سؤال لشباب اليسار : هل كان عصام العريان محقا؟


يوسف يوسف المصري
2012 / 9 / 7 - 00:59     

سؤال لشباب اليسار : هل كان عصام العريان محقا؟
---------------------------------------------------------------------------------
هل كان عصام العريان محقا في وصفه لليسار بالتشرذم؟. لا مناص من الاعتراف بذلك اذ انه يتطابق مع ما يقوله اليسار عن نفسه على اي حال. ولكن لماذا؟.
تشرذم اليسار ليس "ميكروبا" خبيثا يجول في صفوف الناس فيترك من هم من غير اهل اليسار حتى اذا وجد يساريا دخل مباشرة الى رأسه ليعبث بها. ان له اسبابه التي تتصل بالطبيعة الطبقية لعناصر اليسار في مرحلته الحالية وللتراث الذي امتد من ازمان سابقة ليجده اليساريون في صفوفهم الآن ولطبيعة اللحظة السياسية والاجتماعية في مصر في المرحلة الحالية.
وينبغي اثارة هذه القضية امام شباب اليسار - في سياق الجهود الراهنة لجمع الجهود العملية للقوى الثورية - حتى يمكن تجاوزها على اساس متسق مع محتواها الحقيقي. ولن يمكن تجاوزها بطبيعة الحال دون ان نحدد اولا ما هو هذا المحتوى الحقيقي وما هي الاشكال المختلفة التي تتبدى بها تلك الخلافات التي يتعين حلها ل"توحيد" اليسار.
فاذا نظرنا اولا الى المكونات الطبقية لعناصر اليسار في مصر بصفة عامة في هذه اللحظة فسوف نجد ذلك الطور الطبيعي من تطور هذه القوة السياسية الذي يتمثل في انتمائها على الاغلب الى البورجوازية الصغيرة بسماتها الذهنية المختلفة وابرزها الفردية. فانت حين "تذاكر" تنجح وحين تجتهد تجد. ولا نتعلم من ظروف النشأة ومن موقعنا في تقسيم العمل الاجتماعي اننا في واقع الامر جزء من كل اكبر منا يجب علينا ان ننخرط فيه. العامل في المقابل يضع ترسا واحدا او ينجز حلقة واحدة من حلقات خط الانتاج في المصنع. وليس بوسعه في نهاية اليوم ان يشير الى المنتج ليقول بزهو "انا" انتجت ذلك. انه ينظر الى زملائه ليقول "نحن" والة نتاج العمل قائلا "نحن" انتجنا هذا بينما في وسع اي منا ان يقول "انا ذاكرت وانجزت". على الرغم من ذلك فحتى العامل يتنافس مع زميله على الترقية او الراتب ولا يكتشف الطريق الى هذا الزميل الا في درب كفاحهما معا وبلورتهما معا لهويتهما الحقيقية كجزء من طبقة تواجه اليوم مهمتها التاريخية في انهاء القهر والاستغلال ليس في مصر فقط بل وفي العالم.
ليس هذا بالتفسير الكافي على اي حال ولكنه جانب واحد من تفسير طريقة التفكير التي تعلمناها من نمط حياتنا اليومية. ولكن ما اقصده هنا هو ان طريقة التفكير هذه اي طريقة النظر للآخرين وللعالم من حولنا لا تنفصل في مادتها الخام عن فرديتنا في هذه المرحلة المبكرة. الا ان هذا الطور من اطوار نمو اليسار في بلد كبلدنا هو طور طبيعي تماما لاسيما في ضؤ الظروف التاريخية التي ادت الى ثورة 25 يناير وما تلاها. وبقدر ما تبدو مهمة البورجوازي الصغير وكأنها اثبات ذاته بقدر ما يبدو مستعدا في الوقت ذاته لاسباغ صفات ذاتية على ما يحيط به من اشخاص واشياء. ويزيد من تعقيد هذه المشكلة اننا في مجتمع لم يتطور رأسماليا بقدر كاف ومن ثم لم يتمكن من تدمير اركان مهمة من ثقافة مجتمعات ما قبل الرأسمالية. وهكذا تأتي بورجوازيتنا الصغيرة بمزيج مشوه من الافكار والمعايير حتى بالمقاييس البورجوازية.
