الفوتبول و الدم والدولار


حميد كشكولي
2012 / 6 / 22 - 20:13     

يرى الرأسماليون في ألعاب كأس العالم في المونديال و في كل دورة فرصة عظيمة لإنعاش التجارة بوسائل الرياضة ، وخدمات القنوات التلفزيونية ، و تسليع مشاعر جماهير الكرة والرياضة. لقد كانت الرياضة وسيلة جادة ومقنعة لمد عرى الصداقة و التعارف بين بنات وأبناء الشعوب ، لكن ما يؤسف له هو أن الأنظمة الدكتاتورية في بلداننا تستغلها في سبيل تقوية سلطاتها وذر الرماد في العيون للحؤول دون رؤية فسادهم و امتصاص أية حركة احتجاجية وجماهيرية على الوضع المزري والطغيان والفقر والبؤس.فالكرة فن ذاتي وروح حضارية لا تستعار ولا تباع ولا تشترى وهي كالسياسة وخوض الحروب ومواجهة الخصوم صعبة المنال ووليد التجربة والتدريب والاعتماد على النفس . وقد أصبحت المساعي لأي بلد في سبيل نيل عضوية الفيفا أهم بكثير من كل الجهود والمحاولات من أجل انتزاع قبول عضويتها في الأمم المتحدة.
ثمة كثيرون يريدون أن يجعلوا من الكرة أفيونا يخفف من آلامهم المزمنة وما يخفف عنهم قليلا من وطأة الهزائم والذل.إن المجتمع المعاصر بعد تفسخ البرجوازية تسوده المافيا في كل مجالات الحياة ، ومنها الرياضة.و لعل الكرة هي إحدى أهم وقائع الحياة في هذا العصر، فكلما تقدم المجتمع ، خطت الرياضة خطوات إلى الأمام وساهمت أكثر في التعبير عن مشاعر الجماهير الشعبية. وإن خسارة كل فريق تكون أحيانا ضرورية لتكون صدمة تحرك ركود الفكر والشعور عند جماهيره المشجعة ، ولكي تفكر في جوانب أكثر ضرورية في الحياة، من قبيل وسائل الكفاح للتحرر من واقعها المؤلم والتخلص من الدكتاتورية والاستبداد.

ألعاب كأس الأمم في كل الدورات تغطي على بقية أحداث العالم ، وإن مئات الملايين من البشر ينسون أمور الحياة الأخرى لينفعلوا مع مشاهد الألعاب تلك . وليس غريبا أن تنتهز المافيات العالمية المالية انشداد الناس إلى الألعاب وانفعالهم معها لتصفية منافسيها و خصومها ، وحيك المؤامرات الدنيئة والاجرامية ضد ناس ابرياء ، مثلما فعل النظام البعثي في سبعينيات القرن الماضي أثناء ألعاب المصارعة التمثيلية لعدنان القيسي ، ومثلما انتهز النظام الإسرائيلي مونديال عام 1982 لاجتياح لبنان.

