السحر والدين


وليد حكمت
2012 / 7 / 17 - 22:27     

في كتابه (الغصن الذهبي) يطرح العالم الانثروبولوجي جيمس فريزر نظريته حول أصل الدين والسحر حيث يستدل من خلال البحث النظري العميق أن السحر هو المرحلة التاريخية الأولى للبشرية والتي مهدت فيما بعد لظهور الدين منطلقا في بحثه من دراسة تحليلية تطورية لأسطورة ايطالية قديمة و بسيطة هي (اسطورة الإلهة ديانا) ، ويحدد فريزر المراحل التي مر بها العالم من حيث علاقة الانسان بالكون كما يلي (1- مرحلة السحر 2- مرحلة الدين 3- مرحلة العلم )،ويحاول فريزر أن يضع نظريته ليوفق ما بين العلم والسحر لكونهما يقومان على مبادئ منطقية واحدة تعتمد على تداعي المعاني او ترابط الافكار، ويستفيض فريزر في شرح مبادىء السحر عند الرجل البدائي وفي المجتمعات البدائية وما هي الوظيفة المطلوبة من ذلك السحر والذي كان مخصصا للخير العام في مجمله فالساحرالبدائي العمومي يقوم بوظائف هامة موجهة نحوقبيلته ومجتمعه فهو يمارس شعائره ويتلو تعاويذه ورقاه لينزل المطر ويشفي المريض ولينتج الخصب النباتي والحيواني والبشري وليتحكم في الرياح والشمس وكافة الظواهر الطبيعية فيما يتخذ بعضهم السحر الخاص لخدمة شخص معين من اجل ايذاء شخص آخر معين او هزيمة عدو.
السحر هو موقف الرجل البدائي من العالم ونظرته التي تقوم على الملاحظة والتجربة والخبرة الطويلة بظواهر الحياة وأحداثها وأسرارها فيحاول البدائي أن يضع منطقا معينا لتلك الأحداث والظواهر ليؤثر فيها بطريقته الخاصة لكن تلك التجربة الانسانية البدائية لا تخضع للمنطق العلمي الذي يتأسس على قوانين الطبيعة الموضوعية، فالساحر في المجتمع البدائي يضع الفروض ويحاول وضع نظام عقلي لفهم الكون فالسحر بالنسبة للبدائي هو العلم الذي بواسطته يستطيع تسخير قوى الطبيعة والتحكم بها من خلال شعائر معينة يتصل بها الساحر بكائنات معينة. ولذلك يبدو لنا ان فريزر في نظريته يحاول التقريب بين العلم والسحر اللذين يقفان موقفا معارضا من الدين ذلك انها يتشابهان في ان كليهما يحاول أن يضع قواعد منطقية لفهم العالم وقوانينه وظواهره من خلال تداع معين للأفكار، غير ان تداعي الافكار في السحر خاطئ ويناقض قوانين العلم ومنطقه فهو صورة سيئة لتطبيق تداعي الافكار ذلك ان العقلية البدائية سابقة على المنطق في تلك المرحلة الموغلة في القدم.
فالسحر اذن نسق كاذب للقانون الطبيعي مضلل للسلوك وهو تداع للأفكار بطريقة خاطئة بينما العلم تداع للأفكار بطريقة صحيحة. ولذلك يطرح فريزر اسئلته محاولا فهم اسباب عدم اكتشاف زيف السحر من قبل البشر منذ القدم فيجيب : ان الزيف لم يكن من السهل اكتشافه وان الخطأ لم يكن واضحا تماما لأن الامر يحتاج الى عقل يتمتع بدرجة غير عادية من الفطنة في تلك المجتمعات البدائية.
مباديء السحر وقوانينه

