مفهوم مختلف – عن الماركسية – للثورة السياسية


يوسف يوسف المصري
2012 / 7 / 29 - 19:15     

المسألة التي ستبحثها هذه الورقة هي العلاقة بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية كما صاغها كارل ماركس. ومهمة هذه الورقة هي ايضاح الاخطاء التي وقع فيها الكاتب خليل كلفت في مقال نشره بتاريخ 28 يوليو 2012 بعنوان "حدث يناير 2011: ثورة ام ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة السياسية)".
وقد يكون من المناسب ان ابدأ اولا بعرض فهم ماركس للثورة الاجتماعية والثورة السياسية.
في مقال نشر بعنوان "ملاحظان نقدية على مقال : "ملك بروسيا والاصلاح الاجتماعي" بقلم "بروسي" تناول المفكر الكبير بعبارات لاذعة ما ورد بمقال البروسي المجهول عند تناوله لثورة عمال النسيج في سيليسيا. وعمال سيليسيا هم في الاصل فلاحون فقراء كانوا يذهبون الى المدينة لاخذ كميات من الصوف الخام من المعامل وينسجونها في بيوتهم للحصول على دخل اضافي. وبعد ادخال الآلات قرر اصحاب المعامل خفض اجر النساجين بنسبة كبيرة مما فجر الثورة التي تناولها ماركس في رده على البروسي المجهول.
وكان البروسي قد قلل من شأن انتفاضة عمال سيليسيا بدعوى انها "ثورة اجتماعية بلا روح سياسية" ولم تتطلع الى ما هو اكثر "من مدفأة المنزل ان المصنع او الحي" بعد ان قارنها بانتفاضات العمال الفرنسيين والبريطانيين وزعم ان السبب في تخلف الالمان هو تخلف صناعاتهم. وسخر ماركس من ذلك مستشهدا بشعارات عمال سيليسيا بل وباغانيهم خلال ثورتهم قائلا ان اولئك العمال بدأوا انتفاضتهم من حيث توقف العمال الفرنسيين والبريطانيين. وقدم ماركس ردا على مزاعم البروسي امثلة متعددة على طبيعتها بقوله "لم يحطم (عمال سيليسا) فقط الآلات التي تنافسهم ولكنهم احرقوا ايضا دفاتر الحسابات وعقود الملكية. وبينما وجهت كل الحركات الاخرى هجومها على عدوها المرئي اي الصناعيين فان العمال السليسيين استداروا ايضا نحو العدو المختفي اي المصرفيين".
واضاف المفكر الكبير "يجب ان نقر مع ذلك بان تطلع المانيا نحو الثورة الاجتماعية هو امر كلاسيكي بقدر عدم قدرتها على الثورة السياسية. وبقدر ما تكمن اهمية البورجوازية الالمانية في اكسابها الاهمية السياسية لالمانيا فان قدرة البروليتاريا الالمانية ايضا – حتى بعيدا عن النظرية الالمانية – هي قدرة المانيا الاجتماعية. ان التباين بين التطور الفلسفي والسياسي في المانيا ليس شيئا غير عادي. انه تباين ضروري. ففي الاشتراكية وحدها يمكن للمفهوم الفلسفي ان يكتشف الخصائص التطبيقية لطبيعته وفي البروليتاريا وحدها يمكنه اكتشاف العنصر الفاعل لخلاصها".
واستخدم ماركس عبارات لاذعة في نقد البروسي المجهول مثل قوله "ان اولئك الذين يجعلون من اي موضوع فرصة للتدرب على البلاغة اللفظية تقودهم تلك الممارسة الشكلية الى تشويه المحتوى وهو تشويه لا يلبث ن يدمغ الشكل ايضا بطابعه السوقي. وهكذا فان محاولة البروسي ان يناقش اضطرابات العمال في سيليسيا على هيئة قضية ونقيضها ادت الى اكبر نقض للحقيقة. فحين نواجه بدء ثورة عمال سيليسا فلا ينبغي لاحد يعتقد انه محب للحقيقة ان ينظر الى وظيفة ناظر المدرسة باعتبارها مهمته الاساسية. على العكس اذ ان واجبه هو هو ان يدرس تلك الثورة لاكتشاف خصائصها المحددة. ومن الطبيعي ان ذلك يحتاج الى فهم علمي وحب للجنس البشري فيما تحتاج العمليات الاخرى الى مجرد عبارات جاهزة مشبعة بحب متعال للذات".