وتتبدى اشكال الخلافات في تقسيمات افتراضية تعبر عن نفسها بمفردات لا حصر لها. من تلك المفردات مثلا "الشباب في مواجهة العواجيز" و"صراع الاجيال" و"المبدأي في مواجهة الانتهازي" ومن يتحرك في الشارع ويقود المظاهرة في مواجهة من يجلس على الكي بورد لكي ينظر ويتفلسف وما الى ذلك من تعبيرات شائعة معروفة ومفهومة.
واذا كان مصدر تلك التقسيمات الافتراضية مفهوما فان من الضروري الرد عليها ولو في عجالة. فحين ندرك ان الثورة مشوار طويل لا يمكن انجازه الا بقدر ما ننجز اي بناء على الارض سندرك ايضا ان اي جهد في سياق تشييد ذلك البناء يجب ان يلقى ترحيبا مشروطا. فتشييد البناء لا يمكن ان يبدأ او ان يستمر دون رسوم هندسية – مع الاعتذار على فجاجة التعبير - توضح طبيعة ما نبنيه حقا. بدون تلك الرسوم سيجد من يشيدون انهم بذلوا جهدا كبيرا في بناء جدار في المكان الخاطئ.
النظرية الثورية تشبه في هذه الحالة الرسوم التي توضع لتشييد هذا البناء. وكل من يشيد ويعرق ليلا نهارا في عملية التشييد هذه سيجد ان اي جهد للمشاركة في البناء يجب ان يلقى الترحيب شرط ان يراعي الرسوم التي تنظم حركة الجميع. ليس هذا البناء ملكا للبنا الذي يضع الطوب ولا لعامل الطلاء الذي يلونه ولا للمهندس الذي شارك في التصميم. انه ملك الجميع بقدر ما تكون السلعة التي نراها تخرج من خط الانتاج في اي مصنع نتاجا لعمل المئات ممن انتجوها سواء على نحو مباشر او على نحو غير مباشر.
كل مقارنة عرجاء كما يقولون. فالامر في حقيقته لا يقبل تقسيما للعمل يشبه تقسيم تشييد البناء والرسوم الهندسية اذ ان التفاعل بين مكونات قوى الثورة وبينها وبين اسس النظرية الثورية هو تفاعل اكثر تعقيدا وثراء بكثير يرتبط في جوهره بما يحدث على الارض. ولكن الهدف من هذا المثل هو التأكيد فحسب على ان نظرية الثورة هي المخطط العام الذي يمنحنا الثقة فيما نفعل. وبرغم رحيل من وضعوا اسس تلك النظرية منذ عقود طويلة وبرغم انهم لم يشاركوا في مظاهرة واحدة من مظاهرات 25 يناير وما تلاها فانهم يمثلون بالنسبة لنا جميعا الاساتذة الذين تعلمنا منهم كيف ننظر الى الامور وكيف نثق في قدرتنا على الانتصار في مصر وفي خارج مصر.
فان جاء شخص يريد ان يساهم في البناء ولو لنصف ساعة فان علينا ان نرحب به ان كنا حقا منشغلين بمهمة البناء وليس بشئ سواها. اننا سنرى في هذا الجهد سواء أكان جهدا نظريا او عمليا مساهمة ايجابية تساعد قضية الثورة في مصر بافتراض ان من يساهم معنا يلتزم بالخطوط العامة للمشوار الذي سيفضي الى انتصار فقراء وطننا.
