مأزق الثورة المصرية ومهمات الانقاذ


صلاح السروى
2012 / 6 / 8 - 05:07     


لاشك أن الثورة المصرية قد حققت قدرا لابأس به من الانجازات على الصعيد السياسى, لعل أولها وأهمها هو بعث الارادة الشعبية واحياء ثقافة الاحتجاج وازكاء روح التضامن والتحرك الجماعى وانتزاع حرية انشاء النقابات والأحزاب. وفى الاجمال : فقد تمكنت الثورة من تحويل الشعب والرأى العام من كم مهمل وعنصر مفعول به الى قوة مؤثرة وعنصر فاعل, بل ولاعب رئيسى ورقم صعب فى المعادلة السياسية وفى تحديد المسار السياسى للبلاد.
ولكن هذه الثورة بالمقابل لم تتمكن, حتى الآن, من ازالة أركان النظام الاستبدادى القمعى الفاسد. كما أنها لم تستطع القبض على زمام السلطة على أى نحو بعد, ولا يزال أذناب مبارك يضعون العراقيل فى طريقها ويحيكون لها المؤامرات ويمنعونها من تحقيق أهدافها. بدءا من التشويه الاعلامى والاغتيال المعنوى لقادة ورموز الثورة سواء من الشباب أو من الأجيال الأكبر سنا, ومرورا باختلاق الأزمات الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية والأمنية والطائفية, بين حين وآخر, وادخال المسار السياسى فى متاهات قانونية ودستورية تخلط الأوراق وتشق الصفوف وتثير الحيرة والبلبلة, وانتهاء باجراء المحاكمات الهزلية التى لاتعدو كونها شكلا مفرغا من أى معنى حقيقى للعدالة والمحاسبة وانزال العقاب المستحق بمن أجرموا فى حق الشعب والبلاد.
وقد رأينا ذلك بجلاء فى احكام البراءة التى حصل عليها معظم الضباط المتورطين فى قتل الشعب ابان الثورة, وأخيرا فى تلك الأحكام الهزلية المضحكة فى محاكمة مبارك وأركان قوته القمعية. وذلك كله بهدف عزل الشعب عن طليعته, وتفتيت هذه الطليعة نفسها, فتتفتت طاقتها الثورية وتتبدد, وكذلك العمل على أن يكفر الشعب بالثورة ودفعه نحو اليأس والخضوع والقبول بالاملاءات والخيارات التى تخدم أهداف الثورة المضادة, تحت وطأة معاناته الاقتصادية والأمنية. وهذه الأهداف تتمثل على وجه التحديد فى اعادة انتاج النظام القديم, بكل رموزه السياسية الفاسدة, وبكل سياساته الخارجية التابعة, وبكل سياساته الداخلية الفاسدة والقمعية والاستبدادية, وكذلك, بكل توجهاته الاجتماعية الرأسمالية الظالمة المنحازة ضد الفقراء والكادحين. وكل ذلك تحت لافتات جديدة تتمسح فى الديمقراطية وتدعى اعمال سيادة القانون. واذا نجح هذا المخطط فاننا نستطيع أن نقول اننا أمام فشل ذريع ومطبق لهذه الثورة وهدر تام ومهين لدماء شهدائها ولكل التضحيات التى قدمها الشعب خلال الثورة وقبلها.
الا أن المثير للاعجاب فعلا هو انفضاح أمر هذه الممارسات وعدم انطلائها على أحد, وكل حين تفاجئنا القوى الحية فى الشعب المصرى بيقظتها وعمق وعيها السياسى, واستعصائها على التدجين والاستغفال. والدليل على ذلك احتشادها العفوى عارم الغضب فور سماعها بالأحكام المشينة سالفة الذكر.
ولعل آخر الجرائم التى اقترفتها قوى الثورة المضادة هى هندسة الانتخابات الرئاسية على النحو الذى يفرز اثنين من المرشحين, بحيث يترجمان, معا, ذات المعادلة السياسية القديمة التى يمثل أحد طرفيها قوى الاسلام السياسى, من ناحية, والنظام القديم الذى لم يسقط بعد, من ناحية أخرى. وكأن الوضع السياسى للبلاد يراوح فى مكانه ولم يخط خطوة واحدة الى الأمام !!! وكأن ثورة لم تقم فى هذه البلاد, وأن قوى هذه الثورة وجماهيرها ليس لها أى وزن على الساحة السياسية والشعبية !!! اللهم الا اذا صدقنا دعايات المتأسلمين التى تدعى تمثيلهم للثورة وقيادتهم لها !! وهو الأمر الذى يسعد ولا شك قوى الثورة المضادة أيما سعادة ويقدم لها هدية ثمينة لأنه سيضعها فى موقع المحافط على الاستقرار والوحدة الوطنية فى مواجهة هؤلاء الطائفيين الارهابيين. كما أنه سينزع عن الثورة أهم صفاتها الثورية, وهى صفات التقدمية التحررية والشعبية الوطنية الجامعة. وهو الأمر الذى يخالف كل شواهد الواقع المادى الذى لايستطيع أحد انكاره أو تجاوزه. فالثورة قامت بها كل القوى الوطنية المصرية وكان المتأسلمون فى ذيلها ولم يكونوا أبدا فى طليعتها, كما ساهمت فيها المرأة وكل الفئات العمرية وكل ابناء الطوائف والأديان. وكانت شعاراتها ناصعة فى تقدميتها ويساريتها ومدنيتها .."عيش – حرية – عدالة اجتماعية – كرامة انسانية"