بعد ذلك انتقل ماركس الى مناقشة الوزن المحدود وغير المهم لما يسميه البروسي "الفهم السياسي" للمهام الاجتماعية. ويتابع "لدي كلمة اخيرة في هذا الموضوع. كلما كان الوعي السياسي لامة اكثر تطورا وشمولا كلما اهدرت البروليتاريا طاقتها - على الاقل في المراحل المبكرة من الحركة - في انتفاضات لا معنى لها وغير مجدية ستغرق في الدم. فلانها تفكر باسلوب سياسي فانها تعتبر الارادة (شدد على كلمة الارادة) هي سبب كل الشرور والقوى وان الاطاحة بشكل معين للحكم (شدد على الاطاحة بشكل معين) هوعلاج شامل وصالح دائما. الدليل : الانتفاضة البروليتارية الفرنسية الاولى. ان عمال ليون تصوروا ان اهدافهم هي سياسية كليا. لقد نظروا الى انفسهم كجنود للجمهورية فيما كانوا في الحقيقة جنودا للاشتراكية. ان الفهم السياسي خدع حاستهم الاجتماعية".
وبعد مداخلة مكثفة حول انفصال العامل عن مجتمعه وتعريف ماركس ل"مجتمع العامل" بالحياة نفسها قال المفكر الكبير "ويختم البروسي مقالته على نحو يليق بها بالعبارة التالية : ان ثورة اجتماعية بلا روح سياسية (اي بدون رؤية تنظمها من منظور كليتها) مستحيلة".
وعلق ماركس على العبارة الختامية في مقال البروسي بقوله "لقد رأينا : ثورة اجتماعية تمتلك رؤية كلية – حتى ولو كانت محصورة في مصنع واحد – لانها تمثل احتجاج الانسان على حياة تنتزع انسانيته. لانها تنطلق من رؤية المشخص اي الفرد الحقيقي. لان المجتمع الذي يرد الفرد على انفصاله عنه هو المجتمع الانساني الحقيقي اي الطبيعة الانسانية. وفي المقابل فان الروح السياسية للثورة تتألف من ميل الطبقات التي لا قوة سياسية لها الى انهاء عزلتها عن الدولة والسلطة".
ويتابع " وسوف نطلع البروسي على سر الثورة الاجتماعية بلا روح سياسية اي سوف نسر اليه بسر هو ان حتى بلاغته لا يمكن ان ترقى به كثيرا عن ضيق الافق السياسي. ان الثورة الاجتماعية بلا روح سياسية هي اما مركب من اجزاء عبثية ان كان البروسي يفهم ان الثورة الاجتماعية هي نقيض للثورة السياسية بينما يمنح الثورة الاجتماعية روحا سياسية بدلا من الروح الاجتماعية. او ان "الثورة الاجتماعية ذات الروح السياسية" هي لا شئ غير اعادة صياغة لما يسمى عادة "ثورة سياسية" او الثورة ببساطة واختصار. ان اي ثورة تقوض النظام القديم للمجتمع هي الى هذا الحد ثورة اجتماعية واي ثورة تسقط السلطة السياسية القديمة هي الى هذا الحد سياسية. وينبغي على البروسي ان يختار بين اعادة الصياغة والعبث. ولكن حول ما اذا كانت الفكرة القائلة بان الثورة الاجتماعية ذات الروح السياسية هي عبث ام اعادة صياغة فانه لا يوجد شك حول معقولية الثورة السياسية ذات الروح الاجتماعية. ان كل الثورات – الاطاحة بالسلطة الحاكمة القائمة وتقويض النظام القديم – هي عمل سياسي. ولكن بدون ثورة لا يمكن ان تتحقق الاشتراكية. انها تحتاج الى هذا العمل السياسي كما تحتاج الى التقويض والتدمير. ولكن حالما تبدأ وظائفها المنظمة واهدافها تبرز روحها اذ تلقي الاشتراكية بقناعها جانبا".
ويتابع "ان هذه الافاضة كانت ضرورية لاختراق الاخطاء المختفية في مقال صحفي واحد. فليس لدى كل قارئ القدرة على الامساك بهذا النصب الادبي. وفي ضؤ هذا الا يعد البروسي المجهول مدينا للقراء بترك الكتابة في القضايا السياسية والاجتماعية والامتناع عن هذه المقولات النشاز حول الموقف في المانيا لكي يخصص وقته لتحليل واع لموقفه هو نفسه؟".
