الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة


يوسف يوسف المصري
2012 / 9 / 4 - 03:18     

الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة ومهام العمل الجماهيري
-------------------------------------------------------------
لا يمكن بطبيعة الحال النظر الى اي انتخابات برلمانية او رئاسية من زاوية طبيعة السلطة وحدها. فالسلطة في المجتمع الرأسمالي سواء أكان متخلفا او متقدما هي بطبيعة الحال سلطة رأسمالية قبل الانتخابات وبعدها. انها تظل كذلك حتى الاطاحة بها على ايدي من يستطيعون حقا تحرير مجتمعاتهم من نظام تعفن تماما واستنفد ضرورته التاريخية وبات بقاؤه عبئا ثقيلا على عقل الانسان وقلبه وحياته اليومية.
ذلك ان قياس الموقف من الانتخابات على اساس طبيعة السلطة وطبقتها يعني "تحريم" دخول الانتخابات قبل انتصار ثورة الفقراء. ولست هنا بصدد اتهام اصحاب هذا الموقف او ذاك بالانتهازية والتخلي عن اهداف الثورة وما الى ذلك من اتهامات تصل احيانا الى الخيانة مما يتردد بين فينة واخرى في حوارات القوى الثورية فيما بينها. فليس هناك اي معنى من تلك الاتهامات الطفولية الخرقاء في لحظة حوار عميق وعام تمر به تلك القوى الثورية على نحو ما نشهد الآن.
غير انني على الرغم من ذلك ارى ان من الضروري وضع مسألة المشاركة في الانتخابات او مقاطعتها في سياق المغزى الحقيقي للموقفين. فليس ثمة وجود له معنى لهذا "الموروث" اليساري المسمى "مواقف مبدأية ثابتة". ليس ثمة موقف ثابت الا العمل على تحرير مجتمعنا من نظام الرق الحديث الذي يزهق كل يوم آلاف الارواح والآمال. كل الامور الاخرى تقاس طبقا لهذا الهدف وتتغير طبقا لتبدل مقتضيات التقدم على درب تحقيقه.
وتختلف اللحظة الراهنة عن لحظة انتخابات الرئاسة او انتخابات البرلمان السابقين خلال ما انصرم من هذا العام من زوايا كثيرة. فقد حسمت ظاهرة ازدواجية السلطة عبر صيغة توافقية ما وانتهت مرحلة "السيولة" السياسية التي سادت مصر منذ 25 يناير 2011 وتحول الناس من الموقف السلبي المطالب بهدم النظام القديم الى موقف الانتظار لما يمكن ان يأتي به الرئيس الجديد.
وبصرف النظر عما يمكن ان يقال في ادانة هذا الموقف الذي يتبناه الناس او بالاحرى اغلبهم فانه على علاته يتسم بعلامات لا تخطئها العين لما يختمر حقا في مجتمعنا. فاضرابات العمال تتزايد وحالة الانتظار هذه تشي بقصر مدتها كما ان الوضع الاقتصادي العام لاسيما على الصيعد المالي ينذر بمنحدر كبير مقبل.
وفي مواجهة ذلك تتحرك قوى كثيرة في العالم ترى ان استقرار السلطة السياسية الحالية يعد هدفا استراتيجيا لا ينبغي التفريط فيه لما لمصر من وزن اقليمي ليس بحكم اقتصادها فهي توشك على الافلاس ولا بحكم سياستها الاقليمية فهذه السياسة الاقليمية لم تتبلور بعد ولكن بحكم وزنها السكاني والثقافي والتاريخي والجغرافي.
بعبارة اخرى سنرى في المرحلة المقبلة تفاعلا مفتوحا بين عدد من العناصر التي من شأنها ان تحدد مستقبل بلادنا لبعض الوقت. فهناك ازمة الدين الداخلي الذي يبغ اكثر من 90% من الناتج المحلي الاجمالي وهو ثقل يحتم خفض سعر الجنيه ان لم يكن بقرار ادارة لحظي فبصورة تدريجية متأنية كما يحدث الآن بالفعل. ومن شأن ذلك ان يزيد من الاسعار ومن معدلات التضخم على نحو لن يحتمله فقراء وطن نهبوا من كل شئ عبر العصور.
