المديونية الخارجية والثورة التونسية

فتحي الشامخي
2012 / 6 / 5 - 08:34     

ليست المديونية الخارجية مسألة ثانوية، في الصراع الاجتماعي الدائر في سيرورة الثورة التونسية الراهنة، وإنما تقع في قلب هذا الصراع، باعتبارها تثير مسائل اقتصادية وسياسية واجتماعية تتعلق بمسألة السيادة الشعبية الوطنية، والهيمنة الأجنبية، وتقاسم فائض القيمة والحقوق الاجتماعية لعموم التونسيات والتونسيين.

إنّ محاور هجوم الثورة المضادة عديدة ومتنوعة، لكنّ أبرزها على الاطلاق هي المديونية والاستثمار الأجنبي والتبادل الحرّ. ولقد مثلت المديونية قبل الثورة آلية نهب واستغلال للمجتمع التونسي، وهي لا تزال كذلك بعدها. ولقد كانت حجر الزاوية في نظام بن علي، الذي ثار ضده الشعب التونسي، فيما يمثل استمرارها شرط بقاء هذا النظام. لذلك فإن نجاح الثورة يتطلب الشروع في القطع مع منطق المديونية السائد، وتعطيل سير هذه الآلية.

ويُعَد البنك المركزي المؤسّسة الأساسية التي تمارس من خلالها الدوائرُ المالية الامبريالية سيطرتَها على الاقتصاد المحلي، والتي يتم بواسطها التحكم في السياسة العامة للدولة. وهو ما يفسر حدة الجدل حول دور هذه المؤسسة، وموقعها في الصراع الاجتماعي الذي أطلقته الثورة، وخاصة دورها في إدارة ملف المديونية الخارجية.

نشأ البنك المركزي التونسي، سنة 1958، كرمز للسيادة الوطنية ضد الاستعمار، لكن هذه المؤسسة المالية الهامة تحولت، في ظل حكم بن علي، إلى الذراع المسلحة للإمبريالية، إلى آلية دمار شامل ضد تونس. ثم عندما تمكنت الثورة من طرد الدكتاتور، استولت الدوائر المالية الامبريالية على هذه المؤسسة، لتستعملها كسلاح ضدّ الثورة، حيث تم تنصيب أحد كبار موظفي البنك في واشنطن، التونسي الجنسية، على رأس البنك، منذ يوم 17 جانفي/كانون الثاني2011، وهو لا يزال في منصبه، على رغم الانتخابات التي أزاحت من السلطة كل الطاقم السابق، وأفسحت في المجال للحكومة الائتلافية الحالية. لكن محافظ البنك المركزي، الذي يساوي منصبه رتبة وزير، ظلَّ في مكانه لا يكترث بالانتخابات، ولا تقدر عليه الحكومة التي جاءت بنتيجتها.

إن قوى الثورة المضادة تدرك تماماً القيمة الاستراتيجية لمعركة المديونية، لذلك فهي ما انفكت تدفع الحكومات التونسية المتعاقبة، بعد الثورة، بما فيها الحكومة الائتلافية المنتخبة الحالية، نحو المزيد من الاستدانة.

يقول جون أدامس، الرئيس الثاني للولايات المتحدة الامريكية: «هناك طريقتان لغزو أمة ما وإخضاعها: الاولى بواسطة السيف، والثانية بواسطة الديون». وهو ما يؤكده تاريخ تونس، حيث مثلت المديونية خلال القرن التاسع عشر مدخلاً أساسياً لفرض الاستعمار المباشر عليها. وهو ما يتأكد كذلك من خلال تجربة نصف القرن الأخير، وخاصة بعد بداية الثورة. ما دفع جون زيغلار، وهو صديق الثورة التونسية للقول بأنّه «لم تعد هناك حاجة إلى رشاشات ونابالم ومدرعات لاستعباد الشعوب ولإخضاعها، فالمديونية تضمن ذلك اليوم.»

