الشهيد جحش عبد المجيد


نضال الصالح
2012 / 7 / 28 - 20:25     

مد الحاج سليمان يده إلى جيب قمبازه وسحب الساعة المعلقة بطرف الجيب بواسطة سلسلة رفيعة من المعدن ، فتح غطاء الساعة وقرأ الوقت ثم أغلقها وأعادها إلى جيبه. صعد درجات مئذنة المسجد، وقف على عتبة ألمئذنة، غطى أذنه بيده ونادى بأعلى صوته:" الله أكبر، الله أكبر، حي على الصلاة.." داعيا أهل القرية إلى صلاة الفجر. ما أن انهى الآذان حتى سمع صوت ديك الحاجة وسيلة يصيح ، كأنما هو الآخر يؤذن لصلاة الفجر، أو يدعو الناس إلى القيام إلى أعمالهم. تبسم الحاج سليمان وقال: تأخرت يا ديك وسيلة، يظهر أنك هرمت مثل صاحبتك، ثم سارع إلى المسجد لكي يؤم بالمصلين.

هزت زوجة عبد المجيد زوجها وهي تناديه: قم يا عبدالمجيد، لقد أذن الفجر، قم يا إبن عمي توضأ لكي نصلي الفجر معا. تململ عبدالمجيد في فراشه وتثاءب وتمطى ثم جلس وهو يحك رأسه ويفرك جسده بيديه، كأنما يريد أن يبعث في عروقه الدماء. قام من فراشه وذهب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة، ثم رجع بعد وهلة فوجد زوجته قد أحضرت له قطعة من الصابون النابلسي المصنوع من زيت الزيتون وإبريق من الماء. قرفص بجانب عتبة البيت ومد يديه بقطعة الصابون، فصبت زوجته الماء عليها، ففركها بكلتا يديه حتى امتلأت يديه برغوة الصابون فغطى بها وجهه ودعكه حتى كاد يدميه ثم ملأ يديه بالماء وغسل الصابون عن وجهه وأخذ يتوضأ. بعد أن أنهى وضوءه أخذ من زوجنه منديلا نشف به وجهه ويديه ثم قام بدوره ليصب الماء على يدي زوجته كي تتوضأ هي الأخرى، ثم قاما إلى الصلاة، يؤم بها وهي واقفة خلفه.

يعد أن إنتهيا من صلاتهما و دعا كل منهما الله أن يتقبل صلاة الآخر، قال عبدالمجيد لزوجته: أحضري لنا لقمة نأكلها بينما أعلف الجحش وأحلسه وأعد أدوات الحراثة، فلقد وعدت الأستاذ أمين بأن أحرث له البستان الغربي. صاحت زوجته بهلع: يا مصيبتي ،البستان الغربي، قرب أولاد الحرام المستوطنين اليهود ؟ ألم يجد غيرك لهذه المهمة، هؤلاء أشرار وعدوانيون وأنت تعرف ماذا فعلوا الشهر الماضي بتيسير بن الحاج سليمان، لولا سترة ربنا لمات مقتولا . رد زوجها قائلا: يا إمرأة، صلي على النبي، واللي كاتبو ربك بصير، ولقد وعدت الأستاذ أمين ولن أخلف وعدي، كما أنه يحسن إكرامي ونحن في أمس الحاجة للنقود.

دخل عبدالمجيد الزريبة، وتوجه نحو حماره، فرتب على رأسه بحنو ووضع أمامه كمية من القش وطشت من الماء. أخذ قطعة من القماش وبللها بالماء ومسح بها وجه الحمار ورقبته وأخذ يحدثه كأنما يحدث صديقا: " سنذهب يا صديقي اليوم في مهمة صعبة، سنحرث بستان الأستاذ أمين الغربي ، والبستان يا صديقي، يقع قرب مستوطنة اليهود، وهذول يا خوي شرانية وولاد كلب وعليك أن تساعدني وتسمع كلامي والله يستر ." دلى الحمار شفته السفلى وكشف عن أسنانه ونهق نهقة قصيرة كأنما أراد أن يطمئن صاحبه بأن كل شيء سيكون على ما يرام. وضع عبد المجيد الحلس على ظهر الحمار وشده وأحسن ربطه ، ثم عاد إلى البيت وجلس مع زوجته على أرض المصطبة ليأكلا فطورا نادرا ما يتغير و يتكون من خبز الطابون وصحن من زيت الزيتون وقليل من الزعتر وبعض حبات من الزيتون وكأس من الشاي المغلي مع ورق النعناع الطازج.

