ملاحظات حول سلاح التظاهر في ضؤ 24 اغسطس


يوسف يوسف المصري
2012 / 8 / 25 - 09:55     

ملاحظات حول سلاح التظاهر في ضؤ 24 اغسطس
---------------------------------------------------
لا يوجد بطبيعة الحال تعريف عياري للمظاهرات كسلاح شعبي جماهيري يهدف الى التعبير عن موقف محدد امام الجميع سواء اكانوا من السلطة السياسية او من باقي قطاعات الشعب. ويعني ذلك انه لا يوجد كتاب ارشادات يحمل عنوانا من نوع "كيف تبدأ مظاهرة وكيف تنهيها". كما لا يوجد مواصفات "عيارية" يتحتم مطابقتها في كل الحالات لمظاهرة شعبية تعبر عن هذا او ذاك من مطالب الناس او من مظاهر سخطهم.
الا ان علي الجميع في هذه اللحظة مناقشة خصائص هذا السلاح الجماهيري الاولي بهدف الاتفاق على فهم جماعي ولو تقريبي لانواعه وكيفية استخدامه وتوقيت ذلك او على الاقل ل"تشريح" مكوناته الاساسية.
وطبقا لتجربتنا في مصر فان هناك نوعين من المظاهرات. تلك التي تنطلق بصورة عفوية على غرار ما حدث في 18 و19 يناير 1977 مثلا حين تسببت قرارات الرئيس الراحل انور السادات برفع اسعار سلع اساسية في خروج جماعي للناس في كل محافظات مصر لمدة يومين متتاليين الى ان اعلن الرئيس تراجعه عن تلك القرارات.
وهناك ايضا مظاهرات تتفجر بفعل شرارة يطلقها جمع صغير نسبيا من الناس خطط مسبقا للنزول الى الشارع على نحو ما حدث مثلا في 25 يناير 2011.
وثمة عوامل مشتركة للنوعين. اهم تلك العوامل على الاطلاق هو ان حجم المشاركين في مظاهرة ما يتوقف بصورة اساسية على موقف الناس في اللحظة من القضية التي ادت الى خروجهم ومشاركتهم. في عام 1977 مثلا كانت القضية واضحة للجميع. وفي 25 يناير كان المناخ العام في البلاد معبأ برائحة الوقود القابل للانفجار في اي لحظة اي لا يحتاج الا الى شرارة لاشعاله. وفي 24 اغسطس لم يكن المناخ على هذا القدر من الاحتقان.
وسوف نلاحظ ان هذا العامل المشترك بين الامثلة الثلاثة هو باختصار موقف "الناس" او ما يسمى "الشارع". فالناس لا تتظاهر لان مجموعة ثورية او غير ثورية تعتقد ان هناك اسبابا وجيهة للتظاهر. الناس هنا هو الموضوع. والشرارة سواء بدأ بقرار حكومي او بنزول مجموعة محدودة العدد هو الفاعل المباشر. ومن المهم وضع الامر على هذا النحو لسبب بسيط هو ان اي موقف ذاتي – اي لا يتصل بالموضوع – في اي تحرك جماهيري يأتي عادة بنتائج عكسية.
وفي حالة علاقة العناصر الثورية بالتظاهر فان الحالتين السابقتين تعرضان نفسيهما في فترات متابينة على درب مشوار الثورة. فاما ان تنفجر المظاهرات بفعل احداث او افعال لا علاقة مباشرة للثوار بها كأن تهزم القوات المسلحة في حرب 1967 او ان يقرر السادات رفع الاسعار. واما ان تقرر تلك العناصر ان تلعب دور الشرارة لتفجير وضع قابل من الاصل للانفجار. الا ان هناك مواقف اخرى اقل كثافة تعترض طريق الثوار في لحظات متعددة منها مثلا خروج فئة من الحرفيين او عمال قطاع معين او العاملين في مهنة معينة للاعراب عن مواقف ذات طابع نقابي او سياسي. ولا تعد تلك الاحوال الاقل كثافة والتي يمكن ان تكون العناصر الثورية لعبت دورا من الاصل في تنظيمها قضية نقاش اذ ان من الطبيعي ان يشارك الثوريون فيها ان كان لهم دور في حشدها من الاصل او ان كانوا يتفقون مع اهدافها.