ولم يتحدث ماركس في هذا السياق او في اي سياق عن مرادفة الثورة للصراع الطبقي. وهو يحدد فهمه للثورة في "الايديولوجيا الالمانية" خلال نقده لفيورباخ بقوله "ان التناقض بين القوى المنتجه وطريقة التفاعل (اي العلاقات الاجتماعية) الذي حدث عدة مرات كما ورأيناه في تاريخنا الماضي دون ان يهدد على اي حال اسسه ينفجر في كل مناسبة على هيئة ثورة تتخذ اشكالا مشتقة مختلفة في الوقت نفسه مثل الاقبال على الصدام العام او صدام عدد من الطبقات والتناقض في الوعي والمعارك بين الافكار..الخ ومن وجهة نظر ضيقة يمكن للمرء ان يعزل نفسه عن كل هذه الاشكال المشتقة ويعتبرها جميعا اسس تلك الثورات. ويصبح الامر اكثر يسرب بكثير حين يكون لدى الافراد الذين بدأوا بالثورة اوهاما عن فعلهم ذاته طبقا لدرجات تطور ثقافتهم وتطورهم التاريخي".(ص 83 طبعة بروميثيوس – نيويورك بالانجليزية).
ما الذي يقصده كاركس بتلك العبارات جميعا سواء في رده على البروسي المجهول او في الايديلولوجيا الالمانية؟.
ان "الثورة" هنا هي الموضوع. وطالما وضعناها خارج اذهاننا لبحثها فان علينا ان ندرك انها باتت كذلك. ثم انها مفهوم مجرد. فليس ثمة ثورة بصفة عامة او على وجه العموم. لماذ اذن يتناولها ماركس في الايديلولوجيا الالمانية باعتبارها "الثورة"؟ لقد اجاب بسرعة وبسبب حرصه الدائم على تجنب الوقوع في براثن التجريد بقوله "ومن وجهة نظر ضيقة يمكن للمرء ان يعزل نفسه عن الاشكال المشتقة ويعتبرها اسس جميع الثورات". بعبارة اخرى كان ماركس يبحث عن السمات المشتركة ليخلص منها الى فهم "الثورة بصفة عامة" او الثورة المجردة. وقد وضع في عدد من المواقع في الايديلولجيا الالمانية – بما ذلك الفقرة التي اوردت هنا – تلك الاسس العامة بوضوح. انها التناقض بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج. بل ان هذا الفهم للثورة باعتبارها "انفجار" حسب تعبيره هو احد الاركان الجوهرية في منهج المفكر الكبير برمته.
ولنعد اذن الى القضية التي عالجها خليل كلفت والكيفية التي عالجها بها بعد هذا العرض الواضح تماما في كتابات ماركس. سنجد انفسنا هنا امام "لخبطة" فريدة بحق يقدم الكاتب امثلة لا حصر لها عليه؟
ذلك ان كلفت عاد الى ما كتبه من قبل حول التمييز بين الثورة السياسية في سياق الثورة الاجتماعية اي في عالم البلدان الصناعية حاليا والثورة السياسية في سياق التبعية الاستعمارية. وكان هذا الفهم ذاته هو ما وصفه كلفت في مقال سابق بانه "اهم اكتشافاته" على الاطلاق
فلنبحث اذن "اهم اكتشافاته" على الاطلاق عن قرب اكثر.
يبدأ الكاتب من التصدي لاولئك الذين يحتاجون ل"فهم واقع الثورات الحالية" وهو في تقديره فهم "لن يتحقق الا بوضوح مفهومها" كما يقول في ختام نقطته الاولى. فما هو هذا المفهوم؟. يجيب الكاتب في النقطة الثانية بتعريف الثورة الاجتماعية قائلا ان "المقصود بها هو التحول أو التطور أو التقدم الرأسمالى التدريجى التاريخى التراكمى الطويل الذى يكون قد خلق أرضية اجتماعية اقتصادية ثقافية فعلية، يمكن الانطلاق منها والبناء عليها، إذ تعنى هذه الأرضية الوجود الفعلى "على الأرض" لمرحلة متقدمة من التطور والتقدم الرأسماليين"

اي ان الثورة الاجتماعية باتت في فهم الكاتب مرادفة للتاريخ بأكمله. فقبل المجتمع الراسمالي كان هناك مجتمعا آخر انهار ايضا لاسباب اوضحها ماركس في تعرضه للامبراطورية الرومانية مثلا ولغيرها بنفس المنطق الذي اوضحها به في الايديولوجيا الالمانية اي باعتبار الثورة "نتيجة للصدام بين قوى الانتاج وعلاقاته". ويتذكر الكاتب هذه المسألة في وقت متأخر من مقاله بعد ان كان قد "لخبط" بقدر كاف الا انه يذكرها لمحالة تبريرها وليس لشطب ما كتبه قبل ذلك.
