الميكيافيلية المقيتة وخدماتها الجليلة لنصرة حكام الاستبداد


محمد بودواهي
2012 / 5 / 15 - 18:25     

لا شك ان عددا مهما من المبادئ والمفاهيم التي تشكل مضمون الدولة الحديثة، هو نتاج الحلول الفلسفية التي قدمها مفكرون عظام من أمثال جان جاك روسو وكارل
ماركس وجون لوك وتوماس هوبز وهيغل وابن خلدون وابن رشد وغيرهم ، من كبار الفلاسفة الذين حققوا اختراقات اساسية في الفكر السياسي وانتقلوا به من مرحلة التاملات النظرية الى مرحلة تقديم الحلول العملية الإيجابية النافعة للبشرية في سيرورتها التاريخية الطويلة .....

غير أنه عند دكر المفكر والسياسي والكاتب الايطالي نيقولو مكيافيلي سرعان ما تقفز الى الذهن صورة شخص طماع انتهازي وصولي خائن لا يتورع عن فعل أي
شيء مقيت وسيء وخبيث ما دام يوصله الى اغراضه وأهدافه ومصالحه الضيقة .... ومن هنا اقترن اسم مكيافيلي والمكيافيلية بعبارة «الغاية تبرر الوسيلة»، وهي من العبارات التي تستعمل في الاشارة الى الفارق بين الاخلاق والسياسة او انعدام الاخلاق في السياسة. مثلها تماما مثل عبارة «فرق تسد» ....

إن الميكيافيلية مبدأ سياسي ابتدعه المفكر الايطالي نيكولو ميكيافيلي الدي عاش في الفترة بين (1469 1527م) وتعني سياسة المراوغة والخداع والتآمر .. ومضمون هذا المبدأ يقضي باتباع أسلوب الغش والخداع والمراوغة والتسويف وسوء النوايا واستخدام الدهاء والحيل وانتهاج الأنانية والضرب تحت الحزام في سبيل تحقيق الأهداف الضيقة المطلوبة دون اعتبار للأخلاق أو المبادئ أو الدين أو الضمير .... إد أن المبدأ الأساسي والوحيد عنده هو أنا وبعدي الطوفان .....

فلا يوجد موضوع يفكر فيه أي حاكم إلا وتجد كتاب "الأمير" لمكيافيلي يتناوله بطريقة مفاجئة وصادمة أيضا ، كموضوع الولاء ومحبة الرعايا للحاكم ، وطريقة تدبير صورته لديهم، والمعايير التي على الحاكم الحفاظ عليها، والأخرى التي عليه تجنبها ، بالإضافة لموضوع تدبيره للولايات والممالك ، وضرورة الاعتماد على الترهيب والتخويف في الحفاظ على وحدة دولته ، سواء التي استولى عليها بقوة السلاح أو التي انضمت طواعية ، وطريقة تدبيره للجيش والمرتزقة والوزراء والبرلمانيين والأحزاب والمثقفين ....وليس المهم أن يكون رحيما بل عليه ألا يسيء استخدام الرحمة ، وليس أفيد من ظهوره بمظهر الفضيلة، كما لا يجدي أن يكون شريفا وفاضلا دائما، بل كيف يستخدم الفضيلة والشرف ....فهو يقول في الباب السابع عشر من ( الأمير) : "من الواجب أن يخشاك الناس وأن يحبوك، ولما كان من العسير الجمع بين الأمرين فالأفضل أن يخشوك على أن يحبوك، هذا إذا ما توجب عليك الاختيار بينهما…ومصير الأمير الذي يركن إلى وعودوهم دون اتخاذ أي استعداد هو الدمار والخراب." ...

فالمكيافيلية لا تعطي اي وزن للأخلاق والمبادئ والدين إلا في اطار تحقيق المصلحة والهدف النهائي الذي يسعى اليه الحاكم والدولة ..., وفي هدا الشأن ألف هدا الفيلسوف البراغماتي الوصولي الانتهازي كتاب الأمير ، وهو الكتاب الدي كان سابقا والدي لا زال لحد الآن والدي سيبقى إلى الأبد الأداة التي تسترشد بها كل قوى الطغيان والاستبداد التي تحكم شعوبها بسياسة الحديد والنارمن جانب ، و زرع التفرقة ونصب المكائد من جانب آخر ، وممارسة التضليل والتعتيم والإلهاء بل وحتى التجهيل من جانب ثالث ... ، إنه الكتاب الدي يستهدف فيه مبدأ توثيق حكم الدولة على أساس من القوة والبطش البدني والدهني والنفسي.. .. وهو ما يفرض على الحاكم المستبد اختيار كل معاونيه ومستشاريه من ذوي الكفاءة العالية والخبرة الواسعة في المجالات المتعددة ......

لقد برر مكيافيلي قيام الأمير بأي عمل لتحقيق هدف تقوية الدولة الحفاظ عليها ، حتى لو كان مخالفاً للقوانين والأخلاق ("في هده الأمور ينبغي النظر للغاية وليس للوسيلة ،" كتبها برسالته إلى بيير سوديريني المعروفة باسم غيريبيتسي (Ghiribizzi) ومنها يـُنـْسـَب خـَطـَـأً إلى مكيافيلي القول المأثور "الغاية تبرر الوسيلة")، ولكن هذا السلوك يُـتـّبع لتحقيق نجاة الدولة ليس إلاّ، وإن لزم الأمر يجب أن يأتي قبل قناعات الحاكم الأخلاقية الشخصية، ليس لكونه السيد وإنما خادمَ الدولة....