ولكن كيف يمكن تعريف "الوضع القابل للانفجار"؟. ليس لدي الثوار – ولا لدى اي طرف آخر – "ترمومتر" دقيق يمكن بواسطته قياس مدى سخط الناس واستعددهم لقطع الخطوة الاخيرة والخروج الى الشارع في تعبير جماعي عن هذا السخط. الا ان هذا السخط باعتباره "حالة ذهنية" للجماهير في لحظة معينة يمكن قياسه عن طريق مؤشرات عديدة ان كانت العناصر الثورية قريبة حقا من نبض الشارع.
ويعني هذا في حقيقته ان التظاهر ليس سلاحا يمكن استخدامه بالقياس على معايير ذاتية. لقد تمكن عبدالناصر مثلا من تصفية الاخوان والشيوعيين والوفديين والجميع على كل ما كانوا عليه من شعبية قبل 1952 وذلك خلال اقل من عامين. لماذا؟ لان الناس كانت مشبعة تماما وقتها بالآمال التي علقتها على الضباط الاحرار اي ان "حالتها الذهنية" تبدلت بفعل عوامل عديدة. ويقص علينا اعضاء الاخوان والمنظمات الشيوعية والمنظمات السياسية الاخرى ممن عاصروا تلك الفترة في كتابات كثيرة كيف امكن للسلطة الجديدة ن تفعل ذلك. وسوف تظل احداث 1954 درسا ثوريا بالغ الثراء لايضاح دروس انحسار منظمات سياسية من الشوارع الى السجون دون ان يحتج احد من الناس الذين التفوا من قبل حول تلك المنظمات بمئات الآلاف.
ما قصدته من كل ذلك انه لا يمكن لعدد من المنظمات الثورية ان تحشد اعضاءها وتطلب منهم النزول الى الشارع كأعضاء الا اذا كان لدى تلك المنظمات تقييم دقيق للحالة الذهنية للجماهير ولاحتمالات استجابتها لمشهد يحثها على قطع الخطوة الاخيرة على مشوار تمردها.
ولكن هل يعني ذلك ان على الثوار الانضمام الى اي مظاهرة بدعوى انها اولا "جماهيرية" وثانيا "اننا يجب ان نتواجد حيث تتواجد الجماهير". مشكلة هذه الاطروحات ان الحديث عن "الجماهير" فيها يبدو مجردا الى حد مناف للعقل. فليس من النادر ان نرى في تاريخ بلدان امريكا اللاتينية مثلا "جماهير" تتظاهر ضد نظام يريد الغرب اسقاطه. ان تعريف "الجماهير" ينبغي ان يتحول الى "موقف الجماهير" ان اردنا تبسيط الامر. فاذا كانت هناك مظاهرة خرجت بهدف لا يراه الثوريون ثوريا فان تلك "الجماهير" التي خرجت ليست هي نفسها "الجماهير" التي ستخرج للدفاع عن هدف ثوري. ليس هناك اذن تعريف مجرد وعام على نحو ما يتردد في مناقشات شباب الثورة في مصر في بعض الاحيان لكلمة الجماهير.
والمظاهرات التي يحشد لها الثوريون تفترض بحكم التعريف كونها اداة ارقى يسبقها اعمال مختلفة من حيث شكلها عن التظاهر اي اعمال الحشد والتعبئة. وفي العادة فليس ثمة "جدول للضرب" يمكن بواسطته قياس ما اذا كانت اعمال الحشد والتعبئة قد نضجت الى الحد الذي يتيح الانتقال الى سلاح ارقى. الا ان علاقة الثوار ب"الموضوع" هي التي ستتيح لهم القدرة على ابصار "الحالة الذهنية" للناس في اللحظة المحددة. وفي كل الاحوال فان عنصر فعالية الثوار في تعبئة الجماهير هو العنصر الثاني في اهميته خلال الاشواط المبكرة من الثورة. ذلك ان العنصر الاول هو عنصر موضوعي اولا اي انه يعتمد على قدرة الجماهير على فهم الاحداث التي تحيط بهم والاستفزازات المتواصلة التي يقوم بها اي نظام قمعي. ويفسر ذلك ضمنا مغزى ما حدث في 25 يناير على اي حال.
