ملاحظات على مقال الدكتور شريف يونس عن المشهد الراهن


يوسف يوسف المصري
2012 / 6 / 23 - 09:47     

قرأت توا مقال الدكتور شفيق يونس الذي اتابع ما يكتب بشغف والمعنون "الازمة السياسية تدخل فترة الحسم – قراءة للمشهد الراهن واستنتاجاته". ويجب مراعاة ما قاله الكاتب نفسه من ان تقييمه للموقف كتب بسرعة وهو امر واضح في تناوله الذي تضمن نقاطا بالغة الاهمية تستحق التأمل. ولكن لي هنا عدد من الملاحظات ليس فقط على ما كتب ولكن ايضا على اراء متداولة اخرى في الوقت الحالي.
من هذه الملاحظات واحدة تتصل بمعالجة الكاتب لمناورة الاخوان بتغيير خطابهم لتبني مطالب الثورة في الآونة الاخيرة وهو ما يصفه الكاتب بالتحول "الذي بدت إرهاصاته عند طرف هامشي نسبيا (حملة حازمون) سيترك آثارا عميقة على مجمل خطاب الحركة الإسلامية. فتبني منطق الثورة المخالف لعقائديتهم، ورفع مطالب كثيرة للعدالة الاجتماعية من جانب جمهور واسع أتى ليؤيد مرشحهم ومطالبهم السياسية سيزرع فكرة الثورة ومبادئها بعمق داخل قطاعات لا يُستهان بها من التيار الإسلامي والأطراف المحيطة به أو المتفاعلة معه أو المتأثرة به. حانت إذن لحظة إصلاح الخطاب الديني، بمعنى أعمق كثيرا من إدخال الحريات. وليس على مستوى نخبة من المنظرين، لكن على مستوى قطاعات بأكملها داخل التيار الإسلامي نفسه".
وتبدو هذه الفقرة وكأنها تعكس فهما مفاده ان تبني الاخوان لخطاب الثورة – وهو بالتأكيد امر يخالف ما ذهبوا اليه دوما في السابق – يمكن ان يؤدي الى تثوير قواعدهم ومن ثم اضطرار الجماعة الى اصلاح الخطاب الديني.
وواقع الامر ان هذا التغيير لن يؤدي الى تلك الاثار العميقة التي يفترضها الكاتب. ذلك ان الخطاب الديني عند الخميني مثلا الذي ركز طويلا على مقولة "المستضعفون في الارض" اي الفقراء والمحرومين كان دوما خطابا رجعيا. بل ان الرجعية قادرة على ان تقوم بثورة رجعية تشارك فيها قطاعات واسعة من الجماهير. فليس كل ثورة تشارك فيها الجماهير هي ثورة تخطو الى الامام على درب التاريخ. ان ذلك يسبغ طابعا مجردا على الثورة والجماهير على حد سواء.
ويمكن للاخوان بلا صعوبة رفع شعار "عيش حرية عدالة اجتماعية" مرفق بملحوظة في قاع الصفحة هي ان العيش سيكون عيشا اسلاميا وان الاسلام هو دين الحرية وان الشريعة هي جوهر العدالة الاجتماعية.
لقد حسمت ثورة 25 يناير قضية التكتيك لدى الاخوان. فقد انهارت نظريات تحويل المجتمع عبر التربية التدريجية واسقاط السلطة عبر التنظيم السري والتسلل الى الجيش والشرطة والتقدم نحو التغيير تدريجيا عبر السيطرة على النقابات المهنية. لقد كانت 25 يناير عاصفة انهت منهجا بأكمله ليس لدى الاخوان وحدهم ولكن لدى تنظيمات من قبل الجهاد والجماعة الاسلامية وغيرهما. وليس من المتوقع بطبيعة الحال ان ينتهي هذا المذهب القديم نهاية قاطعة اذ انه له انصاره وقد يبقى لبعض الوقت جنبا الى جنب مع الاسلوب الجديد الذي فرضته الثورة المصرية على الجماعة ولكن الاسلوب المهيمن في اللحظة الحالية لم يعد يواجه معارضة تذكر داخل الجماعة حتى من اكثر قياداتها محافظة.
