الاتصال الخارجي وحداثة الشعر الفلسطيني في عصر النهضة


محمد باسل سليمان
2012 / 7 / 29 - 12:18     

تشكلت تكوينات الثقافة في فلسطين في مختلف الحقب التاريخية المتعاقبة بفعل عوامل التطور البلدانية الذاتية وآثار تلاقحها مع الثقافات التي اتصلت بها أو تواصلت معها بأشكال متنوعة ووسائل متعددة وبدوافع مختلفة. وبقدر ما اتسم به ذلك التشكل من مظاهر توصيفية للخصوصية الهوياتية، فإن المنتجات المباشرة لذلك التشكل في مجالات الثقافة المختلفة بدت عليها بعض مسحات التأثير الخارجي التي ميزتها وأكسبتها قوة وتقدماً حيناً، أو ضعفاً وتساوقية حيناً آخر.
وحتى عندما فقدت الثقافة في بلادنا هويتها الوطنية بعد أن وقعت تحت الحكم الإسلامي بدءاً من عام 638م وأدمجت كإقليم في إطار الدولة العربية – الإسلامية، وتعطل الإنتاج الإبداعي الثقافي فيها في العقود الأولى من قيام هذه الدولة، ظلّت تأثيرات تلاقح ثقافة "جند فلسطين" مع الجند الشامية الأخرى الوسيلة التي ساعدت الإدارة الثقافية في عاصمة الخلافة الإسلامية على توظيف المعطيات الفكرية والعلمية الإيجابية في الثقافية اليونانية لتطوير الثقافة العربية الإسلامية، والاستجابة لضرورة توفير متطلبات استمرارية تطور الدولة الإسلامية وازدهارها في مجالات الحياة المختلفة، وأن المعارف العربية التي هي أساس ثقافة الدولة الإسلامية كانت بدائية وبدوية خشنة، وتفتقر إلى جوانب عديدة مما بلغته ثقافات البلدان المجاورة .
وكانت الترجمة من اللغة اليونانية إلى اللغة العربية هي الأسلوب الوحيد الذي يمكن استخدامه لبلوغ هذا الهدف، فأصبحت هذه الوظيفة مهمة أهل الجند الشامية الذين يعرفون اللغة اليونانية كنتيجة مباشرة لتاريخية التلاقح الثقافي بينهما .
ولقد كانت هنالك دوافع وعوامل دولانية ملحة، اقتضت متطلبات الاستجابة لضرورة اللجوء إلى الترجمة توفير استحقاقاتها، خصوصاً في مجالات العلوم والإدارة وغيرها التي كانت الحاجة إلى بلوغها تزداد مثولاً بشكل مضطرد وذلك نظراً لاتساع مساحة الدولة العربية – الإسلامية وتزايد نفوذها .
ويمكن القول أن ذلك قد أسهم بشكل رئيس إلى جانب عوامل ودوافع أخرى، في قيام حركة الترجمة التي شهدت نشاطاً واسعاً في العصر العباسي الأول (850-750م) كحركة رسمية بعد أن كانت حركة خاصة في العصر الأموي. وقد أثرت هذه الترجمة بشكل واسع على تطوير مجالات العلوم الأخرى.
ويرى المؤرخون و الباحثون "أن الحاجة الأنية والسريعة للعرب في تحصيل العلوم بهدف الاستعانة بها في إدارة شؤون الدولة وتصريف قضايا الحياة اليومية، كانت أحد الدوافع الرئيسة للترجمة. ويضاف إلى ذلك أنه كان هنالك (دافعاً دينياً هاماً)( ) يقف وراء الاهتمام بالترجمة ومأسستها يعود إلى غرض التعلم والاستزادة من الحكمة في هذا المجال. والهدف هنا هو الوقوف أمام التيارات والفرق الدينية المعارضة لتيار السنة الذي كان سائداً في الدولة. فالجدل العميق الذي شهدته بعض الفترات بين المسلمين والمسيحيين واليهود حول قضايا ومسائل دينية ولاهوتية لم يكن بالامكان مشاركة المسلمين فيه بدون معرفة الآخر عن طريق الترجمة، خاصة أن العرب عرفوا أن علم المنطق له مساهمة في تحسين هذا الجدل( )" .
وكان من بين أهم الدوافع للترجمة "الاتصال المباشر الذي تكون بين العرب وبين الشعوب التي وقعت تحت حكمهم، وخاصة في المدن المركزية، مثل: الإسكندرية، ودمشق، وأنطاكية، وأوديسا، وغيرها... قد عزز عندهم حب الاستطلاع لمعرفة المكونات الفكرية عند هذه الشعوب... وكان هنالك دافع هام وراء تطور حركة الترجمة المأسسية يعود إلى تطور القطاعات الاقتصادية والاجتماعية في الدولة العباسية وتكوّن طبقة متمدنة, رأت بشكل تدريجي ضرورة دعم وتنشيط الترجمة من أجل الحصول بواسطتها على ما يحقق دعم هذه الطبقة ونشاطاتها الفكرية عن طريق وجود أفكار وطروحات فلسفية مشابهة لتلك التي نادى بها أرسطو. وهذه الأفكار هي مادية أكثر من كونها مثالية (إلهية) كتلك التي كان ينادي بها أفلاطون( )".
ويمكن القول أن التيار أو النهج المادي تعزز بظهور تيار أكثر عملانية يدعو إلى تطبيق هذه الأفكار في الحياة. وكان من بين أهم المنتمين والداعين إلى تبني هذا التيار الفارابي.
وهناك اتجاه ظلامي في أوساط المؤرخين الإسلاميين المحدثين يرى دافعاً آخر لترجمة ذلك الزمان وخاصة في مجال الفلسفة يقوم على تحقيق الأهداف التبشيرية للمسيحية. ويعتمد هذا الاتجاه فيما يذهب إليه إلى وجود أكثرية من بين المترجمين هم من أتباع الديانة المسيحية. وأصحاب هذا الاتجاه يدّعون الفلسفة الإسلامية مستقلة وغير مرتبطة وضيقة؛ وأن هدف الترجمة هو هدم المبنى الفكري الإسلامي.
وتجمع المصادر التاريخية على أن غالبية المترجمين كانت من السوريين المسيحيين واليهود. وهم الذين شكلوا حلقة الوصل بين العرب والحضارات المختلفة في العالم وفي مقدمتها اليونانية، وخصوصاً الفلسفة اليونانية. ويذكر في هذا السياق أن كثيرين من السوريين قد اشتغلوا في مجال الترجمة "وكان من أشهرهم حنين بن اسحق (877-810م) الذي يعتبر من طلائعيي المترجمين. وقد ترجم عدداً كبيراً من كتابات وحوارات أفلاطون، مثل: السفسطائي، فايدروس، الجمهورية، كريتون، جورجياس، منون، بروتاغورس، وغيرها. وبالإضافة إلى كتب أفلاطون التي ترجمها ابن اسحق إلى العربية هناك ترجمات أخرى كثيرة مع منهجية تفسيرية للنصوص الفلسفية الأفلاطونية .
"وكان هناك يحيى بن عدي الذي قام بترجمة كتاب القوانين, وكتاب طيمايوس. إضافة إلى ذلك عرف العرب كتباً أخرى لأفلاطون، مثل: كتاب فايدون وخطاب ألفبياديس، وكتابات أخرى. ويذكر الفارابي كتباً أخرى غير هامتل كتاب الفايدون، وكتاب القوانين، والسياسي الصغير وبالنسبة لأرسطو فكل كتاباته كانت معروفة للعرب ما عدا كتاب بولتيكوس...( )".
ويستدل من وقائع المصادر التاريخية أن العرب عرفوا حتى نهاية القرن التاسع الميلادي قرابة (129) مؤلفاً إضافة إلى تفاسير وتعليقات بشأنها. كما قام المترجمون بتوفير معلومات هامة حول المواضيع والقضايا التي كانت مدار نقاش وبحث في فترتهم؛ بما في ذلك المجالات والنقاشات التفسيرية حول العلوم والفنون والآداب والمدنية والعمارة التي وردت أو لم ترد في مترجماتهم، وكذلك مطالعات الأقدمين حولها. وذلك يعني أن ترجماتهم لم تكن ترجمة أدائية فقط، وإنما دمج مواقفهم وآرائهم الخاصة بمترجماتهم أيضاً.
لقد أسهمت الترجمة كثيراً في إغناء مختلف العلوم الإنسانية والتطبيقية، وفي تطوير جوانب الحياة المختلفة في الدولة العربية – الإسلامية. وكان تأثيرها على الصعيد الفكري ملهماً عندما شكلت قوة دفع متسارعة لتطوير النقاش في المنطق وتفعيل الجدل في الفلسفة العربية- الإسلامية؛ خاصة على صعيد الصراع الفكري بين اللاهوت الديني وبين المادية. وبنتيجة هذا التطور ظهر في بلاد ما بين النهرين وما وراء بلاد فارس علماء وفلاسفة مرموقون نهضوا بالحضارة الإسلامية، وأثروا الحضارة العالمية، وأسسوا للمدينة العربية. وما كان مؤسفاً أن تأثيرات تلك النهضة العلمية والفكرية لم تترك أثراً يذكر في بلادنا لأسباب تتصل بسيادة المذهب الفكري النقلي والتسليمي المستمد من قوة حضورية المكان الروحانية في جند فلسطين لاعتبارات دينية إسلامية، ومسيحية ويهودية أيضاً.
وعلى الصعيد الثقافي لعبت الترجمة القديمة دوراً حيوياً ومركزياً في توسيع حدود مديات الثقافة العربية بواسطة إدخال أفكار وتوجهات جديدة إليها، تمّ نقلها عن طريق الترجمة من ثقافات العالم الأخرى؛ وكذلك نتيجة اطلاع المثقفين العرب على الوسائل التي كان يعتمدها المثقفون اليونانيون في البحث والاستطلاع والتي وظّفوها في استحداث صيغ وأنماط وأساليب بحث في القضايا التي أشغلت حياة العرب وفكرهم .
كما أطلع العرب بواسطة حركة الترجمة على مواضيع علمية وبحثية جديدة كانوا في حاجة إليها. وبقدر ما نقل العرب الثقافة اليونانية إلى شعوب العالم الأخرى فهم قد أسهموا في الحفاظ على التراث الثقافي اليوناني من الضياع. وأدخلوا إلى اللغة العربية مصطلحات وتعابير يونانية أثرت لغتهم وسهلت على اللغة العربية ما اعترض قدرتها الاستعابية من معوقات وعراقيل، فتأهلت للاستمرارية كلغة حيوية تختزن مقومات الحياة والتطور والديموية .
