المثالية الذاتية ... الواقع ذهني...3


وليد حكمت
2012 / 5 / 14 - 12:07     

إن المثالية المعرفية هي أهم صور المثالية في عصرنا الحالي وهي تعني بأن الذهن وحده هو الحقيقي فالمادة هي مضمون ذهني وهي تعتمد على الذهن في وجودها وهي موجودة لا شك ولكن وجودها يمكن تحليله إلى إدراكات ولذا فإن المادة ليس لها وجود موضوعي ومستقل خارج الذهن – كما يقول المثاليون الذاتيون- بل يعتمد وجودها على الذات التي تلاحظ وتجرب خلافا لنظرية افلاطون في المثل والتي يقول فيها أن للصور أو المثل وجود مستقل خارج وعي الإنسان.
ويعتبر الفيلسوف باركلي أشهر الفلاسفة المثاليين الذاتيين وكما يقول عنه ديدرو بأنه أصعب الفلاسفة على من يريد محاربته وأن كان أكثرهم عبثا فهو يقول "المثاليون هم أولئك الفلاسفة الذين لا يعون إلا وجودهم والأحاسيس التي تتوالى في داخلهم فلا يعترفون بوجود شيء آخر" وقد وضع باركلي أصول مذهبه آملا تفنيد المادية وهدمها والتوصل إلى أن المادة وهمية .
يشرح باركلي نظريته ويقول بأن المادة هي موضوع تجربتنا وهي لا توجد في نظرنا إلا بوصفها إدراكات فعندما نقول الشجرة توجد فنحن نقول أن لدينا إدراكا حسيا أو تجربة نطلق عليها اسم الشجرة غير أن هذه التجربة مهما تكن حيويتها لا تضفي على أي نحو وجودا موضوعيا مستقلا على الشجرة التي تظل مجرد تجربة فمعنى أن الشيء يوجد يعني انه يدرك من خلال حاسة واحدة أو أكثر .
عبارة باركلي (وجود الشيء هو كونه مدركا) فليس هناك وجود بمعزل عن الذهن الذي يدخل هذا الوجود في تجربته وعليه فإن الشجرة عبارة عن مجموعة من الإحساسات الذاتية داخل وعينا وذهننا .... فالعالم ذهني بحت ولا وجود للمادة إلا داخل ذهننا فقط ولا ينكر باركلي على أي حال وجود عالم خارجي إنما ينكر فقط وجود عالم مادي مستقل عن الإدراك أي عالما لا يكون فكرة في ذهن ما .... ويتحدى باركلي بقوله (ما الذي يوجد غير ذاتي وتجربتي ).
ويستدل بار كلي قائلا: "ضع يديك في الماء الفاتر، ولتكن إحدى يديك حارة والأخرى باردة. ألا يبدو الماء باردا بالنسبة لليد الحارة وحارا بالنسبة لليد الباردة؟ هل يجب إذن القول بأن الماء حار وبارد في نفس الوقت؟ أليس ذلك هو العبث ذاته؟ قل معي إذن الماء بذاته لا يوجد ماديا مستقلا عنا. فهو ليس سوى اسم نطلقه على أحاسيسنا. فالماء لا يوجد إلا فينا، في ذهننا. المادة باختصار هي الفكرة التي نكونها عنها، فالمادة هي الفكرة!
لا يوجد شيء عدا وعينا وتصوراتنا وأفكارنا. فليس هناك من واقع "خارجي" وكل شيء عبارة عن تصورات عقلية خاصة بنا. حتى إذا ما قضينا على "الوعي" أو "الأنا" اختفى معه كل واقع.
وهكذا لا يمكن أن توجد الكينونة والطبيعة والمادة خارج الوعي، وعيي أنا، ومستقلة عنه.
ولذلك فإن كل شيء تحت قبة السماء وما تحمله الأرض وجميع الأجسام التي تكون هذا الهيكل الجبار للعالم ليس لها وجود بدون ذهن ما وأن وجودها هو أن تدرك وان تعرف وأنها بالتالي إن لم أدركها بالفعل فإنها ستكون غير موجودة على الإطلاق وإما أن تظل في ذهن روح أزلية ما أو (الله) وهو إله غير متهاون أو مهمل في الواجبات الإدراكية فهو مواظب على القيام بالعمل فهو ذو علم محيط ويدرك ما يوجد ويكون باركلي قد علل وجود العالم الخارجي كما يطلب المذهب الطبيعي وفسر أيضا استمرار الإدراكات كما فسر التشابه في إحساساتنا أثناء الحكم على الأشياء بكونه فكرة موحدة في الذهن الإلهي ولذلك يصعب أن تختلف إدراكاتنا لشجرة معينة بل ندركها ونراها ونطلق نفس الحكم ،ويضيف قائلا (قد تكون هناك روح أخرى تدرك[ الوقائع ] مع عدم إدراكنا نحن لها. غير أن الأفكار الحسية والادراكات التي يعالجها ذهن الإنسان – كما يقول باركلي – والتي تتميز بالثبات والنظام والدقة تنم عن ذهن أقوى وأحكم من أذهان البشر .
لقد حطم باركلي العالم المادي المستقل عن الفكرة وفند الإلحاد بأن جعل الله حقيقة لا غناء عنها في كل وجود ولذلك يكون هذا الذهن الإلهي هو الذي يحفظ الكون ويتولاه ويجهزه عند انشغالنا أو نومنا و لتدركه الأذهان المتناهية عند استيقاظها .
و يرى باركلي أن التناقض لا يمكن أن يوجد إلا في الذهن وليس في الواقع الموضوعي. ولهذا يبدو له أنه إذا كانت أحاسيسي متناقضة فما ذلك إلا لأن الشيء الذي تمثله لا يوجد إلا في ذهني وهو ليس سوى وهم وخيال كآلهة البحر التي تتكون من جسد امرأة وذنب سمكة

مأزق التمركز حول الذات

لا بد لأي موضوع لكي يصبح موضوعا للمعرفة من أن يكون موضوعا للتجربة أي أن أي شيء لا يمكن أن ينفذ إلى أذهاننا ما لم يدخل في علاقة ما وهذه العلاقة هي المعرفة (أي الإدراك والتجربة والتعرف بأوسع معانيها) فالأشياء لا تنفذ إلى وعينا إلا من خلال العملية المعرفية وليس هناك من سبيل إلى معرفة ما عسى أن تكون عليه الأشياء بمعزل عن هذه العلاقة المعرفية – أي ما قد تكونه في ذاتها أو لذاتها – لأن من الواضح أنه في اللحظة التي تبحث فيها أي شيء محاولا أن تعرف طبيعته الحقة فإنه يصبح موضوعا للمعرفة وبعبارة أخرى فنحن لا نستطيع أبدا أن نخرج من أذهاننا ونتحرر من عملياتنا الحسية بحيث نقابل الأشياء وجها لوجه وليس في وسعنا أن نتسلل من الخلف ونمسك بالأشياء خلسة وهي على غير استعداد فنحن محصورون داخل وعينا الخاص وكأننا مسجونون سجنا مؤبدا داخل جهازنا الحسي والمعرفي .... إذن سيكون الذهن المدرك هو الحقيقة النهائية للكون .
• المادة ملخصة ومنقحة بتصرف من فصل المثالية لهنتر ميد وكتاب أصول الفلسفة الماركسية لجورج بوليترز