فهو يقول في النقطة العاشرة من مقاله "فالثورة الاجتماعية، ليس فى العصر الحديث، بل فى مختلف عصور تاريخ البشر، تراكُمٌ تدريجى طويل للغاية لعناصر تكوين اجتماعى لاحق لتكوين اجتماعى قائم. و ينطبق هذا على الثورة العبودية التى أخرجت المجتمع العبودى فى العصور القديمة من المجتمع المشاعى البدائى، وعلى الثورة الإقطاعية التى أخرجت المجتمع الإقطاعى القروسطى من المجتمع العبودى القديم، وعلى الثورة الرأسمالية التى أخرجت المجتمع الرأسمالى الحديث من المجتمع الإقطاعى".
ثم انه يقول في النقطة الثالثة "فالثورة الاجتماعية تتواصل قرنا آخر أو قرنين بمزيد من الاندفاع بعد أن تنجح الثورة السياسية فى إزالة عراقيل وعقبات وحواجز كانت تعترض سبيل اندفاعها".
ونحن لا نعرف الآن هل الثورة هي لحظة ام انها قرن ام انها كل تاريخ البشرية. وتأتي تلك اللخبطة من ان الكاتب لم يفهم ان الثورة بصرف النظر عن "الاشكال المشتقة" التي تأخذها هي انفجار كما قال ماركس. بعبارة اخرى لو كان الشكل المشتق الذي اخذته ثورة سيليسيا او ثورة 25 يناير او اي ثورة اخرى هي هذا الشكل او ذاك فان هذا لا ينبغي ان يعمينا ان سببها هو التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج. ذلك ان القول بان هناك ثورة سياسية في سياق الثورة الاجتماعية يفترض ضمنا ان هناك ثورات "غير سياسية" اي اجتماعية مثلا تحدث في سياق الثورة الاجتماعية. ولا يمكن بطبيعة الحال ان يكون سبب الثورة الاجتماعية هو الثورة الاجتماعية. انها حسب وصف ماركس "طوطولوجي" اي لغو فارغ. لقد تحدث ماركس كما ارودت توا في ترجمه خطابه الى البروسي عن تلع المانيا لى "الثورة الاجتماعية". ولكن لماذا تتطلع المانيا الى الثورة الاجتماعية ان كانت تعيش فيها "على طول". منذ قرن او اكثر او ربما منذ قرون او ربما كخط طويل تقع الثورة السياسية على مساره كما يصف الكاتب على نحو مبتذل؟. هل كان الالمان يتطلعون الى القرون الماضية او الى ماذا بالضبط ان كانوا يعيشون في ثورة اجتماعية مستمرة استمرار المجتمع؟.
ان الكاتب حين قول ان هناك ثورة سياسية في سياق الثورة الاجتماعية فانه في واقع الامر "يعين" بلغة هيجل. اي يسلب. اي ان تمييز الثورة السياسية على هذا النحو يعني ان هناك ثورات اخرى غير سياسية تحدث في سياق الثورة الاجتماعية. ويأتي التناقض بين الوصف والموضوع واضحا تماما هنا اذا ان ذلك يفترض ضمنا ان هناك ثورات لا سياسية – اجتماعية مثلا - تحدث في سياق الثورة الاجتماعية. اي كلام بصراحة هذا الذي يقوله صاحبنا.
المهم..لا يمكن اذن ان كنا ماركسيين - ان نقول من الاساس "ثورة سياسية في سياق الثورة الاجتماعية" كما يقول الكاتب. فالثورة السياسية او الاجتماعية او النص نص او اي ثورة هي في نهاية المطاف شكل من الانفجار مضمونه دائما هو التناقض بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج. ويعني ذلك ان القول بان هناك ثورة سياسية في سياق ثورة اجتماعية هو "هطل" كما يقول المصريون. فالثورة السياسية والثورة الاجتماعية يحدثان في سياق الصراع الطبقي اي المواجهة بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج.