1- (قانون التشابه) الشبيه ينتج الشبيه ويسمى هذا النوع السحر التشاكلي أو سحر المحاكاة ( المعلول يشبه علته).
يستطيع الساحر تحقيق أهدافه من خلال المحاكاة أو التقليد ومن خلال استخدام الطلاسم والتعاويذ الخاصة فما يفعله الساحر في أي شيء مادي سيؤثر في الشخص المراد ايذاؤه او تدميره فيقوم الساحر بتدمير صورة رمزية للشخص المعني اعتقادا منه ان تلك الصورة اذا تضررت سيتضرر صاحبها ويموت بالضرورة.
مثال : يقوم الهنود الحمر في امريكا الشمالية برسم صورة للشخص المراد ايذاؤه في الطين او الرمل او الرماد ثم يقوم الساحر المختص بطعنها بخشبة صغيرة حادة او سهم معتقدا ان ذلك سيؤدي الى موت الشخص الحقيقي أو مرضه وذلك بحسب نية الساحر وقد يقومون بنحت تمثال صغير ثم يتم طعنه بواسطة ابرة او سهم او ربما يتم حرقه ودفنه ليموت الشخص المقصود ايمانا منهم بأن ما يقع على التمثال وكأن الفعل سينتقل وفقا لقوانين معينة الى ذلك الشخص، ولذلك يقع السحر التشاكلي في خطأ منطقي وهو ( أن الاشياء المتشابهة متطابقة ).
غير ان السحر التشاكلي او سحر المحاكاة قد يقصد به خير المجتمع او الشخص او معالجة الامراض او مساعدة المرأة العاقر على الانجاب ، فالمرأة العاقر في سومطرة مثلا تصنع دمية خشبية صغيرة وتحملها في حجرها على امل ان يؤدي ذلك الى انجابها وتحقيق املها ،كما يقوم السحرة في مواسم القحط بطقوس رمزية تحاكي نزول المطر مثل رش الماء او سكبه من خلال غربال ومن خلال طقوس جماعية ينفذها ابناء القبيلة او القرية ،وفي المانيا قديما كانوا يضعون الاسنان المنزوعة خلف الموقد او يقذفون بها من فوق رؤوسهم وراء ظهورهم ويقولون : ايها الفأر اعطني سنك الحديدية الصلبة وخذ بدلا منها سني المصنوعة من عظم.
2- قانون الاتصال : ان الاشياء التي كانت متصلة ببعضها في وقت ما تستمر في التأثير ببعضها البعض حتى بعد انفصالها فيزيقيا ....ولذلك فان ما يفعله الساحر في أجزاء الشخص المنفصلة عنه كالشعر او الاظافر او الثياب غير المغسولة والتي تحتوي على شيء من رائحة تعرق الشخص. ولذلك يقع السحر الاتصالي في خطأ افتراض ان الاشياء التي كانت متلامسة ومتصلة ستبقى على علاقة اتصالية باستمرار
ويشترط السحر الاتصالي وجود وسيط مادي يقوم بتوحيد وربط الاشياء البعيدة ونقل الانطباعات والتأثيرات فقد يتم خلط بقايا شعر الانسان او اظافره بتمثال من الشمع ثم يتم تعريضه من النار ليذوب معتقدين ان ذلك سيؤدي الى موت ذلك الشخص المعني .
ويسهب فريزر في ذكر مئات من الامثلة حول السحر التشاكلي والسحر الاتصالي من خلال خبرة نظرية واسعة في المجتمعات البدائية والمجتمعات الحديثة ويدلل من خلالها على رسوخ السحر في المجتمعات البدائية ويستبعد الظاهرة الدينية ويدلل على ان مرحلة السحر سابقة على الظاهرة الدينية ويقارب ما بين العلم والسحر في محاولة فهم الطبيعة.
فاذا كان الدين يعني الاعتقاد في كائنات اسمى من البشر تتحكم في العالم فذلك يتضمن الاعتراف بان احداث الطبيعة مرنة الى حد ما وقابلة للتغيير وان باستطاعتنا ان نقنع او نحث هذه الكائنات القوية التي تحكم الطبيعة على ان تغير سير الاحداث من مجراها الاصلي بما يحقق صالحنا الخاص ولذلك يتناقض السحر والعلم مع الدين لان السحر والعلم يفترضان ان الطبيعة جامدة وثابتة ومنتظمة ومن الصعب تحويلها من اتجاهها عن طريق الاقناع او الرجاء ولذلك فان الدين يفترض ان القوى التي تحكم العالم قوى عاقلة مدركة وشخصية لكن العلم والسحر يرفضان اذ ان السحر وان كان يوجد فيه هذا الشيء بطريقة ضمنية نوعا ما إلا ان العلم صريح في هذا المجال.
- ان فكرة الله كما يقول بعض العلماء لم تظهر إلا في مرحلة متأخرة من تاريخ الانسانية وبعد تطور كبير وطويل في التفكير الحيوي الانيمي الذي كان يرى الحياة والروح منتشرين بصورة او بأخرى في كل الموجودات وجميع الكائنات فالسحر مهد لظهور الدين ، لقد كان الانسان البدائي يتصور الاله كائنا من نوع معين بالذات يختلف عن الكائن الذي يقصده الرجل المتحضر ولم يكن هذا البدائي ينظر الى تلك الكائنات الخارقة على انها اسمى منه فالبدائي يستطيع ان يخيفها ويرهبها ويقهرها لكن مع توالي عجزه تجاه الظواهر الطبيعية التي غالبا ما كانت تخونه وتبطل سحره فقد ثقته بنفسه امام قوة تلك الكائنات وتراجع مستوى احساسه بالتساوي مع تلك الالهة ولذا فانه سيصبح عاجزا عن التحكم بالطبيعة من خلال السحر فبدأ التحول نحو الحالة الدينية شيئا فشيئا من خلال تقديم القرابين والصلاة لتلك القوى وبدأ تراجع السحر ليهبط الى مستوى الفن الاسود عديم النفع واضمحلت فكرة الالهة المتساوية مع ذلك الانسان البدائي فقد كان البدائي يعتقد ان الاله عبارة عن ساحر قوي غير مرئي يمارس تعاويذه من وراء حجاب تماما مثل تعاويذ الساحر البشري .
- ويسهب فريزر وبأسلوب ممتع وشيق حول شخصية الساحر في المجتمع البدائي والمجتمعات القديمة فهو ينجح حينا ويخفق حينا اخرى وقد يتعرض الساحر الى القتل والتعذيب والضرب اذا ما باءت مهمته (انزال المطر مثلا) بالفشل كما يناقش فريزر من خلال استعراض طويل وممتع ايضا نشوء بذرة الملوك فالساحر يصبح ملكا والملك يصبح ساحر وأحيانا يجمع الساحر ما بين السلطتين الزمنية والروحية ،وينتصر الدين في النهاية على السحر