المسيح وبيلاطس والحقيقة


وليد حكمت
2012 / 6 / 16 - 01:47     

نرى في حياتنا كثيرا من الاختلافات الفكرية والعقدية والايدولوجية بل تكاد أن تكون سمة المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ هي الاختلاف في الأفكار والآراء والطروحات ما ينتج عن ذلك الاختلاف الحروب والقتل والدمار والاستبداد والتقدم أو التخلف أو اضطهاد المعرفة البشرية واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان وتؤثر تلك الاختلافات والرؤى على كافة تفاصيل الحياة البشرية ومساراتها الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية فلا زال البشر ينظرون ويختلفون ويفسرون ويدعي كل منهم امتلاك الحقيقة المطلقة ويبني عليها سلوكاته واتجاهاته فكيف لنا أن ندرك الواقع الموضوعي الذي يقدم صورة دقيقة عن الحقيقة التي سيتسلح بها الإنسان ويبرزها للجميع من اجل بناء ذاته وحاضره ومستقبله . لقد كانت كلمة (المعنى )كما يقول شتراوس اعقد كلمة في اللغة ، وتبرز إشكالية اللغة وإدراك مرامي ومقاصد العبارات في الذهن البشري من اكبر واعقد الإشكاليات التي تتحدى البشرية قديما وحديثا فكم من ملايين البشر قتلوا بدم بارد نتيجة تأويل نص أو فهم معين لنص مقدس ...الخ . ويسعى الإنسان إلى إن يمتلك الأدوات المعرفية المناسبة ليتعرف على الحقائق وليفسر الواقع فيسخره من اجل خدمته وسعادته وقد لاحظنا مؤخرا على سبيل المثال النقاشات التي تدور حول مفهوم فائض القيمة والفرق بين العمل وقوة العمل وغير ذلك من المصطلحات الاقتصادية والفلسفية وهي لا شك عبارات وألفاظ لها معنى معين في ذهن قائلها مرتبط بشروط وعلاقات معينة على ارض الواقع .
إن الصراع بين البشر يكمن في أن أحد الفريقين يستخدم معيارا معينا للحقيقة والآخر يرتكز على مفهوم مختلف تماما فهما لا يتكلمان لغة واحدة وان كانا يستخدمان ذات الألفاظ وذلك لأن المعاني لا الأصوات هي التي تكون ماهية اللغة ... فقد يقول الطرف الأول (حقيقي ) وفي ذهنه معنى معين ويقول الآخر ذات اللفظ ويقصد معنى مختلفا ولذلك في تلك الحالة يكون مواصلة الحديث مضيعة وقت.
عندما اقتيد المسيح أمام بيلاطس الحاكم الروماني للتحقيق معه دارت بينهما محاورة فلسفية وضعت حجر الأساس لمشكلة فلسفية معقدة وفي نظر البعض تبدو واضحة وثابتة .
يتساءل بيلاطس : أملك أنت إذن؟؟
المسيح :إنما كانت الغاية التي من أجلها ولدت والغرض الذي من أجله أتيت إلى العالم هو أن أكون على الحقيقة شاهدا .
يسأل بيلاطس : ما الحقيقة ؟؟
لقد كان في فلسطين آنذاك كثير من المصلحين والتقدميين والأنبياء كلهم ينادون بالحقيقة فقد كان عصر غليان اجتماعي ويبدو أن بيلاطس قد سئم من تكرار هذا اللفظ بكل هذه السهولة فما كان منه إلا أن طرح هذا السؤال المعقد الذي يعد من أخطر الأسئلة الفلسفية عبر التاريخ ولا زال كذلك ، فقد كشف بيلاطس عن نوع من نزعة الشك العنيدة التي حظيت باحترام الفلاسفة المحدثين.
• نظريات الحقيقة
- 1- التطابق : إن الواقعة أو القضية تكون حقيقية إذا كانت تطابق واقعا موضوعيا.

