في الرد على مقال خليل كلفت عن اسطورة المرحلة الانتقالية في مصر


يوسف يوسف المصري
2012 / 5 / 13 - 10:02     

في الرد على مقال خليل كلفت عن اسطورة المرحلة الانتقالية في مصر
--------------------------------------------------------------------------------------
فرغت توا من قراءة مقال الاستاذ خليل كلفت الذي نشره في 11 من مايو بعنوان " أسطورة الفترة الانتقالية وحقائق المسار الفعلى للتطورات فى مصر". ولا خلاف مع الكاتب حول الموقف من المرحلة الانتقالية او انتخابات الرئاسة او البرلمان في مصر بعد 25 يناير ولكن ما قدمه الكاتب لا يزال يتضمن بعضا من محاولات سابقة لصك تعبيرات جديدة وادخالها الى القاموس السياسي في مصر في هذه المرحلة.
ولا بأس في ذلك بطبيعة الحال الا ان تكون تلك التعبيرات مخالفة على نحو او آخر للنهج العلمي الذي ارسيت اسسه في نحو منتصف القرن التاسع عشر ولا يزال مهيمنا بقوة على مذاهب دراسة علم الثورة في المجتمعات الانسانية التي تلت ذلك. وفي المقال المشار اليه عاد الكاتب الى عادته القديمة في محاولة ابتكار مقولات جديدة يتعين ان نفحص بسرعة مدى اتساقها مع النهج العلمي في بحث القضية التي تناولها في مقاله.
والموضوعة الجديدة التي طرحها الكاتب والتي سبق له ان طرحها في مقال آخر سأذكره لاحقا هي موضوعة "الديمقراطية من اسفل". ففضلا عن الخلاف مع التعبير من حيث كونه جغرافيا ان جاز التعبير اي انه يفترض ديمقراطية من اسفل مقابل ديمقراطية من اعلى وديمقراطية في المنتصف وهكذا فانه يكشف عن خلط في فهم الفارق بين ما تنتزعه الجماهير الشعبية بكفاحها اليومي من مكتسبات فعلية تجبر السلطة السياسية على تعديل صيغتها السياسية والقانونية وبين اي صيغة اخرى تنظر الى ما تحققه تلك الجماهير باعتباره يقع في واد آخر غير وادي الصراع على السلطة السياسية الواحدة في المجتمع الواحد.
وحتى لا يبدو هذا الكلام مبهما يتعين على ان ابدأ مما كتبه الكاتب نفسه.
يقول الكاتب في النقطة الثامنة من مقالته " ورغم أن المحتوى الموضوعى للثورة، أىْ تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل، بالتفسير العميق لهذه الديمقراطية، يُوجب تحقيق أهداف كثيرة متنوعة للغاية وقابلة فوق ذلك للربط بفض الاعتصام أو الإضراب فإن هذا الربط يظلّ غائبا فى أكثر الاعتصامات؛ مع أن تحقيقها سبيل مباشر من سبل تحقيق هذه الديمقراطية. ويؤدى إلى هذا الانحراف من جانب الثوار بالثورة تركيزهم على ما هو فوق، بدلا من التركيز على ما هو تحت. وهذا منطقى جدا. فقد كان هدف الثورة هو إسقاط النظام بما فى ذلك الرحيل الفورى لرئيس الجمهورية الطاغية ورجاله؛ ومن المنطقى والحالة هذه أن ينشأ عن ذلك الموقف الثورى السليم الرائع نوع من التفكير المرتبط بالتغيير من أعلى، من فوق، من القمة، ويرتبط ذلك بتصور وهمى عن أن الديمقراطية تعنى أن تكون السلطة أو الدولة ديمقراطية، أو أن يكون المجتمع ديمقراطيا، أو أن يكون البلد ديمقراطيا. وهذا وَهْمٌ ساذج فالديمقراطية لا تعنى سوى الديمقراطية الشعبية من أسفل، من تحت، من القاعدة، ولا تعنى بحال من الأحوال أن النظام السياسى الحاكم ديمقراطى. وهناك وَهْمٌ يتصور أن الديمقراطية تتمثل فى الديمقراطية المباشرة المتمثلة فى ناخبين بحكم حقهم الطبيعى كبشر عند بلوغ عُمْرٍ بعينه، وفقا للقانون أو الدستور فى هذا البلد أو ذاك، يقومون بانتخاب پرلمان يقوم بالتشريع فى إطار الفصل بين سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية متوازنة".
بعبارة اخرى يريد الكاتب ان يقول ان الثوار ينحرفون بالربط بين اعتصام بعينه ومطلب تعديل بنية الحكم السياسية في البلاد بدلا من ربط ذلك الاعتصام بتحقيق اي من الاهداف الكثيرة والمتنوعة للديمقراطية الشعبية من اسفل اذ ان ابرز علامات ذلك الانحراف في رأي الكاتب هو التركيز على ما هو فوق بدلا من التركيز على ما هو تحت. ولكن لماذ يعد هذا انحرافا في نظر الكاتب؟. لانه "يرتبط بتصور وهمي ان ان الديمقراطية تعني ان تكون السلطة والدولة ديمقراطية فهذا وهم ساذج لان الديمقراطية لا تعني سوى الديمقراطية الشعبية من اسفل.