ومن جهة ثانية فان من يتحركون لتعويم الخزانة المصرية الآن يشترطون امورا ستفضي على وجه التحديد الى افقار الفقراء فقرا على فقر لتعويم تلك الخزانة. والارجح ان تراجع تلك المطالب وان تخفف قليلا بضغوط من "الكبار" الذي يدركون اهمية استقرار الرئيس الجديد ونظامه واستقرار مصر. الا انها مهما خففت فانها لن تمنع من افقار الفقراء على فقرهم فقرا اضافيا.
وفي المقابل فان ذلك يحدث في لحظة ارتفعت خلالها اسقف توقعات الطبقات الشعبية بان "الفرج" في الطريق وانها "حسبة" شهور قلائل او عام او اكثر قليلا حتى يصل ليبلل حلوق من شهدوا ابناءهم واخوتهم وجيرانهم يموتون في الشوارع من اجل حياة تحترم فيها كرامتهم ولقمة عيشهم ومستقبل ابنائهم.
وليس ثمة من مخرج امام النظام الآن سوى ان يسلك احد طريقين او ان يسلكهما معا. الاول هو ان يسارع بجلب المزيد من الاموال لكسب الوقت حتى تؤتي اي خطة بالتنمية والتطوير – وهي خطة لا نراها حتى الآن – ثمارها. والثاني هو ان يزيد من جرعة القمع سواء باستخدام الدين او بصور بوليسية واعلامية مباشرة.
بعبارة اخرى ما نشهده في مصر الآن هو مرحلة انتقالية حقا. لقد تركنا خلفنا مرحلة الشجار السياسي بين العسكر والاخوان ومرحلة التفكير في بناء احزاب سياسية كبيرة وفاعلة ومرحلة النقاش حول اعدام مبارك وما الى ذلك. غير ان ذلك لا يعني بحال من الاحوال ان تلك المرحلة السابقة قد انتهت "بسكتة قلبية" مفاجئة. اننا لا نزال نشهد فتراتها الاخيرة فهناك بعد قضايا كثيرة مفتوحة مثل قضية وضع الدستور وقضية التأثير في سلطة سياسية تبدو وقد وصلت الى مرفأ واضح ولم تعد تواجه تحديا من اي قوى اخرى من تلك التي كان بوسعها ان تعرقل رحلة وصولها الى ذلك المرفأ. وثمة ملفات اخرى متعددة الا انها تتحول الآن على نحو تدريجي - كما لو كان الامر يعرض بالتصوير البطئ - الى سياق مختلف عما شهدناه في مصر منذ 25 يناير.
كما ان ذلك لا يعني ايضا ان المرحلة التي ننتقل اليها مقطوعة الصلة بما سبقها. ان اضرابات العمال المتزايدة تبرهن على ان اليوم هو ابن الامس وقضية صياغة الدستور تبرهن على ذلك ايضا وقضية اللجؤ الى القروض الخارجية للافلات من الحاح مشكلة الديون الداخلية وعجز الميزانية الكبير وقضية الحفاظ على ما تحقق من حريات سياسية ونقابية على الارض والعمل على تشريعها هي جميعا ادلة على الاستنتاج ذاته.
ويعني ذلك ان ما كان صحيحا في لحظة يمكن الا يكون صحيحا في لحظة اخرى. بعبارة اخرى فان وجه فعالية قوى التغيير والثورة يجب ان يتطور بمرونة لاستيعاب اللحظة ولتحديد الحلقة التي يتعين التركيز عليها لضمان اعلى قدر ممكن من التأثير. لقد اعترضت على المشاركة في الانتخابات في وقت كانت الحركة الجماهيرية في مصر لا تزال في مرحلة مد واضح. ولا يعني الانتقال الى المشاركة ان ذلك المد قد انتهى الا انه يعني باختصار ان الناس الآن تنتظر وان علينا ان نستخدم كل المنابر الممكنة لابلاغها بان انتظارها سيطول. لقد مضى يوليو ونوفمبر 2011 .