ويحاول الكاتب بقدر قليل من الحذق ان يموه هذه اللخبطة الضاربة فيقول في النقطة 11 "والثورة الاجتماعية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، كما يُقال، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، حسب قول شهير ﻟ ماركس فى معرض حديثه عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، سوى "الدَّاية" (القابلة أو المولِّدة): "العنف داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد".
اي ان الكاتب يقول ان الثورة الاجتماعية هي المرادف للتاريخ او بالاحرى للصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي. ثم انه يقول ان العنف الذي هو داية المجتمع الجديد هو الثورة السياسية.
هكذا انتهينا بحمد الله الى ان الثورة الاجتماعية ترادف التاريخ وان الثورة السياسية تعني العنف. ولكن يا عم. هل يمكن كتابة عبارتك على النحو التالي حتى يمكن ان نقول انها متسقة مع الماركسية ولو بعض الشئ "والثورة الاجتماعية عاصفة في سماء ليست صافية". انها كذلك حقا. وهذا هو حال الثورة السياسية ايضا. فقد علمنا المفكر الكبير ان "اشكال الثورة" اجتماعية او سياسية لا ينبغي ان تغفل العنصر المشترك فيها جميعا.
باختصار وفي نهاية هذه النقطة نكتشف ان "الاكتشاف الاهم" لخليل كلفت لم يكن اكتشافا ماركسيا من الاساس. ولكن لماذا؟. لان الكاتب كما هو واضح من تأمل ما كتب من زاوية نقدية اخفق في امرين. الاول هو انه لا يعرف هيجل على اي نحو اي انه فشل في فهم الادوات الاساسية التي استخدمها ماركس بعد ان وضعها على رأسها كما يقول تعبير انجلز الشائع. والثاني انه لم يقرأ ماركس اصلا قبل ان يفتي بما افتى به. ولكن لماذا اتهم الكاتب بهذه التهمة الشنعاء؟ لسبب بسيط يقوله هو نفسه. فبعد بحث واستقصاء عثر الكاتب على تعريف الثورة في الترجمة العربية لمعجم الماركسية النقدي الصادر عن دار محمد على الحامي للنشر بصفاقس ودار الفارابي ببيروت كما يقول بنفسه. وفي مدخل الثورة " قرأ، نقلا عن أعمال ماركس و إنجلس الكاملة: كل ثورة تلغى المجتمع القديم وبهذا المعنى فهى ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة ولذلك فهى ثورة سياسية. وخلاصة هذين النصين هى ..الخ".
ولكن هذا ما نقلناه توا في رد ماركس على البروسي المجهول. ان كلفت بكل اسف لم يكلف نفسه عناء البحث عن المصدر واكتفي بما اوردته دار محمد على الحامي "نقلا عن اعمال ماركس وانجلز" من عبارة مبتسرة غير واضحة السياق واعتبرها احد اسس محاجاته او بالاحرى "اكتشافه الاهم". وليس لانجلز علاقة بطبيعة الحال بتلك العبارة التي اوردها كلفت دون ان يتجشم عناء البحث عن المتن الذي جاءت فيه. ان المعجم النقدي او اي معجم آخر لا يكفي لكي تفهم ما تتحدث عنه. وقد كان حريا بالكاتب احتراما لعقول شابة تقرأ ان يبحث عن المصدر الضي وردت به عبارة دار الحامي ليقرأه وليحاول فهمه.
ولان خليل كلفت نقل العبارة من معجم دار الحامي اياه واجه مشكلة التخبط في التعريف بعد ذلك بلحظات فنجده يقول "والحقيقة أن النصين يشكوان من شيء من الغموض. ويوضح النصان معًا أن الثورة السياسية تأتى عندما يغدو المجتمع القديم الإقطاعى حاملا بالفعل بالمجتمع الجديد الرأسمالى". اي نص دار الحامي والنص الآخر الذي اروده في مقاله عن الداية او المولدة.