وفي هذا الإطار تمّ، يوم 20 أفريل/نيسان2011، في مقر البنك العالمي بواشنطن، أي في مقر أحد أبرز مراكز قيادة العمليات الحربية الاقتصادية، الموجهة ضد شعوب العالم، التوقيع على اتفاق نوايا تمنح بمقتضاه الادارة الأمريكية، زعيمة الامبريالية العالمية، الحكومة التونسية، ضمانها لقروضها الخارجية القادمة.وتأتي هذه الهدية المسمومة في إطار الخطة الامبريالية الرامية إلى إنقاذ النظام القائم، وتحصينه ضد الثورة، وذلك من خلال تمكين الحكومة من معالجة الأوضاع المستعجلة عن طريق كم هائل من الديون الخارجية لن تزيد تونس إلا تبعية وخضوعاً للنظام الرّأسمالي العالمي.

أمريكا عدوّة الشعوب! هذا الشعار يعكس الطبيعة اللاديمقراطية للإدارة الأمريكية، منذ قرن من الزمن على الأقل، أي تاريخ الحروب الامبريالية ضد الشعوب التي تتوق إلى الانعتاق والتحرر الوطني. وللتذكير فقط نستشهد ببعض الحروب العدوانية البارزة، منها تلك التي خاضتها ضد فيتنام (1955 ـ 1975) والعراق (2003 ـ 2011) وأفغانستان (منذ 2001) وبشكل خاص العدوان المتواصل من ما يزيد عن نصف قرن ضد الشعب الفلسطيني، من خلال دعمها المتواصل واللامشروط للكيان الصهيوني. وهي تمنح اليوم الحكومة التونسية، التي يتزعمها حزب النهضة الاسلامي، ضمانها، لكي يتسنى لها الحصول في أقرب الآجال وعلى نطاق واسع على المزيد من الديون الخارجية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه هي المرة الثانية التي تمنح فيها هذه الادارة هذا الضمان، بعد دولة إسرائيل سنة 2002.

ويعلم سادة العالم علم اليقين أن كل ثورة شعب يتحرّر من خلالها من الهيمنة والاضطهاد هي مرحلة جديدة في مسار واحد، هو مسار إسقاط الإمبريالية. وبالتالي يجب أن نفهم هذه المبادرة على اعتبارها عملاً عدوانياً تجاه الثورة التونسية، الغاية منه التصدي لمحاولة الافلات من قبضة الامبريالية، التي تضعها الثورة على جدول الأعمال في تونس. إنها محاولة انقلابية ضد هذه الثورة، كما كان الشأن في الماضي، حين مولت الإدارة الأمريكية عديد الانقلابات، مثل الانقلاب ضد محمد مصدق في إيران سنة 1953، أو الانقلاب ضد سلفاتور ألندي في الشيلي سنة 1973، أو تدبير اغتيال الزعيم الافريقي الشاب توماس سانكارا، رئيس بركينا فاسو سنة 1987. لكن الفرق الوحيد هو في الشكل، إذ ليس من الضروري استعمال القوة العسكرية حيث تكفي الاجراءات الاقتصادية لتحقيق الهدف المنشود.

إن بقاء النظام، الذي كان يحرسه بن علي، يستوجب استمرار آلية المديونية. في حين يشترط تقدم الثورة التخلص من هذه الآلية. لذلك فإن أي جدل حول هذه المسألة يجب أن يوضح الخلفية الاجتماعية التي ينطلق منها، فإما استمرار النظام القائم، أو تجاوزه.

إن المطالبة بتعليق تسديد خدمة الدين، في إطار تعبئة الأموال العمومية للاستجابة للحاجيات الاجتماعية الملحة للبلاد، وانجاز تدقيق للمديونية العمومية الخارجية، وصولاً إلى قرار وطني سيادي يقضي بإلغاء جزء منها أو كلها، بعد إثبات كونها ديوناً كريهة وغير شرعية، هي خطوة هامة في اتجاه التغيير الجذري للنظام القائم.

كما تعلم حكومات دول الاتحاد الأوروبي ما تحمله الثورة التونسية من محتوى تحرّري اجتماعي وديمقراطي معاد للإمبريالية، وتحولها إلى نموذج يحتذى، لا فقط من قبل الشعوب العربية، بل وأيضاً من قبل أغلب الشعوب، بما فيها عديد الشعوب الأوروبية، وصولاً إلى وال ستريت، قلب المالية الرأسمالية العالمية.