خرج عبدالمجيد وهو يسوق حماره المثقل بالمحراث والفأس وأدوات أخرى لازمة للحراثة. كان الناس قد بدؤوا يخرجون من بيوتهم لتصريف أعمالهم وكان يسمع بين الحين والآخر، كلمات التحية المتبادلة بين أهل القرية، وكان القرويون يطرحون على بعضهم البعض أسئلة مقتضبة مثل السؤال عن وجهة المسؤول أو عن صحته وصحة عائلته والتمنيات المتبادلة بالخير والأمان.
لم يجد عبدا لمجيد تفهما من أبناء قريته ممن عرفوا بوجهته، فخبرتهم طويلة وقاسية مع ساكني المستوطنة اليهودية في الجهة الغربية من القرية. فقلما تجد شخصا لم يعتدى عليه بالضرب المبرح وسرقة ممتلكاته، وكثيرا ما أطلق المستوطنون على أبناء القرية والقرى المجاورة النار ولقد أصيب عدد منهم إصابات بالغة وقتل أكثر من رجل حين تجرؤوا على الإقتراب من أراضيهم لفلحها وزرعها، ولقد هجر الكثيرون أراضيهم خوفا على حياتهم، ولم يكن هناك أي جهة يستطيع الفلسطيني اللجوء إليها والشكوى لديها، وكان الجيش الإسرائيلي دائم الدعم للمستوطنين ومستهترا بشكوى الفلاحين الفلسطينيين. ولكن عبدالمجيد قد وعد الأستاذ أمين القيام بهذه المهمة وهو لن يخلف وعده، ولطالما ساعد الأستاذ أمين عبدالمجيد وعائلته في وقت الحاجة.

خرج عبد المجيد وحماره من الطريق العام وسلك الطريق الفرعي الوعر المؤدي للبستان المنشود والذي يقع في أسفل الوادي الغربي. دخل البستان ووقف لحظات يتنصت ويستطلع المكان. كان الهدوء يعم الوادي ولم يكن يسمع إلا صدى أصوات بعض الفلاحين ، الذين كانوا يحرثون أراضيهم في الجبل المقابل وصراخ بعض الأطفال في المستوطنة ونداء بعض نساء المستوطنة بالعبرية .
شمر عن ذراعيه ورفع طرفي قمبازه وشبكها بحزامه، ثم ربط المحراث بالنير المثبت على رقبة الخمار. قرأ البسملة وبصق على كفية وبدأ بالحراثة. لم يحرث أكثر من عدة أمتار عندما سمع أزيز رصاصة تمر من فوق رأسه، فرمى نفسه على الأرض وتسمر مكانه كاتما أنفاسه . سمع بعض الشتائم بالعبرية والعربية المكسرة ولكنه لم ير مصدرها. زحف على بطنه وفك المحراث من على الحمار وألقاه أرضا وسحب الحمار إلى خلف السور المحيط بالبستان واختبأ خلفه. مرت الدقائق التي بدت وكأنها ساعات طوال ولقد طغى الهدوء على الوادي حتى أصوات الحراثين في الجبل المقابل ماعادت تسمع، وكان يسمع بين الحين والآخر طلقات نارية، كان رصاصها يرتطم بالصخور القريبة من عبد المجيد وحماره.

إقتنع عبد المجيد بأنه لا مجال إلا للهرب والنجاة بحياته وحياة حماره. زحف على ركبتيه وربط الحمار بحبل وجره خلفه وهو يزحف أمامه. ولكن الحمار تسمر في مكانه ورفض أن يتحرك ولو خطوة واحدة. باءت كل محاولات عبدالمجيد بتحريك الحمار بالفشل، فاعتلى ظهر الحمار واستلقى علي ظهره ضاما رقبته إليه بشدة ولكزه برجله لكزة قوية، قفز الحمار على أثرها قفزة مفاجئة كادت أن توقع عبدالمجيد من على ظهره، وراح يركض صاعدا الطريق الوعرة بين الصخور وعبدالمجيد يشجعه ويحثه على السرعة . كان الرصاص يلاحقهم ويسمع أزيزه وارتطامه بالصخور المحيطة بهم . كان عبد المجيد،طوال الوقت، يتمتم بآيات قرآنية، داعيا الله أن يخلصه من هذه المصيبة.

