم وترتفع معدلات النمو ولو بعد فترة قد تطول. وهنا لا بأس من تخفيف التركيز على النمو كهدف من أهداف التصحيح (بالتناقض مع النغمة الجديدة) ).
فالتركيز على تحقيق النمو ـ في ظل توافر قدر معين من الموارد ـ قد يؤدي إلى وضع قيد على مزيج السياسات الممكن صنعه وتعاطيه للوصول إلى ميزان مدفوعات قوي ". وليس من الحكمة تعجّل الحصول على معدلات نمو مرتفعة:" ففي غياب التصحيح سيكون النمو الذي يتحقق اليوم في الغالب على حساب نمو أبطأ في المستقبل ". كذلك فإنه لما كانت الاختلالات المراد تصحيحها قد اصطحبت بمعدلات نمو اقتصادي غير قابلة للاستمرار "لا يصبح استرجاع النمو إلى المسار القابل للاستمرار الذي قد يكون معدله أقل من ذي قبل مشكلة، وإنما عنصر من عناصر الحل .
لقد تحمل فقراء الوطن العربي النتائج السلبية والأثر الضار لبرامج التصحيح وإعادة الهيكلة التي طرحها صندوق النقد الدولي. ولا ينكر هذا الأمر بعض خبراء الصندوق، حيث أن هذه النتيجة لا تمثل مشكلة في رأي هؤلاء الخبراء وإنما تمثل عنصراً من عناصر الحل. فالخفض الكبير في الإنفاق العام يؤدي إلى هبوط معدلات النمو الاقتصادي وتراجع الدخول في فترة الركود، وهذا يستتبع نقص الإنتاج وزيادة البطالة وتدهور مستوى المعيشة. وهذه النتيجة لا تمثل مشكلة في رأي خبراء صندوق النقد الدولي، ويعتقدون أنها تمثل عنصراً من عناصر الحل وبذلك لا ينكر بعض خبراء الصندوق أن الذي يتحمل النتائج السلبية والأثر الضار لتطبيق وصفة الصندوق هم الفقراء فيزداد الفقراء فقراً وتزداد ثروة الأغنياء.
يبدو مصدر الضرر للفقراء في الجانب التقشفي للبرنامج (ضغط الطلب الكلي) وهذا يؤثر على الفقراء من زوايا عديدة فهو يقتطع جانباً من النفقات العامة ذات الطابع الاجتماعي التي يستفيد منها الفقراء بالدرجة الأولى، وبخاصة ما يتعلق بدعم السلع الاستهلاكية والتعليم والخدمات الصحية المجانيين. كما أن البرنامج كثيراً ما يعمد إلى زيادة الإيرادات برفع أسعار منتجات القطاع العام وأسعار خدمات المرافق العامة كالكهرباء والمياه، وخدمات النقل العام بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق رفع أسعار المنتجات البترولية. والضرر النسبي الذي يقع على الفقراء وأصحاب الدخول المحدودة من جراء ذلك أكبر من ذلك الذي يقع على الفئات الأعلى دخلاً. كذلك فإن الأثر الانكماشي للبرنامج ينعكس على الفقراء في شكل تضاؤل فرص العمل وارتفاع نسبة البطالة. أضف إلى ذلك أن برنامج التصحيح له آثار تضخمية، برغم أنه يسعى على حد زعم أصحابه إلى مكافحة التضخم فهو ينطوي ـ كما أسلفنا ـ على رفع مباشر وغير مباشر (من خلال تخفيض الدعم أو إلغائه، وكذلك من خلال تخفيض سعر صرف العملة المحلية وأيضاً عن طريق إطلاق العنان لقوى السوق في تحديد الأسعار لأسعار للعديد من السلع، والتضخم ـ كما هو معلوم - يعيد توزيع الدخل من الفقراء إلى الأغنياء ويهبط بمستوى الأجور الحقيقية ومستوى معيشة أصحاب الدخول الثابتة والمحدودة .