الغريب أن البعض قد ابتلع هذا الطعم واستسلم لهذا الاختيار المر. غير منتبه الى أننا نعود بذلك الى ذات المعادلة السياسية التقليدية القديمة التى أتقن اللعب ها النظام المباركى, وحافظ عن طريقها على نظام حكمه على مدى ثلاثين عاما كاملة, وبرر بها فرضه لقوانين الطوارىء والقوانين المقيدة للحريات طوال سنوات حكمه. وهى تلك المعادلة التى تقوم على مقولة : "أنا أو المتاسلمين", ولأن هؤلاء المتأسلمين يمثلون كابوسا حقيقيا لكل القوى المدنية كالليبراليين واليساريين والنساء .. الخ, والقوى الدينية من غير الاخوان والسلفيين, كالمسلمين المعتدلين والأزهر والمسيحيين والصوفيين والشيعة .. الخ , وكذلك مصدر ازعاج للغرب والقوى الدولية, لما بدر من بعض فصائلهم من عنف وارهاب وكراهية عمياء للآخر, فان النظام كان يقوم باستثمار هذه الوضعية على النحو الأمثل .. فهو من ناحية يقوم بعملية ضرب وتقزيم واضعاف منهجى لكل البدائل المدنية والديمقراطية واليسارية .. ويبقى, فى الوقت نفسه, على الاخوان وقوى الاسلام السياسى عند مستوى معين من القوة, ليستخدمهم كفزاعة لهذه القوى فى الداخل والخارج على السواء, ومبررا لبقائه واستمرار قمعه. و أظن أن اهمال هذه الحقائق انما يدل على عمى وفقر سياسى حقيقيين.
ومما لا شك فيه أن قوى الثورة قد ارتكبت أخطاء كبيرة فى هذه الجولة الأولى من الانتخابات, أهمها عدم التوحد خلف مرشح واحد تدعمه وتحشد له كل قواها, بما يحول دون تفتت أصواتها على النحو الذى تم فعليا. لكن هناك ما شاب العملية الانتخابية من خروقات فادحة, وصلت الى حد التزوير فى حق بعض المرشحين المحسوبين على تيار الثورة ولصالح مرشحين آخرين وعلى رأسهم مرشح الثورة المضادة وبطل موقعة الجمل الذى تم هدار الأحكام القضائية بشأن عزله ومحاسبته على جرائمه وفساده.
ان هذه الخروقات, وان بدت غير جوهرية وغير لافتة للأنظار, فقد تم تنفيذها بحنكة بالغة, بحيث لا تفرز الا هذين النقيضين, قد أدت الى أن يقف الناخبون أمام خيارين أحلاهما مر: فاما أن يختاروا القوى الظلامية التى تسعى الى اعادة البلاد الى زمن العصور الوسطى واهدار كل المكتسبات الحضارية والسياسية والاجتماعية التى تحققت عبر نضال طويل ممتد على طول التاريخ المصرى الحديث, وهو ما رأينا بشائره فى الممارسة البرلمانية البائسة وذات الطابع الرجعى المتخلف والمعادى لكل الحقوق المدنية والاجتماعية والسياسية, واما عودة النظام الفاسد بكل ما يمثله ذلك من كوارث سياسية واجتماعية.
وأظن ان هذا المأزق هو أخطر ما تعرضت له الثورة من مؤامرات منذ اندلاعها وحتى الآن. ويمكنه أن يؤدى الى القضاء المبرم على الثورة وعلى حلم الحرية الذى وعدت به, فى حالة نجاح عملية تمريره. فكلا الخيارين يقف ضد هذ الحلم على وجه التحديد.
وهنا تأتى ضرورة اتخاذ خطوات جريئة وحاسمة لانقاذ الثورة والوطن من هذا المأزق الخطير. ويمكن أن تتمثل هذه الخطوات فيما يلى :
اولآ: لابد من رفض هذا الخيار من حيث المبدأ. والدعوة الى مقاطعة هذه المهزلة الانتخابية والامتناع الشامل عن المشاركة فيها.
ثانيا: لابد من تكثيف النضال من أجل تشكيل مجلس رئاسى مدنى يضم رموز القوى الثورية يتكون من حامدين وابوالفتوح وخالد على .
ثالثا: لابد من حشد الارادة الشعبية فى اتجاه تعطيل وافشال هذه الانتخابات بأية صورة ممكنة.
رابعا : الانتباه الى الأهمية الاستثنائية لمعركة الدستور وعدم الالتهاء بالأحداث الصاخبة التى نمر بها عنه, بل لابد من اعادة الطريق السياسى الى مساره الصحيح والمنطقى باعادة شعار "الدستور أولا". فالدستور هو معركة الهوية الوطنية والتى سيتحدد على ضوء الانتصارفيها مستقبل طموحات شعبنا فى نظام حكم مدنى وديمقراطى يحفظ الحريات والحقوق المتساوية لجميع أبناء الشعب على مختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية والجنسية. انه يمثل المعركة التى سيتحدد على ضوء نتائجها مستقبل وحدة شعبنا ووطننا, وسيقطع الطريق, فى حالة الانتصار فى معركته, على المشروع الرجعى القروسطى للمتهوسين الدينيين.
فهل سنستطيع الارتفاع الى مستوى تحديات المرحلة وتحقيق الانتصار لثورتنا ولأحلامنا فى الحرية والتقدم ؟؟