لذلك، وبالإضافة إلى محور المديونية، تعززت الحرب الاقتصادية ضد الثورة التونسية بمحور آخر، كان له دور هام قبل الثورة، وهو مرشح لاحتلال مكانة هامة في الأشهر القادمة، يتعلق بتوسيع دائرة التبادل الحرّ وتعميقه في إطار الاستراتيجية الامبريالية الأوروبية، التي تحمل اسم «الشراكة الأورو-متوسطية»، والتي كانت تونس سنة 1995 أولى ضحاياه في منطقة جنوب المتوسط.

تحمل الخطة الجديدة اسم «منطقة التبادل الحر المعمق والشامل»، وقد أوكلها مجلس الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي للمفوضية الأوروبية، وتم الافصاح عنها من خلال بلاغ للمفوضية، بتاريخ 14 ديسمبر/كانون الأول 2011. ويعد الهدف المعلن للخطة الأوروبية الجديدة، كما ورد في نص البيان الصادر عن المفوضية الأوروبية: «إدماج الاقتصاد في السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي.» وتحديداً مواصلة تحرير القطاع الفلاحي وقطاع الخدمات، وبشكل خاص خدمات النقل الجوي والأسواق العمومية. كما تتضمن الخطة مشروع اتفاق حماية الاستثمارات الرّأسمالية الأوروبية في تونس، بالإضافة إلى قضايا الهجرة والأمن الأوروبي.

ولقد انطلقت المفاوضات بين الجانبين التونسي والأوروبي في كنف السرية. أما ما تم الاعلان عنه فلقد ورد في خطابات نوايا حول «الربيع العربي»، و«الانتقال الديمقراطي»، و«تعزيز التعاون المشترك». ومما يدل على ذلك ما ورد في البيان المذكور من تأكيد على بدايتها. ثم تحول الوزير الأول حمادي الجبالي، يوم 2 فيفري/شباط 2012، إلى بروكسيل، لنفس الغرض، ثم استقباله، في تونس، يوم 9 مارس/آذار، للوفد التفاوضي للمفوضية الأوروبية، الذي كان يقوده الممثل الخاص للاتحاد الأوروبي لمنطقة شمال أفريقيا. علماً بأن هذه المفاوضات تجري الآن في ظل تعتيم إعلامي شبه كامل، بالأخص من الجانب التونسي. فعلى سبيل المثال اكتفت الخارجية التونسية بالبلاغ التالي حول زيارة الجبالي إلى بروكسيل: «تندرج هذه الزيارة في إطار تعزيز العلاقات ما بين تونس والاتحاد الأوروبي، وذلك بالخصوص في منظور شراكة متميزة ما بين الطرفين.»

وبالتالي فإن الحكومة المنتخبة التي حملتها الثورة إلى السلطة تمارس المفاوضات السريّة على الشعب الذي انتخبها، وذلك في مسائل هامة تحدد مصيره، تماماً كما فعل بن علي سنة 1995، عندما شرع في التفاوض حول منطقة التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي. كما يمثل شروعها في المفاوضات بصدد الخطة الأوروبية الجديدة إجراء لا ديمقراطياً، إذ لم تتلق هذه الحكومة تفويضاً من الشعب التونسي لكي تتفاوض في مسألة استراتيجية، على غاية من الأهمية. لقد كان موضوع الانتخابات الأخيرة كتابة الدستور وليس التفاوض بخصوص مصير تونس، على امتداد العقود القادمة. لأن التفاوض حول اتفاق يضمن الحماية المطلقة للاستثمارات الرأسمالية والمصالح الأوروبية، بشكل عام، يعد تهديداً للسيادة الوطنية، وتكبيلاً خطيراً للإرادة الوطنية، التي ستفرزها الانتخابات القادمة.

هذه هي بإيجاز أبرز محاور مناورات الثورة المضادة، ضد الثورة التونسية، التي تقودها الامبريالية العالمية، بتواطؤ مخز من الحكومة، التي يقودها الإسلاميون. ولكن الطبقات الشعبية التونسية، وفي مقدمتها جماهير الشباب، وخاصة منه المعطلين عن العمل، الذين طردوا الدكتاتور، غير مستعدين لأن يركعوا من جديد.