تأملات حول الحيرة الانتخابية في مصر وغياب التنظيم الثوري


يوسف يوسف المصري
2012 / 6 / 4 - 02:17     

هذه الحيرة الضاربة اطنابها في ربوع مصر حول انتخابات الرئاسة لها ما يبررها. فلسنا ازاء ثورة يقودها حزب ثوري حقيقي بوسعه ان يشق طريقه الخاص من هذا الميدان الذي يضيق على اتساعه فاذا به لا يفضي الى اكثر من ثلاثة دروب ضيقة. اما مرشح النظام او "مرشح السماء" او الاعراض عنهما معا. ويضم مؤيدو كل من المتنافسين رؤوسا لا يستهان بعددها يذهبون الى ما ذهبوا اليه كراهية في الآخر وليس حبا فيمن يناصرون. اما من يعرضون عن التصويت فمنهم من فعل ذلك منذ البداية في تعبير عن فهم لمدى عبث المشهد برمته ومنهم من ناصر مرشحا بعينه ثم انتقل الى المقاطعة بسبب نتائج الجولة الاولى وليس بسبب اعراض حقيقي عن الداعين الى بيع بضاعة مزيفة يقال في الاعلان عنها ما قاله مالك في الخمر.
الانتخابات الرئاسية في مصر لن تحقق للناس ما يبغون. لا خبز. ولا حرية. ولا عدالة اجتماعية. بل ان نجاح اي مرشح كان لم يكن ليحقق تلك الاهداف على عموميتها. فقد كانت آلة الدولة ونظامها وبيروقراطيتها وادواتها على حال واصبحت على نفس الحال. ويمكن لرئيس الدولة ان يكون فعالا في حالة واحدة في هذه الظروف وهي ان يمثل البناء الذي يقف فوقه. اما ان كان لا يفعل – اي اذا كان "ثوريا"- فان ذلك البناء كان كفيلا بلفظه بعد شهور. ازمات في الوقود والطعام وحالات قتل واعتقال وانفلات امني شامل وغيرها مما كان كفيلا بان يحشد الخلق في ميدان التحرير من باب سخرية الزمن ليطالبوا باسقاطه وعودة اللصوص.
وهذا هو حال مصر في هذه اللحظة. نحن امام ازمة سياسية حقيقية لا تتلخص ابدا في بؤس الخيار بين مرشحين للرئاسة وانما تتلخص في ان هذا الميدان المخضب بدماء الشهداء يخلو من اي تنظيم ثوري حقيقي. فاذا تناولنا الامر مما هو قائم فان افضل ما يمكن عمله في اللحظة الحالية هو الضغط على اي من المرشحين للحصول على اكبر قدر ممكن من الضمانات المعلنة التي توسع هامش الحريات السياسية في الزمن اللاحق. وبالرغم من كون تلك الضمانات مشروطة تماما بقدرة من يريدونها على ممارستها فعليا دون تعهدات مكتوبة او معلنة فان حمل هذا المرشح او ذاك على اعلانها على الملأ سيفيد في المعارك المقبلة الى حد كبير. لقد اكتفى مرشح النظام ببيان مقرؤ من غيره على قناة تلفزيونية كوميدية فيما اكتفى مرشح الاخوان برفض الموافقة على المجلس الرئاسي. الا ان ذلك لا ينبغي ان يعني وقف جهود حمل اي منهما على الاعلان على رؤوس الاشهاد بتعهده بحماية الحريات الديمقراطية التي تم انتزاعها.
ولا ينبغي لذلك ان يروج لاي اوهام. فتلك الضمانات لا تعني شيئا الا من زاوية واحدة وهي المساهمة في بلورة اجماع شعبي على فهم ان تلك هي حقوق باتت مكتسبة بثمن دماء الشهداء ومن ثم جعل مهمة التراجع عنها مستقبلا مهمة اصعب. كما ان تلك الضمانات لا تعني التزاما بالتصويت لهذا او ذاك. انها ضمانات تقدم الى من خرجوا للاطاحة بالنظام فوجدوا انفسهم يواجهونه مرة اخرى. انها ضمانات تقدم لم سينتخب مرشح النظام ومن سينتخب مرشح الاخوان ومن سيرفض المشاركة في هذه المهزلة. انها بالاحرى ضمانات لا تتصل بانتخابات الرئاسة كواقعة على مسار الاحداث كما انها لن تفضي في ذاتها الى حماية الحريات الديمقراطية التي اكتسبت اذا غابت حركة الناس التي تطالب بحقوقها.
وموقف المقاطعة لم يكن ابدا مؤسسا على ما يمكن ان يسمى "تطهر مبدأي" فهذه العبارة اللاهوتية لا محل لها من الاعراب الا لدى "فقهاء" الثورة. كما انه لم يكن مؤسسا على استسهال موقف وسط خيارات صعبة. فكما اشرت من قبل قليل فان اي رئيس – اي رئيس – كان سيجد نفسه عاجزا عن التغيير. ذلك ان ثورة 25 يناير ليست في قاموس التاريخ الا مقدمة للثورة المصرية القادرة على تغيير النظام حقا. من هنا فان انتزاع ما يمكن انتزاعه من مكاسب على الصعيد القانوني والسياسي بعد تكريسها عمليا يجعل من مهمة التراجع عنها مهمة اكثر صعوبة وان لم تكن مستحيلة بطبيعة الحال.