يطلق بعض علماء السوسيولوجيا على كرة القدم عبارة " الأفيون العاطفي " للشعوب، والبعض يعبر عنها بتسمية " أكبر تجارة مربحة للترفيه والمشاعر" ، ولماذا لا، فحينما يرى الرأسماليون في عواطف البشر و مشاعرهم سلعا يزايدون فيها. وفي لعبة في كرة القدم أيضا مثل مجالات الحياة الأخرى الخاسرون يكونون أكثر عديدا من الفائزين .وحين تنادي أبواق الإعلام البرجوازي أنه لا خاسر في هذه اللعبة إنما هي صادقة وتعني أنها في كل الأحوال، وبغض النظر عن الفرق الفائزة والخاسرة ، تحقق تجارتها أرباحا هائلة.
كرة القدم لعبة الفقراء ، وأنها على عكس تجّار المشاعر والدم وسيلة تعبير إنسانية عن المحبة والصداقة والأحلام الجميلة سواء وعي اللاعبون ذلك أم لم يعوا، و أن الكل مقتنعون بأن الخسارة فيها يعوَّض عنها بالمزيد من الاتحاد والتضامن ، سواء بين الخاسرين أنفسهم ، أو بينهم وبين الفائزين.
إن جماهير الكرة كانت دوما و منذ وجد الصراع الطبقي هدفا مغريا لجشع الرأسماليين أصحاب مصانع الملابس والأحذية الرياضية ، ومالكي وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. فلو عرفنا أن تكلفة الإعلان لمدة نصف دقيقة في القناة التلفزيونية التي تقدم لعبة بين فريقين قويين أثناء التوقف تبلغ أكثر من 200000 ورو ، لتصورنا حجم أرباحهم الخيالية من هذه اللعبة الشعبية التي اغتصبتها البرجوازية.
كثر ما يكون اللاعبون في كثير من المنتخبات الوطنية الأوروبية من أصول أفريقية ، ومن الجنوب العالمي مما يدعو إلى تصورهم مصادر ثروة اضافية مثلها مثل النفط ومعادن ثمينة أخرى وأيدي عاملة رخيصة / مصادرجلّها في الجنوب وتستثمر في الشمال. و يدعونا أيضا إلى تصور هذه السوق شكلا من أشكال العبودية الحديثة في عصر العولمة والبوست مودرنيزم. فبالأمس كان الأباطرة الرومان يتسلون بمصارعة عبيدهم حتى الموت ، واليوم يرى عرابو العولمة ومصدّرو الديمقراطية في مشاعر الجماهير سلعة وتجارة وربحا بلا حدود.

من ينسى حادثة ذبح أحد السجناء المؤبدين في أحد سجون المكسيك عام 1970 و جعل رأسه كرة قدم في السجن حين نسي المكسيكيون كل بطولات زاباتا و اصبحت أقدام وقيافة لاعبي كرة القدم هي المستحوذة على عيونهم وأذهانهم وقلوبهم. فبعد خروج فريق المكسيك الوطني خاسرا ، حدثت فوضى عارمة بين السجناء ما دفع رئيس السجن الى مصادرة جهاز الراديو الوحيد ذي الموجة الواحدة الموجود في السجن والمصدر الوحيد للسجناء للاطلاع على أخبار الألعاب .وقد جن المسجونون وقاموا بذبح أحد رفقائهم السجناء ، وشكلوا فريقين لكرة القدم و كان الشرط أن يحتفظ كابتن الفريق الخاسر في المباراة بموسى الذبح وتحمل مسؤولية ذبح السجين. هذا حدث قبل أن يتم قتل اندرياس اسكوبار حامي هدف فريق كولومبيا الوطني بتهمة تسجيل هدف على فريقه باثني عشرة رصاصة من قبل مافيا الكوكايين والكازينو. أجل ، إن كرة القدم تشتم منها رائحة الدم . فأينما كان تراكم الرأسمال ممكنا، فهناك يوجد دم. المال ، إضافة إلى المال والجنون.
في هذه الفترة اصبح هنري كيسنجر مشغولا بشدة بأمر آخر ، بينما رؤساء البيت الأبيض والسي . أي . أي كانوا مشغولين بأمور حياكة المؤامرات والتصفيات و الحروب التقليدية والجاسوية. كيسنجر مذهول و يتساءل لماذا تتسابق الشركات المالية لشراء امتياز تصوير اللاعب التاريخي بيله و طبع صورته على منتوجاتها و مصنوعاتها . إنه يرى أن لمعان نجوم الهوليود قد بهت لصالح الكوكاكولا و فورد. إنه يرى بعيونه أن هوليود قد استسلم أمام الفيفا. لكن كيسنجر يعتبر من المحافظين الواقعيين و البراغماتيين. فلا بد من عمل!
ماذا لو تم تطعيم كرة القدم بالهوليود ، فحينذاك تقوم الرأسمالية الامريكية بفتح العالم كله بدون اطلاق رصاصة واحدة.!!!!!!!!!!!!
ليست كرة القدم لعبة شعبية ومحبوبة في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن كيسنجر يفكر بسلاح الكرة.وقد اقنع بعض الرأسماليين باستثمار بعض اموالهم في الفوتبول الذي سوف يساعد أمريكا على التغلب على أزماتها الاقتصادية. وهكذا طار بيله و فرانتس بيكن باور ويوهان كرويف ترافقهم محبوبيتهم وشعبيتهم الكبيرتين إلى الولايات المتحدة لكي ينفخوا في روح الكرة الأمريكية. واستقبل رئيس الفيفا جانوهاوه لانج وهكذا ابلغ كيسنجر رئيس الفيفا في تلك الفترة " أيها السادة عليكم ترتيب الأمور فان أمريكا سوف تستضيف ألعاب كأس العالم في المستقبل القريب" .. و اضاف : .. نحن بكل امكانياتنا ندافع على بقائكم في هذا المنصب ما اضطر رئيس الفيفا للقول: الفيفا مستعدة لدراسة مقترحكم حول مباريات كأس العالم عام 1994 و اتخاذ القرار السليم في هذا الصدد ؟؟؟