ليس من الصحيح اذن ان يطالب الناس الذين يحتجون ويثورون – ان لم يكن عددهم كافيا وكبيرا – بتعديلات في شكل السلطة السياسية تهدف الى اقامة ديمقراطية لان ديمقراطية من هذا النوع هي وهم ساذج. او هذا ما يقول.
ولكن لماذا تصبح ديمقراطية من هذا النوع وهما ساذجا؟ لان "الحقيقة أن اعتقاد أن الديمقراطية تتمثل فى مثل هذا البنيان للدولة ومؤسساتها ليس سوى وَهْمٍ من الأوهام الساذجة لأن الانتخابات الپرلمانية والرئاسية تزيِّف إرادة الشعب فى كل البلدان والمجتمعات وتمنح الأغلبية للممثلين السياسيِّين لمصالح الطبقة الرأسمالية الإمپريالية أو الطبقة الرأسمالية التابعة للإمپريالية ويجرى بالتالى سنّ تشريعات وقوانين لتحقيق مصالح الطبقة الاستغلالية المالكة و/أو الحاكمة. وبالتالى ينبغى التقليل من التركيز الشديد على بنيان السلطة وزيادة التركيز بدلا من ذلك على الأسفل". حسب قوله ايضا.
وواقع الحال ان كل دروس التاريخ ما عدا الثورات التي قامت في ظروف معينة بالاعتماد على ارض محررة من سلطة الدولة لم تكن تشهد في ثوراتها الا هذا "الانحراف" بعينه اي "انحراف" المطالبة بتقنين تعديلات معينة في الصيغة السياسية والقانونية الحاكمة. ان الناس حين تضرب عن العمل مثلا فانها تمارس احتجاجا معينا وظرفيا على ما تعانيه. وهي لا تفعل ذلك تحت شعار بناء الديمقراطية من اسفل او من اي مكان آخر. انها "تفعل" ذلك. وحين يشاركها في فعله عدد كاف من الآخرين فان سلطة الطبقة المستغلة الحاكمة لا تجد مناصا الا تقنين هذا الفعل وجعله "حقا". وهذه هي المعادلة بالضبط. اي ان التعديل في البنية القانونية والسياسية للسلطة يتم بناء على كفاحات الناس اليومية التي تنزع بحكم تفاقم القهر الى توسعة مساحتها ومن ثم تنعكس على البنية السياسية والقانونية للسلطة.
وحتى لا يتهمني احد بانني انظر الى الامر من زاوية "اصلاحية" فسوف اوضح اكثر ما اقول. فانعكاس كفاحات الناس اليومية لا يمكن ان يؤدي بالتراكم ومن خلال التعديلات المتعاقبة في بنية الدولة الى تفكك كل تلك البنية وتحللها بالتدريج ليصبح الانتقال الى المرحلة التالية "زي شكة الدبوس" كما يقولون. ان الطبقة الحاكمة تسعى دوما الى اطالة عمر سلطتها السياسية وهي تفعل ذلك عبر وسائل شتى منها محاولة استيعاب الاحتجاجات الشعبية وتأطيرها داخل صيغتها السياسية ذاتها. اي انها تتبنى موقفا مرنا الى حد معين. وكما قيل يمكن للكنيسة قبل 19 خطيئة من الخطايا العشرين الا خطيئة تهديد الملكية الخاصة. هناك دائما "خط احمر" لا يمكن للسلطة السياسية للطبقة الحاكمة – باعتبارها كذلك – ان تتنازل فيه عن وجودها.
والديمقراطية – التي ينبغي ان نسميها احتراما لتصنيفات الكاتب الديمقراطية من اعلى – ليست في جوهرها الا حلا بورجوازيا للتناقض بين الجوهر الفردي للنشاط الاقتصادي الرأسمالي وبين كيفية "وجود" هذا النظام اي تحققه على نحو ملموس وقائم امام اعيننا. انها "الدولة الرأسمالية في ذاتها ولذاتها". وباعتبارها كذلك فانها تسعى الى تأطير المجتمع المدني ووضع الانسان الفعلي الحقيقي الملموس في اطر "ابديتها" السياسية. وهي حين تفعل ذلك فانها تنحو بحكم جوهرها ذاته الى احتواء الطبقات الاخرى في صيغتها السياسية "الابدية" عبر تقنين احتجاجات تلك الطبقات وكفاحها لبلورة ذاتها على نحو مستقل. ثم انها حين تفعل ذلك فانها تعدل من بنيتها السياسية والقانونية على نحو دائم طالما ان ذلك لا يمس "الخطيئة العشرين".
بعبارة اخرى لم تكن الحريات التي تنتزعها الطبقات الاخرى لتتحول يوما الى "حقوق" بما يعنيه ذلك قانونيا الا عبر ممارسة تلك الطبقات لها على نحو غير قانوني. هذا ما كان يحدث دائما ما عدا في ثورات الارض المحررة التي قادتها طلائع مسلحة منذ فترة مبكرة.