ولكن كيف يمكن لنا ان نعرف من يشارك لكي يساهم في هذا الجهد ومن يشارك لكي يضلله ويفضي به الى فوضى ضاربة؟. يتعين علينا كي نعرف ذلك ان نفتح بين انفسنا نقاشا نظريا لا يخجل ولا يسبغ هالة من القدسية على شئ الا على هدفنا النهائي. ان هذا الصراع النظري هو الذي يمكن ان يبرهن ليس فقط على طبيعة مساهمات من يساهمون ولكنه يضع ايضا "الرسوم الهندسية" مع الاعتذار لاستخدام هذا التعبير الذي لا يصلح الا لايضاح الامر وتبسيطه.
ليس ثمة قدسية لاشخاص ولا لاسماء ولا لاي شئ سوى الفكرة والوسائل الخلاقة لتطبيقها. ومن يقولون ان اي نقاش يجب ان يلتزم بلغة مهذبة وب"حدود الادب" محقون اذا تدهور النقاش الى تناول الاشخاص وليس افكارهم. اما ان كنا نناقش افكارا فان نقد تلك الافكار "حلال" بكل الوسائل الممكنة طالما ظل النقاش محصورا بصرامة في تلك الافكار والاراء وحدها.
ان تركيز من يهتمون حقا بالبناء يذهب بصورة تكاد تكون غريزية الى محتوى ما يقال وليس الى شخص من يقوله او للغة التي يتعين استخدامها لتشريح تلك الافكار ونقدها. لقد كان لينين خلال سنوات التحضير المرهق للثورة فارا في اغلب الاحيان يختبئ في مناطق نائية من روسيا او خارج اراضيها لكي يفلت من الشرطة القيصرية. انه لم يكن يشارك في المظاهرات والاضرابات ولكنه كان يكتب عنها بلا توقف. وكان يكتب مقالاته بالقلم على قطعة من الورق ويعطيها لاحد مناضلي الحزب الذي يخفيها جيدا ويذهب الى حيث يطبع الحزب منشوراته فتطبع على الفور لتوزع بين العمال. ثم انه لم يتعرض قط لشخص من يقول برأي معين بل كان يهاجم ما يراه ضارا بمشوار الثورة بضراوة بالغة. وقد واجه كما نعرف جميعا من يتحيزون لافكار قادتهم لا لشئ الا لانهم قادتهم ومن الحزب ذاته وان قواعد "الانضباط" تدعو الى ذلك. الا انه مزق هذا الفهم الاحمق للانضباط بان حدد ان اساسه هو الاقتناع بالفكرة وبمشروع معين لانجاز الثورة وليس اي شللية تدفع هذا او ذاك لرفض او التعتيم على ما يقوله الآخرون. الثوري الحقيقي هو من يهدف الى فتح اوسع نقاش ممكن حول قضايا الثورة النظرية والعملية طالما بقي هذا النقاش بصورة قاطعة في اطار بحث تلك الافكار وتفنيدها او اثبات صحتها.
ومن سؤ حظ المناضل الثوري الكبير بطبيعة الحال ان العالم آنذاك لم يكن يعرف الانترنت ولا فيس بوك ولا "الكي بورد". فلو كان العالم يعرف كل ذلك لما تردد زعيم الثورة الروسية في ان يوفر العناء ويخاطب العمال ليس بالقلم والورقة التي ينقلها مناضل يمكن ان يتعرض للاعتقال ولكان قد تحول الى مخاطبة العمال عبر الانترنت. ان هناك من يحاولون التصغير من شأن تلك الاداة الجبارة للاتصال ولتسهيل نقل الافكار ومحاولة الاستهانة بمن يستخدمونها. ولا بأس في ذلك سوى ان عليهم العودة الى ايام "الرونيو" او حين كان استخدام ماكينات "الفوتو كوبي" ممنوعا في المحلات العامة الا بتصريح من مباحث امن الدولة. ليست تلك مزحة او مبالغة. انها حقيقة يعرفها ابناء جيل سبق حين كان استخدام الفوتو كوبي ممنوع حقا في مصر الا بتصريح من الامن. وفي كل الاحوال فان على من يستخفون بالانترنت او يريحوا انفسهم ويعودوا الى الرونيو. ولكن هذا الجيل الشاب بكل خبرته سيفرز لنا قيادة الثورة المصرية في مرحلتها المقبلة اذا ما فتح النوافذ لكافة الافكار والاراء واذا ما تقيد بصرامة بموضوع النقاش. سيأتي "لينين" مصر من هذه الشوارع المزدحمة ومن تلك الحواري التي تأن ومن ريف مصر ومصانعها. فنحن على موعد تاريخي لن يأتي ونحن ننتظر ولكننا سنذهب اليه مهما كانت التضحيات.