ولأسباب لم نستطع تحديدها أو التعرف إلى كنه أي منها فإنه لم تشتمل المصادر التاريخية حتى الآن على أسماء فلسطينية بارزة في مجالات الأدب والعلوم والفلسفة طيلة عصور الدولة الإسلامية، بما في ذلك عقود النهضة الفكرية والأدبية منها خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. والأمر نفسه كان كذلك في العصور التي تتالت بعد الدولة العباسية وحتى الدولة العثمانية. وما هو أكثر إيلاماً في ذلك أنه لم يستدل على أي نتاج إبداعي لأي أحد من سكان هذه البلاد ليس على اعتبار أنه إنتاج فلسطيني، وإنما في إطار كونه من النتاج الإبداعي الإسلامي أيضاً؛ ما عدا إنتاج بعض الأسماء التاريخية التي اشتهرت بسعة علمها في مجالات علوم الدين .
إن الأدب بأنواعه المختلفة مثل كل مكونات الثقافة المجتمعية يحتاج لاستمرار حيويته ونموه إلى تمتع بيئته بشروط وبمواصفات خاصة، تؤهله للتساوق مع حيثيات بنية الحضارة الوطنية الأخرى. وما هو محزن في تاريخ هذه البلاد أنه يصعب العثور في أسفار عهود حكمها السابقة على أدب مجيد يحمل اسم هويتها الوطنية. وربما كان ذلك يعود إلى أن هذا الأدب في العهود المختلفة كان مندمجاً نسباً وقيمة في ثقافة النظام (الأجنبي) الذي يحكم هذه البلاد؛ وذلك برغم وجود بعض المعطيات الاستثنائية التي تكسب بعض نتاجاته ملامح مقومات حضور يتصل بالهوية في بعض الأحيان، خصوصاً عندما يكون المبدع قد قرن نسبة إلى مدينته. وإذا كان مثل هذا الأمر قد حصل في العهدين الأموي والعباسي، فقد تعذر وجود أي من مثل هذه الاستثناءات في العصر التركي. و أكثر من ذلك، فإن ما كان قد أشير إليه في العهود السابقة توارى في ذلك العصر بعيداً وربما كاد يندثر تدريجياً بسبب سياسة التتريك الطورانية سيئة الذكر؛ التي كان يراد لها أن تسود في أقاليم الدولة التركية وبضمنها فلسطين .
لقد ظلّت الطورانية طاغية إلى حد الإطلاق طيلة الثلاثة قرون الأولى من عصر الاستعمار التركي، وكانت مرشحة للاستمرار بنفس الدرجة من الغُلو لولا تعرض الولايات (ذات القومية التركية) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتأثيرات خارجية أملت على إدارة السلطان الاستجابة للاستحقاقات التي تترتب على التعامل إيجابياً مع تلك التأثيرات بشكل مباشر أو غير مباشر. ولقد كان صدور"قانون الولايات الجديد" عام 1864م أول هذه الاستحقاقات؛ إذ بموجبه قدرت الدولة أهمية الأراضي المقدسة في فلسطين, فأنشأت متصرفية القدس؛ وأتبعتها للباب العالي مباشرة. وتمتع سكان الولاية الجديدة. بجميع المكتسبات التي وفرها صدور هذا القانون وما استتبع صدوره من قوانين التنظيمات والتشريعات والأنظمة الإدارية الإصلاحية التي كانت أحد استحقاقاتها، والتي تكللت أخيراً بصدور الدستور الجديد.
لقد وفر الدستور برغم ما واجه وما اعترى تطبيقه من مثالب متطلبات الإصلاح وتحسين مستوى إدارة الدولة، بشكل يتوافق مع تأمين ضرورات تغيير وتطوير الواقع المعاشي والحياتي لمجتمعات الأقاليم غير التركية في الدولة العثمانية. ولكن يبدو أن عدم تأهل الدولة لاستيعاب الواقع الجديد واستحقاقاته لم يمكن من استمرار العمل بالدستور طويلاً فأطيح به أخيراً. ولكن ذلك لم يمكّن من إلغاء تأثيراته التحديثية الإيجابية، ولم يقطع وشائح علاقات اتصال البلاد بالعالم الغربي التي أقحمت بعوامل الدفع التي كان قد وفرها الدستور كما أنه لم يجد أو يلغ ما توفر عبرها من منظومات معرفة ثقافية اطّلع سكان متصرفية القدس من خلالها على حقائق التقدم والتطور التي بلغتها الحضارة الأوروبية، وتعرف على أثرها على الفكر الإنساني وعلى سمات الرؤى التي شكلتها في تكوينات الثقافة الغربية المعاصرة. وكانت النتيجة لذلك أنه دخلت إلى حياة الناس تقاليد وطقوس جديدة، وإلى وعيهم مفاهيم جديدة.
وعلى صعيد اللغة كان التأثر ملحوظاً فقد دخل إليها تعبيرات وألفاظ غير معروفة من ذي قبل، وظهرت معان تبحث لها عن مقابلات دلالة من الألفاظ. وأصبح الناس يدركون المدلول الواقعي لكلمات: التنظيمات، والتعليمات، والدستور، والعدل، والحرية، والأمة، والإصلاح... الخ.
وعلى صعيد الأدب بدأت تبرز مفاهيم جديدة، وأساليب كتابة جديدة أعطته مواصفات راقية قياساً بما كان عليه قبل ذلك. كما شحنته بعوامل تطور وحيوية أسهمت في تعيين وظائف جديدة له تحاكي تطورات حقائق الحياة وتتقدم بتقدمها. وبذلك دخل الأدب في مرحلة التوطئة للعبور الجديد الذي افتتحته الأفكار الآتية من الغرب بتأثيراتها على الأدباء الأتراك وأدباء القوميات الأخرى في الولايات غير التركية من الدولة العثمانية وبضمنها الولايات العربية. وفي معطيات هذه المرحلة وظروفها كتب الأدباء العرب وأنشأوا النثر وألفوا ونظموا دواوين الشعر النازع نحو التجديد في اللغة والمعنى والأسلوب، انطلاقاً مما عرفوه من مخزون معين الثقافة العربية، واسترشاداً بما استطاعوا الإحاطة به من تراث ثقافة أدباء وشعراء الدولة الإسلامية الذين سبقوهم وساهموا بمآثرهم الشعرية والنثرية في وضع حجر أساس صرح أدب المجتمع الجديد المزمع إنشاؤه.
وحيث إنه بسبب صدور "قانون الولايات الجديد" وتطبيقاته التدريجية استردت بلادنا اسم هويتها الوطنية وأخذت تعرف باسم فلسطين، فإن النتاجات الإبداعية لأبنائها في المرحلة الجديدة من حياة البلاد أخذ يحمل اسم فلسطين وينسب إليها في جميع مجالات الآداب والعلوم والفنون والعمارة, وغيرها. وقد كان من حسن طالع الأدب والأدباء أن يتحقق هذا الأمر مع بداية مرحلة النهضة الأدبية والأدب العربي الحديث، وهو الأمر الذي يجيز لنا اعتبار كل الأنواع الأدبية المنتسبة إلى فلسطين (الحديثة) والمتمتعة بهويتها الوطنية هي آداب نهضوية وتجديدية؛ وذلك لأنها نتاجات تفاعل المبدعين مع معطيات التطور الذي تحقق في محيطهم . فقد قدروا أن يعبروا عنه نظماً أو نثراً بمستويات رفيعة من التأليف، تخلصت من وطأة الرصف الكلامي بأساليب تقليدية عجفاء، واستلهمت مصطلحاتها التعبيرية من الواقع المعبر عنه بمفردات وتعابير جديدة وبسيطة؛ صيغت في منظومة أدبية بأساليب سهلة وقوية ومشوقة في آن واحد معاً.
وتعود هذه النقلة الجديدة في الصناعة الأدبية عند المبدعين الفلسطينيين في هذه المرحلة لأسباب عدة من بينها توفر عوامل النهضة المختلفة بمقوماتها المباشرة وغير المباشرة أيضاً، وكذلك اقتدار المثقفين الفلسطينيين على تحقيق توليفة تكامل بين هذه العوامل جميعها؛ بحيث تتأمّن الشروط الموضوعية نفسها لتطور كل جانب من جوانب حياة المجتمع الفلسطيني المختلفة. وفي هذا السياق يمكننا القول أنه كان من البداهة بمكان أن يتطور وضع فلسطين الثقافي عندما يزدهر الوضع الاقتصادي بشكل عام فيها. ومن البداهة أيضاً أن يحقق الأدب قفزات كثيرة متقدمة عندما يتطور التعليم ويزداد عدد المدارس والمعلمين والمتعلمين والمكتبات والمطابع وحركة التأليف والصحف، وغيرها. وسيعكس هذا التطور نفسه بشكل إيجابي جداً على مجمل الأوضاع الحياتية الفلسطينية الأخرى، لأن التطور والحداثة بمفهومه العام معطى تكاملي وتفاعلي في آن واحد معاً. ولذا فإن تطور الآداب والاقتصاد غير ممكن دون تطور مترافق ومتداخل مع تطور جوانب الحياة الأخرى، التي ستشكل فيما بينها مجموعة قيم للعلاقات الإنتاجية ستصبح السمة المميزة للمجتمع الفلسطيني، والتي تتأثر في الغالب بظروف تطور هذا المجتمع وبمدى استطاعته نسج علاقات حيوية مع بلدان العالم الخارجي عن طريق الإرساليات الأجنبية أو التجارة أو الإيفادات الجامعية إلى البلدان الأوروبية، أو الرحلات الأحادية المبادرة أو المتبادلة.
وإن نظرة تحليلية لمعطيات تطوّر الواقع التاريخي في فلسطين منذ أواسط القرن التاسع عشر ترينا أنها تعود بكل صنوفها في المجالات المختلفة إلى منظومة العلاقات مع البلدان الأوروبية وبلدان العالم الخارجي التي أمكن صياغتها في تلك العقود، سواء على صعيد مجال التجارة أو التعليم أو الصناعة الحرفية أو الطباعة أو الصحافة ومجالات الثقافة المختلفة أو على الصعيد السياسي أيضاً.
وقد كانت الترجمة بكل أنواع طرائقها وأساليبها، عامل نظم صلات فلسطين مع الخارج والعلاقات الإنتاجية الناجمة عنها، وهي أحد روابط التكاملية بين فروعها المختلفة في بعض الأحيان. ويبدو أنها وقد تكرست بفعل هذا الدور كأحد أنواع الآداب الفلسطينية فقد كان لها دور حيوي مباشر في تطور بنيات حضارة هذا البلد وتنويعات ثقافته. وهي قد لعبت دوراً هاماً في تطوير وتحديث وتنويع الآداب وكذلك اللغة العربية وعلومها.