ليس هناك غموض ولا يحزنون والله يا كاتبنا العزيز. هناك فقط لخبطة عيار 24. هناك فصل حسابي يمتزج بالمعجم النقدي وبدار الحامي والفاربي بل يمتد الى مجالات اوسع. فالكاتب يضع الثورة الاميركية جنيا الى جنب مع الثورة الانجليزية والثورة الفرنسية. ولكن بالمناسبة يا عم. الثورة الاميركية التي تناولها ماركس ايضا سواء في مقالاته التي نشرت في نيويورك او في خطابه الى ابراهام لينكولن كانت "ثورة سياسية في سياق التبعية" ان اردنا استخدام تعبير يتسق مع مفاهيم الكاتب. لقد كانت الولايات المتحدة مستعمرات بريطانية وخاض الاميركيون حربا للتحرر من الاستعمار البريطاني بدأت بالانتفاضة ضد ضريبة الشاي وحاميات بوسطن. ولكن دار الحامي طبعا لم تذكر شيئا من هذا بنفس القدر الذي نجزم به ان ماركس لم يسافر الى صفاقس او بيروت.
ولكن لماذا يضطر الكاتب الى كل هذا اللف والدوران؟. الواضح انه يريد الحفاظ على "حق اختراع" مقولة الثورة السياسية في سياق الثورة الاجتماعية التي تعني باختصار الثورة السياسية ببساطة وباختصار كما يقول ماركس في رده على البروسي المجهول. وقد كان بوسع الكاتب طبعا ان يتبع ماركس في تعريف الثورة الوارد في الايديولوجيا الالمانية باعتبارها لحظة انفجار لتناقضات ولدها الصراع الطبقي او بالاحرى التناقض بين القوى المنتجة والعلاقات السائدة. المشكلة ان ذلك كا سيحرمه من حق اختراع حكاية "الثورة السياسية في سياق الثورة الاجتماعية".
وعند الحديث عن الثورة في سياق التبعية الاستعمارية – وكأن علينا ان نركض وراء سفسطات الكاتب – فان مفهوم ماركس الذي ورد في الرد على البروسي يكفي لنزع الغلاف عن هذه الثرثرات الفارغة. ان ماركس يوضح بجلاء الترابط بين المفهومين اي مفهوم الثورة الاجتماعية والثورة السياسية في نهاية مداخلته. ان مشكلة الكاتب تتبدى في كل سطر يكتبه بالحاح لافت للنظر . فهو يفصل حسابيا بين مفهومين هما في حقيقة لا يخضعان لاي منطق حسابي مبتذل.
لسنا ندري من المسؤول عن حشو عقل الكاتب بهذا السخف ولكن فلنعد الى الثورة في سياق التبعية. وهي "الكارثة" الثانية في مقال الكاتب. يقول الكاتب في النقطة الثانية في مقاله "ومن المهم كنقطة بداية، وبقدر ما يتعلق الأمر بمفهوم الثورة السياسية، أن أستدعى هنا تمييزا ركزتُ عليه فى كثير من مقالاتى بين الثورة السياسية فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية فى عالم البلدان الصناعية حاليا، والثورة السياسية فى السياق التاريخى للتبعية الاستعمارية فى عالم بلدان الرأسمالية التابعة حاليا، وهو عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة. ويمكن أن ينصبّ التركيز أيضا على جانبين أولهما هو غياب التبعية الاستعمارية فى سياق الثورة الاجتماعية بكل النتائج الإيجابية لهذا الغياب، وغياب الثورة الاجتماعية فى سياق التبعية الاستعمارية بكل النتائج السلبية لهذا الغياب".
ولنسترجع فقط العبارة الاخيرة من الفقرة الواردة هنا. ان الكاتب يقول باختصار ان هناك نتائج سلبية لغياب الثورة الاجتماعية في سياق التبعية. يا راجل. الم تقل من قبل ان الثورة الاجتماعية هي عمليات التحول الاجتماعي التي تستمر قرنا او قرونا او على طول. الم تساو الى حد استدعى ان ننبح صوتنا بين الثورة الاجتماعية والصراع الطبقي او بالاحرى والتناقض بين ادوات الانتاج وقوى الانتاج. لماذا اخرجتنا اذن نحن الذين كانوا خاضعيو للتبعية الاستعمارية من التاريخ؟. نهون عليك؟. ولكن هذا هو التمييز الذي ركز عليه خليل كلفت طويلا في مقالاته السابقة. انه تمييز غير ماركسي من الاصل.