الانتقادات الموجهة إلى تطبيق برامج صندوق النقد الدولي في التصحيح وإعادة الهيكلة:
وفي صدد الانتقادات الموجهة إلى برامج ووصفات صندوق النقد الدولي في إعادة الهيكلة أشار الدكتور إبراهيم العيسوي إلى عدد كبير من الانتقادات يمكن التركيز على ثلاث نقاط هامة منها:
( 1- إن تنفيذ هذه البرامج بتكاليف اجتماعية واقتصادية أقل حدة ، ومن ثم توفير ظروف تصبح فيها هذه البرامج متقبلة أو محتملة دون معارضة قوية، يتطلب توافر دعم مالي خارجي على نطاق كبير. فذلك أمر هام لتفادي الآثار الانكماشية أو على الأقل تخفيف حدتها، وكذلك لتخفيف الأعباء على الطبقات الشعبية. ولهذا تصطحب هذه البرامج عادة بتقديم مساندة مالية من الصندوق والبنك الدولي ومؤسسات دولية أخرى فضلاً عن تأجيل سداد الديون(إعادة الجدولة) .
والمشكلة هي أن التدفقات الرأسمالية الدولية لدول العالم الثالث قد انكمشت انكماشاً كبيراً في الثمانينات، سواء من المصادر الرسمية أو من المصادر التجارية. ومن ثم فإن توافر الدعم المالي الخارجي لمساندة برامج التثبيت يتطلب عكس حركة التدفقات الرأسمالية الدولية؛ وهو أمر لا تملك دول العالم الثالث التأثير فيه كذلك يلاحظ، من ناحية أخرى، أنه كلما زادت المبالغ المطلوبة لدعم برامج التثبيت تشدد الصندوق في فرض شروطه وأصبح التفاوض معه على تخفيف بعض الشروط أصعب. وفي كل الأحوال فإن تنفيذ البرنامج يعني من الناحية العملية الاستمرار في دوامة الاقتراض، وليس هناك ما يضمن أن فترة التنفيذ تكفي لإعادة ترتيب الأوضاع الاقتصادية على نحو يمكن الدولة المنفذة للبرنامج من خدمة حجم أكبر من الديون الخارجية بعد البرنامج ولهذا فليس من المستبعد أن تستمر الدول المدينة في الاعتماد على الصندوق من خلال التجديد المتتالي لبرنامج التثبيت واتفاقات المساندة، مما يفاقم من أوضاع المديونية الخارجية والتبعية. ومثال تركيا من الأمثلة التي ينبغي تذكرها في هذا الصدد.
2- إن نجاح برامج الصندوق ليس هو القاعدة أو الأمر الشائع، حتى وفقاً لدراسات خبراء الصندوق. فقد كان الفشل حليف هذه البرامج في معظم الأحوال. والتبرير المعتاد من جانب الصندوق لا يخرج عن واحد من اثنين : الجرعات لم تكن كافية ولم تكن مكثفة ومركزة على مدى زمني قصير، والظروف الخارجية لم تكن مواتية "هبوط الطلب العالمي ـ تدهور شروط التبادل ـ انخفاض التدفقات الرأسمالية إلى العالم الثالث ". أما احتمالات الخطأ في التشخيص أو عدم ملائمة العلاج فهي احتمالات لا ترد على بال الصندوق.
3- ينبغي تذكر أن معظم الدول التي تطبق برامج الصندوق بإخلاص وتفانٍ كان عليها أن تواجه أحد أمرين: التضحية بالديمقراطية من أجل الاستمرار في تنفيذ البرنامج، أو حدوث انقلاب على الحكومة بعدما تتضح العواقب الوخيمة لتنفيذ البرنامج. وهذه التكلفة السياسية ينبغي عدم تجاهلها عند تقييم برامج التثبيت).
