الأمين والنايتروجين وتلوّث البيئة


عدنان الظاهر
2012 / 9 / 11 - 11:34     


مُدخل عام /
بعيداً عن مفهوم التلوّث المألوف وخطر السموم الكيميائية والموت بالأشعة ... تمثّلُ بعض المركبات المتطايرة أو سريعة التبخّر عاملاً آخرَ من عوامل تلوّث البيئة. لكنَّ لهذا العامل خصائصَ متميزة على رأسها أنها ليست سامّة وأنها لا تمثل أي خطر معروف على صحة الإنسان وعل مستقبل أجياله القادمة. وإذا شئنا أنْ نكون متحفظين فلنقلْ إنَّ العواقب البايولوجية لأبخرة مثل هذه المركبات لم تُدرسْ بعدُ بشكل علمي منهجي.
فيمَ إذاً تصنيفها كعوامل تلويث للبيئة ؟ الجواب في كونها تنفث روائحَ كريهة ينفر منها الإنسان ولا تتقبلها حاسة الشم لديه. فهي والحالة هذه تُصنّف ضمن ملوّثات الغلاف الجوي بانتشار جزيئاتها بين جزيئات مكونات الهواء الرئيسة وهي النايتروجين ( 79 % ) وغاز الأوكسجين حوالي 20 %.
إذاً ليس بالضرورة أنْ يكونَ عامل التلوث قاتلاً .. شأنه شأن كل ما يُسيء إلى الذوق العام شمّاً أو بصراً أو سمعاً. الأصوات العالية النشاز " تلوّث " المدينة وتُسيء إلى حاسة السمع ثم إلى الصحة النفسية والبدنية على حد سواء.
الأمينات والنايتروجين
أظهرت بعضُ الدراسات أنَّ من بين الروائح الكريهة جداً مركبات أمينية يدخل عنصر النايتروجين في تركيبها بدون إستثناء. ليس النايتروجين بحاله وحده مسؤولاً عن هذه الخاصية المُنفّرة للذوق فغاز النايتروجين كجزيئة ذات ذرتين لا رائحة له وهو يشكّل النسبة الأكبر في الهواء المحيط بنا. هذا صحيح ولكنْ يساويه في الصحة القولُ أنْ ليس كل المركبات التي يحتوي بناؤها على ذرة نايتروجين أو أكثر تتميز بالرائحة الكريهة. أحسن مثال على ذلك محلول الأمونيا ( النشادر ) أو بخارها. صحيح أنَّ بخارها نفّاذ وصادم لذلك يُستخدم أحياناً في المستشفيات للإفاقة من حالة الإغماء أو بعض حالات الغيبوبة كشميم للغائب عن وعيه أو المغمي عليه. لكنَّ رائحة الأمونيا على أية حال ليست كريهة وتُستخدم الأمونيا في البيوت كمُنظّف جيد.
في جزيئة الأمونيا ذرة نايتروجين واحدة ترتبط بها ثلاث ذرات هايدروجين. إذاً هل هناك علاقة بين عدد ذرات النايتروجين في جزيئة ما وبين خصائص هذه الجزيئة الشميّة ؟ وهل هناك علاقة بين هذه الخصائص وترتيب ونوع إرتباطات ذرة أو ذرات النايتروجين بذرات العناصر الأخرى التي تشكل البناء الهندسي والتوزع الفضائي النهائي للجزيئة ؟ لا جوابَ شافياً عن السؤال الأول بعدُ ولكنَّ التركيب الجزيئي المعروف يُجيب عن السؤال الثاني بنعم. فحين تحل مجموعة المثيل
methyl group ( CH3 )
[ إعتذار : لا أستطيع كتابة الرقم 3 في مكانه الصحيح في الزاوية السفلى اليمنى لذرة الهايدروكين في مجموعة المثيل وسيكون الحال هكذا مع بقية المركبات الكيميائية ] ... حين تحل محل ذرة هايدروجين في جزيئة الأمونيا
NH3
تتكون رابطة كيميائية جديدة لم تكن موجودة أصلاً في جزيئة الأمونيا. إنها الرابطة أو الآصرة التي تربط ذرة النايتروجين الأساسية الوحيدة بذرّة الكاربون القادمة مع مجموعة المثيل ويُسمّى المركب الجديد أمين المثيل
methylamine
CH3NH2
محتفظاً برائحة الأمونيا النفّاذة الصادمة لخلايا حاسة الشم. لكنَّ الصورة تنقلبُ كليّةً بعد أنْ تحل مجموعتا مثيل محل ذرتي هايدروجين في جزيئة الأمونيا حيث يكتسبُ المركب الجديد رائحة كريهة لا يُطيقها المرء . إسم هذا المركب الجديد هو الأمين ثنائي المثيل
dimethylamine
( CH3 )2NH
وكذلك الأمر فيما لو حلّت ثلاث مجموعات مثيل محل ذرات الهايدروجين الثلاث جميعاً في جزيئة الأمونيا لأصبحت الرائحة الكريهة أكثر قوةً وأشد إزعاجاً للإنسان والبيئة. يتفاقم الأمرُ أكثر عندما تحل مجموعتا أثيل
ethyl group
أو أكثر محل عدد مساوٍ من ذرات الهايدروجين فتكون النواتج هي الأمين ثنائي الأثيل
Diethylamine
( C2H5 )2NH
والأمين ثلاثي الأثيل
Triethylamine
( C2H5 )3N
وتكون لهذين المركبين روائح اشد إيلاماً للنسيج المخاطي الذي يبطّنُ الأنف والحنجرة وباقي ممرات الجهاز التنفسي المعتادة. الدور الذي تلعبه مجموعات المثيل في تحول رائحة الأمونيا من شيء مقبول إلى آخرَ كريه لا يُطاق يجعلنا نُركّز على أمرنفهمه أكثر عن طريق الإستدلال بالمقارنات. أردتُ أنْ أقولَ إنَّ ذرة الكاربون المحاطة بثلاث ذرات هايدروجين في مجموعة المثيل هي السبب الأول والأخير في إعطاء المركب الجديد ـ الأمين ثنائي أو ثلاثي المثيل ـ هذه السمة الشميّة الكريهة. التركيب الجديد قريب جداً من تركيب غاز الميثان
CH4
حيث تحيط ذرةَ الكاربون المركزية أربع ذرات هايدروجين كما هو واضح من التركيب الجزيئي أعلاه. رائحة هذا الغاز السام القاتل معروفة ويا ما تسبب في قتل عمال المناجم وطيور الكناري وعمال تنظيف البالوعات وحُفر المراحيض في البيوت القديمة.