ويمكن لهذا الاسلوب ان يتحول الى مشكلة بالنسبة للاخوان في حالة واحدة هي وجود قوة سياسية تتمتع بقدر من الحيوية والقدرة على مواجهة خط الاخوان في المجتمع وكشف محتواه الرجعي. ان الاخوان سيحشدون الجماهير وراء شعارات تلك الجماهير نفسها ثم وراء تفسيرهم هم لهذه الشعارات بعد ذلك. ولن يتسنى كشف الطبيعة الحقيقية لما يقصده الاخوان ب"عيش حرية عدالة اجتماعية" او تقديم شرح للجوهر الحقيقي لشعارات الثورة الا بوجود ذلك الطرف الذي يتمثل ويعبر حقا عن مصالح الفقراء ويقود حقا كفاحهم اليومي لتحقيقها ويمكنه على هذا النحو كشف الطابع الرجعي لمواقفهم وشعاراتهم. ان التفاعل بين التجربة ووجود البرنامج الثوري الذي يمثل الناس حقا من جهة ومواقف الاخوان واطروحاتهم من الجهة الاخرى هو وحده القادر على كشف الطابع الحقيقي لمواقف الاخوان امام القطاعات الاوسع من الناس. ويعني ذلك ان اختطاف شعارات الثورة لن يكون اختطافا الا اذا كان هناك من يمسكون بها حقا لتختطف منهم. اما لو ظلت تلك الشعارات على ابهامها ولو انحصرت مهمة شرحها في المواعظ النظرية دون ان تتحقق في الكفاح اليومي للناس فان الاخوان سيصادرونها باعتبارها شعارات اسلامية في الصميم كانت الجماعة تدافع عنها دوما بقدر ما كان الفريق شفيق يدافع هو ايضا عن الثورة دوما.
وحين يتحدث الكاتب عن دور المجلس العسكري فان الواضح ان متابعة ما حدث توضح ان المجلس وقع في مسلسل من الاخطاء تنبت في اغلبها من جذر مشترك. فقد كان بامكان المجلس مثلا التوصل الى اتفاق مع حمدين صباحي يتنازل بموجبه عن الامتيازات التي رفض حمدين ومؤيدوه اقرارها على ان يكون هذا التازل بصورة تدريجية خلال فترة معلومة قد تكون 15 عاما او 20 عاما. ومن متابعة دقيقة لتصريحات حمدين ومواقفه فلم تكن اي صيغة خلاقة للاتفاق مستحيلة. ولكن المجلس قرر الابقاء على شفيق في مضمار السباق ليظهر بذلك انه تبنى معادلة كل شئ او لا شئ. ولو كان شفيق قد استبعد من السباق منذ الدورة الاولى للانتخابات لكان حمدين قد فاز في الدورة الاولى اذا كان قد وافق على حل وسط مع المجلس. اي ان المجلس واجه خيارين. اما "نصف انتصار" بسحب شفيق ودعم صباحي على نحو ما او انتصار كامل مأمول بانجاح شفيق. وقرر المجلس ان يراهن. وخسر الرهان.
ويعكس ذلك ضمنا رفض المجلس لاي رئيس ولو نصف مستقل. لقد كان تحفظ المجلس على دعم حمدين راجعا الى ان فوزه الكبير المتوقع يمكن ان يجعله "يرفع صوته" لاحقا. ولم يتمكن المجلس ابدا من فهم ان التبدل الذي طرأ على خريطة المجتمع السياسية برمتها لم يعد يسمح ابدا بانتصار كامل للنظام القديم. وحتى اذ كان شفيق قد فاز دون جدال في الجولة الثانية فان ذلك كان سيعني بصورة شبه مؤكدة الانتقال الى مرحلة ثورية ثانية اذ ان فوزه لا يتلائم مع التبدل الذي طرأ على الخريطة السياسية لمصر منذ 25 يناير. بل لقد كان بوسع المجلس ان يصل الى اتفاق مع اي من المرشحين في انتخابات الرئاسة. الا ان اصراره على انتصار كامل يعكس على وجه الدقة مدى العجز عن رؤية التبدل باعتباره تبدلا حقيقيا غير قابل للالغاء وان اقصى ما يمكن عمله هو احتواء هذا التبدل. وسيظل امرا محيرا في تاريخ هذه الفترة فهم الاسباب التي دعت المجلس الى قرار الكل او لا شئ الذي تبناه في تلك اللحظة الفارقة.