وإن نظرة لتطورات العمل الترجمي الفلسطيني بمنظور تاريخي توضح لنا أن تداخل أولويات سماته العامة مع خصائصه الرئيسة قد أكسبته قدرة التأشير على مستويات تنوعه الأدبي واللغوي والثقافي والاجتماعي في كل مرحلة من مراحل حياة الشعب الفلسطيني المعاصر من جهة, وكشفت من جهة أخرى قابليات ديناميته المختلفة فكرّسته كأحد حاجيات المعرفة والثقافة الفلسطينية, وكرافد غزير للغة، وكدليل معرفة اجتماعية وحياتية على ما هو جميل وإيجابي ويستحق التقليد أو الاقتباس عند الشعوب الأوروبية، والاهتمام بالتنوع اللغوي والتعدد المعرفي وبالتأليف الحداثي وتطوير الآداب وفنونها وعلومها.
إن هذه الإطلالة غير التفصيلية على العمل الترجمي في هذه البلاد منذ نشأته في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، حتى اكتسابه فلسطينيته كهوية وطنية رسمية منذ بداية عام 1922م؛ تشير إلى أن فلسطين كانت مفتوحة الآفاق وترفض الانغلاق. ولذلك تمتعت الثقافة الوطنية وبضمنها الآداب بأنواعها المختلفة بديمومة في الاتصال والتواصل مع المحيط والامتدادات، فأكدت تنويريتها، وتفاعلت فيها اتجاهات وتيارات أحدثت آثارها في الحياة الأدبية. وذلك لأن علوم الآداب لا ترتقي إلا باتصالها مع آداب الأمم المتمدنة والإطلاع على مجمل تاريخ أدبها وعلى بعض ما ترجم من مؤلفاتهم، والوقوف على ما عندهم من فكر سام وإدراك واسع، وما حققوه من بلاغة المعاني وسلاسة الأساليب في النظم والنثر، وتصرّفهم في الكلام؛ والتمييز بين طرق المتقدمين والمتأخرين منهم.
ولقد حدث مثل هذا الأمر في فلسطين بعد أن تحقق اتصالها المتنوع مع الثقافة الحديثة في البلدان الأوروبية المختلفة، وأثرت مناخاتها إيجابياً بنتيجة مفاعيل هذا الاتصال، وتمكنت مستوياتها الاجتماعية من توفير مقومات توصيفها الطبقي؛ فظهرت إلى جانب الطبقة الأرستقراطية طبقة البروجوازية الناشئة التي لم يقتصر وجودها على المدينة فحسب وإنما امتد إلى الأرياف أيضاً.
ولقد كانت الثمرة المباشرة للفرز الطبقي النسبي في فلسطين في تلك المرحلة حرص الطبقات على بلورة ثقافاتها وأنواع آدابها. وهذا الأمر كان من الصعب تحققه دون الاطّلاع على الثقافة الغربية وتمثل جوانبها المختلفة، أي دون الترجمة. ولذا فقد أصبح للطبقات أنواع آدابها المختلفة، وبسبب الترجمة التي كانت وسيلة الاطّلاع الرئيسة على الآداب والمعارف والثقافة الغربية، وبواسطتها أيضاً تطورت أنواع الآداب المختلفة .
ولكن هل كان التأثير ومنتجاته من أشكال التغيير والتطور. سهلاً وميسراً ويطال فروع الثقافة جميعها وأنواع الآداب كافة، أم أنه عملية عسيرة ومعقدة إلى حد الاستعصاء في بعض مناحي الثقافة؟!. وهل تمتعت عوامل التأثير بغير قابلياته التطور فحسب، وطاولت في بعض محطات مسيرتها القدرة على التجديد والابتكار والخلق؟!.
ومع أن أمثل هذه الأسئلة المشهرة ومعها أيضاً ما يراد من الأسئلة المضمرة، إلا أن ما يمكن استقراءه من السياق العام للوظيفة الأدائية للترجمة وللدور الذي انتدبت للقيام به في مختلف جوانب الموضوعات التي تناولها ضمن العناوين السابقة، يؤشر بشكل واضح إلى الوجهة الصحيحة والدقيقة نسبياً لما تجنبت أن تشتمل عليه إجابات الأسئلة والتساؤلات التي يمكن أن تتفرع عنها أو تطرح إلى جانبها وهي ذات صلة بها وهي بالضرورة إيجابية رغم قصر الفترة الزمنية التي انحصر البحث عن دور الترجمة فيها، وعن مدى تأهلها للمشاركة في نشوء الثقافة الفلسطينية وترقيها، وكذلك في تأثيرها الإيجابي في أنواع الأدب الفلسطيني.
إن طبيعة النظام السائد في بلادنا خلال تلك الفترة، وتجليات تأثيره في مجالات الحياة المختلفة تجعل إمكانية التأثير الإيجابي في هذه الجوانب وخصوصاً الأدبية منها صعبة وبطيئة وغير منظورة مهما وفر من عوامل قبل مطلوبة لإنجاز هذه العملية.
كان يسود في متصرفية القدس في تلك المرحلة نظام إقطاعي شمولي متخلف يفرض نفسه إطاراً بنيوياً لكل جوانب الحياة فيها: سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، فطبعها بالمحتوى الديني باعتباره فكر هذا النظام الذي يتشكل بأشكال هذا الإطار في مراحله المختلفة.
وظلّ المسجد الأقصى في القدس يقوم بوظيفته التقليدية المعروفة. فقد كان مركزاً هاماً من مراكز نشر العلوم الدينية في الأقاليم الإسلامية من الدولة العثمانية. وكان الجامع الأزهر في القاهرة يمد هذا المركز الديني بالشيوخ، ويهيئ التلاميذ الموفدين إليه من هذا المركز لكي يعودوا مدرسين ومعيدين ومقرئين .
وفي هذه المرحلة كان التعليم بدائياً ويكاد يكون مقتصراً على رجال الدين، الذين هم في الحقيقة لا عمل لهم غيره إلى جانب إلقاء بعض العظات وإمامة الناس في الصلوات. وحتى المدارس الأجنبية التي ابتدأت في هذه البلاد كان يقوم عليها رجال الدين الأجانب الذين جاءوا لغرض ديني. والحكومة لم يكن لها مدارس تذكر في فلسطين وفي غيرها من الأقاليم العربية الأخرى. ولذلك لم يكن التعليم منسجماً مع احتياجات البلاد أو مؤهلاً لتلبية أي جانب منها. وكان التعليم وللأسف رجعياً سلفياً وأصولياً متخلفاً؛ يدعو إلى مفهوم التحزن والكآبة والزهد في الحياة وترك العمل وقمع النفس والرضا من الحياة بالنصيب الأخس. وكان مفهوم التربية الدينية حقيراً، ووظيفته تنشئة أجيال أذلاء وبلا كرامة، إذ هو يشترط على التلميذ أن يكون ناكس الرأس، متطاطئ الهامة، كاسف البال، ونادماً، يميل إلى الاعتقاد الغيبي السافر بالروحانيات، ويمارس الإيمان بمفهومه المطلق الذي يعتمد على النقل ويرفض أي دور للعقل .
وقد أسّس هذا المفهوم الديني عند المسلمين والمسيحيين أيضاً طقوساً أصبحت بمثابة سمات لرجال الدين حتى اليوم، فهم يلبسون السواد ويطلقون لحاهم وكأنهم في حداد دائم. وعلى وجوههم علائم القلق والهم والكآبة. ولا يمشون إلا وئيداً.
وكأن الضحك والسرور والنشاط وسرعة الحركة وعلو الهمة وسعة الآمال والتشبث بالحياة والإقبال عليها والإمساك بها من الكبائر التي لا يجوز اقترافها. ولذا فقد اصطبغت جميع قيم المجتمع الفلسطيني المعرفية بمواصفات فكر هذا النظام، وأخذت تلويناته البائسة. فكان المجتمع الفلسطيني محافظاً متقشفاً في جميع جوانب حياته بما فيها الثقافية وروافدها من أنواع الأدب المختلفة.
وحيث تشير دراسات مقارنة المستوى لتطور الأنواع الأدبية في تلك الفترة بدءاً من تدشين مرحلة النهضة وحتى اندلاع الحرب العلمية الأولى (1914-1918م)، إلى تقدم بطيء في البداية ثم مندفع بعد ذلك ومؤثراً بشكل بنيوي بدءاً من عام 1908م حين انطلقت النهضة الصحافية في فلسطين (1908-1914م)، حيث شهدت اللغة العربية تطوراً كبيراً، ودخلت إلى الآداب العربية علوم ومعارف جديدة كعلوم الترجمة والنقد الحديث والأدب المقارن وعلم الألسنيات؛ كما تطورت وتقدمت أنواع الآداب العربية المعروفة بشكل ملحوظ ودخلت إلى مبناها الهيكلي نتاجات من هذه المعارف الجديدة، إضافة إلى أنواع أدبية جديدة ومعاصرة كالرواية والمسرحية وغيرها.





تنضير الشعر
كان الأدب بأنواعه المختلفة في تلك المرحلة وإلى حين من سني بدايات مرحلة النهضة نتاجاً طبيعياً لقيم وثقافة النظام السياسي لمتصرفية القدس. فكان على شكلها أو ما يشبهها. وبدت تجلياته واضحة بشكل صارم في النتاج الشعري، حيث جعل سماته الإقطاعي ومحتواه الديني . واصطبغ بلونهما في كل ميادينه. وظهر الشعراء وكأنهم امتداد تطابقي مع التيار القديم الذي بلغه نهر الحياة العربية الدفّاق بعد أن تراكمت في مجراه حجارة العصور المتأخرة. وحَسْبُ هؤلاء الرواد أن يحفظوا لنا تلك البذور لحين تجد الظروف المناسبة... (كما أن الحكم على نتاجهم يجب أن ينطلق من معرفة) الأجواء الثقافية التي أحاطت بهم حتى يكون لهم عذرهم في إنتاج هذا الشعر المنظوم الذي لا يستطيع أن يحمل مضموناً إلا هذا المضمون الديني الذي تنقله تلك القيم الدينية بصورة ساذجة مهترئة... غير أننا لا نستطيع أن ننكر (أن شعراء تلك المرحلة) كانوا منارة تشير إلى قوافل النهضة ... (ولهذا يغدو من الطبيعي في هذه المرحلة) أن نجد الشعر في معظمه لا يصدر إلا عن رجال الدين سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين. وأن يكون روادنا الأوائل في نهضتنا الشعرية والأدبية في أكثرهم من بين الشيوخ... ومن بين القساوسة... وأن يكون المضمون مثقلاً بتلك القيم الدينية التي كان يروجها الإقطاع في تلك الفترة الزمنية من سلطان الأتراك العثمانيين...( ).
لقد كانت فلسطين كما غيرها من الأقاليم العربية تطفح بالفصاحة في تلك المرحلة. وكان نظم الشعر مظهر وجاهة، ومبعث افتخار، ودليل نبوغ لغوي، وعامل تفوق في المكانة الاجتماعية والعلمية لا يجارى ولا يبارى.