الا ان العلاقة بين العنصرين – اي الموقع الاول والموقع الثاني كتصوير مجازي – ليست ثابتة دائما. ذلك ان حساسية الجماهير لاستفزاز ما تختلف عن حساسيتها لاستفزاز مشابه تماما في لحظة اخرى على مسار نضجها الثوري. لقد ضربت قوات الامن مظاهرات لا حصر لها قبل 25 يناير ولم ينفجر الوضع. الا انه انفجر في 25 يناير لان تراكم غضب الجماهير وسخطها كان قد بلغ الدرجة التي تتيح خروجها على نحو ما شاهدنا وشاهد العالم. ومع تطور الخبرة الذاتية لتلك الجماهير فان استعدادها لخوض كفاح مفتوح من اجل حقوقها يصبح عنصرا سابقا. بعبارة اخرى يصبح التحريض الثوري اكثر وزنا وفعالية مع اتساع خبرة الناس ومع اكتساب القوى الثورية لثقة هؤلاء الناس ومن ثم استعدادهم للانصات الى القيادات الثورية والتفاعل مع ما تقول. وفي لحظة معينة يتيح ذلك للعنصر الذاتي في المعادلة ان يلعب دورا اكثر حسما بكثير من اللحظات التي تتسم بقلة وعي وخبرة الجانبين معا اي الثوريين والناس على حد سواء.
وينطبق الامر ذاته في خطوطه العامة على الاضراب كسلاح جماهيري اذ ان المعيار دائما هو الحالة الذهنية او مزاج الجماهير في اللحظة. فلا يمكن الدعوة للاضراب اعتمادا على مقياس ذاتي فقط. اذ ان الاضراب او التظاهر هي اعمال جماهيرية بحكم التعريف اي انها لا تعتمد على استعداد القوى الثورية ولكن على استعداد الناس للتجاوب وعلى مدى حساسيتها لما يحيط بها وفهمها لاسبابه.
وسوف يلاحظ القارئ انني اغفلت الحديث عن طبيعة الشعارات التي سترفعها هذه المظاهرة او تلك وعلى علاقة فعل جماهيري مثل التظاهر بمسار الثورة في اتجاهه العام. كما سوف نلاحظ جميعا بالنسبة للنقطة الاخيرة انه في حالات ثورات اخرى فان الاحزاب الثورية منعت التظاهر ولم تصرح به لمن كانت تقودهم. ذلك ان القدرة على حشد تظاهرة كبيرة لا تعني بالضرورة وبصورة آلية حشد تلك التظاهرة. ان ذلك يعتمد طبيعة الحال على مدى ثقة الناس في قياداتها الثورية وعلى حسابات تلك القيادات لطبيعة اللحظة. وبالنسبة للنقطة الاولى فان طبيعة الشعارات ينبغي ان تقاس دوما ليس بحسابات القوى الثورية وحدها. فهذا في واقع الامر اسقاط قسري لذاتيتها على موضوعها ان جاز التعبير. ان ما يحدد الشعارات هو قياس القوى الثورية لما تفكر فيه الناس في اللحظة بحكم تفاعلها مع قضايا حياتها اليومية وسعيها الى بلورته – اي بلورة ما يفكر فيه الناس وليس ما يفكر فيه الثوريون – في شعارات واهداف ثورية مرحلية.
ان اي اضراب عمالي لن يتحول الى مطالبة العمال بالسلطة لان ثوريا ساخنا يريد منهم ان يطالبوا بالسلطة. واي مظاهرة حول غلاء الاسعار لن تتحول الى المطالبة بتشكيل جبهة شعبية ثورية واستلامها مقاليد الحكم لان الثوريين يريدون منها ذلك. ان كل هذه التصورات الذاتية التي تتناثر على نحو غير مفهوم في سياق عشرات النقاشات تلحق بمسار الثورة اضرارا اكثر مما تقدم لها من فوائد.