على الشباب ان يستخدموا الانترنت والفيس بوك وكافة الادوات الممكنة للتواصل وتبادل الافكار وعليهم تجنب الانصات لمحاولات التقليل من شأن "الكي بورد" طالما انه ينقل افكارا او تنسيقا للتحرك في الشارع ثم ان عليهم ان يجدوا الوسائل الضرورية لايصال البيانات الثورية الى احياء الفقراء ومصانع العمال ان لم تكن الانترنت متاحة هناك سواء بطبعها وتوزيعها او بنقل محتواها في مؤتمرات جماهيرية دون ان يعني ذلك انها يمكن ان تتحول الى بديل لتلك المؤتمرات والتحركات العملية.
من يناقشون قضايا نظرية ثورية اذن على الرحب والسعة ان كانوا يضيفون افكارا جديدة تدعونا الى التفكير, ومن يتفلسفون على الرحب والسعة ان كانوا يدفعون بقضايا مختلفة الى دائرة النقاش. وعلى من يتحركون في الشارع او في المصانع ادراك ان المعيار الذي يحدد صحة اتجاههم بصفة عامة هو معيار مناقشاتهم فيما بينهم بالاستعانة بتلك الافكار والنقاشات النظرية التي سيميزون خلالها بين الغث والسمين خلال رحلة الثورة الطويلة.
ولكن ماذا لو جاءت تلك الافكار من شخص عجوز او آخر يجلس على كرسي متحرك اي لا يمكن ان يشارك في مظاهرات او اضرابات او معارك الشوارع؟. لا يمكن وضع بوابة للتفتيش اولا على "البطايق" لتحديد عمر من يساهم. كما لا يمكن ان يحدد ايا منا سنا للمعاش الثوري من يتجاوزه لا يجوز له ان يتدخل في شؤون الثورة. ان تلك الافكار البلهاء تضر باصحابها حين تغلق اذهانهم عن اي افكار مفيده لكفاح كل شعب مصر بكباره وشبابه. افتعال مواجهة بين الشباب والعواجيز او بين من يتصدرون المظاهرة ومن يشاركون في النقاشات النظرية هو بلاهة خالصة اذ لو طبقناها لكنا جميعا نتبع وائل غنيم الآن. ان تقسيمات من لا يدركون تعقيد مشوار الثورة ومن يملكون رفاهية الاستثناء والاقصاء لانهم ينظرون الى الامر من زاوية مظاهرة ذات يوم او وقفة احتجاجية ذات يوم آخر هي تقسيمات من لا يعملون بحكم اذ تعريفهم للعمل هو المشاركة في المظاهرة او الوقفة الاحتجاجية فقط اي ان نبني فقط دون ان نفهم ماذا نبني وكيف.
المعيار الاساسي اذن هو نوع المساهمة التي يمكن ان يقدمها اي شخص بصرف النظر عن اسمه او لونه او عمره او تصدره لمظاهرة او وجوده في مصنع او امام الكي بورد او اي شئ شخصي آخر. والمعيار في تبني هذا الرأي او ذاك هو محتوى هذا الرأي او ذاك وما سيسفر عنه اي نقاش مفتوح حوله سواء أكان ذلك النقاش عبر اراء تطبع بالرونيو او عبر الانترنت او عبر اي وسيلة اخرى بافتراض بقاء هذا النقاش في اطار تناول محتوى الافكار ودون محاولات رخيصة وضارة في نفس الوقت للاستهانة بوسائل تبادل الاراء التي اتاحتها تكنولوجيات حديثة. ان الثورة تحتاج الى كل من يمكنه ان يساهم بها مساهمة ذات معنى. ثمة مكان للجميع ان كانت انظارهم موجهة حقا نحو البناء ونقد ما يمكن ان يحدث خلاله من اخطاء. انها عمل جماعي بلا بوابة دخول ولا نقاط تفتيش ولا بطايق. الاساس فيها هو ان فعل البناء هذا مفتوح لكل من يريدون المساهمة فيه وفق ما اشرت اليه.
