الذكرى الرابعة لإغتيال كامل شياع


صادق البلادي
2012 / 8 / 23 - 03:10     

تأتينا الذكرى الرابعة لأغتيال كامل شياع فتثير فينا اللوعة والأوجاع، التي ما خفتت، ولن تخفت لفقدان هذا المفكر، الأخ والصديق والزميل والرفيق، وكيف لها أن تخفت وما زلتُ مواصلا العمل في تحريرالثقافة الجديدة، التي أخذ كامل على عاتقيه عبئ إصدارها من بغداد حالما إنهار نظام البعث، بسقوط الطاغية، أبي الطغاة.
ألتقيته آخر مرة في برلين، تموز 2008 ، كان قد جاءها للمشاركة في إفتتاح معرض بابيلون في متحف البيرغامون. قضينا عصريةً نتجول في شوارعها ومقاهيها نتطارح الرأي في وضع العراق المحتل، ومسؤوليات المثقف،ومهمات الحزب ضد الإحتلال. وقادنا التجوال الى جامعة هومبولدت ، حيث ما تزال الأطروحة الأخيرة عن فويرباخ منقوشة على مرمر في مواجهة الداخل اليها." قام الفلاسفة لحد الآن بتفسير العالم تفاسير مختلفة، المطلوب تغييره"، هذا الفهم الذي كان في التراث العربي الإسلامي ما يشابهه، فقد ذكر الغزالي :" غاية الفلاسفة تحصيل العلم بدون الإلتفات الى العمل ... وهم في غفلة عن قول النبي : إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه." ولغرض المشاركة في التغيير عاد كامل الى العراق فور سقوط الطاغية، و كان كامل قد قال الى الذين طلبوا منه التمهل في العودة للعراق والإقامة فيه :" "لو لم أذهب لا أنا ولا أنت، فمن سيبني العراق بعدما تهدم؟"، كما ذكرت الفنانة فريدة.
ما كان أي منا يحسب أن ذاك اللقاء في برلين سيكون هو لقاء الوداع،
لكنه القدر جعلني أفتقده، كما يفتقده رفاقه وأهله ومحبوه.غير أن ذكراه وسجاياه ، خاصةالتواضع والنزاهة والمحبة ، التي كانت تدع كل واحد يحس أنه صديقه الأثير، كما ظننت ، قد تخفف من الفجيعة بعض الشئ ، لكنني لحد اليوم أجد الدموع تنساب من عيني كلما خابرت أخاه فيصل ، إذ يوهمني الصوت أن كامل ما زال حيا ، وكم واحد منا كان يتمنى لو أنه كان الفداء لكامل . انتزعه القتلة ، الظلاميون ، اعداء الحياة، والخائفون حتى من سماع كلمة ثقافة، رحل الى عالم الخلود دون أن يمتلك حسابا مصرفيا و لا قطعة أرض، رغم قضائه السنوات الخمسة في بلد الفساد ، الذي فرخ المليونيرية في كل مكان. لكنه ظل حريصا على ألا تزل به قدم.
لا يمكن أن أنساه وقد طوق عنقي بهذه الكلمات وهو يعود من المنفى الى الوطن أواخر عام 2003 :
"عزيزي أبا ياسر
سأفتقد في بغداد رفقتك، توثبك وحكمة المناضل المتأصلة فيك. لكن حبل التواصل بالكلمات سيبقى، واللقاء قريب. دمت ... مع المحبة.... كامل"
إن خير تكريم لكامل يكون لا بالاكتفاء فقط بكلمات الرثاء التي قيلت وتقال بحقه، والإيفاء بالالتزامات التى أخذها المثقفون على أنفسهم عندما أعلنوا بيان" مرصد كامل شياع " ،بل إن خير تكريم للفقيد الغالي كامل شياع هو الاصرار في السعي للسير على منهاجه، والتحلي ببعض من خصاله وسجاياه، والقدرة على التخلص من شراك الفساد، والبقاء نزيها في غابة الفاسدين، و الإستمرار في المطالبة بالكشف عن الجناة ومعاقبتهم .

كامل... ستبقى نجمة في سماء الثقافة في العراق ، نقيضا لحروب الطوائف والإرهاب والعسف والاحتلال والفساد ..
كامل.... أنت باق في سعي أخيار العالم لتحقيق الطوبى ، ليس فقط كنقد* ، بل لكَون النقد الخطوة الأولى لتشييد الغد الأفضل.

وبالمناسبة تجدون منشورة مقالة له نشرت كلمة عدد الثقافة الجديدة في خريف 2003 ومازالت مهاما كأنها مطروحة اليوم .
• إشارة الى عنوان أطروحة الفقيد " اليوتوبيا كنقد" والتي صدرت ترجمتها العربية عن دار المدى






