قصة قصيرة..حكاية العجوزان ومرسي


يوسف يوسف المصري
2012 / 8 / 13 - 11:05     

قصة قصيرة..حكاية العجوزان ومرسي
--------------------------------------
يبدو الامر حقا وكأنه قصة قصيرة خضبها دم عدد من انبل ابنائنا وانتهت نهاية درامية لم يحقق فيها العجوزان حلمهما بالانفراد بالكنز بعد ان انقلب عليهما شريكهما الذي يخفي مكره تحت قناع من الطيبة والورع والتقوى.
ولكن ما مغزى ما حدث في بلادنا حقا؟. انها بالتأكيد لم تكن حكاية مسلية اذ تخللتها حرقة في القلب على من ذهبوا ولن يعودوا وخرج ابطالها الحقيقيون فيما يروي الرواة دون مغنم.
لقد انتصر مرسي انتصارا يشبه انتصار السادات في عام 1971. وبينما كان انتصار السادت يعني توقيع شهادة وفاة كل الزعيق القومي الذي سبق وكل طموحات البناء والمستقبل التي اتسمت بها تلك الفترة البعيدة عن هذا الجيل من ابناء الوطن فان اعلان رحيل العجوزين عن المسرح لن يعني شيئا مشابها. فلا هو يوقف روح الثورة التي اشتعلت في قلوب المصريين بعد ان ادركوا ان بوسعهم اسقاط حكامهم وان هؤلاء الحكام لا يعينون في غرفة مغلق في مكان مجهول بالسماء السابعة بواسطة قوى ليس بمقدور احد ان يعرفها.
لن يتمكن احد من انتزاع ذلك من المصريين لفترة طويلة من الزمن. لقد قطعوا شوطا لا يمكن اعادتهم الى نقطة بدايته ابدا الا باعادة الزمن الى الوراء. والى من يعتقدون ان الثورة خسرت وان الشعب احمق لانه لم ينظم قواه فان عليهم فهم ان احكامهم صحيحة بالقياس على عقولهم هم. ولانهم لا يملكون ازرارا يمكن الضغط على احدها لجعل الناس ينتظمون معا والضغط على آخر لجعل الناس يتحركون الى حيث يريدهم من يضغط فان من الضروري ان يقال لهم ان هذه النظرة الذاتية لا تدين الناس بقدر ما تدين اصحابها. ما بقي لنا هو ان نقول للناس - في سياق معاركهم المقبلة - ان علينا جميعا ان ندرس ما حدث وان نحدد الاسباب التي حالت دون ان يحققوا نتائج اعمق تأثيرا مما حدث بالفعل حتى يتسنى لنا جميعا ان نختزن التجربة ونتمثل مغزاها الحقيقي.
ولكن فلنعد اولا للحكاية غير المسلية اي حكاية العجوزين ومرسي. لقد كانت كل القوى الكبرى في هذا العالم تدرك ان اللحظة التاريخية تحتم استقرار الاوضاع في مصر. فمصر ليست جزيرة معزولة في المحيط المتجمد الشمالي. انها بلد بالغ الاهمية في منطقة بالغة الاهمية. وحيثما ذهبت مصر تبعها الشرق الاوسط كما يقول الاميركيون. وطبقا للحكاية التي سجلها التاريخ توا فان مشكلة العجوزين لم تكن تقتصر على ضعف بصرهما الى حد مثير للعجب فحسب ولكنها كانت ايضا مشكلة خارجة عن ارادتيهما.
ذلك ان الحدود القسرية والخطوط الحمراء التي وضعت امامهما كانت اكثر تعقيدا من قدرتهما على الالتفاف حولها. فقد ظهر خط احمر يمنعهما من التعرض بالعنف للناس. ولم يكن ذلك بسبب حب خفي ظهر فجأة لهؤلاء الناس ولكنه كان بسبب فهم لا يحتاج الى ذكاء خاص ان العنف سيعني ان الاوضاع في مصر لن تستقر لعقود. ثم ظهر خط احمر يحول دون قمع الاخوان المسلمين. ليس لان الاخوان تحولوا فجأة الى عشيق طال هجره ولكنهم لانهم قوة سياسية قادرة على التأثير في الشارع بل وقادرة لاحقا على قمعه بدون استخدام الصيغة الامنية الفجة التي اعتمدها مبارك. ثم ظهر خط احمر يحتم اجراء الانتخابات وآخر يحتم تسليم السلطة للمدنيين ولو كان هؤلاء المدنيون شيوعيين مثلا لكان الخط الاحمر قد تحول الى امر بألا يقبع العجوزان في ثكناتهما لحظة اضافية دون تدخل وتصفية بالدم كما حدث في قصص غير مسلية كثيرة اخرى. ثم ظهر خط احمر يحتم اجراء الانتخابات البرلمانية وآخر يحتم هذا او ذاك من الامور.
كان العجوزان بالاضافة الى ضعف بصرهما يتحركان في ارض تتقاطع فيها خطوط حمراء كثيرة. ذلك انهما في حقيقة الامر تقدما الى نهايتهما غير السعيدة خطوة بخطوة. وكان من يتابعون ذلك المشوار يتابعون هذا بعجب اذ كيف عجزا عن رؤية ما يحدث؟. لقد كان بوسعهما مثلا باستخدام بعد لي الاذرع ابعاد شفيق عن انتخابات الرئاسة وكان بوسعهما بعد لي بعض الاذرع فرض دستور مثل دستور 1954 بل وربما اعادة احياء ذلك الدستور الذي كان يمكن ان يغير مسار مصر وكان بوسعهما اصدار اعلاناتهما الدستورية بصيغ اخرى ابعد نظرا وكان بوسعهما التغاضي عن خلافاتهما مع عمر سليمان ثم مع مراد موافي وكان بوسعهما اشياء كثيرة اخرى. ولكنهما كانا دائما يصران على المضي نحو حتفهما بابتسامة واثقة وهما يحاولان اقناع الجميع انهما يعرفان ما يفعلان. فالعتب كان على النظر وكان على صيغة "كل شئ او لا شئ" وكان على الركض وراء اهداف غير عملية بحكم اللحظة التاريخية ذاتها.