وكما ورد في كتب تاريخ الآداب العديدة أن من بين الشعراء الذين جسدوا طابع شعر تلك المرحلة المعلم جرجي عطية أشهر أساتذة اللغة العربية في سوريا، وعالم من شيوخ المسيحيين والأستاذ في السينمار العلمي الروسي في بيت جالا الذي تخرج على يديه أساطنة علم العربية في تلك المرحلة. وكان من بين شعراء تلك المرحلة القس الناصري الأب إلياس مرمورة. وكذلك الشيخ يوسف النبهاني أحد شيوخ المسلمين وخريج الأزهر الشريف، وهو من قرية إجزم قضاء حيفا. وقد كان معلماً وقارئاً وقاضياً. وقد تولى وظائف حكومية مختلفة في عدة أماكن في أقاليم مختلفة من الدولة العثمانية.
وكان من شعراء تلك المرحلة أيضاً الشيخ عباس الخمّاش الذي كان يعتبر واحداً من أشراف علماء مدينة نابلس. وكذلك الشيخ يوسف أسعد الذي كان أحد شيوخ القدس وساداتها، فقد كان والده مفتياً ووجيهاً. وكذلك الشاعر المكنى بـ "أبي السعود"، وهو من علماء القدس وأفاضلها؛ وكان تلميذاً ومقلداً للأديب أحمد فارس الشدياق. وقد نظم كتابه (سر الليالي) شعراً فأجاد وأبدع. وكان من مشاهير شعراء تلك المرحلة الشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي مدرس العلوم الشرعية وفنون الآداب في سورية. وكان أحد شعراء السلطان عبد الحميد الذين نظموا مطولات القصيدة في مديحه أو الدفاع عنه( ).
إن قراءة عادية لشعر رواد تلك المرحلة تطلعنا على نظم بلسان عربي لا تشوبه شائبة الاعوجاج أو الركاكة أو العجمة؛ ولكنه في الوقت نفسه مثقل بالصور التقليدية القديمة، وبأنواع البديع الموروثة. ويمكن أن تلمس فيه قدرة الناظم العالية على التقليد اليافع الذي نضج واستوى عوده؛ وكذلك قدرته على قرظ الشعر وتمكنه من صياغة الألفاظ في قوالب شعرية سليمة. وخواتم القصائد من شعر تلك المرحلة تكون دائماً بأفضل ما يكون فيه المديح لذوي المكانة القيادية الدينية أو الدنيوية؛ كالأنبياء أو السلاطين وولاتهم.
وعندما يجد القارئ أن معظم شعر رواد المرحلة طافح بالبلاغة اللفظية وبالفصاحة، في الوقت الذي ينضح بالمديح، فإنه يكون من البداهة أن تمتلئ القصائد بالصور الدونكيشوتية والوهمية التي أراد الشاعر تأكيدها ليجعل منها في قصائده رياضة عنيفة يحرك بها لسانه، فيظهر قدرته على تداول اللغة ودورانها في المناهج الموروثة التقليدية. وللإمعان في تبجحه بالقوة كان الناظم يغرق في التقليد واستحضار أنفاس الشعراء الأوائل الكبار، مثل: بشار بن برد، وأبو تمام، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري. وفي هذا السياق أظهر الشعراء قدرة فائقة على تقليد التعبير من غير أن يكون هناك مضمون أو سعي لترسيخ تجربة. وإن هذا التمكن من الأسلوب واقتناء الثروة اللغوية الخصبة الذي اكتنف شعر رواد المرحلة؛ بذكرنا بشعر العصر العباسي وشعرائه .
وقد ظلت هذه النمطية في النظم سائدة حتى بدايات النهضة. ولم يؤثر فيها كثيراً ظهور التخميس في القصائد، وكذلك قصائد اللعب بالحروف؛ وقصائد لعب الألغاز التي اشتهر بها كثيراً الشاعر عباس الخمّاش .
وقد تمتعت القصائد من حيث الشكل في الأغلب بوله الناظمين في الإغراق في علمي المعاني والبديع، وكذلك في الجهد الواضح في الترصيع والتصنيع. وأما من حيث المضمون فهي لم تكن إلا مدحاً تقليدياً.
وأما الألغازيات فقصائد تشبه القصائد العادية من شعر تلك المرحلة، من حيث الشكل وكذلك المضمون، مع إضافة قطعة لها على شكل لغز يطلب حلّه. وكانت القصيدة تصدّر بمقدمة نثرية مصنّعة ومرصعة بأنواع المعاني التي تزدحم بها أكثر مما تزدحم القصيدة.
وكان الشاعر عباس الخمّاش أحد أبرز من قرظ قصيدة اللغز، وكان ينشرها وقصائد أخرى، كما ينشر غيره في مجلة الجنان اللبنانية. وكان الكثير من الشعراء الفلسطينيين ينتظرون وصول هذه المجلة إلى فلسطين لكي يطّلعوا عليها ويقوموا بحل ما في قصائدها من ألغاز.
وقد اعتبر بعض النقاد هذا النوع من الشعر لغواً. "ولعل الانعزال عن الحياة هو الذي يخلق مثل هذا اللغو. ولكنه لغو حفظ الأشكال اللفظية سليمة من التشويه ومن الركاكة والضعف. ومن هنا نجد في الجزء الثاني من مجلة الجنان ثناءً على شاعرنا عباس الخمّاش، ثم رداً على لغزه بقلم أحمد أفندي وهبي. وهكذا تمضي الرياضة اللفظية وهذا اللهو المنظوم وهذا التقارض في الثناء في كل أجزاء المجلة..( )".
ويستدل من تحليل معطيات المصادر التاريخية على أنه ربما كان انعزال الشعراء عن الحياة في تلك المرحلة توافقاً مع ما وفّره النظام الإقطاعي لذلك من ظروف صرفت الشعراء عن ميادين الاقتصاد والسياسة ومعايشة هموم المجتمع وتحسس مشاكل الأمة؛ فأنتجوا هذه الرياضة اللغوية.
وبغض النظر عن كل ما يقال حول هذه (الرياضة اللغوية)، وما يصنف به شعر ممارسيها، فإنه يسجل لهم فضل المحافظة على هذه القوالب حتى ولو فارغة (لأنه لم تكن الحياة يومذاك تزخر بما يملؤها) لحين تطور حياة المجتمع الفلسطيني؛ فنجد هذه القوالب مُعدّة وسليمة فيملأونها بما تمتلئ به حياتهم.
ونظم رواد الشعر في تلك المرحلة إلى جانب القصائد البهلوانية والمدائحيات والألغازيات وقريظ اللغو نوعاً آخر من القصيد عرّفه البعض باسم بهلوانية التأريخ الشعري، أو فن التأريخ الشعري، وسماه آخرون "قصيد حساب الجمل". وهو حساب مبني على الحروف الأبجدية التي تبتدئ بالواحد من حرف الألف أول كلمة (أبجد). ثم يتمشى على الأحاد إلى أن يصل العشرة. وبعدها يأخذ مع العشرات إلى أن يبلغ المائة. وبعدها يأخذ مع المئات إلى أن ينتهي بالألف الذي هو رقم حرف الغين في كلمة (ضظغ).
وتكون الدلالات الرقمية للأحرف في حساب الجمل على النحو التالي:
ا (1) ب (2) ج (3) د (4)، هـ (5)، و (6) ز (7)، ح (8) ط (9) ي (10)، ك (20) ل (30) م (40) ن (50)، س (60) ع (70) ف (80) ص (90)، ق (100) ر (200) ش (300) ث (400)، ت (500) خ (600) ذ (700)، ض (800) ظ (900) غ (1000).
وقد جرت العادة عند الشعراء المتأخرين على أن يأتوا بكلمة أو كلمات أو شطر في آخر بيت من قصائدهم يتكون منها في حساب الجمل "تاريخ الحادثة" أو"تاريخ الميلاد" أو"تاريخ الوفاة" أو "تاريخ المناسبة" أو ما شاكل ذلك من الأحداث.
ومع أننا لن نستغرق كثيراً في البحث عن هذا النوع من الشعر، إلا أن ذلك لا يمنع من إبراز بعض الأمثلة عليه مما تزخر به بواطن الكتب الأدبية. ويشير المؤرخون إلى أن أسطع الأمثلة على ذلك ما أورده الباحث الفلسطيني عبد الله مخلص حول التعريف بتاريخ بناء المسقاة الواقعة أمام المسجد الكبير: في مدينة نابلس، حيث يقول: "ويعتبر هذا النص المنقوش هو أحد أقدم الأمثلة على التواريخ الشعرية فقد قدمت أبيات النقش تعريفاً كاملاً بالمكان وبصانع الحدث في الزمان وذلك على النحو التالي :


"إن الأمير الماجد القرم الجليل
مـن جـود كفيـه شربنا سـلسـلاً
فاشرب هنيئاً واقـرأ حامـلاً

أعني سليمان الأصيل ابن الأصيل
عذبـاً فـراتــاً سـائغــاً كالسـلسـبيـل
تــاريخـه مـن كـوثــر هنـا ســبيل"

ويلاحظ من مطالعات المصادر الأدبية وكذلك مصادر تاريخ الآداب حرص معظمها على إيراد التاريخ الشعري لعقد بناء كنيسة العين في الناصرة كأحد الأمثلة الأكثر تدقيقاً. فنذكر المصادر من أخبار ذلك الحدث أن أسعد أفندي أحد أحرار الأتراك المبعدين قام في سنة 1886م عندما كان يشغل وظيفة قائم مقام الناصرة يعقد رأس النبع وجر الماء بقناة إلى موقعها الحالي. وكتب تاريخ ذلك شعراً على بلاطة من رخام وضعت في سور الكنيسة فوق الحنفية. وأما الأبيات الشعرية فهي:

"زلالا اشرب صحة وعوافي
فـي زمـان بـه الحمـيد مـلـيـك
قد هدانـا طـريـق رشد بنا شد
أسـعد الخلـق للـمآثـر أرّخ
وابـتهــل لـثنــاء اللـه شــكـراً
وله في الصلاح أطيب ذكرى
لـعمة في مـحمـد خـير بشـرى
سلسـبيلاً للخيـر أحيـا وأجـرى

(203/هـ أو 1886م)


ويرد المؤرخ المير حيدر الشهابي هذا الفن إلى عبد الرحمن بن محمد شاكر النحلاوي الذي نقله في عام 1723م عن أستاذه الشيخ عبد الغني النابلسي.
ويعيب الباحث الفلسطيني عبد الله مخلص على المؤرخ المير عدم دقته، حيث يشير إلى أن المير ذكر في كتابه نفسه تاريخاً لبداية هذا النوع من الشعر غير ذلك وهو سنة 1711م. ويذكر الباحث مخلص أن ظهور هذا النوع من الشعر كان أقدم من ذلك أيضاً. وأن أقدم ما اطلع عليه من هذا النوع من التواريخ الشعرية هو ما كان منقوشاً على الحجر في المسقاة أمام الجامع الكبير في مدينة نابلس( ).