• مثال : الكتاب موجود على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة ، فإذا ما ولجنا إلى الحجرة ووجدنا الكتاب فعلا فان تلك العبارة تشكل حقيقة. (كلماتي تكون حقيقة إذا كانت تصف الأشياء كما هي بالفعل )
• سؤال : كيف نعرف أن عباراتنا الإخبارية المثالية قد فعلت ما يتعين عليها أن تفعله وما وسيلة اختبار العبارات للتأكد من أنها تؤدي وظيفتها المفروضة أو بالأحرى ما هي محكمة النقض والإبرام التي تبت في واقعية أية قضية وتكمن صعوبة هذه النظرية عندما تستخدم في ميدان ليس فيه وقائع يمكن التحقق منها من قبل الجميع ...
• مثال : الشخص المؤمن يرى أن المعجزات المنسوبة إلى قديس أو نبي هي واقعة على حين أن الشكاك يرى فيها أسطورة خرافية .
- الرياضيات : من الممكن تشييد نسق كامل للتفكير الرياضي ليس له علاقة وثيقة بالموقف الطبيعي بل يمكن أن يكون متنافيا معه وفي هذه الحالة لا يمكن للفظ (الواقع) إلا معنى ضئيل .
- لا يمكن الاعتماد على نظرية التطابق إلا عندما تستخدم بدقة وفي مجالات معينة ويطلب الفيلسوف أن تكون هناك وسيلة مكملة لإثبات أن عبارتنا السابقة الكتاب على المنضدة تمثل الواقعة إذ أن المشكلة هي إيجاد معايير ايجابية لتحديد الواقعية وكل من يقدم لنا الوقائع لا يفعل ذلك بالضرورة وإننا نسمع عبارات كثيرة مثل الوقائع الصلبة أو الوقائع الثابتة أو الايجابية ولكنها في كثير من الأحيان لا تكون صلبة ولا ثابتة ولا ايجابية إنما تكون مجرد افتراضات لا غير.
-
• معايير الحقيقة

- معيارالتحقيق الحسي ..

- إن أهم وسيلة لإثبات العلاقة الواقعية بين العبارات والنظام الموضوعي للأشياء هو التحقيق الحسي من خلال استخدام الحواس فإذا ما دخلنا إلى الحجرة المجاورة ووجدنا الكتاب في المكان المحدد فليس هناك شك في صحة العبارة ولكن تظهر معضلة جديدة هي تضارب الحواس ولعل تجربة العصا المغمورة في الماء والتي تبدو وكأنها ملتوية لكننا نجدها بحاسة اللمس مستقيمة وما يسمونه خداع الحواس .

• (الهلوسة)
: تشمل أنواع متعددة من الرؤى وحالات الوجد الديني وحالات الغيبوبة ففي حالة الخداع تكون لدينا استجابة حسية فعلية لمؤثر خارجي أخطأته الحواس اي أخطأت تفسيره لكن التجربة تلك لها أساس في النظام الموضوعي الخارج عنا .
أما في حالة الهلوسة فلا يوجد مصدر خارجي يسبب التجربة إنما تنشأ التجربة من أحوال معينة في كياننا العضوي ذاته كالإفراط في شرب الخمر أو الجوع الشديد الذي يسبب أنواعا من الرؤى وحالات الغيبوبة
مثال: هناك أشخاص كثيرون يجدون قدرا من الحقيقة في حالات النشوة الدينية في تجاربهم الصوفية الخاصة والتي يعتقدون أنها حقيقية شأنها شأن أي تجربة حسية فهو لم يعد يشك في الواقعة فهو يعرف لأنه قد أدرك حسيا .
وإذ ما سمحنا للرؤى الدينية أن تدخل إلى مجال الحقيقة الواقعة لكان هناك خطر واسع لكل تجربة ذاتية بحيث يكون لخيالات المجنون ذاتها نفس الحق في الادعاء .. وفي ذات الوقت إذا أغلقنا الباب في وجه التجارب الصوفية الذاتية فعندئذ نكون قد أغلقنا الباب في وجه مجموعة من أروع تبصرات الجنس البشري ...
تنشأ إشكالية أخرى حول التحقيق الحسي بوصفه دليلا على التطابق بين الواقع الموضوعي وبين أفكارنا وهي إشكالية التجربة الحسية الصحيحة والمزيفة ..
• مثال: يقدم لنا العلم الحديث أن قرص المنضدة المصنوعة من خشب البلوط صلب ذلك انه يقاوم حاسة اللمس لدينا مقاومة كبيرة ومع ذلك فان الفيزياء الحديثة تصف قرص المنضدة هذا نفسه بأنه ابعد ما يكون من الصلابة فهو عبارة عن كتلة من الذرات والالكترونات التي تتحرك بسرعة هائلة فلا البروتون المركزي ولا الالكترونات تعد صلبة في حين أن المكان الذي يفصل بين النواة وبين الشحنات المحيطة مشابه نسبيا للمكان الذي يفصل ما بين الكواكب والشمس ..
فهناك إذن تضارب ما بين تجربتين حسيتين مختلفتين غير انه لا بد أن نعطي للحواس أهمية كبرى في التحقق من الواقع ولكن من المستحيل الاعتماد عليها بوصفها المعيار الأوحد فهي تعتبر لدى المثالي العقلاني معيارا ثانويا للحقيقة وهو يقبل التجربة الحسية التي تنطوي على استدلال عقلي وتصور ذهني لاعتقاده أن ما تنقله إلينا الحواس هو مظهر الأشياء وصورها دون واقعها الحقيقي أو كما قال أفلاطون (نحن سجناء أجسامنا وأجهزتنا الحسية ) فوظيفة الذهن لديه هي تنظيم الإحساسات وغربلتها من اجل استخلاص ما فيها من قمح انطولوجي ومن ثم اختراق هذه الحواجز المضطربة الصورية لنصل إلى الواقع الكامن خلفها ثم الانتقال إلى عملية التجريد ووضع التصورات حول الحقيقة (حقيقة الواقع) ولذلك تنظر المثالية إلى الحقيقة على أنها نتيجة صراع دائم بين الإحساس والعقل ينتصر فيه العقل .
- معيار الترابط
العبارة أو القضية تكون صحيحة إذا كانت تنسجم مع حقائق أخرى مقررة أو مع معرفتنا ككل .
مثال : ميدان الرياضيات ففي هندسة إقليدس نجد أن ثمة نسق مستمد من الاستنباط خطوة فخطوة من البديهيات والمصادرات الأصلية وما أن تؤخذ على أنها صحيحة حتى يلزم عنها بقية النسق منطقيا وبذلك تكون لدينا سلسلة تامة من التفكير المنطقي لكن صاحب المذهب الطبيعي يقول بأن هذا الاتساق المنطقي لا تربطه علاقة ضرورية بالواقع أو العالم الموضوعي فهو عبارة عن نوع من الترابط المنطقي قادر أن يكون في فراغ بالنسبة إلى العالم الخارجي فهناك فرق بين ما يسمى صوابا كما في دروس المنطق وبين ما يسمى الحقيقة المطابقة للواقع فالمؤمن بمذهب الإلوهية يشيد مذهبه على مسلمات معينة ثم يستمر في إكمال بناء فكري كامل يحوي في داخله كل التجربة البشرية فهو اعتمد على مسلمات أو مقدمات واستخرج النتائج غير أن تلك النتائج غير ملزمة منطقيا إلا للشخص ذاته واضع تلك المسلمات ولذلك يستطيع المثالي تشييد أروع واعقد البناءات الفكرية على مقدمات لا يزكيها سوى كونها تتفق مع رغباته الأنانية أو مصالحه الايدولوجية والاقتصادية.