الكاتب يقول ان الثورة الاجتماعية غابت فجأة في سياق التبعية الاستعمارية. ما الذي كان ينقل المجتمعات تلك المجتمعات من نقطة الى نقطة اخرى على مسار التاريخ؟. انه التناقض بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج. انه التاريخ. وهو بالضبط ما اطلقت عليه من قبل اسم "الثورة الاجتماعية" التي تستمر قرونا.
ان الثورة المصرية في 1919 كانت ثورة في سياق التبعية. ولكن حين يقول الكاتب ان السياق الاجتماعي كان غائبا فانه يفترض ان الصراع الطبقي "تجمد" فجأة لكي يتيح لكلفت الحصول على حق الاختراع. ولكن لماذا حدثت الثورة المصرية في عام 1919 وليس في عام 1900 مثلا او في عام 1910 مثلا. لقد كانت التبعية للاستعمار البريطاني موجودة وميت فل وعشرة وكان البلد محتلا. لابد ان شيئا ما تغير ما في رؤوس الناس فدفعهم من الخضوع للاستعمار الى تشكيل الوفد للحصول على الاستقلال وهبة الفلاحين وقطع السكك الحديدة في قرى مصر ونجوعها. وحيث ان "السياق الاجتماعي" للثورة كان غائبا او بنص كلمات الكاتب "ففى سياق التبعية يغيب سياق الثورة الاجتماعية أىْ التحول الرأسمالى بكل نتائجه" فلابد من العثور على شئ آخر تغير على نحو جعل المصريين يثورون في هذا الوقت بالذات. ما هو هذا الشئ بالضبط؟ نأمل فقط الا يهرع الكاتب الى صك عبارة جديدة لكي يحتفط بحق اختراعها اذ انه اجهدنا حقنا واجهد القارئ معنا.
دعوني اكرر امورا يخجل المرء من تكرارها من فرط بديهيتها. الناس لا يغيرون افكارهم لان شيطانا بال في آذانهم جماعة ذات ليلة الا لو كان شيطانا خاصا قادرا على ان يفعل ذلك في ليلة واحدة وشرب قدرا من الماء يكفي لذلك. الثورة السياسية لا يمكن ان تنفصل عن الثورة الاجتماعية الا بالقدر الذي يتيح دراسة "روحها" الاساسية. ولكن اي منهما وبصرف النظر عن اوهام الناس حول ما يفعلون تنبع من الشروط الموضوعية ذاتها. ان ماركس ينصح البروسي ان يخصص وقته لدراسة خصائص الثورة وهي خصائص كما اسلفنا تختلف من حالة الى اخرى دون ان يعني ذلك بحال تغيير القانون العام الذي يحتم حدوث الثورات بصورة او اخرى.
وعلى المرء ان يحتمل مواصلة القراءة على الاقل للكشف امام جيل جديد من الشباب في مصر مدى الخرف الذي ينتاب بعض كتابنا احيانا. هنا وفي النقطة الرابعة يضطر الكاتب بطبيعة الحال وكما هو متوقع تماما ان يغوص اكثر في الاختراعات. فهناك "عدم تطابق زمني" بين "حدث" طويل الامد (اي الثورة الاجتماعية اياها) وبين حدث قصير الامد اي الثورة السياسية (التي تحدث في سياق تلك الثورة الاجتماعية الابدية. ولكن كيف يمكن ان يتحول كل تاريخ المجتمعات الانسانية الى مجرد "حدث طويل الامد"؟ لقد تحول بالفعل لا لشئ الا ليحافظ الكاتب على حق الاختراع الاصلي. يا عم لا احد والله سينافسك على حق الاختراع هذا. استرح وريح الناس.