فهل نصدق اذن كل من يقول عن نفسه انه "ثوري اوي" وانه ينصح بهذا او ينصح بذاك؟. البوصلة هنا هي مناقشة ما يقول وليس الاسراع بسؤاله عن بطاقته الشخصية او عما اذا كان تصدر مظاهرة بقميص مفتوح. سنناقش ما يقول على اساس ما يقول. فان كان مفيدا لنا في مشوارنا فاهلا وسهلا. اية معايير اخرى يمكن ان تؤخذ على انها علامة واضحة على رغبة هذ او ذاك في الافلات من مناقشة محتوى فكرة معينة عبر وضع صاحبها في احد هذا التقسيمات المضحكة.
ولكن كيف اذن يمكن لنا جميعا ان نتجاوز هذه الامراض؟. كيف يمكن ان نتجنب النظر الى اراء الآخرين من زاوية ذاتية وان نتنبناها ان كنا نتفق معها ولو كان صاحبها ينتمي الى حزب آخر او لو كان سبق وان تبنى رأيا نختلف معه في معركة سابقة؟. كيف يمكن بالاحرى ان ننظر الى مهامنا من منظور عملي يعطي الاولوية لانجاز مهمامنا الكفاحية؟.
ان "فرن الصهر" ان جاز التعبير هو قضايا الالتحام بالواقع الذي نعيشه عمليا ونظريا. ليس ثمة سبيل للتخلص من تلك الامراض الا خوض الكفاح العملي والنظري في الميدان. فالمسألة التي يمكن ان تبدأ شق طريق تجاوز الحلقية والشللية امام شباب اليسار هو تحديد مهام عملية مثل بحث اوضاع الحرفيين في الاحياء التي يعيشون فيها وتقسيم سكان الحي ورصد مشكلاتهم اليومية وبدء تنظيم شباب الحي وبدء اصدار نشرة تعني بمشكلاتهم اليومية والحياتية وبمشكلات الوطن ومناقشة القضايا النظرية ذات الصلة بالثورة المقبلة في خط مواز لذلك. ويجوز ذلك المثال على المصنع او الكلية او القرية او اي مكان آخر يتواجد فيها الناس في مصر. وقد تكون تلك النشرة على مدونة اليكترونية ان كان الانترنت متاحا لجمهورها كما يمكن ان تطبع على الفوتو كوبي او اي وسيلة اخرى ان لم تكن تلك الخدمة متاحة. الا ان ذلك لا ينبغي ان يؤخذ بحال من الاحوال كبديل عن القيادة العملية لوقفات الاحتجاج والاضرابات والمظاهرات فهذه الامور لا تحدث "اون لاين" كما يقال. ان من يقومون بعمل ثوري حقيقي سيستخدمون كل الوسائل الممكنة وسيناقشون كل الافكار المتاحة بهدف تطوير عملهم ان كان الهدف حقا هو تطوير عملهم اي ان لم يكن الهدف هو الاشتباك في صراعات وتعريفات لا علاقة لها بالموضوع.
ليس ثمة درب آخر. فحين نذهب الى تراب الحواري والشوارع وننظم الناس ونبتكر اساليب جديدة للتواصل ونناقش خلافاتنا وقراءاتنا ذات الصلة بكفاحنا في الشارع سندرك معا اننا اصبحنا "نحن". ستسقط حينها كافة الاختلافات التي لا تتصل بالموضوع وسيذوب الادعاء وسينفضح اعضاء الشلل ودعاة الانقسام حول امور لا صلة لها بقضايا الثورة.