- معيار النجاح العملي (معيار البراجماتي)

المعيار الوحيد للحقيقة لدى البراجماتي هو النجاح العملي أو النتائج التي تؤدي إليها
فقضية الكتاب على المنضدة الموجودة في الحجرة المجاورة فهي عبارة عن خطة للسلوك الممكن فهي تعني أنني إذا ذهبت إلى الحجرة المجاورة ونظرت إلى المنضدة فإنني سوف أجد الكتاب وإذا تصرفت بحسب هذه الخطة ووجدت الكتاب فان العبارة تكسب الصحة وتكون حقيقية ولذلك تعتمد البراجماتية على منهج البحث العلمي للوصول إلى الحقائق وإذا ما أدى الفرض العلمي نتائجه المتوقعة يكون في النهاية حقيقيا فالفرض والفكرة محكومة بنتائجها المتوقعة
وتستعين البراجماتية بمعايير ثانوية غير معيار النجاح العملي مثل الترابط الذي مر معنا (إن حقائقنا ستحرز نجاحا عمليا اكبر إذا كونت نسقا مترابطا كما تضيف البراغماتية معيارا آخرا في حال عجزنا عن الاختيار بين عبارتين على أساس التجريب أو الترابط فعندئذ يكون لنا الحق في تحديد أي القضيتين صحيحة بقدر ما تسهم كل منهما في قيم الحياة العليا أو معتقداتنا أو بقدر ما تكسبنا استقرارا نفسيا وعاطفيا فعندما نجد عبارتين مثل (النفس خالدة ، النفس فانية) ونعرضها على المعايير التي ذكرنا لن نفلح في تحديد أيهما حقيقة فلن نجد عونا من معيار النجاح العملي أو الترابط أو التحقيق الحسي فلنجأ مضطرين إلى ما يدعم منها قيم الحياة العليا .
- معيار الحقيقة المركب ...
نقول الحقيقة.....
1- إذا أمكن عن طريق التحقيق الحسي وتطابق العبارة مع الواقع الموضوعي.
2- إذا وجدنا ثمة ترابطا ما بين العبارة وحقائقنا الأخرى .
3- إذا استطعنا بسلوكنا على أساسها أن نحقق النتائج المتوقعة.
4- إذا وجد اتفاق اجتماعي حول المعايير السابقة.
5- إذا كان هناك يقين باطن واقتناع طبيعي بشأن تلك التجربة.
يمكن أن تكون هناك حقيقة عامة شاملة ولكنها ليست مطلقة .
ملخص بتصرف من كتاب الفلسفة أنواعها مشكلاتها- فصل الحقيقة لهنتر ميد، الموسوعة الفلسفية المختصرة .