لقد باتت مهمة تأسيس الحزب الثوري الجماهيري الواسع النفوذ مهمة بالغة الالحاح. وليس من المفيد الآن استيراد تركيبات انتجتها عصور مضت فهذا ليس بالموقف الثوري من الاصل. ان تأمل تجارب الاحزاب الثورية في التاريخ يفضي الى انها نشأت على غير ما انتهت اليه. وقلما يقدم لنا التاريخ تجربة لحزب ثوري لم ينشأ على نحو ما ثم يتبدل خلال قيادته لطبقته الى نحو آخر. ومغزى ذلك هو ان بالامكان تعويض غياب الحزب الثوري الحقيقي في مصر بسبب قمع النظام على مدار 60 عاما او بسبب فشل القيادات وقصر قامتها مما افضى الى اعتبار ان "الحل هو الحل" سواء كان حلا طوعيا او حلا يطبق بصمت كصمت القبور بالامكان تجاوز هذا الفشل بصرف النظر عن اسبابه عبر تبني مقاربة مختلفة تماما. تلك هي مقاربة الامر من زاوية تشكيل تنظيم جماهيري واسع يضم اكبر عدد ممكن من القوى حول "خطة عمل" ومجموعة من الاهداف الديمقراطية.
ولا يعني ذلك باي حال ان على "الحلقات" الثورية ان تذوب في هذا التنظيم الجماهير الواسع. ان مهمتها تتلخص في توسعة انتشار رؤيتها وتصحيح هذه الرؤية في الوقت ذاته. اي ان مهمتها ان تنتقل الى تأسيس الحزب الثوري الذي بوسعه ان ينجز مهمة تغيير النظام. بل ان بلورة نظرية ثورية حقيقية في قضية التنظيم في هذه اللحظة التي نعيش لم تحدث الا بما كان القدامي يسمونه "النزول" الى الجماهير. ان هذه الجماهير وفي مقدمتها الطبقة القادرة حقا على ازالة النظام بالمعنى الدقيق للعبارة هي مادة الثورة وموضوعها. وها هي الجماهير تملأ شوارع مصر. وفي هذه اللحظة يتعين استعادة كلمات المفكر الثوري الاكبر حين اشار في ظروف مشابهة الى ان خطوة عملية واحدة افضل من عشرات البرامج. ولا ينبغي الوصول من ذلك الى تأجيل قضايا الصراع النظري الا ان هذا الصراع لن يحسم ابدا في غرف مغلقة ولا بمناقشة "نمط الانتاج الآسيوي". انه سيحسم بابراز قدرته للجماهير التي يقود على وضع التكتيكات الصحيحة وقيادتها بالفعل نحو انتصارها.
الا ان هذا المسار يعني ضمنا ضرورة قبول تلك الحلقات – على الرغم من اعراض بعضها عن نجس الليبرالية والانتهازية والتحريفية واشياء اخرى كثيرة مما تجود به قرائح المتطهرين – بكل تلك الاشياء القبيحة والقذرة مما يتردد في الاحزاب الليبرالية والانتهازية والانخراط في عمل ثوري حقيقي ينقل كتلا ثورية من الناس من خارج تلك الاحزاب ومن داخلها الى ارض رؤية هذا او ذاك من تلك الحلقات كي يتسنى لها ان تتحول الى حزب ثوري. ان بوسع اي عدد من المثقفين الثوريين الآن ان يجتمعوا ويعلنوا عن انفسهم كتنظيم ثوري ويخرجون بعد ذلك في حالة من الرضى العميق عن الذات للاشتباك في مناقشات حول طبيعة الثورة القادمة مع حلقات اخرى. وهذا هو على وجه الدقة ذات منطق التحلق مرفوعا الى قوة اعلى. انه اجترار ذاتي لا اكثر.
لقد حلت لحظة القبول ببرنامج يشارك فيه اعرض قطاع ممكن من الناس قد يأتي مكتوبا بلغة ليبرالية نجسة او بمفرادت انتهازية اكثر نجاسة. انه برنامج يدافع عن الحريات وقد يصاغ بكلمات من قبيل "العدل" و"العدالة الاجتماعية" و"التوزيع العادل للثروة" و"الفصل بين السلطات" و"استقلالية البرلمان" وهي جميعا عبارات تستخدمها الطبقة الحاكمة ذاتها في سعيها الى خلود نظامها. بعبارة اخرى حان الوقت كي يلتقي اليساريون واجنحة من الليبراليين حول برنامج فضفاض يحقق اهدافا مرحلية تدفع بكفاح الطبقة العاملة خطوة الى الامام.
