كنّا هنا.. وما كانوا هنا


مصطفى القلعي
2012 / 6 / 3 - 23:08     

كنّا هنا في تونس الثائرة.
كنّا شهودا على نظام بن علي وهو يتهاوى شعرة شعرة تحت نبإ كلّ مظاهرة تنطلق وكلّ قنبلة غاز تطلق وكلّ ضربة ماتراك تطال ثائرا وكلّ شهيد يسقط وكلّ أمّ شهيد تنوح.
كنّا هنا نرى الناس فجأة يتحابّون ويتضامنون ويتنادون ويتناجدون ولا يجبنون.
كنّا هنا في تونس أثناء الثورة لا تهليل لأحد ولا تسبيح ولا تكبير.
كنّا هنا كلّ صباح ننزل إلى بطحاء محمد علي حيث مقرّ اتّحاد الشّغل نتسقّط الأخبار ونتفقّد بعضنا ونستلهم بعض جرأة تطفئ نزوع الذّات نحو الخوف.
كنّا هنا ننهض صباحا فنتجوّل في الأحياء حولنا فنرى آثار الثائرين على الطرقات.. إطارات محروقة، متاريس حجريّة.. بقايا خراطيش..
كنّا هنا ورأينا الجميع، ولأوّل مرّة، مجتمعين حول شعار واحد اخير "الشعب يريد إسقاط النظام" محتضنا من قبل شعارات صديقة أخرى "خبز، حريّة كرامة وطنيّة"، "التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق".
كنّا هنا نرى أحلامنا تتجسّد عيانا في الشارع.
كنّا هنا نرى الخوف يموت في الثائرين.
كنّا هنا نرى الشرط تضع أصابعها على الزّناد.
كنّا هنا .. وما كانوا هنا.
كنّا هنا وما كانوا هنا لا خلايا حيّة ولا ميّتة.
رأيت دموع الشيخ راشد الغنذوشي (الذي يستطيب اليوم دعاء: رضي الله عنه، ترى بم شعرت وأنت تسمعه؟ ما الذي حرّكه فيك؟ أكان تصحيحا لإعلان خاطئ من قبل الخليفة السّادس؛ ليس هو وإنّما أنت هو الخليفة..؟؟) ليلة 14 جانفي 2011 مباشرة على شاشة قناة الحوار في لندن، وهو يشاهد فيديو "بن علي هرب" لرفيقنا المناضل الشجاع عبد النّاصر العويني.
ترى لماذا بكيت يا شيخ؟؟ والسؤال يفترض البحث عن سبب البكاء والغاية من ورائه.
بن علي هرب.. بن علي هرب