ويعيب بعض الباحثين على عبد الله مخلص ما كان قد عابه على المير حيدر الشهابي من عدم الدقة في ضبط تواريخ الأحداث والوقائع، وخصوصاً ما كان منها متصلاً بحساب التاريخ الشعري. ويرون أن هذا الفن ربما كان قد وصل إلى فلسطين من الأقاليم العربية المجاورة( ).
ويمكن القول أن الشعراء من رواد تلك المرحلة قد تركوا الأدب العربي نظماً بديباجة متماسكة، وعباراته لا تشوبها الركاكة. وقد صيغ ذلك التراث بتراكيب صحيحة فبدا وهو صنعة متروية استخدمت فيها قدرة بهلوانية على اللعب بالألفاظ بمهارة عالية. ولكن المؤسف أن ذلك القصيد كان بمضمون ليس بذي طائل في تلك الظروف الإقطاعية التي كانت سائدة في فلسطين.
وتشير المتابعات التاريخية إلى أن شعراء تلك المرحلة كانوا مثل باقي مكونات شريحة المثقفين ينتمون إلى فئة الموسرين الذين يستطيعون الإنفاق على تعليم أبنائهم في المدارس المحلية، أو إرسالهم للدراسة في المعاهد العليا في البلاد أو الولايات المجاورة أو الخارج، والاستغناء عن خدماتهم في الزراعة أو التجارة أو الورش الحرفية. وكانوا بشكل عام ينتمون إلى طبقة الأرستقراطيين من تجار المدن وملاك الأراضي في الأرياف. وبحكم طبيعة انتمائهم الطبقي والعلاقة المصلحية بين النظام الحاكم وتلك الطبقة فقد كانوا من شريحة الأقربين إلى النظام وأحياناً من أربابه المباشرين. ولهذه الأسباب كثر من بينهم من أطلق عليهم شعراء السلطان؛ وكذلك كانوا من غير المؤيدين أو المحايدين في معركة النهضة من أجل الإصلاح والتغيير، ثم حركة الانفصال والاستقلال لاحقاً، طيلة العقود الثلاثة الأولى من عمر حركة النهضة القومية العربية. وبرغم هذه السلبية في مشاركة بعض الشعراء في العملية النهضوية فقد حرصت القيادة الوطنية على استقطاب جميع شرائح المجتمع وقطاعاته المختلفة لبرنامج النهضة؛ وحثها على المشاركة في النضال من أجل تحقيقه. وبنتيجة ذلك فقد تراصف المتعلمون من أبناء الطبقة الأرستقراطية والبورجوازية الكبيرة ثقافياً مع المتعلمين من طبقة البورجوازية الصغيرة التي كانت جنينية التشكل؛ واندمجوا مع الفئات الأخرى من المجتمع، وأخذت معارفهم تكتسب مضامين جديدة. فوجد الشعراء منهم أن الأساليب التقليدية التي يعرفونها قاصرة عن تجسيد تلك المضامين. كما أن الموجودات في خزانتهم اللغوية من الألفاظ لا تستطيع أن تكوّن مدلولاً للمعاني الجديدة التي أخذت تظهر في الحياة اليومية كمستجدات تلقائية. ودفعهم اطلاعهم على تفاصيل جديدة في مسيرة النهضة السياسية إلى التفكير بضرورة مواكبتها بنهضة أدبية أيضاً.
ولقد أنتج التفاعل السياسي حراكاً على صعيد الثقافة والأدب، وخصوصاً وأن بعض المثقفين من المسلمين بدأوا يقتنعون بأن السلطة السنية في استانبول ليست سلطتهم وإنما هي سلطة الأتراك. وبرغم أنهم مسلمون وسنّة فهم ليسوا شركاء للأتراك في تلك السلطة، وإنما هم في ولاياتهم مستعمرون مثل باقي مواطنيهم من الديانات الأخرى؛ وأن الرابطة الإسلامية بين المسلمين الفلسطينيين والمسلمين الأتراك ليست رابطة سوية لأنها بين مُستعمِر ومُستعمَر؛ ولكن الرابطة السويّة هي الرابطة الوطنية في الإقليم الواحد بين المسلمين والمسيحيين، وكذلك رابطة الروابط الوطنية مع بعضها البعض في إطار الحركة القومية العربية.
وقد انعكس هذا التطور الفكري والسياسي عند الشعراء والمثقفين من أبناء العائلات الأرستقراطية الفلسطينية المسلمة على شكل تجليات سلوك وممارسة تمثلت في انخراطهم في الجمعيات السياسية التي كانت قائمة والمشاركة النشطة في ميداني الصحافة والطباعة سواء بالعمل أو التملك أو كليهما معاً. وكذلك في الانفتاح على تطورات الحركة الأدبية التي كانت قد تحققت منذ انطلاقة النهضة وحتى بداية القرن العشرين، ورؤية ما أمكن من طرائق تشكلها في البلدان الأوروبية من خلال النوافذ التي فتحتها مدارس الإرساليات الأجنبية، ومحاولة محاكاتها والاستفادة مما وفرته أشكال الاتصال الفلسطينية المختلفة مع تلك البلدان من الاطلاع على معارف تنموية جديدة يجري توظيفها في رسم اتجاهات النضال الثقافي الوطني وتوجهاته، وتفعيل النتاجات التراكمية لحركة الترجمة إلى العربية من اللغات الأوروبية وما رفدت حركة الثقافة الفلسطينية به من معارف جديدة في المجالات الإبداعية المختلفة؛ بما في ذلك إدخال علوم جديدة للآداب العربية، مثل: علم الألسنيات، أو تحليل اللغات، وعلم النقد الأدبي الحديث، وعلم الأدب المقارن .
وقد ترسخت تلك التجليات منهجاً عندما ازداد إقبال الطلبة المسلمين على الدخول في مدارس الإرساليات الأجنبية وتجالسهم على مقاعد الدراسة في تلك المدارس مع إخوانهم الطلبة المسيحيين، وكذلك تعرفهم على حرص مدارس الإرساليات على اعتماد اللغة العربية كلغة تدريس لجميع مباحث المنهاج غير العلمية في تلك المدارس، والدور الذي يضطلع به الرهبان في تعليم الطلبة الفلسطينيين وتثقيفهم بغض النظر عن انتمائهم الديني.
لقد أدّى التوحد في الدراسة, وكذلك التوحد في حركة النهضة القومية، إلى توحد في الرؤى الثقافية، وإلى قيام حركة نهضة أدبية رفعت شعارات التوسع في التدريس وعصرنة أساليبه، وإلى الحداثة في اللغة وعلومها والآداب والنقد الأدبي، والانطلاق نحو محاكاة طرائق العالم الغربي المتمدن في الإبداع الأدبي والإنتاج الثقافي وتطوير البحث اللغوي وأساليبه بما يوفر للغة العربية شروط الحياة .
وما كان أكثر إشراقاً على هذا الصعيد توافق المثقفين الفلسطينيين على الأخذ بأخلاقيات حق الاختلاف والتنوع في الرأي عندما يصعب التوافق على صيغة واحدة لإنجاز مهام انتشال الشعر من غرقه في حالة التخلف التي كان يتسم بها الأدب العربي في تلك المرحلة. وكذلك احترام ظهور تيارات في الأدب واللغة والنقد الأدبي على غرار ما كان قد حدث في العديد من الدول الأوروبية.
ومع أن المعطيات التاريخية لا تشير إلى نقلات مهمة في تطور النتاج الشعري لشعراء بداية المرحلة، إلا أنها تشير إلى أنهم لم يشكلوا حجر عثرة أمام دخول الجديد من مفاهيم النظم في باحة الشعر الرحبة. كما أنهم لم يورثوا قواعدهم في نظم الشعر إلى جيل الفترة الثانية من مرحلة النهضة، وهذا الأمر هو الذي مكن هذا الجيل من أن يعطي للشعر طلائعيته ودوره؛ وأعاد له في الوقت نفسه هويته الوطنية الفلسطينية.
وتقودنا المصادر التاريخية إلى أنه في أعقاب الفترة الأولى من مرحلة النهضة ظهر في حياة الشعر شاعر يعتبر من رواد تلك المرحلة، ولكنه مختلف عنهم كثيراً بما مثله كشاعر من طراز جديد هو المعلم نخلة زريق الذي كان ظاهرة مُضوّية في تاريخ تلك المرحلة. كما عرف في الفترة نفسها الأديب خليل السكاكيني الذي كان أحد تلاميذ زريق الذين تخرجوا على يديه من مدرسة الشبان الإنجليزية في القدس.
كان خليل السكاكيني ابن البورجوازية الصغيرة الذي اضطربت ظروفه وألقت به بقسوة في معترك واسع لم ينل منه سوى ضيق العيش، والتعبير الرومانسي الذي تخلّص بواسطته من أعباء التعبير التقليدي الإقطاعي وجموده اللغوي.
واشتهر خلال الفترة نفسها اسم الأديب محمد إسعاف النشاشيبي المنحدر من عائلة النشاشيبي الأرستقراطية المقدسية، وأحد تلاميذ المعلم والأديب اللغوي اللبناني عبد الله البستاني الذين تخرجوا على يديه من مدرسة الحكمة في بيروت.
وكان إسعاف النشاشيبي من أشد المتعلقين باللغة والأدب. وقد أوصله هذا التعلق إلى سبر أغوار أصول الأدب واللغة، والغرف من منابعها المتدفقة والصافية، والافتخار بها والدعوة إلى التعرف عليها واستلهام عظمتها وتقليدها وفق رؤية تلحظ ما حققته آداب الشعوب الأوروبية من تطور وتحديث.
وكما التقت الأرستقراطية مع البورجوازية في السياسة في إطار حركة النهضة القومية، فقد التقت كذلك في مجال الثقافة في إطار حركة النهضة الأدبية ممثلة بالتقاء الأديب محمد إسعاف النشاشيبي مع الأديب خليل السكاكيني. حيث كان الأديب السكاكيني يمثل تيار الحداثة ويتزعمه، والأديب النشاشيبي يمثل تيار المحافظة ويتزعمه. وبرغم ذلك فقد كانا يتوافقان ويتعاضدان على التمسك بأصالة اللغة وضرورة تطوير الأساليب وتحديث المباني والتراكيب، والنهوض بمعارف الآداب وتنويع مصادر إثرائها، وكذلك محاكاة الثقافة الأوروبية والاستفادة منها مع مراعاة التوفيق بين الدين والحضارة الجديدة أحياناً. وكانت النتيجة المباشرة لذلك التوافق، تقاطع في المواقف الأدبية المفصلة، وتوحّد بينهما حول موضوع التجديد والتحديث في الثقافة الفلسطينية عبر النشر في الجرائد والمجلات، وتفعيل اللقاءات الشعرية والملتقيات الأدبية، والتفاعل مع المستجدات التي تقدمها الموضوعات المترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية. والتوافق حول موضوعة التقريظ في الشعر وفي النثر على اعتبار أنه صورة من صور الإعجاب والافتتان، وكذلك الاقتناع بأن التوظيف للتقريظ أقرب ما يكون إلى التبرير منه إلى التعليل؛ وكأنه أشبه ما يكون بعرض لصناعة البيان الشكلية التي لا تلامس ارتباط الأدب بالحياة.