الثوريون الحقيقيون يحملون هوايتهم في عقولهم ويصارعون افكار الخصوم اينما وجدوا. ان على تلك الحلقات الثورية ان تنهي عزلتها الاختيارية المتطهرة دون ان تفقد رؤيتها المنهجية لما يحدث. هذا الجسر وحده يتيح الخروج من الازمة التنظيمية الراهنة التي يكشف عنها باقسى العبارات ما يحدث في مصر الآن. وعلى تلك الحلقات ان تراجع مواقفها ورؤيتها بقدر تفاعلها مع الآخرين دون النظر اليهم باعتبارهم الطرف "المتخلف" في المعادلة الحسابية القديمة التي كانت تفترض ان "الوعي" موجود مسبقا وانه يتحرك كطائر اغريقي اسطوري فيهبط على "التلقائية" ليلقحها تلقيحا وهكذا يولد التاريخ. ليس ثمة وعي ثوري موجود مسبقا ومعدا وجاهزا على هيئة حيوانات منوية للحقن في رحم التلقائية. لقد حكم هذا الابتذال مسار الامور في الحركة الثورية المصرية طويلا عبر آفاقين متاجرين بنظرة الثورة كما يتاجر شيوخ القنوات التلفزيونية بالدين. فالشيوخ على الجانبين يمطرون الآخرين بما يكفي من "العلم" ليس لضمان مشاركتهم وانما على العكس تماما. لضمان اخراسهم.
ان بلورة خط ثوري ناظم لن يتحقق من الاصل الا عبر انخراط اعضاء تلك الحلقات الثورية التي قد يكون لديها القدرة على الامساك بالنهج الثوري في عمل حزب جماهيري اوسع نطاقا يرفع رايات تختلف مع هذا النهج الثوري ذاته ولكنها تتفق معه في خطة عمل ومجموعة من الاهداف المرحلية المؤقتة. ويجب نبذ تلك الاتهامات الصبيانية بان هذا او ذاك انضم الى مجموعة كذا او كيت. ان المهم حقا هو ما يفعل هذا او ذاك في اي اطار يوجد. فاذا كان نشطا في الحي الذي يسكنه وهو حي يكتظ بمختلف انماط الافكار والاراء والمواقف فان من المقبول ان يكون نشطا في تنظيم جماهيري واسع يتفق معه على الاقل في عدد من الخطوات العملية والبرنامجية وان اختلف معه في اشياء كثيرة اخرى. وبروز هذا او ذاك في نقد مقاربة التنظيم للمواقف التي يواجهها الناس هي التي ستجعله قادرا على ان يعمق فهم مختلف ليس للناس باعتبارهم طبقات مختلفة وانما لما ينبغي ان يكون عليه موقف التنظيم. ان هذا المخرج – على نجاسته – سيضيف بسرعة كبيرة الى شروط تأسيس الحزب الثوري الحقيقي بما هو قادر على "تلقيح" الوعي وتلقيح التلقائية في آن ان جاز التعبير. الا ان هذا المخرج يحتم تمسك العناصر الثورية حقا باطروحاتها واستخدام اللغة الدعائية المناسبة في الحديث الى شرائح من الجماهير لم تنلها بعد "الحيوانات المنوية" اياها.
ليس ثمة تجربة تنظيمية افرزها لنا التاريخ كبقشيش او هبة من السماء. وتبدو مشكلة الفهم الخاطئ لكلمة واحدة هي "المبدأية" وكأنها ورقة التوت التي تغطي الطابع اللاكفاحي لبعض الحلقات الثورية في مصر. لقد ايد مفكر ثوري كبير القومية الالمانية والايطالية والبولندية والهنغارية ضد فيينا ولكنه عارض القومية السلافية في نفس اللحظة. وواجه بسبب ذلك اتهاما بالتعصب القومي لالمانيا ولكن السبب الحقيقي لهذا الموقف كان آتيا من نبع آخر تماما. فقد صاغ ذلك الموقف "المزدوج" من منظور غير مزدوج باي حال هو دعم كفاح عمال القارة الاوروبية. لقد كان دعم الحركة القومية الهنغارية التي لم تقدها البورجوازية بل النبلاء لتقويض اسس تقسيم ما كان يسمى ارض القديس ستيفن يهدف الى الحيلولة دون اعادة تأسيس امبراطورية سلالة هابسبورج اذ كانت حساباته السياسية تقول ان امبراطور النمسا وملك بروسيا هما عمودا الرجعية في اوربا وان رؤوس المثلث ستكتمل اذا ما لحقت بهما قيصرة روسيا. وقد رأي ان القوميين الكروات في كرواتيا القديمة يوجهون سهامهم الى هنغاريا وانهم بالتالي حلفاء موضوعيين لعائلة هابسبورج. وليعذرني القارئ على هذه المداخلة الاعتراضية التي اردت منها فحسب ان اقول ان ما هو مبدأي ينبغي ان يتسق مع مصلحة الطبقة العاملة في اللحظة.