ويقول الكاتب في وصفه للشد والجذب بين الاخوان والمجلس العسكري:
"أنه يستحيل أن يُترك للإخوان السيطرة على جهاز السلطة التنفيذية أو التغلغل فيه. ليس فقط بالنسبة للأجهزة الأمنية والجيش، لكن أيضا بالنسبة للأجهزة الخدمية والاقتصادية وغيرها. فشبكات المصالح المتغلغلة في مختلف المواقع غير قادرة على تحمل أي إصلاح، ولو كان محدودا أو بطيئا بغير مواجهة. وكل مواجهة تعني القدرة على تحمل رد فعل هذه المواقع ومراكز النفوذ فيها والمرتبطة بأجهزة الأمن في التحليل الأخير، بوصفها الأجهزة السياسية الحقيقية للنظام "القديم". وكل الأطراف المرتبطة بشبكات النظام لها مساندوها، وعندها الأسرار التي تستطيع أن تسربها وتقلب المائدة إذا ما فكر النظام في التضحية بها.
المشكلة هنا ان شريف يفترض ان الاخوان سيجلبون "اصلاحا" لا يمكن لشبكات المصالح المتغلغلة في كافة المواقع ان تتحمله. ولكن لنفترض المشهد التخيلي التالي : مجموعة من المسؤولين في جهاز حكومي يشرف على اصلاح الاراضي وبيعها كانوا يمارسون فسادا ممنهجا خلال الفترة الماضية عبر صلاتهم بشبكة كاملة من المنتفعين. رأى هؤلاء المسؤولون ان الاخوان وصلوا الى الحكم فاخرجوا اللحى من الادراج وجلبوا سجاجيد الصلاة الى العمل واعلنوا جميعا كعادة البيروقراطيين ولاءهم الكامل للنظام الجديد لانهم "في الحقيقة كانوا من انصار الاخوان دائما ولكن الخوف دفعهم لانكار ذلك". هل سيحدث في هذه الحالة اي صدام بين الاخوان الذين وصلوا الى الحكم وشبكات الفساد المنتشرة؟. ان هذا يمكن ان يحدث في حالة واحدة وهي وجود نظرة ثورية الى وظيفة الجهاز البيروقراطي نفسه وآليات عمله وسعي الاخوان نحو تطبيقها. والاخوان لا يتبنون ولا يستطيعون تبني مثل هذه النظرة الثورية. وهكذا فانهم سيستوعبون بقدر من السرور هذه الشبكات الجديدة وسيتمكنون من هضمها في شبكة مصالحهم المالية والتجارية المتشعبة على اساس "فيد واستفيد" و"باب التوبة مفتوح امام الجميع" و"ربنا عرفوه بالرحمة".
ان مشكلة العسكر والاجهزة الامنية هي هنا بالذات. فآلة الدولة لا دين لها غير دين الحاكم. وسوف يعني استيلاء الاخوان على السلطة ان الوجوه القديمة حتى داخل وزارة الداخلية اما ان تخرج اللحى من الادراج وتعلن التوبة او ان ترحل لتترك المجال لمن يخرجون اللحى ممن لم تتلوث ايديهم بدماء الاخوان بصورة مباشرة وممن سيعلنون التوبة بدورهم.