وفي نهاية المطاف فان التظاهر ليس الا سلاحا واحدا من اسلحة الكفاح الجماهيري. ان المفترض ان يوسع شباب الثورة من ترسانه اسلحتهم عبر تشكيل تجمعات للحوار وعبر طبع نشرات دورية بلغة مبسطة لتوزيعها في صفوف عمال المصانع وسكان العشوائيات وتوجيه هذه الطاقة الثورية الجبارة التي تفجرت بها مصر الى حيث ينبغي ان تتجه اي الى فقراء مصر. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال هجر قضايا الحريات السياسية الاساسية التي يتعين الدفاع عنها بالايدي والاسنان. ولكنها تعني ان مهمة شباب الثورة هي شرح العلاقة بين لقمة العيش والحريات السياسية. ذلك ان من سيدافعون حقا عن تلك الحريات هم الفقراء حين ترتبط في اذهانهم بمعاناتهم اليومية. ان المهمة التي بات تأخيرها الآن خطأ فادحا هي التوجه الى فقراء مصر. فهؤلاء هم من سيعلمون قوى الثورة لغة ابسط لشرح القضايا المعقدة وهؤلاء من سيتعلمون من قوى الثورة كيف يتقدمون نحو المستقبل.
ان الدوران في حلقة الحريات السياسية دون الخروج منها سيفضي كما افضى دائما الى فقدان تلك الحريات. وعلى الثوار شق طريقهم الى القرى التي مات سكانها بسبب تلوث المياه والى والحواري التي تطفح فيها المجاري ويعيش فيها مصريون ايضا حياة اقرب الى حياة الحيوانات والى المناطق التي تتعرض لاذلال يومي بقطع الخدمات الاساسية عنها.
لقد كان مزاج الناس في 24 اغسطس ليس مواتيا لانضمامها الى اية مظاهرات كبيرة العدد. فالقيادات التي ظهرت وجوهها لحشد الناس قيادات مشبوهة كما ان الهدف غير مفهوم. فضلا عن ذلك فان الناس تقول ان علينا ان نمنح الرئيس محمد مرسي فرصة. هذه هي حالة الناس الذهنية. ومن الحمق بطبيعة الحال القول ان الناس "غلط" وانهم اغبياء وما الى ذلك. فهذا موضوع الثورة على اي حال سواء اعجبنا او لم يعجبنا. كما لا يمكن باستخفاف الزج بالناس في مظاهرات بهدف استدعاء السلطة لقمعها ومن ثم فضح السلطة. انه منطق احمق ساد في فترات سابقة وهو احمق بحكم انه يبني الموقف الثوري على فعل سلبي وليس ايجابيا. انه يذكرنا بالجارة التي "تتلكك" على كلمة واحدة لتتشاجر مع جارتها بدعوى انها شتمتها. الناس ليس بهذا القدر من الغباء. انهم يفهمون ويفكرون ويزنون الامور بمقياسهم هم. ولطالما ادى ذلك المنطق المغامر الى قمع مظاهرات وقتل الآلاف في قصص لا حصر لها في ثورات شعوب اخرى. ان مهمة القوى الثورية هي الا تتلكأ والا تقفز فوق الواقع. مهمتها هي البدء من حيث يقف الناس للخطو معهم في طريق رسمته تلك القوى على اساس من وعيها بمصالح المصريين وبنظرية انعتاقهم من القهر وعلى نحو يتسق مع تعريفهم لمفردات المواجهة. الا ان العنصر الرئيسي هو ان يكون ايضا متسقا ايضا مع المفردات الضبابية التي شكلتها الناس لما يحيط بها ولحالتها الذهنية في اللحظة ولاستعدادها الكفاحي وهو استعداد لا يساوي نفسه في كل الاوقات.
ان ثورة فقراء مصر مقبلة لا محالة. بقي فقط ان يتجه انبل من في مصر اي طليعة المصريين الثورية الى هؤلاء الفقراء حيث يوجدون بالنقاشات والمطبوعات والمؤتمرات والنشرات والدعاية الثورية من اجل جلاء ما هو مشوش وغامض وايضاح ملامح الطريق الى الغد.
انني لا ارى – بصدق - فيما كتبته الآن قولا فصلا في تشريح قضية العمل الجماهيري. فثمة من هم اكثر قدرة مني على تناول الموضوع. الا ان هذه الاجتهاد يمكن ان يفيد في تسليط بعض الضؤ على جوانب من تلك المسألة المهمة التي تكتسب في كل واقع مختلف طبيعة مختلفة. كما آمل ان تفتح هذه المساهمة نقاشا حول قضية لا يمكن من الاصل وضع معايير ثابتة لها تنطبق على كل الاوقات والازمنة.