مهمات أمام المثقف
كامل شياع
لن ينسى العراقيون ذلك المشهد الذي أنهى 35 عاما من القمع والقهر، مشهد سقوط تمثال الطاغية من على منصته العالية على الأرض في لحظة بدا فيها المحال يتحقق تحت شمس ساطعة. كان هذا المشهد برمزيته وواقعيته بداية عهد عراقي جديد بحلاوته ومرارته.
لكن سقوط التمثال لا يعني بالضرورة زوال الآثار الروحية والثقافية لذلك العهد الذي شهد ثلاثة حروب خارجية وحربا على الداخل ، كانت الأساس والدافع لحروب الخارج.
خلال 12 عاما من الحصار تحولت الطبقة الوسطى صاحبة مشاريع التحديث في العراق الى مستوى من الفقر بدت فيه الحاجات الروحية والفكرية بَطَرا زائدا إزاء الحاجة الى لقمة الغد.
ونتيجة لغياب أية ثقافة عقلانية بديلة ولدت ونشأت أجيالٌ من العراقيين وقد أُغلقت عليها مساربُ حرية الفكر والرؤية تحت هيمنة ثقافة الحزب الواحد والقائد الواحد.
من المستحيل و السذاجة القول بأن ثقافة 35 عاما زالت من داخل العراقيين بمجرد سقوط تمثال وغياب طاغية. واحد من تجليات هذا الخراب الروحي نشوء قطاعات هامشية عريضة أُفقرت و هُمشت لدرجة أنها راحت تنهب مؤسسات الدولة، بما في ذلك المؤسسات التي تمثل إرث البلد الحضاري. فقد تهيأ لها أن ثروة البلد لا تمت لها بصلة، إنما لطغمة حكمت البلاد بالدم ، حكما من تجلياته تحول العنف الى تعبير عن الحرية حيث نشأت الأجيالُ الجديدةُ بين الخندق و الخندق، و توسعت أجهزة العنف بشكل يندر أن تجد له مثيلا.
من هنا تبدأ معركة التغيير، وهي معركة ثقافية أكثر مما هي سياسية رغم صعوبات الفصل بين الجانبين، ومن هنا يبدأ دور المثقف العراقي.
ليست مهمة المثقف كخالق قيم جديدة، مهمة آنية أملاها سقوط طاغية، فمنذ ثورة العشرين لم يفارق المثقف العراقي شعورٌ بأنه حاملُ رسالة إجتماعية للناس. و هذه الرسالة تجمعه مع السياسي ضمن مشروع واحد في بلد شهد إنخراط أوسع عدد من المثقفين في العمل السياسي و الحزبي. وشَكَّل السجنُ والتعذيب جزءا لازما من سيرة ونتاج هذا المثقف الذي رأى الأهوال. هذه المهمة تدخل في صلب العمل الثقافي لأن أية معرفة عندما تصل الناس تُثير أسئلة ، وتُحرض على التفكير، و تؤثر في علاقات الفرد بالجماعة فتغدو ممارسة إجتماعية. فالمعرفة تتحول الى سلطة حين تدخل حيز التطبيق.
وفي عراق ما بعد صدام حسين يجري جدلٌ حادٌّ عن طبيعة هذا الدور. ففي تجمعاتهم ولقاءاتهم يسأل المثقفون عمّا يمكن أن يفعلوه وسط الخراب الشامل الذي خلقه الإستبداد و الحرب، وإزاء مستقبل يبدو، على المدى القريب، غامضا ومجهولا. عن ذلك المستقبل يدور الحديث في الغرف المغلقة للسياسيين الذين ما زالوا يعتقدون أن الثقافة موضوعة ثانوية و لاحقة لتقسيم السلطة الفوقية، وإن دور المثقف ما زال مقتصرا على خدمة السياسي دون مجادلته.
لقد تبدَّد الكثيرُ من الوقت و النضال خارج فضاء الديمقراطية و دفع المثقف و السياسي الثمن غاليا. طريق الديمقراطية غدا معقدا اليوم أكثر من أي وقت مضى، لأنه يتطلب النضال على عدة جهات مفترقة ومتداخلة :
- نضال داخل الخندق و خارجه، من أجل أن يكون للمثقف وللثقافة دور أساسي في بحث صورة عراق المستقبل. فبدون هذا الدور ستبقى الصورة قاصرة، وتظل مشاغل السياسة آنية تدور في كيفية توزيع كعكة السلطة، وتترك الأمور الجوهرية مؤجلة بلا جدول ولا أفق.
- نضال ضد الإحتلال يستند على إرث البلد الثقافي و السياسي لإشاعة روح وطنية عراقية تعلو على الطوائف و القبائل، وتوظف كل طاقات البلد لكي يأخذ العراقيون المبادرة والتحكم من سلطات الإحتلال، ويُثبتوا قدرتهم على إدارة بلادهم وإقامة ثقافة حوار يتجه نحو الديمقراطية و البناء.
- نضال ضد ثقافة الإستبداد و العنف التي خلفتها 35 عاما من حكم الحزب الواحد والفرد الواحد، مهمة المثقف أن يضع يديه على قاعدة الإستبداد الإجتماعية و يساهم في خلق ثقافة عقلانية لدى أوسع قطاعات الناس بحيث تصبح سدا أمام صعود بعثٍ بإسمٍ آخر، أو صعود (صدامٍ) مُحَسَّن، أي صعود تيار يرفض الديمقراطية بكل مكوناتها. وهذا يتطلب النضال داخل الخندق، أي مع وضد القوى السياسية التي كانت في المعارضة والتي اكتسبت خلال الصراع ، وهو علاقة جدل، بعض صفات جلّادها. على المثقف أن يكون داخل الحركة و خارجها، بَنّاءا و ناقدا.
- لا يواجه المثقف سلطة الإستبداد وحدها، إنما أيضا تيارات نابعة من مجتمع منهوك القوى، مفكَّك الكيان ، مَدين لقوى إقليمية و دولية ستفرض شروطها في شكل الحكم، تيارات مندفعة من قاع مجتمع مسدود الأفق ستقاوم حرية المثقف بشروط سلفية.
إنها معركة ملتبسة و صعبة، ومع ذلك لا خيار للمثقف المؤمن بالديمقراطية، إلا النضال من أجل الديمقراطية، وسيلة للحكم و نظاما للمجتمع و طريقة للحياة. إلتزام الكاتب بالديمقراطية هو الإلتزام بعينه، وبعدها ليختلف المختلفون.