ماذا يريد الصادق المهدي؟


بابكر عباس الأمين
2012 / 7 / 14 - 01:01     


حقيقة صار المرء في حيرة من الأمر بشأن الصادق المهدي. جاء في حديثه بالأمس أن الثورة السودانية ستتبع النهج الدموي، الذي حدث في كل من ليبيا وسوريا، "لأن القضاء والقوات المسلحة.. يمكن استخدامهما ضد الشعب السوداني." مثل هذا التصريح يسبح ضد تيار الثورة لأنه يثير الرعب وسط الشعب السوداني، بما قد يؤدي لإبطاء وتيرة الثورة وزخمها. مثلما أنه ليس صائباً، إن أخذنا في الحسبان الأطباء الذين استعادوا نقابتهم، أو المحامين الذين نفذوا اعتصامهم بشرف وشجاعة. ولا شك أن هذا المد سيستمر ليشمل بقية المهنيين والجيش والشرطة. المعلوم أن الأدلجة التي حدثت في المؤسسة العسكرية تكاد أن تنحصر في القيادة والرتب العليا. في تعاطيه للوضع السياسي الراهن يقارن المهدي ثورتنا بتجارب وراء الحدود، بدلاً عن سابقة مستوحاة من تاريخنا وإرثنا الغني هي إنحياز الجيش للشعب مرتين. لا أدري لم يتناول النمط المصري، رغم أن الجيش المصري لم يكن مستقلاً، وظل يحكم منذ عام 1952؛ أو النموذج التونسي، حيث انحدر المخلوع زين العابدين بن علي من المؤسسة الأمنية. وحتي مسألة تسيس الجيش السوري، التي ذكرها، لم تحل دون إنشقاقه فيما يُعرف ب "الجيش السوري الحر"، الذي يضم 16 ضابطاً، أحدهم وُلد وترعرع في الحلقة الضيقة العليا للنظام: العميد مناف طلاس.

المراقب لتصريحات المهدي خلال العامين الفائتين يلمس بوضوح أيضاً تصريحات بدرت منه تثير الحيرة والدهش، جاء في أحدها أنه "يسعي لجمع الحكومة وجميع معارضيها لجهة التراضي الوطني." بهذا التصريح وضع نفسه في مرتبة الذبذبة "لا إلي هؤلاء ولا إلي هؤلاء" إذ أن الوسيط إما أن يكون محايداً، أو علي علاقة ومسافة متساوية ومتوازنة مع الطرفين، علي أقل تقدير. كذلك ظل الصادق يجتر ويكرر ويعيد تصريحات مريبة فيها ولع وحرص علي عدم تفكيك النظام؛ حين نادي ب "إقامة نظام جديد بدلاً عن المطالبة بإسقاط النظام، لأن ذلك موقف أنضج"، لكأنهما علي طرفي نقيض. أيضاً، كرر في ندوة واشنطن (13/11/2011) ذات الأسطوانة، أنه "يؤيد تغيير ديمقراطي للنظام، بدلاً عن إسقاطه، لأن إسقاط تعني القضاء عليه ثم تأت مرحلة البحث عن بديل، كما حدث في البرازيل." وضرب مثلاً ونسي تراثه لأن المسألة لا تحتاج للبرازيل، إذ لدينا تجربة ما حدث عقب ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985: حكومة انتقالية وانتخابات ودستور 1956 المعدل أكتوبر 1964. حتي عندما وُضع الصادق أمام تحدٍ من النظام فهو لم يحرص علي عدم التفكيك فحسب، بل سعي للحوار! في مطلع هذا العام، أعلن عبدالرحمن الخضر، والي الخرطوم، بأن الحكومة ستسلم السلطة للمعارضة في حالة خروج 650 ألف مواطن ضد النظام. رد عليه الحبيب قائلاً إن حزبه فقط قادر علي إخراج هذا العدد لإسقاط النظام، لكنه أعلن عن "نية التحاور مع المؤتمر الوطني وتحويل دولة الحزب إلي دولة الوطن." لعمري هذا هراء ووهوهة لا تصدر إلا من شخص أفين.