ما لفت اتباهي مرة انه قبل انتهاء كأس العالم في جنوب افريقيا أخذت احدى بائعات الهوى بمراجعة حسابات ما كسبت من الدعارة من بيع الجنس للسياح . انها كسبت 11 الف دولار . و تمنت أن تجري مباريات كأس العالم كل اسبوع في افريقيا الجائعة و لم تحسب أن من يمتهن مهنتها لن يدوم اكثر من عامين و يستهلك.

هكذا ، حين تكون اعصاب الملايين من المشجعين و محبي كرة القدم مشدودة ،ومشاعرهم جياشة وهم يتابعون هذه الألعاب ، هناك قلة من الرأسماليين يجنون أرباحا خيالية من الاستغلال الاجرامي لهذه المشاعر و هذه اللعبة البريئة.
كتب ماركس عام 1844:

فما كان – بفضل المال – لي، وما أستطيع أنا أداء ثمنه، أي ما يستطيع المال شراءه، إنما هو أنا نفسي، أنا مالك المال. وتعظم قوتي بقدر عظمة قوة المال، خصال المال هي خصالي، وهي قواي الجوهرية، أنا مالكه. فلستُ في ذاتي محددا البتة بما أكون ولا بما أستطيع؛ فقد أكون قبيح الوجه ولكن يمكنني أن أشتري أجمل امرأة. فلست إذن قبيح الوجه، لأن تأثير القبح وقوته المنفرة يقضي عليهما المال. وقد أكون في ذاتي كسيحا، غير أن المال يوفر لي أربعة وعشرين رِجْلا، فلست إذن كسيحا؛ وقد أكون رجلا سيـئا، لئيما، وعديم الضمير، لا مهجة له، غير أن المال موقر، وكذا يكون مالكه أيضا، والمال هو منتهى الخير، فمالكه إذن خيّر. ثم إنّ المال ينجيني من شر اللؤم، فإذا الناس يعتقدون أنني نزيه، وقد أكون بلا مهجة، ولكن المال هو المهجة الحقيقية لكل الأشياء، فكيف يمكن لمالكه أن يكون بلا مهجة ؟ أضف إلى ذلك أن المال قادر على اشتراء أناس ذوي مهج وأفكار، أفليس مَن له سلطان على ذوي المهج والأفكار هو أبعد في هذا المجال من رجل الفكر نفسه ؟ فأنا القادر بمالي على تحقيق كل ما يهفو له الفؤاد، أفلست إذن مالكا كل السلطات البشرية ؟ إذن، أفلا يُحول مالي كل صنوف العجز فيّ إلى ضدها ؟

2012-06-22