موضوعات حول الدوغمائية : المقدمة


هشام صالح
2012 / 5 / 28 - 19:59     

الماركسية دائماً كانت تحت قصف من الانتقادات الاذعة على أساس أنها تعاني من جمود , بالرغم من جوهرها العلمي . المعسكر – الفكري – للماركسية يتجزأ إلى عدة أجزاء ; الماركسيون ( الذين يؤمنون بأن الحياة في تطور دائم , و لا يقفون على اطلال القرن التاسع عشر و العشرين ) , الإصلاحيون ( الذين أزالوا القشرة الثورية لدى الماركسية و تمسكوا بمبادئ العدالة الاجتماعية , و المساواة ألخ ) , الماويون ( الذين يتبعون الخط الثوري و الفكري لدى ماو تسي تونغ ) , الستالينيون ( الذين يتبعون الخط الفكري و الثوري لدى يوسف ستالين ) , التروسكيون ( الذين يتبعون الخط الفكري و الثوري لدى ليون تروتسكي , و بهذا يؤمنون بالثورة الدائمة ) . كل هذه الاجزاء – الأساسية – التي ذكرتها المدروجة تحت المعسكر الفكري للماركسية ساهمت في تجميد الفكر الماركسي و تجريدة من مفهومة الحيوي , بإستثناء الماركسيون الذين لا يقفون على اطلال القرن العشرين ولا يكتبون بأقلام القرن التاسع عشر , و ربما يسأل القارئ : لماذا نسيّ الكاتب أن يدرج " اللينينية " أو " اللينينيون " كجزء من المعسكر الفكري الماركسي ؟ , كل هذه الأطياف , بإستثناء الماركسيين , يؤمنون باللينينية , و جميعهم في القرن العشرين حاربوا بعضهم البعض من أجل إثبات " لينينيتهم " , فماو تسي تونغ , من جانب , رفض النضال السلمي لأن لينين ذكر هذه العبارة في كتاباً ما , و ستالين من جانب آخر , أبتكر المصطلح " اللينينية " ليبتكر لنفسه قوة فكرية تستطيع أن تحارب كل من يعاديه و بهذا يؤمن ستالين أن هو من يلبي أو يطبق أفكار لينين , و تروتسكي قرأ لدى ماركس و لينين حول الثورة الدائمة و بهذا عارض ستالين حين قال " الاشتراكية في بلد واحد ". هنا نجد كيف حولوا – هؤلاء – الماركسية من فكر حيوي إلى فكر جامد ينسب إلى شخصيات معينة و أفكار معينة محاصرة بجدار لا يمكن الخروج منه , و هذا بشكل أو آخر , يسمى الدوغمائية .