ولان اللخبطة واضحة بين تعطيل مسار التاريخ ( اي تعطيل الصراع الطبقي) في حالة التبعية واعتبار "سياق الثورة الاجتماعية" ممتد الى قرن او يزيد فان الكاتب يحاول استدراك الامر بقوله في النقطة السابعة "وبطبيعة الحال فانه لا يمكن لمفكر جاد ان ينكر وجود الثورة الاجتماعية طوال تاريخ البشر". ولكنك انكرتها توا في حالة التبعية. ام انهم شبه لهم؟. الا يعني ذلك ان هذا السياق الذي وضعته في تصنيف قائم بذاته منفصلا عن الثورة السياسية في سياق التعبية ليس "حدثا" وانما هو باختصار تاريخ تلك المجتمعات المتعاقبة التي تتحدث عنها؟ كان ينبغي ان يسلك الكاتب طريقا مستقيما فيقول ان مراحل التطور للمجتمعات المتعاقبة تشهد تناقضا بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج لتحدث ثورة تؤدي الى تغيير العلاقات الاجتماعية لتسمح بتطور قوى الانتاج التي ولدت في رحم المجتمع القديم بالتطور. ما هي المشكلة في هذا الطرح؟ مشكلة واحدة هو انه ينفي ما قاله الكاتب نفسه في مقال سابق من "اهم الافكار" التي قدمها اهمها على الاطلاق هو الثورة السياسية في سياق الثورة الاجتماعية..مش حرام والله؟.
ان كل الثورات هي فعل سياسي في نهاية المطاف بما هي تهدف الى تغيير الشكل القانوني لعلاقات الملكية بل ولمجمل علاقات الناس المتبادلة في المجتمع المعني (يمكن هناالرجوع الى مداخلات ماركس في نقد هيجل). وكل الثورات ناجمة عن اسباب اجتماعية تتعلق بوضع المجتمع المعني المشخص في اللحظة. فحين يفكر الناس في فعل الثورة السياسية فانه يفكرون لسبب لا يتصل بالشيطان غزير البول. ان هناك مصدرا محددا يمكن في صيغته المباشرة ان يكون ثقافيا او تراثيا او اقتصايا اة سياسيا او قل ما تشاء او بالاحرى دع الناس يقولون من يشاء فكل تلك الاوهام هي تعبير ليس مفتعلا ولا مصطنعا عن اسباب اجتماعية. ولكن اليس هذا معروفا؟
ان التمييز بين التناقض بين قوى الانتاج وقواه من جهة وبين الثورة من الجهة الاخرى قائم بطبيعة الحال ولكن ليس على ما يفترض الكاتب ان كارل ماركس ميزه. ان هناك بطبيعة الحال تمييزا بين تراكم التناقضات بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج وبين لحظة "انفجار" هذا التناقض. ماذا كانت ثورة سيليسا يا عم؟ كانت ثورة اجتماعية او سياسية؟ لقد كانت الاثنين معا رغم ان سمتها الاساسية كانت اجتماعية. ان العجز عن فهم الاساس الفلسفي لنظرة ماركس الى هذه المفاهيم يؤدي احيانا الى اخطاء قاتلة اذ لا يمكن حقا فهم المفكر الكبير دون فهم هيجل او هذا باختصار ما اكتشفه لينين بعد ذلك بسنوات وما لم يكتشفه صاحب الاختراعات هنا.
وبوسعنا بطبيعة الحال ان ندرس التمايز بين الثورات في بلدان محتلة وتلك التي حدثت في بلدان رأسمالية متقدمة. فهناك تمايز حقيقي من زاوية ما اوصانا ماركس بعمله اي دراسة الخصائص المميزة لاي ثورة.
هل كانت 25 يناير ثورة اذن؟ بالطبع. ان ماركس لم يحفل ابدا بهذا السفسطات الفقهية. لقد اطلق على انتفاضة عمال ليون صفة الثورة وكذا على انتفاضة الغزالين في سيليسيا. وحمدا لله انه لم يكن هناك احد يستنفذ طاقة البشر في خلافات لفظية طالما كان المحتوى الحقيقي لنظرية ماركس في الثورة واضحا في الاذهان.
بقي فقط انني لا استطيع ان اقاوم بالفعل العبارة الاخيرة في رسالة ماركس الى البروسي المجهول اي حين قال "ان هذه الافاضة كانت ضرورية لاختراق الاخطاء المختفية في مقال صحفي واحد. فليس لدى كل قارئ القدرة على الامساك بهذا النصب الادبي. وفي ضؤ هذا الا يعد البروسي المجهول مدينا للقراء بترك الكتابة في القضايا السياسية والاجتماعية والامتناع عن هذه المقولات النشاز حول الموقف في المانيا لكي يخصص وقته لتحليل واع لموقفه هو نفسه؟". ولكنني لا اعرف البروسي المجهول وان كنت ارى ان نصيحة ماركس صالحة دائما حتى في زمننا هذا.