ومرة اخرى فان الامر ليس الامر بطبيعة الحال هو امر "اخراج" مظاهرة او التصدي للشرطة بصدور عارية. كل ذلك نبيل. الا انه لا يصنع ثورة. الثورة تحدث اذا كان هناك قيادة تدرك طبيعة المسار المعقد الذي تسلكه تفاعلاتها وتبصر مآل الطريق ومساره وتتعرض للمساءلة من الآخرين حول اساليب قيادتها لمشوارنا بأكمله. وتلك القيادة ليست شخصا بعينه ولكنها رؤية بعينها.
ليس المطلوب هو ان تتفق فرق اليسار على رؤية موحدة. فذلك لم يحدث ابدا في تاريخ اي يسار وفي تاريخ اي بلد. المطلوب باختصار هو ان يدير من يشكلون هذه الدائرة - التي تتشابك ايديها - انظارهم الى خارج الدائرة. ذلك ان بقاء انظارهم مركزة على بعضهم البعض لابد ان يسفر عن تحول اصغر الخلافات الشخصية او حتى السياسية الى خلافات "مبدأية" وحوار بين "انتهازيين" وثوريين وما الى ذلك مما ارهق اليسار وافقده نصله. والمطلوب ايضا هو وضع برنامج عملي للحركة في الميدان تثريه كافة الافكار والمناقشات التي تدور بهذا الشأن. ليس المطلوب هو "توحيد" اليسار. المطلوب ان يعمل معا في النقاط التي يمكن الاتفاق حولها ولمدى زمني يرتبط بتلك القضايا وعبر مراجعة دورية لبرنامج العمل المشترك.
وسوف يسارع البعض الى القول بان الخلافات النظرية مهمة وان الفوارق السياسية اهم وانه ينبغي اولا "حسم" تلك الخلافات والنقاش حولها. وهذا بطبيعة الحال كلام فارغ لان تلك الخلافات لن تحسم ابدا على هذا النحو. ان الفوارق الحقيقية بين قوى اليسار ستظهر بالفعل بصورة اوضح مع نضج كفاح تلك القوى وتصدر الطبقة العاملة المصرية لمشهد قيادة ثورة المصريين. وهذا الكفاح يبدأ من الشارع ويمر عبر النظرية الثورية لينتهي الى هذا الشارع ذاته. انه لا يبدأ من نقاشات "الحسم" التي لا تحسم بل تفتعل قضايا من امور تافهة لا وزن لها. بل ان نضج مشوار الثورة من شأنه ان ينضجنا جميعا اي ان يغير بهذا القدر او ذاك من رؤى المنظمات الثورية ذاتها تجاه مهامها وتجاه بعضها البعض. سنشهد اذن بصورة تدريجية تجمعات حول رؤى متقاربة تتسم بالحيوية والفعالية وتجمعات اخرى تيبست عند نقطة معينة او تحلقت حول اراء زمن سابق او تحزبت على اسس شخصية لا علاقة لها بالثورة وقضاياها. وسوف يتعين علينا جر تلك الحلقات جرا الى صيغة من العمل المشترك من شأنها انضاج تلك الحلقات والتقدم على الدرب على نحو يكشف الفوارق الاساسية بين الرؤى المختلفة.
ان الامل الآن بات معقودا على شباب اليسار في مصر. فهؤلاء هم من ينبغي عليهم شق طرق جديدة لجمع قوى اليسار عبر الدخول الجماعي الى "فرن الصهر" وعبر دفع المتقعرين والشللين والحلقيين بلا شفقة. ان هذا الفرن سيكشف بصورة تدريجية عن اهمية النقاشات النظرية التي خاضها ثوار التاريخ بل وعما ينبغي ان يناقش من الاصل.