في إجتراره لعبارة "النظام البديل" لكأن الصادق يتحدث عن طلاسم وألغاز غامضة أو ميتافيزيقيا. يستشف المرء من ذلك الترديد الممل أن صادقاً يتحفظ علي الترتيبيات التي تمت عقب ثورتي أكتوبر وأبريل، وفي الديمقراطية الليبرالية وتجربتها في السودان، لأنه ذهب للبرازيل. حسناً، ومن حقه، بيد أنه مطالب بأن يفصح عن ماهية بديله، وأن يختار نظاماً ضمن مئات، إن لم يكن آلاف، الأنظمة السياسية التي عرفتها البشرية منذ فجر التاريخ، وعليه أن يفصح إن كان لديه مشروع نظام يختلف عن تلك الأنظمة يضيفه للإنسانية. حتي في فرضية أنه مؤجل هذا الأمر لحين التشاور مع بقية الأحزاب والحركات والكيانات السياسية، فلا بد من فكرة فطيرة أو خام في ذهنه عما يدعو إليه، وإلا فإن هذا الحديث الممجوج يتماهي ويتماشي مع عبارة تتضمن مفهوم بثّه الإنقاذيون مؤخراً وسط المحايدين والحائرين والبسطاء تقول: ما هو البديل؟ وفوق هذا وذاك فمن المحال أن يتفق الصادق مع بقية القوي السياسية علي نظام سياسي؛ لأنه وضع "خطوطاً حمراء" لا يجوز ولا يصح تخطيها هي المساس بالأسلمة، التي قصمت ظهر السودان والسودانيين. لا يدري أن الأسلمة الحالية أفرزت موجة إلحادية إذ توجد في "الفيس بوك" صفحة عنوانها "سودانيون لا دينيون." من هو حتي يرسم خطوطاً حمراء أو بنفسجية أو صفراء؟ هل يظن أنه مازال يرأس حزب الأغلبية؟ وهل ما زال يعتقد أنه سيحصل علي ذات النسبة المئوية من الأصوات التي أحرزها في آخر انتخابات؟ لا يدري المسكين أن الزمن والأحداث قد تجاوزته، وأن الشعب السوداني يكن احتراماً وعرفانا للناشطة نجلاء سيد أحمد ومحمد حسن البوشي، ناشط حزب البعث، أكثر منه.

والشاهد أن اليأس من الصادق وعجزه عن الفعل قد طال حتي أسرته، حسبما جاء في مقال ابنته رباح لا خير فيهم سيدي الإمام وكلفتهم الأكبر "سودانايل" (7/9/2011)؛ حين جنح للين مع حكام الخرطوم في ظرف شرحت فيه رباح ما عانيناه من أزمات معيشية طاحنة، وحروب، وتوقعت فيها الفعل السياسي الواضح بدلاً عن الرمادية. كما أنه تسبب في العقوق السياسي لابنه عبدالرحمن بانخراطه في النظام. (لم يفصل ابنه من الحزب لأنه قال إن تعامل حزب الأمة مع العضوية كالجنسية لا تُسحب من أحد!). ومثلما يئس السودانيون من الحبيب وتنظيره الأجوف، فقد يئس العالم الخارجي منه أيضاً، ولم يعره إهتماماً أو تكريم. السيدة سان سو كي، مثلاً، عارضت نظام بورما بوضوح، ولم تتوصل لمصالحة العسكر، وظلت حبيسة الاعتقال المنزلي طيلة الخمسة عشر عاما الماضية. لذا، فقد مُنحت شرف مخاطبة مجلس العموم البريطاني، ونالت جائزة نوبل، مواطنة فخرية/كندا، جائزة سيمون بوليفار العالمية/ فنزويلا، جائزة نهرو للتفاهم العالمي/الهند، وجائزة سخاروف للمناضلين من أجل حقوق الإنسان وجائزة حرية الفكر/الاتحاد الأوربي. أو في عالمنا العربي، السيدة توكل كرمان، المعارضة اليمنية، التي نالت جائزة نوبل، لأنها حاربت انتهاك حقوق الإنسان والفساد السياسي والإداري حتي قبل اندلاع ثورة اليمن، حين كانت تقود اعتصامات اسبوعية أمام مبني مجلس الوزراء، أمر لم يفعله الصادق - ولن يفعله - فحصلت علي المرتبة الثالثة عشر في قائمة أكثر مئة شخصية مؤثرة لعام 2011. العالم الخارجي لا يضع مكانة للكهنة، بل أنه لم يصدر حتي مجرد بيان إدانة للانقلاب الذي أطاح بالمهدي، لما رأي من ديمقراطتيه الشوهاء العرجاء.