فارتبكت الفلول.. الفلول التي كانت حاكمة والتي ستصبح حاكمة
تنادت في صمت.
واجتمعت بعيدا كعادتها في التنظّم الحركيّ السريّ غير الثوريّ.. وخطّطت: هذه فرصتنا في الحكم. لقد صدقت نبوءة راشد.
قرّروا حينها أن يحكموا فلا يوجد حاكم يخشونه لأنّهم كانوا يخشون الحكّام.
كانوا يناضلون وما كانوا يثورون ولا يواجهون.
كانوا يرضون بكلّ ما يقسطه لهم الحاكم.. تكتيك، يعني، هكذا يسمّونه.
كان الثائرون في العراء يؤدّون مهمّة ثوريّة ثانية: لجان الحماية.. لجان الكرامة والرجوليّة.
كانت السلطة ملقاة متروكة تعفّف عنها الثائرون فالتقطتها الفلول الحاكمة واشتهاها طلاّبها القدامى حملة مشروع الهلال.
كان الثائرون يواجهون المجهول.. وكانت الفلول تراود السّلطة.. ثمرة يانعة مشتهاة متروكة.. فمدّ يدك باسم الله واقطف.
كنّا طلاّب ثورة وكانوا طلاّب سلطة فجاءتهم منقادة إليهم تجرّر أذيالها كما قال أبو العتاهية.
ما كانوا هنا.. ما كانوا في الساحات ولا في الشوارع ولا في الميادين
كانوا ينتظرون اللحظة المناسبة .. تكتيك، يعني.
كانوا يتصوّرون أنّه لن يسقط سريعا فلماذ يعادونه مبكّرا؟ انتظروا، يا إخوان، فالعجلة من الشيطان، ولننتظر لنرى كفّة من سترجح؟ تكتيك يعني..
ما كانوا هنا..
ثمّ انفلقوا علينا.
انفلقوا مقرّا فاخرا ضخما ليس بعيدا عن مقرّ التجمّع المنحلّ.. مكاتب جهويّة ومحليّة في كلّ شارع وزقاق وقرية وكثيب.
كان الثائرون قلّة وكان غير الثائرين، اللاّمبالون، يعني، كانوا كثرة.
راودوا غير الثائرين وهم كثرة.. والتميمة بسيطة: نحن نخشى الله أمّا البقيّة فكافرون.
هذه كانت لعبتهم.. ومازالت: الإيمان والكفر.. هذا في الجهر طبعا.. في السرّ: السّلطة والهلال غدا..
نجحوا..
ربحونا..
فطلعوا علينا بمجلس مثير للشفقة، لعب صبيان، مجلسا ليفكّر لنا.. يبني لنا حاضرنا ومستقبلنا .. مجلسا من تلك الرّؤوس الملفوفة أغلبها.. رؤوس وجودها هناك هو الدراما في أجلّ صورها.. بل هو العبث التراجيديّ نفسه..
ماذا تفعل تلك الرؤوس هناك؟؟ هي رؤوس بريئة لا تعرف شيئا، استلّوها من دفء عائلاتها.. والقوا بها أمام الكاميرات. فماذا تفعل تلك الرّؤوس هناك؟؟ لا شيء.. فقط ترفع اليد مع الأغلبيّة فقط. يال سخرية الثورة؟؟
ثمّ حكمونا..
حكموا باسم الشرعيّة والأغلبيّة.. وللبقيّة إمّا أن يهلّلوا .. أن يطيعوا.. أو فليصمتوا كفّارا معطّلين لا ديمقراطيّين... وديوان المخازي جاهز.
وسلّطوا علينا لطفي وحبيب والصّادق إعلاميّا وأبا عياض ولا أدري من في الشارع
بالمناسبة.. كان الحماس الثوريّ يهزّني.. ودافعت عنهم.. وكنت مستعدّا للتعاون معهم.. فأنا لا أهتمّ بمن يحكم، سيكون ثوريّا، هكذا كنت أتصوّر واهما.. "وكانوا يعدّون الرّماح"
انخرطوا في سياسة العناد والتعمية (يغطّون عين الشمس بالغربال) سياسة مضحكة.. ليست ثوريّة ولن تكون.. إذا ما أرادوا أن يروا شيئا فلن يروه مهما كانت التكاليف.
سلّطوا علينا أذرعهم المتطرّفة تعمل فينا شريعها السّوداء الدّامية.
قسمونا قسمين على الهويّة فمالوا إلى قسمهم وإن كان متطرّفا وقسوا على قسمنا وإن كان مدنيّا معتدلا.
يحكموننا، نعم،
ولكنّهم .. ما كانوا هنا بيننا
يحكموننا، نعم
شرعيّون، نعم
أغلبيّون، نعم
نعترف بهم، نعم
لكنّنا لا نرى ثورتنا فيهم
لم يحقّقوا للثورة أهدافها
أطفأوا لهب الثورة.. حوّلوه رمادا
حوّلوا الثورة إلى أغلبيّة
حوّلونا إلى أفواه مفتوحة تعجز الحاكمين.. ونحن لسنا كذلك
أنتم حكّامنا.. ونحن معارضوكم
لم تكونوا هنا.. بيننا..
قطفتم الثمرة المشتهاة..
ولكنّنا هنا.. هنا
راشد.. يا راشد: ترى لماذا بكيت ليلتئذ يا حبيبي؟؟؟