كما قدم ميكافيلي عددا من النصائح والأفكار للحكام والامراء والملوك حيث قال :«وهكذا فمن الخير ان تتظاهر بالرحمة وحفظ الوعود والشعور الانساني النبيل والاخلاص والتدين، وان تكون فعلا متصف بها، ولكن عليك ان تعد نفسك، عندما تقتضي الضرورة، لتكون متصفا بعكسها . ويجب ان يفهم ان الامير ولاسيما الامير الجديد، لا يستطيع ان يتمسك بجميع هذه الامور التي تبدوا خيرة في الناس، اذ انه سيجد نفسه مضطرا للحفاظ على دولته، لان يعمل خلافا للاخلاص للعهود، وللرأفة والانسانية والدين» ....كما يقول في بعض مباحث كتابة : :«على الأمير الذي يجد نفسه مرغما على تعلم طريقة الحيوان، أن يقلد الثعلب والاسد معا، إذ أن الاسد لا يستطيع حماية نفسه من الاشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه امام الذئاب»......

فقد كان الدين مصدر قوة ووحدة الامبراطورية الرومانية في روما القديمة كما كان مصدر قوة عندما وحـّد جميع آلهة البانثيون في وقت سابق . وعلى هذا المثال ركز مكيافيللي حديثه عن الدين ، منتقداً بشدة الدين المسيحي والكنيسة التي على حد قوله كانت لعدة قرون سبب عدم قيام الوحدة الوطنية الإيطالية....؟؟؟ وعلى هدا صور مكيافيلي الدين بأنه وسيلة فعالة يمكن من خلالها السيطرة على الشعب وتسييره وإخضاعه باسم العقيدة الوحيدة . فالدين في نظره - كما أصبح في نظر كل الحكام الاستبداديين الدين اخدوا بفكره - هو دين للدولة التي يجب أن تستغله لأغراض سياسية بحتة ، وأداة يفرضها الحاكم للحصول على موافقة الشعب التامة ...

وفي سيرورة تاريخية طويلة كان كتاب ميكافيللي هدا مصدر إلهام لحكام طغاة ولديكتاتوريات باطشة تركت بصماتها السوداء في تواريخ شعوبها وتاريخ الإنسانية ...فقد كان مصدر الهام لنابليون ، إذ بعد معركة واترلو، عثر الجنود الانكليز على كتاب " الامير" وعليه ملاحظات وهوامش القيصر الفرنسي نابليون . كما ان هتلر وموسوليني كانا من قراء ميكافيللي حيث كان هتلر يضع كتاب الأمير على مقربة من سريره ليقرأ منه كل ليلة قبل أن ينام ، كما جاء في “كفاحي”، كما اختاره موسوليني في أيام تلمذته موضوعا لأطروحته التي قدمها للدكتوراه ، ويذكر ان موسوليني قال أنه :" كل يوم يغرغر حلقه بميكافيللي".... وتأثر به فريدريك ملك بروسيا، وكدلك بسمارك ، و في السويد يشير المؤرخون الى ان الملك ايريك الرابع عشر كان يتبع نصائح ميكافيللي ، التي تقول :" لكي تضمن سلطتك على مدينة عليك بتدميرها"، عندما قام عام 1564 بإحتلال وتدمير مدينة رونيبي . ملكة فرنسا كاترينا، يقال انها حصلت على الالهام من كتاب " الامير" عندما اصدرت الاوامر عام 1572 بالقيام بمجزرة دموية في ليلة بارتالومي ، The
St. Bartholomew s Day massac حيث قام الكاثوليك بقتل خمسة الاف بروتستانتي فرنسي .....

وكذلك فعل الحكام العرب ، فقد ذكر حسنين هيكل في كتابه "كلام في السياسة"، علاقة الملوك العرب بهذا الكتاب ، ومنه فصل دال بعنوان “الحسن الثاني قرأ الأمير أميرا وطبقه ملكا”، وكذلك فعل الأمير حسين ، بحسب ما يرويه هيكل دائما ، ونفس الشيء بالنسبة للملوك والأمراء الآخرين وحكام البعث والشوفينيون الإسلامويون في السودان ...يضم الكتاب 26 فصل ...إد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا نرى صورة ناصعة عن ممارسات تتطابق تماما مع نصائح ميكافيللي ونظريته إد تظهر الصورة واضحة في مصر واليمن والمغرب والجزائر وتونس ودول الخليج كافة .... وتزداد وضوحا على الاخص في سوريا والعراق وليبيا والبحرين ....وكدلك الأمر في إيران والسودان والسعودية دات الأنظمة الإسلاموية الشمولية الرهيبة .....

فأين نحن كشعوب من الوعي بمبدأ مكيافيلي هذا و كيف نواجهه و هو يحيط بنا من كل جانب ، و هل نقاوم هذا المبدأ بمبدأ مساوي له في المقدار و مضاد له في الإتجاه مطبقين قانون علم الميكانيكا (لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار و مضاد له في الإتجاه) أم ننساق مع مباديء النفعية و الإنتهازية حتى نستطيع مواكبة العصر الذي نحياه (عصر النفعية المكيافيلية) و لا عزاء للمباديء و الأخلاق والضمير ...!!!

ان النظرية الميكيافيلية بمحتواها المعروف شائن حقا وقبيح تماما ، وهي اصبحت مع مرور الأيام سبة مقيتة يوصم بها بعض الدعاة والكثير من الحكام ، الا انها من الناحية العلمية كانت موجودة في أعماق النفس البشرية منذ فجر تاريخها، ولا زالت نافذة المفعول ، وستبقى مع الإنسان ما دامت هناك بشرية مستغلة انتهازية وصولية لا ضمير لها ولا أخلاق ....