الجمود عكس الحيوية , الشيء الجامد لا حس له ليس له حركة, و الفكره الجامده هي الفكرة التي تقف عند محطة معينة لا تريد أن المتابعة, واقفة عند طلل لا تريد تركه , واقفة عند تراث و تاريخ تقدسه , هي الفكرة التي ترى من نافذة واحدة , من جانب واحد من دون الإطلاع على الجوانب و النوافذ الأخرى .
نقد الجمود الفكري أو الدوغمائية , يعني السعي إلى تنشيط الفكر . فالماركسية قبل أي شيء , فكرة حيوية متجددة نشطة لا تتوقف عند محطة أو عند نافذة واحدة , فهي دائماً تسعى إلى تجديد و تطوير نفسها لتلبي استغاثات و حاجات البشر . و لكن ما الذي جعلها – ظاهرياً – فكرة جامدة واقفه على أطلال ثورة أكتوبر ؟ ما جعل أصحابها يقدسون رموزها ؟ ما جعلها تفقد حيويتها التي نادى بها ماركس ؟ , هذه الموضوعات و الأسئلة جوهرية , و لابد من مناقشتها . فتحليل الحاضر لا بد أن يكون تحت منهج فلسفي إرشادي يستطيع تحليل الحاضر , لا يمكننا أن نعود 150 سنة لنعرف الجواب , لا يمكننا أن نرجع إلى الكتب القديمة و نبحث عن الأجوبة و كأننا نبحث عن معنى كلمة في القاموس ,أو مثل المتدين الذي يرجع إلى كتابه المقدس , الحاضر يحتاج إلى عقول حاضرة , و لا يحتاج عقل يعيش في فترة ما بين 1917 و 1991 .
الماركسية ليست جامدة , هي في الأصل حيوية , و لكن , أصحابها و أحزابها هم من تآمر على حيويتها و نشاطها و حولها إلى فكرة جامدة لأسباب عدة , منها , عدم إستيعاب الفلسفة من نواحيها الأساسية مما يؤدي إلى تقديس العبارات و الجمل و الكتب , و الجواب على كل الأسئلة بأجوبة جاهزة تخلو من أي دقة تحليلية. و ايضاً, لتلبية أغراض دعائية مما يجبر الحزب إلى تجميد العقول و الاقلام التي من الممكن تنتقد الفلسفة , و بهذا تتحول الفلسفة إلى عقيدة , أو من فلسفة إرشادية أفتراضية الصحة إلى فلسفة صحيحة مطلقة تخلو من الأخطاء و بهذا لا يمكن انتقادها .
فالمشكلة التي أصابت الماركسية , هي أن أصحابها حاولوا بكل شتى السبل أن يجمدوها تحت مناهج مكتوبة و دساتير محفوظة , فبيان الشيوعي اصبح بيان مقدس , و كتاب رأس المال أصبح المرجعية الفقهيه , و كتابات لينين أصبحت كتابات سماوية يجب تطبيقها , و النموذج السوفييتي و الدستور السوفييتي أصبح دستوراً محفوظاً بإعتباره دستور مقدس و صحيح و مكتمل . هذا النوع من الجمود قتل الحيوية الفكرية لدى الماركسية , و رفض تجددها في القرن العشرين , فمن قال شيئاً ردوا عليه : (( مرتد )) و من كتب شيئاً قالوا عنه : (( تحريفي )) , و هذا ما أدى إلى تكوين أحزاب ذات قيادات دوغمائية رافضة كل شيء جديد و حيوي .
من المعروف في أنجلترا الفيكتورية أن " الإعترافات " أو الجواب على الاسئلة الشخصية, على شكل استبيان نوعاً ما , كان شعبياً و منتشراً , و قد مارس كارل ماركس هذه العادة الشعبية حين كان في أنجلترا , فضمن الأسئلة التي طرحت عليه سُئل ما هو شعاره Motto , فجاوب : De omnibus dubitandum الشك في كل شيء, و هنا نرى كيف كارل ماركس , بكونه فيلسوف و مفكر , يشك في كل شيء , فلم يقول ماركس : الشك في كل شيء ما عدا نظريتي , فهو من خلال هذا الجواب يبين أن الإنسان يجب أن يشك في كل شيء لأن كل شيء قابل للشك , و كذلك نظريته , لا توجد حقيقة مطلقة هناك فرضيات و تأويلات فقط , و هذا ما يضيف الروح العلمي للماركسية , فهي قابله للشك , و من خلال الشك نستطيع أن نفهم الواقع الحالي , و نحلل بطريقة واقعية و صحيحة بدلاً من أستذكار و أسترجاع ذكريات القرن التاسع عشر و العشرين .
يدخل البشر في القرن الواحد و العشرين , قرن جديد , عالم جديد , عالم الإنترنت و التكنولوجيا , عالم متواصل ليس له حدود بين الدول , فالأمريكي يستطيع أن يكلم المصري خلال ثوان , و المصري يستطيع أن يكلم الصيني خلال ثوان , أصبح الولوج و الإستطلاع على العالم شيء سهل , و العالم أصبح في شكل قرية أو بكلمات أخرى يمر البشر في مرحلة العولمة , التي لا يمكن أن ننكر توقع ماركس لها , فالرأسمالية تختلف عن الرأسمالية الموجودة في زمن ماركس , لا ريب في ذلك , فالرأسمالية في زمن ماركس كانت في ريعان شبابها , أما الآن قد تحولت إلى قوة عالمية و قطبية مسيطرة , فلا يمكننا أن نحلل الرأسمالية اليوم بالعودة إلى الكتب التي يكسوها الغبار , لأن لا يمكننا تركيب مفاهيم قرن العشرون في القرن الواحد و العشرين ! , ماركس قد وضع الأساس و نحن يجب أن نبني فوق هذا الأساس لا أن نبجله و نقدسه , لأن هذا الأساس مجرد أساس غير كامل و لا بد من البناء عليه لنعرف و نحلل وفقاً لمعطيات العصر الحالي , ليس لمعطيات عصر مكانه في المتاحف .