لقد سمعنا كثيرا عن الخلافات النظرية والفكرية والسياسية بين الجماعات اليسارية المختلفة. الا اننا قلما رأينا توجيها لشباب هذا التنظيم او ذاك بمعرفة عدد ورش النجارة او ورش الحدادة او طبيعة الانشطة الاقتصادية لسكان الحي الذي يعيشون فيه. وقلما سمعنا عن جهد لاصدار نشرة محلية في الحي او لتنظيم مجموعة جماهيرية تقود احتجاجات الناس على ما يعانون من آلام.
اين هي نقطة التوازن بين النشاط العملي والنشاط النظري اذن؟. انها ستتحدد بفتح النوافذ للاثنين معا في نفس الوقت وليس باغلاقها ل"حسم النقاش" او باغلاقها على مبدأ ان "الحركة بركة" وان جهد الشارع يزن الف كتاب. الموقفان يقودان الى هزيمة محققة وكل منهما في واقع الامر اسؤ من الآخر. وفي المقابل فان طريق الانتصار يمر عبر التفاعل الحي بين الرؤى الثورية النظرية والوقائع العملية التي يقدمها مشوار بلادنا نحو ثورة قادمة لا محالة. ولا يعني ذلك بحال ان على اي من الحلقات او التنظيمات الثورية ان تسعى الى الاندماج فيما بينها فهذه ليست القضية الآن. ففي لحظة معينة يتعين ابراز جانب معين من كفاحنا وفي لحظة اخرى يتعين ابراز حلقة اخرى وهكذا. ولا يطالب احد بدمج تلك المنظمات اذ ستبقى هناك خلافات نظرية تتصل بالموضوع وهي خلافات مشروعة ومفهومة ويجب ان تستمر في سياق حوار اوسع. الا ان حلقة هذه المرحلة هي التركيز على تعميق علاقة اليسار بالشارع وعمله المشترك في اطار برنامج عملي.
ان التنظيم العلني يختلف جوهريا عما عداه من حيث اخراج الصراع - الذي يعد سمة اساسية في العمل الحزبي على وجه العموم - الى العلن. في الحزب الاشتراكي الفرنسي او الاشتراكي الديمقراطي الالماني في وقت مبكر من حياته عشرات الامثلة على الخلافات الداخلية العلنية التي تؤخذ اليوم كأمثلة على حيوية اي منظمة سياسية وعلى تماسكها في الوقت ذاته. فالخلافات تصنع الوحدة طالما ظلت حول امور لها معنى. ومحاولات "سحب" آليات العمل السري الى العمل العلني هي جريمة في حق الاثنين معا. والعلاقة بين المسألتين هي علاقة معقدة كتب فيها منظرو تأسيس الاحزاب الثورية باسهاب. الا ان العمل العلني سيجلب خلافات علنية لا ينبغي ان تتحول الى حلقة اساسية في المرحلة الراهنة ما لم تكن لها اسس نظرية مفهومة في الخلاف الفكري بين الاحزاب المختلفة.
وليسمح لي القارئ هنا ان اورد مثلا من السياسة الاميركية ليس في مؤداها ولكن في آلياتها. فقد القى وزير الدفاع السابق بيل جيتس خطابا قبل عامين تقريبا في اكاديمية "ويست بوينت" العسكرية شرح فيه سبب فعالية الجيش الاميركي فقال ان الامر يكمن ببساطة في ان تقليدا قد ترسخ بان يحيط كل وزير للدفاع نفسه بمساعدين يشترط فيهم امرا واحدا هو انهم يختلفون معه. وشرح جيتس ذلك ذلك بقوله ان هذا هو الضمان الحقيقي لاتخاذ القرار الاقرب الى الصواب. وبطبيعة الحال فان القرار الذي اتخذ لم يكن دائما اقرب الى الصواب كما نعرف جميعا الا ان مغزى ذلك المنطق اننا حتى ونحن نتحدث عن مؤسسة عسكرية يصل فيها الانضباط الى اقصى درجاته فان اتخاذ القرار يتأسس على الخلاف حول اسباب اتخاذ ذلك القرار وليس ذاك. ولا تطبق هذه القاعدة من باب "المنظرة". انها تضمن حقا قدرا عاليا من الفعالية والتماسك طالما ان الاطار العام للخلاف يظل اطارات مرتبطا بقضايا الكفاح العملي او النظري.