هناك مركبات كيميائية أخرى شهيرة بخصائصها السُميّة أو بروائحها الكريهة تتميز بدخول ذرات معينة في تركيبها الجزيئي وأبرز هذه الذرات هي الكبريت كما في حالة غاز كبريتيد الهايدروجين
H2S
وغاز ثاني أوكسيد الكبريت السام
SO2
ثم ذرة الفسفور كما في غاز الفوسفين
PH3
والكلور والكاربون في الفوسجين القاتل
COCl2 = phosgene
الذي ينطلقُ من أواني ومعدّات البلاستك المصنوع من مادة الكلوريد متعدد الفينايل = polyvinyl chloride ( PVC )
نتيجة حرقها أو احتراقها قضاءً وقَدَراً.
وأخيراً ذرة النايتروجين كما في حالة غازات النايتروجين ولا سيّما أول أوكسيد النايتروجين = NO
وثاني أوكسيده = NO2
وهذه تُعتبر من ملوّثات الجو الغازية السامة وذات الخطورة. الغريب في الأمر ـ ولا غرابة في العلم ـ أنَّ هذه العناصر غير الفلزية تدخل في تركيب أعضاء جسم الإنسان المختلفة ونقص أحدها يؤدّي إلى ما لا حصرَ له من العيوب والمضار التي تتهدد صحة الإنسان. الضار نافع والنافع ضار. ولا ننسى أنَّ في القليل من سموم الأفاعي العلاج الشافي للكثير من الأمراض.
لستُ أدري أمن المُجدي إثارة السؤال القديم حول طبيعة تأثير الروائح الكريهة : هل هذا التأثير ذاتي أم موضوعي ؟ أي هل هو كائن في التركيب الخاص لمادة خاصة أم أنه تأثر خاص لخلايا معينة في أجسادنا ؟ ثم لماذا تؤثّر مركبات كيميائية خاصة في خلايا خاصة وكيف ؟ لقد أخلت الفلسفة مكانها للعلم. وفي التفاعلات الكيميائية نجد عادة الجواب الشافي.
تجربة علمية
قامت في عام 1983 مجموعة من الباحثين (1) الكيميائيين في مركز أبحاث التلوث البيئي في مدينة أوساكا وكلية الهندسة في جامعة هيروشيما في اليابان بتجربة رائدة مستخدمين تقنية الكروماتوغرافيا الغازية المكيّفة تكييفاً خاصاً مكّنتهم من إكتشاف آثار بعض الغازات في الجو. لقد ركّز هؤلاء البحّاثة على أماكن وبيئات خاصة وكما يلي :
1 ـ جمعوا عيّنات من هواء زريبة مواشٍ
2 ـ وعيّنات هواء من منطقة خاصة لتجميع فضلات المواشي
3 ـ وغازات ناتجة عن تخمير فضلات خنازير
4 ـ هواء من حقل دواجن
5 ـ ونماذج هواء من حوالي جهاز تخمير فضلات دجاج ..
فما وجد هؤلاء الباحثون ؟ إكتشفوا وجود غاز الأمين ثلاثي المثيل trimethylamine
في هواء زريبة المواشي بتركيز يساوي 0.8 جزء في البليون
PPB
كما وجدوا غاز مركب الأمين المثيلي = methylamine
في الجو المحيط بجهاز تخمير فضلات الدجاج والطيور بتراكيز تبلغ 0.97 جزء في البليون فضلاً عن الأمين ثلاثي المثيل بتركيز يضاهي ما وجدوه في أجواء حظيرة الأبقار. اثبتت هذه التجربة بشكل قاطع أنَّ الروائح الكريهة التي نشمّها في أو بالقرب من حظائر المواشي والطيور وأماكن لفظ فضلاتها ( وربما يصح الأمر على الخيول وفضلات الإنسان أيضاً ) إنما سببها مركبات كيميائية من نوع الأمينات التي يدخل في تركيبها كل من عنصري النايتروجين والكاربون بالإضافة إلى الهايدروجين.
المصدر /
Kazuhire Kuwats, et al, and Yoshiyuki,j.Am.Chem.Soc., 55,2190 ( 1983 ).