وقد أدّى هذا التوحد إلى تحطيم بعض جوانب الحالة التي كان يتمتع بها الخطاب الخشبي عند التقليديين. وبدا في أحيان كثيرة أن التقليديين والحداثيين معاً يبحثان بشكل مشترك عن عناصر تكوين بناء شجرة الشعر الحييّة، وعن مركبات خضرة أوراقها وعوامل ديمومة يناعتها.
ولقد استشعر الأدباء أن هذا الأمر في غاية الحيوية في مطلع القرن العشرين، حيث بدأ اتصال الحياة العربية بالحضارة الأوروبية. وبدأ الناس يطلعون على الآداب الغربية مباشرة باللغات الأجنبية نفسها؛ أو بواسطة ترجمتها إلى اللغة العربية. فصاروا يعرفون أن أبلغ الشعر أصدقه وليس أكذبه كما كان يعتقد سابقاً. وعلموا أن للشعر علومه مثل باقي العلوم الأخرى.
وفي ضوء المعارف الجديدة تجاوز الشعر موضوعات تناوله الاعتيادية، وأخذ يتناول الموضوعات الاجتماعية والسياسية والحياتية المختلفة، بما في ذلك الغزل الذي اتبدأ طبيعياً من دون أن تظهر عليه علامات التقليد القديمة. ويعتقد أن الأديب خليل السكاكيني كان أول المبادرين إلى ذلك عندما كتب مقطوعة شعرية قصيرة تقتصر على غرض النسيب وحده دون أن تمتزج به أغراض أخرى غير الحب. وقد أرسلها كرسالة غزل إلى سلطانة التي أحبها ثم تزوجها بعد ذلك.
لقد بث خليل السكاكيني في تلك الرسالة لواعج أشواقه وحرائق حبه إلى سلطانة في تلك القصيدة التي جعل عنوانها "إلى سلطانة". وتتكون من (9) أبيات شعرية هي:
"إلى اليوم لم أدر الصباية والهوى
فما سرني قرب ولا ساءني بعد
حفظت فؤادي من هوى كل غارة فلم تصبني سعدى ولم تلهني هنـد
أبيت قرير العين خلواً من الهـوى سواء لدى قلبي التعطـف والصّـد
وكم سمعت أذني طـلاقة عـاشـق وشكـوى شجيٍ يبكي لها الحجر الصّلد
فـأحسـب شـكـواه دعـابـة مـازح فلا مهجتي تحنو ولا ادمي تبـدو
ولـكــن قـلبــي مـــا أشـــد ولاءه وأحـفظـه للــود إن خلـص الــودّ
يقيـم على العهـد الموثـّق مـؤثراً بـاعـزازه مـن لا يـرث لـه عهـد
لـك اليـوم أهديـه وإنـي مؤمـــل فــذلك ممـا قـد أثــار بـه الـوجـد

خليل السكاكيني
القدس 1907/10/9م( ).
لقد كانت رسالة الغزل الأولى في المرحلة الجديدة من حياة الشعر، والتي لم يعثر على أي رسالة قبلها. لقد كانت الرسالة عبارة عن صياغة تقليدية، لكنها تشتمل على محتوى واقع وحقيقة أصيلة وتجربة حدثت. وقد اتسمت بالمعاصرة والحداثة لأننا لم نشم فيها رائحة الطابع الإقطاعي ولا قيمه، ولا المضمون القديم الموروث في التركيب العربي للقصيدة. وهو بكل تأكيد قد اقتبس أسلوبه مما اطلع عليه من هذا النوع من الشعر الغربي.
ويلاحظ من متابعة تطور شعر السكاكيني على قلته بالقياس مع نثره أن المحطة المهجرية الأميركية في رحلة حياته قد تركت بصمات تأثيراتها السريعة في أدبه، حيث عرف الأدب الأمريكي مباشرة واقترب اتصاله من الأدباء العرب المهجريين، فتطورت نتاجاته الأدبية ولا سيما رسائل غزله الشعرية بسرعة، وكان ذلك انعكاساً مباشر لمعطيات واقع حياته هناك. فقد عاش ظروف العمل الصعبة وضيق ذات اليد في الغربة، حيث الأهل والأصدقاء بعاد، ومرارة الابتعاد عن الحبيبة سلطانة التي كان كلما تذكرها داهمه دبيب الشعر فيسطر لها رسالة غزل شعرية. وكانت تتطور كل رسالة عن الأخرى بفعل تأثيرات هذه الظروف. وقد كان أبلغ تلك الرسائل هي التي نظمها بتاريخ 1908/7/11م، حيث حملت سمات ومميزات كل ما يسمونه في الغرب بشعر المدرسة الرومانسية أو الرومانتيكية .
وقد نشر منها في يومياته عشر أبيات ولا يعرف ما إذا كانت هي القصيدة جميعها أم بعض منها. ومن أبيات تلك القصيدة:


وهـبت فـؤادي فــلا أرجـعــه وإن هــان عـنـدكـم مـوجـعــه
ولـظت بكـم جل ودي فمهمـا أســأتـم إلـــيّ فـــلا أقــطعـــه
عـهـدت ودادكـــم لا يـحــول فمـا لــي أراه عـفـت أربـعــه
وكـنـت أقــدر أن مـصـابـــي يـشـق علـى قـلبـكـم مــوقعــه
مصابٌ إذا حل الحجر الصلد ذاب وسـألــت جـوىً أدمـعــه
ألـم فطــار فــؤادي شعـاعــاً وما عدت أدري الذي أصنعه
نهـاري ثقيــل وليـلي طويــل بطـيء الكـواكـب لا أهـجعــه
أبـيت أسـامـر بــدر السـمــاء وعـمـا تـكنّـــون اســتطلـعــه
فـلا البـدر يـوحـي بـأسـراره ولا نـبـــأ مـنـكــم أســمـعــــه
فماذا ترى كـان ذنبي ومن ذا تـــراه بــذنبـــي أسـتشـفعـــه( )

وظهر الأديب السكاكيني في رسائله وقد عكس التغيرات والاختلافات التي طرأت على الشعر استجابة لما أحدثته نفسها في الظروف، وخصوصاً لجهة التعبير، حيث يتغيربتغير الظروف، فيتوضح بوضوحها وينكمش بانكماشها.
ولعل ما هو أكثر دلالة على ذلك، الفرق بين تعابير السكاكيني في رسائله إلى سلطانة حبيبته، وتحديداً بين تعبيره في قصيدة كان قد بعثها إليها كرسالة بتاريخ 1908/7/11م وتعبيره في قصيدة كان قد نظمها في سنة 1913م في السيدة جوليا أرملة يعقوب الكردي يوم كانت ربة أعمال في عصرها.
ونلاحظ أنه مع أن الفارق الزمني بين نظم القصيدتين حوالي ستة سنوات، وهي قصيرة جداً في مسار تطور مراحل الأدب، إلا أن الفارق بين أسلوب كل منهما، وكذلك تعابير الصور ومفردات الوصف التي جاءت في كل منهما يجيز لنا الاعتقاد بأن الفارق بين سني نظم كل منهما تزيد على ستين سنة وكان من أهم ما اطلع عليه مثقفوا تلك المرحلة وتأثروا به كثيراً في رؤيتهم للظواهر والاستعانه به في تحليلها والتعرف على أسبابها ودلالتها هو "مذهب داروين في النشوء والترقي"، وكذلك "مقدمة شميّل: التي كتبت على مذهب داروين الشهير( ).
وعندما أعلن الدستور الجديد عام 1908م، كان استجابة لنضال حركة الإصلاح والتغيير ومطالبها، فتنفس الناس نسائم الحرية، وامتلأت نفوسهم بالبشر، وطفحت بأمل الاستقلال الوطني في المرحلة اللاحقة.
كانت معطيات كثيرة قد تحققت في أجواء الكفاح من أجل الإصلاح، وأسست لخلق عوامل ومقومات النهضة وتبلورها، ولكنها كانت في فلسطين تفتقر لوجود الصحافة كأحد أهم تلك العوامل لما لها من دور حيوي ورئيس في الدعوة والاستقطاب والتأطير المباشر للنهضة؛ وكوسيلة لتمكين المثقفين من تجسيد معارفهم إبداعات تؤسس لنهضة أدبية وثقافية تواكب النهضة السياسية .
ويشار في هذا السياق إلى أنه لم يكن في فلسطين قبل عام 1908م أية صحف وطنية تذكر. وما كان موجوداً منها في تلك الفترة لم يتعد كونه مجلات ومطبوعات للجمعيات الأجنبية والإرساليات التي تعمل في البلاد، مثل مجلة الجمعية الألمانية الفلسطينية التي صدرت عام 1895م.
وينقل الدكتور نجيب الساعاتي المقدسي عن الدكتور بيتر تومسين أنه كانت هناك صحيفة لجمعيات التنقيب عن آثار فلسطين تدعى "مجلة التنقيب عن آثار فلسطين". كما أصدرت الجمعيات الأجنبية مجلات تبحث في عاديات فلسطين، بعضها ألمانية وبعضها الآخر إنجليزية.
وكانت نشرات الفرنساويين تتضمن أبحاثاً مهمة عن آثار فلسطين فضلاً عن المطبوعة التي يصدرونها والتي تعرف باسم "المجلة الكتابية". وكان هنالك أيضاً مجلة لجمعية C.M.S الإنجليزية، ومجلات أخرى لجمعيات أخرى غيرها( ).
كان عدم وجود الصحافة في فلسطين مشكلة المثقفين قبل السياسيين، فبدونها يخشى على النهضة سياسياً، وكذلك يبقى الأدباء بلا دور في هذه النهضة. فتفقد النهضة جناحها الأدبي، فكيف بها وهي تطير بجناح واحد؟!.
وفي إطار البحث عن حل هذا الإشكال جرت اتصالات مكثفة بين المثقفين تركزت على البحث عن الكيفيات الممكنة لإصدار صحيفة أدبية. وقد تكللت هذه الجهود بإصدار مجلة الأصمعي الأدبية بتاريخ 1908/8/19م. وحول ذلك يقول الأديب خليل السكاكيني: "...لما أعلن الدستور رجعت من أمريكا إلى القدس، وعاد إسعاف إلى ملازمتي في الليل والنهار. وجعلنا نكتب ما توحيه الظروف. وجاء حنا العيسى من يافا إلى القدس... فأنشأ مجلة الأصمعي ولنا فيها مقالات كثيرة. وكنا نحن الثلاثة على اتصال مستمر.