وصلا أخيرا إلى الطريق العامة التي تقع على مشارف القرية وابتعدا عن الخطر، فانتصب عبدالمجيد جالسا ودقات قلبه تدق في أذنيه كالطبول. فجأة شعر بالدم يسيل من ساقه اليسرى وأصبح قمبازه ينضح بالدماء، فصاح:" آخ يا إلهي لقد أصابني أولاد الكلب".

دخل عبد المجيد القرية، راكبا حماره والدماء تسيل من ساقه. رآه بعض الأولاد ولاحظوا قمبازة ينضح بالدماء فأخذوا يتراكضون وهم يصيحون: "يا أهل البلد، عبدالمجيد تصاوب، طخوه اليهود". ذهب بعضهم ليحضر الحاج سليمان، فلقد كان إمام المسجد وطبيب القرية وقاضيها. تجمع الناس حول عبد المجيد وحماره ورافقوه إلى بيته، كل يسأل عن الذي جرى. وصلوا البيت فلاقتهم زوجته بالعويل والصراخ، فلقد وصلها الخبر قبل أن يصل زوجها. ساعد الرجال عبدالمجيد بإنزاله عن الحمار وإدخاله إلى البيت وهم يحاولون طمأنة زوجته بأن الإصابة في ساقه وأنها ليست خطيرة.
دخل الحاج سليمان وفتح الرجال له الطريق وعرضوا مساعدتهم ولكن الحاج سليمان طلب منهم الإبتعاد وإفساح المجال له ليقوم بعمله. نزع القمباز عن عبد المجيد وفحص ساقه فلم يجد فيها أي جرح. فحص كافة أجزاء جسمه فلم يجد أي جرح في أي جزء من جسد عبدالمجيد، فقال: جسمك سليم ولا يوجد فيه أي جرح فمن أين هذا الدم. نظر الجميع إلى الحمار فإذا هو مستلق على الأرض والدماء تنزف من جرح كبير في صدره. تمتم الجميع بصوت واحد: "هظا الحمار المصاوب، مش عبدالمجيد."

قرفص الحاج سليمان بجانب الحمار، الذي فقد كثيرا من الدماء وراح يشخر والزبد يخرج من فمه. فحص الجرح ثم نظر إلى عبدالمجيد وقال بحزن: "جحشك راح يموت، نزف منه دم كثير وما في فائدة". عم الصمت المكان وراحت عيون الجميع تراقب الحمار المسكين وهو ينتفض ويلفظ أنفاسه الأخيرة . صاحت زوجة عبدالمجيد حزنا على الحمار قائلة : "شو بدنا نعمل بدون الحمار ؟"، فلقد كان سندهم في قوتهم ومعيشتهم.
جلس عبد المجيد على الأرض ورأسه مدفون بين يديه صامتا يهزه الحزن على حماره، رفيق العمر. صاح أحد الأولاد:" جحشك راح شهيد يا عبد المجيد، هذا أول حمار شهيد في قريتنا". بعضهم هز رأسه بالموافقة وبعضهم مستنكرا والبعض الآخر ضاحكا.

قام الرجال بمساعدة عبد المجيد بحفر قبر ليدفنوا فيه الحمار، فما كان عبدالمجيد ليسمح بأن يلقى حماره فطيسة وفريسة للوحوش . دفنوا الحمار في القبر وغطوه بالتراب. قام أحد شباب القرية بإحضار حجر كبير، كتب عليه بالحبر الأسود وبخط عريض: " الشهيد، جحش عبد المجيد." ووضعه كشاهد على القبر. إعترض البعض ولكنهم لم يقوموا بإزالة الشاهد، ويحكى أن الشاهد بقي على رأس قبر جحش عبدالمجيد إلى يومنا هذا.

د. نضال الصالح/ فلسطين