قد لا يكون هذا المثال موفقا تماما الا انه يدعو على اي حال للتأمل. فثمة منطق مختلف عن ذلك الذي تمليه اعتبارات "الشلة" و"الحلقة" ومجمل الثقافة السابقة على الرأسمالية التي تنخر في عقولنا رغما عنا. وفي حالات اخرى – اكثر ثورية – لم يكن الامر مختلفا من حيث النهج. ان من يقرأ بعض محاضر اجتماعات اللجنة المركزية للبلاشفة خلال السنوات القليلة التي سبقت الثورة الروسية سيجد حوارا بالغ العمق وخلافات بالغة العمق ايضا. الا ان تلك الحوارات والخلافات كانت تبدأ دائما من قضايا ملموسة وتصل الى البحث فيما سبق ان قدمه من ارسوا نهج الثورة لتتمكن من حلها.
لقد فرغت تماما من هذا النقطة التي اردت منها التركيز على ان المهمة في اللحظة هي مهمة دخول "فرن الصهر" اي ارساء جذور اليسار المصري في تربة شوارع وقرى بلادنا وتنظيم الناس وبلورة اساليب كفاحية جديدة تؤطر الطاقة الثورية المتفجرة في مصر الآن وتضمن لها استمرارا في المستقبل.
ان على شباب الثورة رفض جوانب التخلف في التراث اليساري المصري بلا تردد او شفقة او خجل. فقد كلف ذلك الثوريين في بلادنا وفي مناطق كثيرة اخرى خسائر فادحة. ويتمثل ابرز عناصر التخلف هذه في المبالغات غير المفهومة في اوزان الاشخاص قبل الافكار وفي الارتباطات الشللية التي تسمى من قبيل الدلع "علاقات رفاقية". العلاقات الرفاقية الحقيقية تتشكل في فرن الصهر. وهي لا تركز فقط على الجوانب العملية ولكنها تستدعي النظرية لترى الواقع ولتتلاحم وتتفاعل وتختلف في سياق تغييره وليس في اي سياق آخر. ليس في اي سياق آخر. ليس في اي سياق آخر.
ان عصام العريان لم يكن محقا. فما يجمع قوى اليسار في مصر هو حلم كبيرة بان يتحرر فقراء الوطن. وثمة فروق نظرية ومنهجية لا يمكن اغفالها بين الرؤى المختلفة في صفوف هذا اليسار الا ان ذلك لا ينبغي ان يحول دون المشاركة في برامج عملية. كان ذلك هو طريق الثورة دائما في اي بلد. ويعني ذلك ان الطريق الوحيد لاثبات ان عصام العريان مخطئ هو الطريق الى فرن الصهر. الى لجان الاحياء ونقاش الخلافات النظرية ذات المعنى والتجمع حول مشروع اصدار نشرات المصانع والاحياء بصورة دورية وجمع التوقيعات وبحث طبيعة التركيب السكاني الذي يحيط بنا وهمومه والبحث عن الرؤية النظرية الثورية لمخاطبة تلك الهموم. ساعتها سنبرهن جميعا ان اليسار بات قوة ذات جذور حقيقية دائمة في مجتمعنا ولم يعد مجرد قيادة المظاهرة او الثرثرة حول "حسم" الخلافات وفرز "المبدأي" منها و"الانتهازي" كما لم يعد تجميع الشباب ضد العواجيز او القدامى ضد الجدد و"العمليين ضد الكي بورديين" والمهذبين ضد قليلي الادب الى آخر التخريفات الشائعة. العبرة ان نبقى دائما في الاطار الصارم لما يجمعنا على اختلافنا. اطار الثورة وقضايا ومعاركها. والعبرة ايضا ان نمارس صراعنا مع الرؤى الاخرى ونحن نتفاعل معها على الدرب وليس ونحن جالسين في غرف مغلقة.