وكان إسعاف مولعاً ببديع الزمان الهمذاني ينسج على منواله في كتابته. وكنت أنا مولعاً بأبي الطيب المتنبي. وكان حنا العيسى مولعاً بالأصمعي. فتوزعنا لكُنى هؤلاء الثلاثة. أما إسعاف فأصبحت كنيته أبا الفضل، وأما أنا فكان نصيبي كنية المتنبي وهي أبو الطيب. وأما حنا فكنيناه أبا سعيد وهي كنية الأصمعي. وعرفنا منذ ذلك الحين بهذه الكُنى، وشاعت على الألسنة...( )".
ويرى المؤرخون أن الاعتبارات السياسية، تقف وراء صدور أول مجلة أدبية وذلك لأن السبب الحقيقي يعود إلى أن القدس في ذلك العهد كانت مدينة أدباء وكتاب تعودوا على مطالعة الجرائد والمجلات الأدبية المصرية والسياسية التي كانت تصلهم عن طريق موزعي الصحف العربية والأجنبية في فسطين.
كان صدور الأصمعي مهماً لاعتبارات تأسيسية، وذلك لأن فلسطين كانت تتزود دائماً من النشاطات الأدبية في البلدان العربية المجاورة، وخصوصاً لبنان. ومنذ صدور مجلة الأصمعي أصبحت مدرسة الآداب الموسومة بالأصالة، ومعهد أدب الحداثة ومرآة الأدب العالمي ونظرياته المختلفة في فلسطين، وذلك من خلال ما كانت تنشره من نتاجات إبداعية محلية راقية وتراجم عظيمة لأهم الشعراء والأدباء والمبدعين في العالم.
وبهذا الفهم فقد عمقت مجلة الأصمعي رؤى محاكاة الشعر للواقع المعاش والتعبير عنه من كل جوانبه، وجذرت القيم العلمية في الآداب. فأخذ الناس يعرفون أن للشعر نظرياته ومعارفه مثل باقي العلوم الأخرى، وأنه يفترض أن يكون هناك بحاثة يدرسون الشعر في مراحله المختلفة والظروف التي عاشها في تلك المراحل، ودراسته بمقارنة بعضه ببعض والخروج باستخلاصات تعزز مكانة الشعر وتطور قواعده وتغني النتاجات الإبداعية منه.
وكان من مآثر هذه المجلة الدور الذي لعبته في التأكيد على أن الكلمة كائن حي، وتتفاعل مع المكونات الأخرى الحية؛ فتعطي الحياة نضرتها التي تؤشر دائماً إلى الديمومة والبقاء.
وبفضل ما نشر في هذه المجلة وفي رصيفاتها من الصحف الفلسطينية الأخرى بعد ذلك من أشعار جديدة ومن ترجمات شعرية وأدبية عن لغات أوروبية عدة، وكذلك من خلال ما نشرته من دراسات نقدية وأبحاث أدبية؛ فقد تكرس في المجتمع كمفاهيم عامة أن للشعر وظائف عدة؛ ولكن أهمها الاعتناء بوقائع حياة الناس والتعبير عنها ونقلها بشكل راق وبأسلوب مشوق .
وكما يقول الشاعر إسكندر الخوري البيتجالي في مقدمة ديوانه "الزفرات" الذي ظهرت طبعته الأولى عام 1919م: "لقد أصبح للشعر أنواع وأبواب ورتب وطبقات...غير أن أفضل ما يجب أن يصرف إليه الشاعر شاعريته هو الشعر الاجتماعي، لأنه باشتماله على عبرة مبكية أو حادثة مضحكة في سبيل إصلاح المجتمع, أفضل في نفس القارئ أو السامع من سواه من أنواع الشعر...". وقد أخذ الشعر يتناول الموضوعات الاجتماعية المختلفة في إطار قصصي مشوق.
ومع أن المؤرخين يجمعون على أن الشاعر الخوري البيتجالي كان رائداً في هذا النوع الشعري، فإن بعض المعطيات تشير إلى أنه قد عرف هذا النوع من الشعر عبر اطلاعه على الآداب الأجنبية، وخاصة الشعر الإنجليزي. وقد سبق وأن قام الشاعر البيتجالي بترجمة قصيدة من الشعر الإنجليزي وعربها شعراً، وكان الإنجليز ينشدون تلك القصيدة بنغم حزين مؤثر، حيث القصيدة تتحدث عن بطولة فتى أنقذ الراية البريطانية بعد أن ضحى بحياته من أجل ذلك، ولم يكن القائد يعرف أن الذي أنقدها كان وحيده. وعندما تقدم منه وعرفه جثا قربه... وأسهمت استفادات إسكندر الخوري البيتجالي من مطالعاته على الشعر والآداب الإنجليزية الأخرى وامتداده على ترجمة بعضها غير القليل شعراً في التأسيس لما عرف بالشعر القصصي الحديث الذي أكثر الشاعر البيتجالي منه نتاجاً عبر النظم المباشر أو الترجمة.
ومع أنه لحظ منذ البداية أن الشعر القصصي كنوع شعري لم يكن في تلك البدايات عميقاً إلا أن البيتجالي لم يكترث لذلك، ولم يقف في وجهة أو يعقه خطأ لغوي أو شعري، أو ركاكة أو غير ذلك. بل كان يمر فوق هذه كلها، حتى يستوفي الإطار الذي أراده( ).
وأغرى الشعر القصصي بعد ازدياد الاهتمام به عدداً من المشتغلين في الترجمة، فأخذوا يبحثون عن "غنائيات" أو "قصصيات" من الشعر الأوروبي فيقومون بترجمتها ونشرها في الصحف والمجلات الفلسطينية ويمكن أن يذكر على هذا الصعيد ما قام به الصحافي والأديب بولس شحادة حين قام بترجمة قصيدة "الواجب" من الشعر الإنجليزي ونظمها شعراً بحرص شديد على نقلها وفق صورها ومناخاتها نفسها وفي إطارها القصصي. وقد راجعها أكثر من مرة قبل نشرها في الصحف المحلية ( ).
وبازدياد عدد المشتغلين في ترجمة الشعر الأجنبي وتعريبه شعراً في إطاره القصصي، بدأت تتفتت جمودية الشعر وأخذ (يتنضّر). وأصبح لهذا النوع من الشعر مريدون ومقلدون، وحتى شعراء أصليون اعتمدوا هذا الأسلوب في طريقة نظمهم الشعري. ويذكر في هذا السياق الأشعار التي نظمها جرجس الخوري أيوب وخصوصاً قصائد تمنياته لابنته( ).
وفعل الشعراء المتدينون الشيء نفسه في قصيدهم حين كانت تداهمهم روح العصر وقيمه الصارخة، وتهتز مشاعرهم حينما يشاهدون ظاهرة غريبة عليهم من ظواهر العلم التي لم يعهدوها من قبل. فالشاعر الشيخ علي الريماوي نظم قصيدة طويلة أسماها "إحدى عجائب العصر" بعد أن شاهد طيارة مارك يونيه تحلق في سماء القدس، ويتجمع حولها حين تهبط الأهلون على اختلاف طبقاتهم( ).
وقد كان بعض الشعراء يقرأون القصيدة الأجنبية ثم يأخذون منها الفكرة العامة ويصوغونها شعراً عربياً، وذلك كما يفعل الأديب حليم دموس في ترجمته للقصائد الأجنبية، حيث يروي وقائع القصة نظماً، ثم يحرص على أن يلحقها بما يشير إلى مساوئ الأنظمة وعسفها واستبدادها والويلات التي تتعرض لها مجتمعاتها. ثم يحاول أن يقدم رؤى وأفكاراً لكيفية المعالجة والتخلص من مثل تلك الأوضاع. وهو بهذه الطريقة يحاول أن يوصل رسالة إلى جمهوره يبين لهم فيها طبيعة النظام الذي يحكمهم ولكن بشكل موارب وغير مباشر، وذلك لأن بطش سطوة الاحتلال التركي تحول دون ذلك( ).
والأديب حليم دموس قام بترجمة قصيدة "تخيلات شاعر" التي كان قد وضعها الشاعر البرازيلي كازميردي إيراد من البرتغالية إلى العربية، نظماً شعرياً. وقد استخدم فيها أسلوب القصة والحوار، واحتفل بالمعاني ونوّع في القافية. وهو بذلك قد أضفى طرائق جديدة في أساليب النظم والكتابة، وعزز مفاهيم عنها لم تكن مؤكدة من ذي قبل ولا يجازف أحد في تداولها( ).
وكان الأديب بولس شحادة يعتبر واحداً من الشعراء المترجمين الذين ينشرون بمثابرة في مجلة النفائس العصرية. كما كان يعتبر أحد أبرز المتحمسين لنشر الشعر الأجنبي المترجم انطلاقاً من رؤيته لأهمية ذلك في (عصرنة) شعر الحياة باللغة العربية، وتشذيب خشونة تفرعاته اللفظية التي تفقده عذوبة التصوير ورقة التعبير. وقد عكس هذه الرؤيا من خلال الأعمال الشعرية الأجنبية الكثيرة التي قام بترجمتها نظماً والتي كان من أبرزها قصيدة "لحن السبعة" للشاعر الإنجليزي وردزوورث، اعتقاداً منه بأن مثل هذا الشعر يتصل بالحياة العربية( ).
تعاملت الصحافة الفلسطينية مع نشر الشعر الأجنبي المترجم بأسلوبين، فحيث كانت تنشره في العادة مترجماً منظوماً؛ فإنها شرعت في مرحلة لاحقة في نشره مترجماً منثوراً. وغالباً ما كانت تنشره شعراً ونثراً معاً. "ومن ذلك أنها نشرت مقالة لبيدس عن طاغور الشاعر الهندي الكبير، وفي ختامها قال بيدس: نشرت رصيفتنا (فلسطين) في أحد أعدادها الماضية قصيدة لهذا الشاعر نقلتها إلى الفرنسية أندريه شديد فعربتها الرصيفة نثراً، واقترحت على الشعراء وفي جملتهم صديقنا الشاعر المطبوع حليم أفندي دموس, فنظم قصيدة عصماء تنطبق على الأصل أتم الانطباق، وبعث بها إلينا، فآثرنا أن نتحف بها قراءنا بعد أن ننشر لهم تعريب القصيدة نثراً...( )"
وبازدياد توطد علاقات فلسطين مع البلدان الأوروبية، ومثولية البلاد في اهتمام البلدان الأجنبية، وقبول الترجمة بين فروع الآداب العربية والاعتراف بتأثيرها في أنواع الآداب المختلفة، تطور الشعر في فلسطين بشكل ملحوظ ودخلت إليه مفردات لها دلالات استعمالية جديدة ومعان غير معروفة من ذي قبل، كما أصبحت للشعر أغراض تتصل بجميع جوانب الحياة وتبدو أكثر وثوقاً عندما يكون الشعر معبراً عن الحرية والإصلاح والدستور، والهجرة اليهودية، والخطر الصهيوني، والسجون، والوطنيات، والحرب، والدعاية، وما إلى ذلك من الأغراض السياسية. كما أصبحت الوظائف وعشاقها، والعلم، والكدح، ووصف الآلات التي أخذت تستعمل في البلاد ولم تكن معروفة في السابق، والموضوعات الاجتماعية بأنواعها، ووصف البنات وما يتمنى لهن، والتغني بجمال الطبيعة، والافتتان بقوة الأشياء، وغير ذلك من أغراض الشعر لتناول الحياة الخاصة بالشعراء أنفسهم مثلاً. وكذلك قول الشعر في المدارس التي تخرجوا منها أو في قراهم أو أنديتهم أو حتى بيوتهم وبساتينهم. ويستدل من تعدد أغراض الشعر على أن الحجم الإنتاجي من الشعر في تلك المرحلة كان كثيراً ويطال جميع مناحي الحياة، ويتمثل وقائع تطورها المختلفة، وأن الشعر في قدرته على تعبيره عن ذلك يعني أن عدد الشعراء قد ازداد وكبر، وأن مطالعة لأشعار تلك المرحلة تدل على أن الشعراء كانوا ملمين بجوانب عديدة من نظرية الشعر وقواعده، حيث تجد أنهم قد استعملوا الأساليب المعاصرة في الشعر، وأن أشعارهم تنتمي إلى تيارات الشعر التي انتقلت إليهم من الاطلاع على أشعار الغرب بالوسائل المختلفة وفي المقدمة منها الترجمة؛ وأن شعراءهم ينتمون إلى أحد تياري الشعر المعروفين: التيار التقليدي والتيار التجديدي.