إن تنفيذ برامج صندوق النقد الدولي في الإصلاحات الهيكلية يفترض وجود سلطة منحازة بشكل واضح للطبقة الغنية في المجتمع ولرأس المال المحلي والأجنبي، وراضية بشكل عام عن وضع الاقتصاد الوطني ودوره في ظل التقسيم الدولي الراهن للعمل.
البرنامج البديل لبرنامج صندوق القد الدولي:
ما هو البرنامج البديل لبرنامج صندوق النقد الدولي لإعادة الهيكلة والإصلاحات الاقتصادية ؟
إن البرنامج البديل في الدول العربية يجب أن لا ينصب على إصلاحات اقتصادية فحسب بل هو عملية شاملة تهدف إلى بناء أسس جديدة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كأساس لنفي التبعية والحيلولة دون عودتها للظهور من جهة، وبناء التنمية المستقلة والمستمرة والتي تحقق العدالة الاجتماعية. وهذا يعني سيطرة المجتمع على شروط تطوره، ووضع سلطة اتخاذ القرارات المتصلة بهذه العملية بأيدي القوى الوطنية التي لا مصلحة لها في دمج الاقتصاد الوطني بالرأسمالية / والارتباط بها.
وتنطلق التنمية المستدامة التي تقوم بالاستناد إلى مبدأ الاعتماد على النفس، من أن الإنسان هو محور التنمية وهو صانعها الحقيقي وهو من يجب أن تؤول إليه نتائجها. وهذا يعني أن الاعتماد الأساسي في التنمية المستدامة هو الاعتماد على البشر مع الاهتمام بمصير الأجيال القادمة، أي الاهتمام بالمستقبل. ويترتب على ذلك أمران الأول: ضرورة الاهتمام بالإنسان وبذل أقصى ما يمكن لإشباع حاجاته الأساسية من جهة ، وتنمية البشر وتطوير قدراتهم على الابتكار والإبداع والعمل بكل السبل على استعادتهم لثقتهم بأنفسهم. والثاني: الاهتمام بمستقبل الأجيال القادمة وضمان تحقيق معدلات نمو جيدة وعدم الجور في استخدام الموارد الطبيعية وهدرها.
أما القضية العاجلة والمحورية في البرنامج البديل تتطلب تعبئة كل الجهود بهدف زيادة الإنتاج بالاعتماد على القوى الذاتية. وكل إنجاز في هذا السبيل سوف يساعد الدول العربية في التغلب على الصعوبات الاقتصادية الراهنة. ولابد من توفر شروطاً أفضل لزيادة الإنتاج وبخاصة زيادة إنتاج المواد الغذائية بهدف رفع نسبة الاكتفاء الذاتي. وزيادة إنتاج المنتجات ذات الاستهلاك الشعبي للوفاء بالاحتياجات الأساسية لأكبر شريحة في المجتمع. زيادة الإنتاج في القطاع العام ورفع مستوى الأداء فيه. وإصلاح نظم الأجور والمعاشات. ولابد من تهيئة المناخ الاستثماري المناسب والتركيز على موضوع الصناعات التصديرية، وإتباع سياسة نقدية ومالية مناسبة لمكافحة التضخم.

الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
[email protected]

- انظر د. إبراهيم العيسوي، المسار الاقتصادي المصري وسياسات تصحيحه، بحث مقدم إلى ندوة (السياسات التصحيحية والتنمية في الوطن العربي ) ، المعهد العربي للتخطيط الكويت من 20 - 22 شباط 1982 ، ص226.
- M.Guitian , the Fund s Roll in Adjustment Finance Development , Vol. . 24, No.2June 1987, P.6.
- المصدر السابق نقلاً عن د. إبراهيم العيسوي، المسار الاقتصادي المصري وسياسات تصحيحه. المصدر السابق ص226.
- د. إبراهيم العيسوي المصدر السابق ص232.
- المصدر السابق ، ص240-241.