وانتهى هذا الفصل من الحكاية بعد ان حسم مرسي ظاهرة السلطة المزدوجة التي اتسمت بها اوضاع مصر منذ انتخابات الرئاسة. فقد حسم الامر بهدء وعبر معادلة بسيطة سبق ان طبقها السادات. اذ انه تحالف مع العسكر ضد العسكر. وقضت تلك المعادلة البسيطة بان على من يقبل من العسكر ان يوافق ايضا على خفض نسبة الشراكة ليصبح للبلاد رأسا واحدا. وهكذا كان. فالسلطة في مصر على نحو ما صيغت به لا تقبل المشاركة. لا من العسكر ولا من اي طرف آخر.
وهلل اصحاب الخطوط الحمراء. فالآن والآن فقط سوف يتسنى التقدم نحو "الاستقرار". الا انهم نسوا جماعة ما ينسونه دائما. حين قام جورج بوش بوضع خطة غزو العراق فانه كلف كبار استراتيجييه بدراسة كل تفصيلاتها حتى ادق الاشياء. اين يأكل صدام واين ينام واسماء قيادات حراسه وعدد افراد الحرس الجمهوري وتسليحهم ومواقعهم ومواقف هذا وذاك الى آخر التفصيلات حتى اكثرها مللا. وخرج بوش بعد اطلاعه على الخطة قائلا "سندخل بغداد بعد 72 ساعة على الاكثر". المشكلة ان اولئك الاستراتيجيين لم يروا عنصرا "صغيرا" واحدا : ان بالعراق شئ غريب اسمه الشعب العراقي. وكان هذا الشعب هو ما اعطى الاميركيين بعد ذلك حربا طالت عن ال72 ساعة ببضعة اعوام.
ويتكرر هذا الامر الى حد يبعث احيانا على الملل. فحركة كافة القوى السياسية في مصر يمكن ان تكون قابلة للتوقع ووزن كل منها يمكن ان يكون قابلا للقياس كما يمكن عقد اتفاقيات جانبية مع الاخوان ويمكن ان يقسم كل منهما امام الآخر على كتابه المقدس ان يرعاها. ولكن "المشكلة" ان هناك شعبا له احلام وآمال ومصالح لا يمكن تلبيتها بواسطة كل اولئك من الاصل. ستفشل الخطة اذن هذه المرة كما فشلت دائما.
ان احدا لا يستطيع محو ثورة 25 يناير من الذاكرة الجماعية للمصريين مهما حاول كثيرون نسبتها الى السماء وليس الى هذا الشعب نفسه. وسوف تغلب ذاكرة المصريين حين يحتاجونها على ما عداها من محاولات الخداع والتضليل. الا ان الامر الآن سوف يصبح اكثر وضوحا وتحددا. فالمعركة لم تعد تدور في مثلث محير اذا وقفت عند احد رؤوسه فكأنك تترك الرؤوس الاخرى.
ليس ثمة فارق بين احمد صاحب المصنع الذي يشقى عماله ليلا نهارا ويخرجون كل يوم بالفتات ليعودوا الى منازل رطبة متداعية في شوارع يملأها طفح المجاري والقمامة ليعتنوا بأطفال يذهبون الى المدرسة دون ان يتعلموا شيئا ويمرضون فلا يجدوا علاجا لا فرق بينه وبين الحاج احمد الذي يمتلك المصنع المجاور. الفارق الوحيد هو ان الاول كان عضوا في لجنة السياسات والثاني عضو في الاخوان المسلمين. ولكن هل يعني ذلك شيئا لفقراء مصر؟. ان احمد زي الحاج احمد كما يقولون.
ان على المعركة الآن ان تنتقل الى دائرة الحفاظ على الحريات التي اكتسبت بالدم والى دائرة فقراء مصر. فهذان الجناحان ليسا مثل جناحي "النهضة" ولكنهما حقا جناحا الثورة المقبلة التي بدأ عدها التنازلي بالفعل. الحريات هي التي تتيح تطوير ادوات الكفاح اليومي للفقراء ولمن يحملونهم في القلوب والعقول كما انها تتيح لهؤلاء الفقراء ان يحملوا في لحظة قادمة جراحهم الى لحظة تضميدها. ان العامل هنا هو العامل هناك وبيته هنا هو بيته هناك واطفاله هنا هم اطفاله هناك وبؤسه هنا هو بؤسه هناك.
ان على من يعتقدون ان حصر دائرة المعارضة الديمقراطية في شباب الثورة ان يدركوا انه ما لم تمتد تلك الدائرة الى احياء الفقراء ومعاملهم وحقولهم فاننا سنسمع قصصا قصيرة اخرى كثيرة قد تكون اكثر ايلاما من سابقاتها. لا انتصار للثورة الا بالعمل في احياء الفقراء وفي عشوائياتهم وقراهم ونجوعهم ومدارسهم ومدنهم ومصانعهم وحقولهم. لا انتصار للثورة الا باخراجها من "حكايات السياسة" التي لا تنتهي ولكنها لا تسمن او تغني عن جوع. لا انتصار للثورة الا بحمل قضايا فقراء الوطن. فهذه هي القوة "الصغيرة" التي ينساها دوما من يخططون ومن ينفذون ومن يخدعون ومن يخدعون.