وبالرجوع إلى شعر تلك المرحلة في مصادر تدوين الشعر المختلفة نجد أنه كان قد قام صراع في الشعر كما كان قائماً في السياسة والمجتمع. وأن ذلك الصراع عائد إلى الاختلاف في الرؤى الأدبية بين أتباع هذين التيارين. "ولم يعد الشعراء المنعزلون ينعمون بعزلتهم، فقد أخذت تخزهم عوامل الحياة وخزاً. وكان عليهم أن يعلنوا عن المتجه الذي سيمضون فيه. وكان أمامهم طريقان: مستقيم ومعوج... وانتظر كل سبيل جماعة منهم...( )".
وكان من أبرز شعراء تلك المرحلة: إسعاف النشاشيبي، وخليل السكاكيني، وإسكندر الخوري البيتجالي، والشيخ جرجس توما، وبولس شحادة، ورفعت تفاحة، والشيخ إبراهيم الدباغ، والشيخ سليمان التاجي الفاروقي، والشيخ محيي الدين الملاح، والشيخ علي الريماوي، وأحمد شاكر الكرمي، وحنا العيسى، والشيخ عبد الرحمن عزيز، والشيخ سليم أبو الإقبال اليعقوبي، وغيرهم( ).
وفي العقد الأول من القرن العشرين، عندما انقلبت البورجوازية التركية على برنامج الإصلاح المشترك بينها وبين العرب، والذي على أساسه وصلت إلى السلطة، وأخذت تعصرن استعمارها للعرب وتحارب خلفاء الأمس من أقطاب حركة النهضة والإصلاح العرب وحكمت بإعدامهم؛ بعد أن أعلنت الحركة القومية العربية مطالبتها بالعدل والمساواة أولاً، ثم بالاستقلال الذاتي أو اللامركزية الإدارية ثانياً؛ ثم بالانفصال التام والاستقلال عن الأتراك ثالثاً. وخلال ذلك العقد أصبحت وظيفة الشعر سياسية بشكل رئيسي واستمرت بعد ذلك كمهمة أولوية للشعر في فلسطين.
ويمكن أن نشير إلى أن السبب الرئيس لانصراف الشعر نحو السياسة هو حرص مختلف فئات المجتمع على المشاركة في حركة النهضة القومية والتحررية. فكان على الشاعر أن يوظف كل قدراته على حث الجماهير على مقاومة الاستعمار التركي، والدفاع عن حقوق الأمة والانتصار لقادتها، وفضح التورط التركي مع الحركة الصهيونية العالمية لمنع قيام دولة فلسطين المستقلة أسوة بالأقاليم العربية الأخرى تمهيداً لإقامة الدولة الصهيونية وفق اتفاقية سايكس– بيكو السرية يومذاك؛ ومقاومة هجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين وتنشيط حركة الاستيطان الصهيوني فيها. كما يمكن أن نعيد بعض أسباب ذلك أيضاً إلى ما استلهمه الشعراء الفلسطينيون من دور الشعر السياسي في التحضير للثورة الفرنسية ولاندلاعها ومتابعة نتائجها؛ خصوصاً وأن من بين المناضلين العرب الذين حكم عليهم السفاح جمال في جلسة المجلس العرفي التركي بالإعدام كان شاعراً وهو الشيخ سعيد الكرمي. وقد خفض إعدامه إلى السجن المؤبد بسبب شيخوخته.
وكان وديع البستاني وإسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وسليمان التاجي الفاروقي وغيرهم من أبرز شعراء السياسة في ذلك العقد، واعتقل بعضهم بسبب شعره الذي عبر به عن مواقفه السياسية.
لقد اغتنت أغراض الشعر المتعددة التي أخذ يتناولها بمهارة ودقة وبلغ بها ذرى رقي رفيعة، وذلك بمساعدة مجموعة من العوامل المؤثرة في المقدمة منها محاكاة شعر الحداثة والحضارة في البلاد الغربية التي عرفها الشعراء عن طريق الترجمة الأدبية فوصل الشعر الفلسطيني إلى مصاف المستويات الراقية من شعر بلدان العالم الأوروبي. ولعل في شهادة الشاعر الروسي ثيودوروف في شعر إسعاف النشاشيبي كنموذج لشعر تلك المرحلة، التي نشرها في جريدة ريتش الروسية المشهورة التي تصدر في سانت بطرسبورج( ) ما يؤكد هذه الحقيقة، حيث يقول ثيودوروف: اجتمعت ببعض أدباء القدس في منزل الخواجا بندلي الجوزي، أستاذ الآداب العربية في كلية قازان، وكان معي الخواجا كراتشكوفسكي المستشرق الروسي. وكان قد جاء الشرق في مهمة علمية فأقام في مصر وسوريا وفلسطين لهذه الغاية سنة ونصف السنة، فأتقن اللغة العربية، وتخلق بأخلاق العرب وعاداتهم. أما الأدباء الذين أشرت إليهم فهم الأستاذ خليل السكاكيني، والشاعر الكاتب إسعاف النشاشيبي، وأرستقراطي من سلالة الفاتحين جميل الخالدي، وكان حديثنا بعضه بالفرنسية وبعضه بالإنجليزية وأكثره بالعربية، وكان رفيقاي المستشرق وصاحب المنزل يترجمان الحديث. وكنت أسمع وأنا مسرور ومرتاح من حديث هؤلاء الشبان المتقدين ذكاء وحماسة ووطنية. وقد علمت أموراً كثيرة مما لا نعلمه نحن الأوروبيين عن هذه الأمة العظيمة بتقاليدها، وتاريخها، وآدابها. ولا يخفى أن جمهور السياح الأوروبيين إذا كتبوا شيئاً عن سوريا وفلسطين إنما يلتقطون ذلك من أفواه الحوذيين والحمالين والباعة المتجولين، وغيرهم ممن يصاحبون هذه الطبقات وليت شعري ماذا يكتسبون من الحقائق أخذاً عن هؤلاء الناس. إن السوريين هم جزء من الأمة العربية المشهورة بعمرانها وتاريخها وشعرها. وهم الآن متأخرون في العلم والأدب بسبب استبداد الحكومة السابقة بهم، وبغير ذلك من الأسباب التي لا حاجة إلى ذكرها .. كنت جالساً أسمع اللهجة العربية وكأني أسمع أنغاماً موسيقية جميلة، يستشف منها القوة والعناد، وكأن تلك الألفاظ ناراً تستعر حدة، ثم لا تلبث أن تخمد فيستولي بعدها التأمل والسكينة.
"وبعد أن مضى هزيع من الليل اقترحت على النشاشيبي أن يسمعنا شيئاً من شعره فأنشدنا قصيدة في الحرية (ذكرى قناة مكدونيا) ارتحت إليها كل الارتياح، وأكبرت المعنى العربي العظيم في اللفظ العربي الفخيم وخلت كأني أسمع أصوات جمهور لا صوت فرد. كان هذا الشاعر يقرأ قصيدته وفي كل نبرة من نبراته معان عظيمة، وقد ظهر لي وهو يقرأ نشيطاً عنيداً متحمساً. هذا الشاعر مسلم قبل كل شيء، ولكنه ممتزج مع إخوانه المسيحيين امتزاج الراح والماء.
وإذا كان الشعر المنتج في تلك المرحلة قد تنازعه أكثر من تيار، أبرزها التيار الحداثوي, فإن الأشعار المترجمة كانت تنتمي إلى تيار الحداثة الأدبي بغض النظر عن الموقع الذي يقف عليه المترجم بين هذه التيارات. ويعزو النقاد أسباب ذلك إلى أن الأشعار الأجنبية تتصل بالحياة وتعبر عن جوانبها المختلفة. كما أن المذاهب الأدبية المعروفة في عصرنا هي مذاهب غربية اطلع عليها شعراؤنا وكتابنا منذ بداية عصر النهضة؛ وتأثر بها بعضهم في إنتاجه الأدبي؛ غير أنهم لم يكونوا قد وصلوا إلى درجة النضج التي تسمح لهم بالانتماء إلى مذهب أدبي بعينه، وتطبيقه في شعرهم أو نثرهم؛ ولذلك ظلوا يتأثرون بما أعجبهم من آداب الغرب دون التزام بقواعد ونظريات محددة( ).
وهكذا نرى أن الشعر تغيرت مواصفاته كثيراً في فلسطين في مرحلة سعيه لاكتساب أو لاسترداد (الفلسطينية) هوية له. وخلال فترة زمنية قياسية تنوعت المواضيع التي يهتم بها الشعراء وتغيرت عمّا كانت عليه من قبل، وخصوصاً بعد دخول الترجمة إلى معارف الثقافة الفلسطينية. وأخذ الشعر يحمل بسبب ذلك كل القيم التي استجدت في جوانب حياة الشعب الفلسطيني السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها.
ومن جانب آخر، أخذ الشعر يعكس أو يجسد تطلعات الشعب الفلسطيني وطموحاته في حياة مدنية يخيم عليها الأمن والسلام والحرية والديمقراطية والتقدم في دولة مستقلة وذات سيادة. وأخذ الشعراء يعبرون عن هذه التطلعات والطموحات بمنظومات شعرية جميلة ورقيقة، ومتينة ورصينة بلغة عربية سليمة، وبأساليب رشيقة وسهلة؛ وبصنعة مغايرة للتركيب التقليدي الموروث للقصيدة العربية.