ويتعين في الوقت ذاته الترحيب بمن يقاطعون الانتخابات لاسباب واضحة. فقد يكون موقفنا هذا خاطئا وان كنت اراه صوابا الآن ثم ان المقاطعين لا يدعون حسبما قرأته من اوراق الى عدم المشاركة في الحملة الانتخابية. انهم يدعون الى المشاركة ولكن بالدعوة لمقاطعة الانتخابات لاسباب سيقولونها للناس وهي اسباب تتماس في مساحات واسعة مع ما نقول. ان علينا باختصار ان نرحب بمشاركتهم في معارك الانتخابات وان نعرض وجهة نظرنا التي تتلخص باختصار في صحة ما قاله المقاطعون وفي رأينا باننا سنكون اكثر فائدة اذا ما وضعنا اشخاصا يحملون اراءنا في البرلمان.
بعبارة اخرى فان الفارق بين من يقاطعون ومن يشاركون ليس فارقا في موقف اي من الجانبين من المشاركة في الحملة واستخدامها لبث اوسع دعاية ثورية في صفوف فقراء مصر. انهم سيشاركون معنا وسنشارك نحن معهم لان جوهر النظر الى معركة الانتخابات ليس مختلفا بين الجانبين. لقد مضت لحظة الشجار المستمر في غرف مغلقة حتى تشرق شمس الصباح حول ما هو "مبدأي" وما هو انتهازي. فنحن بحاجة الآن الى رؤية تقاوم بشراسة هذه الروح الحلقية المنعزلة بعد ان وطأها الناس باقدامهم في 25 يناير وان نتحول الى مناقشة اي خلاف على اساس سياسي عملي يتسق مع تحليلنا للحظة على اجمالها. وان نتيح لكل الافكار ان تتفاعل في هذا الشوط المبكر من مسار الثورة المصرية اذ لن نصل الى رؤية صحيحة او مشتركة دون ان نفعل ذلك,
كما يتعين خوض معركة الانتخابات على اساس من معركة الدستور. ان اوسع مقاومة ممكنة للدستور الذي ستضعه قوة واحدة في مجتمعنا هو واجب لا يمكن تأجيله. وحتى اذا اقر الدستور الذي يضعونه الآن فان من الضروري خوض معركة حول تضمينه بندا يتيح للبرلمان تعديله لاحقا بغلبية الثلثين كما تنص دساتير دول الديمقراطية البورجوازية. ولا يمكن ان نقاطع معركة الدستور بدعوى ان الدستور نفسه هو اداة للتضليل والقمع. انه كذلك حقا. ولكن يمكن لهذا الدستور ان يحتوي ضمانات بالحريات السياسية التي اكتسبها الناس كما يمكنه ان ينكرها عليهم.
ولا يمكن بطبيعة الحال المساواة بين الحالتين. واهمية خوض معركة الدستور لوضع اساس المشاركة الثورية في الانتخابات لا تأتي فحسب من الارتباط بين الامرين كوجهين لبناء الصيغة السياسية لحكم الرأسمالية المصرية بكافة اجنحتها. انها تأتي ايضا من ان الدفاع عن الحريات السياسية لم يعد الآن ترفيها. لقد بات قضية شارطة الى حد كبير لمعدلات تقدم شعبنا نحو لحظة كسر قيوده حقا.
فضلا عن ذلك فان تبني القوى الثورية لقضايا الكفاحات النقابية للفقراء يجب ان يكتسب شكلا تنظيميا خلال المرحلة المقبلة. فبقدر ما يمكن وصف الحريات السياسية بالحلقة الشارطة الآن فان تنظيم الحركة الجماهيرية يعد بدروه مهمة مركزية على صعيد العلاقة بالناس. وهناك اقتراحات عرضت بالفعل بان يشكل شباب الاحياء والمصانع والقرى لجانا وطنية تحت هذا الاسم او اي اسم آخر تبدأ من تبني اساليب مختلفة للتحرك الجماهيري مثل جمع التوقيعات لحل مشكلة المجاري في الحي او لكشف الفساد في مجلس الحي او لتنظيم وقفة احتجاجية او اضراب او لاي قضية اخرى تشغل هموم الناس ووصولا الى اصدار نشرات دورية وتوزيعها في المقاهي والبيوت وعقد المؤتمرات لمناقشة قضايا الدستور والحريات السياسية والقروض الاجنبية وكافة هموم الوطن الاخرى.