قد لا أضيف جديداً إن أشرت إلي أن الصادق لم يألُ جهداً في مغازلة النظام، بل اللهاث وراءه بدأب متناه، من اتفاق جنيف سفينة نوح ، نداء الوطن وإتفاق التراضي الوطني. وكان هدفه من تلك المناورات أن يمنحه الإنقاذيون منصب رئيس وزراء، لأنه كشخص كان أول منصب سياسي يتقلده هو رئاسة الوزارة، لا يُعقل أن يقبل بمنصب وزير. وحتي في هذا الظرف الذي بات فيه النظام علي شفا السقوط، لو منحه الإنقاذيون هذا المنصب لوافق، لا سيما وأنه في خريف العمر. وذلك لأنه لا يختلف مع النظام الحالي خلافاً مبدئياً، حسبما ذكر: "هناك نقاط تقارب بيننا وبين النظام الحالي في إلتزامنا بمرجعية إسلامية" ("الحقائق" 28/10/2007). ولماذا أذهب بك لهذا التاريخ البعيد وأمامك تصريحه بالأمس، إن هدف حزبه "تغيير سياسي من خلال المفاوضات يضم لاعبين مختلفين بينهم الحزب الحاكم"، كأننا يا زيد لا رحنا ولا جينا. إذن لماذا التوقيع علي وثيقة المعارضة؟ ولماذا "الجهاد المدني" ما دام بالإمكان تغيير النظام، الذي يلجّ في عناده إذ بشرنا بصيف حار يشوينا، من خلال المفاوضات. إطلعت علي خبر قبل يومين يفيد بصدور أوامر للأنصار ومنتسبي حزب الأمة بعدم الخروج للتظاهر، ظننت - وكل ظني إثم - أنه إشاعة قام بتسريبها النظام. بيد أني آخذه الآن كحقيقة إذ يتزامن ذلك مع تصريحه، الذي استخف فيها بعدد الثوار، حين ذكر بأن التظاهرات الحالية لا تتعدي بضع مئات، وهو تصريح شبيه بتصريح ربيع عبدالعاطي، لا يجوز أن يُقال. ولئن كان ما ذكره حقيقة فإن هنالك نقلة نوعية وتكتيك خلّاق ابتكره الثوار، هو التظاهر من أحياء متفرقة، مما أدي لإرهاق عناصر الأمن وبعثرة الموارد.

قبل الختام، لا بد من الإشارة إلي العجب العجاب الذي حدث حين كان الصادق رئيس الوزراء. أرسل له صهره رسالة عبر أحمد سليمان يستشيره في الانقلاب، أي أن يكون الصادق، رئيس الوزراء المنتخب شرعياً، طرفاً في الانقلاب علي نظامه! هل توجد مهزلة في هذا الكون أكبر من تلك؟ هذا الشخص نطالب بمحاكمته في أي نظام قادم، لأنه أدرك نوايا ابن العاص الانقلابية ولم يفعل شيئاً بصددها. فرّط في الديمقراطية، التي قدم لها السودانيون - بمن فيهم الأنصار- التضحيات الجسام؛ مثلما أنه أدي لضياع وقت نفيس، ربع قرن إلا قليلا، أهلكت الحرث والنسل، وأصابت البلاد بنقص في الأموال والأنفس والثمرات، إضافة إلي ما سيرد في آخر السطور.

خلاصة القول، حتي في أسوأ سيناريو: إن فرض النظام علينا أن نحذو حذو الثورتين الليبية والسورية، لا أري في ذلك كارثة أسوأ من بقاء نظام العصابة، الذي طغي في البلاد وأكثر فيها الفساد والإفساد.

لماذا؟
لأن ما نعانيه من كوارث ومآس، أحدثها حكام الخرطوم، الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، أكبر وأخطر مما يعتقد البعض. لم يبق شيئاً نخاف عليه بعد أن حوربنا في قوتنا، لم يبق شيئاً بعد أن حوربنا في حريتنا، أغلي وأهم ما يميز الإنسان والحيوان. لم يبق شيئاً يغرينا بالحرص علي بالحياة، بعد أن حوربنا في شرفنا وعرضنا باعتتقال واغتصاب وتعذيب النساء. لم يبق شيئاً بعد أن حوربنا في مثلنا وقيمنا وهويتنا. لم يبق شيئاً نخشاه بعد أن حوربنا في كرامتنا، حسب الشتائم والإساءات: "شماشة" شذاذ آفاق" "شحاتين."