ان حديث العسكر عن مدنية او علمانية الدولة هو حديث ابله لا معنى له قصد منه فحسب الدفاع عن مصالح قيادات القوات المسلحة والابقاء على اكبر قدر ممكن من منظومة النظام القديم وعلاقاته وقيمه لا اكثر ولا اقل. واذا ما حقق الاخوان نصرا حاسما واستولوا على السلطة التنفيذية بحق فان قيادات الاجهزة البيروقراطية والامنية سيجدون انفسهم في عزلة متزايدة عن زملائهم في الاجهزة ذاتها ممن سيجدون ان لا شئ يمنعهم من التعاون مع الاخوان. لقد شاهدنا حالة مشابهة خلال عمليات التطهير التي قامت بها مجموعة 23 يوليو للاجهزة البيروقراطية وقد كانت عمليات تطهير من العناصر الحزبية البارزة لاسيما الوفديين. وخلال ذلك اندفع بقية موظفي الآلة البيروقراطية والامنية احادا وافواجا الى حمل راية "الثورة الظافرة".
وفيما يتصل بالقوى الثورية فان هذه القوى الناشئة تتحمل في احيان كثيرة تعسفا ذاتيا في تقييمها الذي يتردد في نقاشات المثقفين الشباب. وثمة احكام متطهرة كثيرة تصدر بلا تقدير لاهمية مشاركة الجميع في هذه اللحظة. ان اي قوة ثورية ستضيف شيئا ولو لنصف ساعة فقط ثم تعود الى سابق تخبطها يجب ان تلقى ترحابا ويجب ان توضع حيث يمكنها الانصات لاراء اخرى يمكن ان تساهم في الحد من تخبطها. فانت حين تبني جدارا لا تستطيع ان ترفض من يعرض ان يبني معك لانه "مرتد" او "ذيل للاخوان" او "ذيل للمجلس" الى آخر العبارات التي تتردد. من يملكون رفاهية الاستثناء والاقصاء هم على وجه الحصر من لا تتلوث ايديهم بعناء مهمة بناء الجدار. اما من يبنون فانهم يعرفون ان اي يد اضافية ولو لفترة وجيزة يجب ان تقابل بالثناء طالما انها تبني في هذه اللحظة. ذلك ان ضعف الاطر التنظيمية الحالية لقوى التغيير يحتم البدء من نقطة اكثر عملية وليس من اية شروط تطهرية معقمة.
وليس الحديث هنا عن تأسيس حزب ثوري. فتأسيس الحزب الطليعي يتطلب شروطا واضحة من الاتفاق الطوعي بين الاعضاء وهي شروط يعد من يخرج عن اسسها خروجا جذريا خارج الحزب. ولكننا حين نتحدث عن تنظيم جماهيري واسع فان الامر يكون مختلفا اذ ان عضوية مثل هذا الاطار الفضفاض تكون مرهونة فقط بالموافقة على برنامج للحد الادنى يركز على مهام عملية محددة.
انه تقليد ثوري ابتكره الناس منذ عقود طويلة وساهم كثيرا في عبور مراحل تاريخية دقيقة وفي تمكين الحزب الثوري ليس فقط من ان يتشكل على اسس ثورية من خلال الممارسة العملية لمهامه ولكن في ان يتجاوز كل الاخطاء المروعة التي شهدتها تجارب تلك الاحزاب في تاريخنا الحديث.
من هنا فان الطريق في اللحظة الحالية يبدأ مما يدعو اليه كثيرون في اليسار من بناء هذا التنظيم الجماهيري الواسع مع احتفاظ من يريد من الحلقات الثورية باستقلاله شرط الاتفاق على برنامج عملي واضح يحدد مهاما على المدى القصير قابلة للمراجعة بصورة دورية. ومن المؤكد ان تلك الخطوة لن تنجز في ذاتها المهمة التاريخية التي تعينها اللحظة ولكنها ستفتح افقا جديدا يمكن التقدم منه الى مهام على صلة اوثق بانجاز مهام اللحظة والانتقال بها الى لحظة اكثر نضجا على درب الثورة الطويل.
وشكرا للدكتور شريف يونس على مقاله المهم