لقد بات تنظيم الحركة الجماهيرية مهمة مركزية بحق. وسوف تتأسس تلك اللجان بمبادرة من القوى الثورية الا ان تلك القوى ستحرص على ان تترك للناس حق اختيار مجموعاتها القيادية دون احتكار مفترض مسبقا لقوى اليسار مثلا. الامر الوحيد الذي ينبغي التأكد منه هو ان تتيح تلك اللجان لابناء الحي او المصنع التعبير عن مشكلاتهم وتحويل هذا التعبير الى خطوة عملية تالية مهما كانت صغيرة. وعلى اليسار ان ينافس غيره من القوى على قيادة تلك الجماهير التي لن تلبث ان تكتشف ان العناصر الاكثر صلابة وتماسكا في الدفاع عن مصالحها هي هذا اليسار نفسه.
وتتيح المعركة الانتخابية المقبلة فرصة مواتية للخطو في اتجاه تشكيل تلك اللجان التي لن تتقيد في كل الاحوال باجندة الانتخابات او باي اجندة مؤقتة اخرى. ان تشكيلها يرمي باختصار الى تمكين الفقراء من الامساك بزمام المبادرة واتاحة الفرصة امامنا لكي نتعلم منهم ولان نشرح لهم الاسباب الحقيقية لما يحيط بهم من آلام اي لانضاج الناس ولانضاج انفسنا في الوقت ذاته.
فضلا عن ذلك فان معركة الانتخابات ستفتح الباب اما القوى الثورية للتنسيق مع تيارات سياسية اخرى. فثمة مرشح افضل من مرشح آخر على مقياس قوى التغيير والثورة. الا ان ذلك لا ينبغي ان يتحول الى "تربيط" و"تكتكه" فمثل هذا الالتقاءات الفوقية هي مد لعفن الاساليب السياسية البورجوازية. والاصل في اي تحالفات هي ان يتمكن الثوريون من مخاطبة الناس من فوق منابر قوى سياسية اخرى. ففي اللحظة التي يفقد فيها الثوري البوصلة المتمثلة في ان كل ما يفعل يجب ان يهدف الى توثيق علاقته بالناس وشرح ما يحدث لهم وتبني مطالبهم بوضعها في سياقها الثوري هي على وجه الدقة اللحظة التي يفقد فيها هويته كثوري.
ويعني ذلك ان على الثوري خلال خوضه للمعركة الانتخابية من اجل وضع مرشح محدد في البرلمان ان يشرح للناس ببساطة لماذا يفعل ذلك. يجب علينا ان نثق في قدرة الناس على فهم ما نقول. انها تفهمه بحاستها التي جعلت منها سنوات الفقر والاذلال اكثر حدة من نصل السكين. بعبارة اخرى يجب ان نقول للناس ان خلاصهم ليس في البرلمان وان اختيار المرشح الذي نؤيد يهدف فحسب الى وضعه فوق منبر سيمكنه من ان يعرض على الناس درب خلاصهم الحقيقي.
ان اليسار في مصر يتهيأ لتوحيد قواه ولن تكتسب هذه الخطوة اي معنى بل ولن تستمر طويلا من الاصل لو فقدت القوى الثورية القدرة على ادراك ان الحلقة الجوهرية في اللحظة الراهنة هي العمل في صفوف الناس وتنظيم حركتهم وبث اوسع دعاية ثورية في صفوف الناس وليس في غرف اللقاءات المغلقة. لقد تكلمنا كثيرا ويمكننا ان نواصل الكلام ولكن لن يكون هناك حقا ما نتكلم عنه ان لم نتمكن من المشاركة في الابقاء على حالة المد الثوري التي نقلت بلادنا الى آفاق رحبة وان لم نتمكن من غرس جذورنا في عقول وقلوب الفقراء في وطننا.