وحتى يتضح الفارق اكثر بين ما يقوله الكاتب وما اقول يمكن العودة الى ايضاحين قدمهما هو نفسه في مقالته. الاول يقول فيه..وينبغي "زيادة التركيز بدلا من ذلك على الأسفل، على تحت، على الديمقراطية الشعبية من أسفل، على تطوير نضالات الشعب وأدوات نضاله، والعمل عن طريق مختلف وسائل النضال المشروعة على تحقيق مصالح الشعب الجزئية والعامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتصبّ جميعا فى الديمقراطية الحقيقية، بمستوياتها المعيشية العادلة، والرعاية الصحية الحقيقية، وحرياتها وحقوقها الديمقراطية، بامتلاك و وممارسة وسائل وأدوات النضال، وتمتعها بالقضاء الطبيعى المستقل والصحافة الحرة وغير ذلك".
وفي فقرة اخرى يقول الكاتب "والهدف الجوهرى للثورة يمكن استنتاجه استنتاجا من طبيعتها المستخلصة من وقائعها وتطوراتها ومساراتها ومختلف نضالاتها ومن الحقائق والمعادلات التى تحيط بها. ويتمثل هذا الهدف أىْ محتوى الثورة فى الديمقراطية الشعبية من أسفل، كما أكرر فى مقالاتى بصورة ثابتة إلى حد الملل. والحقيقة أن الشعارات الأساسية للثورة وعلى رأسها شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" تنبع من هذا المحتوى الجوهرى للثورة. فما هو معنى ومحتوى وهدف إسقاط النظام؟ وبالطبع فإن محتوى إسقاط النظام يختلف باختلاف طبيعة الثورة: هل هو القضاء على النظام الرأسمالى التابع فى سياق ثورة اشتراكية أم هو تحقيق الديمقراطية الشعبية من أسفل لمقاومة هذا النظام، وللمقاومة بصورة جذرية تاريخية ضد فساده واستبداده، ولمقاومته فى سبيل تحقيق حياة كريمة للطبقات الشعبية؟ وبالطبع فإن النجاح فى إقامة هذه الديمقراطية الشعبية يمكن أن يفتح أمام الشعب والثورة آفاقا أوسع للنضال ضد الرأسمالية التابعة كنظام اجتماعى يسود مصر والعالم العربى والعالم الثالث فى سبيل الاستقلال الذى يقوم على الخروج من التبعية بفضل التصنيع والتحديث، كما يفتح آفاق النضال فى سبيل الاشتراكية على المدى البعيد الأبعد. وفى الأجل القصير والمتوسط لا يتجاوز إسقاط النظام فى الحقيقة إسقاطا جزئيا، تاريخيا مع ذلك: توجيه ضربة قاضية للحالة الراهنة للنظام الرأسمالى التابع عن طريق إسقاط رأسه وكل قمته وكل رجاله وقياداته فى كل مؤسساته وأجهزته بلا استثناء، وإسقاط دستوره على رأس قوانينه، تلك التى يقوم عليها الاستبداد والبطش والقمع الپوليسى والمخابراتى والأيديولوچى وتلك التى يقوم عليها الاستغلال والفساد واللصوصية، وإسقاط حرمان الشعب من مستويات المعيشة التى تليق بالبشر فى المسكن والغذاء والملبس والصحة والتعليم وحق العمل وإعانة البطالة وفى القاضى الطبيعى الذى يقوم على استقلال القضاء وإسقاط حرمانه من الحريات والحقوق الديمقراطية فى التظاهر والاعتصام والإضراب وكل أشكال الاحتجاج والنضال من تعددية حقيقية تقوم على أحزاب سياسية ونقابات عمالية وفلاحية ومهنية مستقلة، ومن حرية الصحافة وحرية العقيدة والتعبير، ومن المواطنة المتحررة من كل تمييز على أساس الدين أو المذهب أو العقيدة أو النوع أو اللون. ومن الجلى أن هذه الضربة القاضية التى يشترط نجاحها ضربات أخرى تكميلية تفوز بالنقط تكتسب مغزاها من كونها شرطا ضروريا للديمقراطية الشعبية من أسفل".
اعتذر اولا عن تلك الفقرات المطولة التي اوردها فقط حتى لا يتوهم احد انني اقدم ما قاله الكاتب على نحو مبتسر او انني لا اعرض ما يقول كما قال بالفعل.
ويبدو الامر مموها بعض الشئ في الفقرة الاولى التي اوردتها هنا. فنحن نقرأ مثلا تعريفا للديمقراطية الشعبية من اسفل يقول انها "تطوير نضالات الشعب وأدوات نضاله، والعمل عن طريق مختلف وسائل النضال المشروعة على تحقيق مصالح الشعب الجزئية والعامة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتصبّ جميعا فى الديمقراطية الحقيقية، بمستوياتها المعيشية العادلة، والرعاية الصحية الحقيقية، وحرياتها وحقوقها الديمقراطية، بامتلاك و وممارسة وسائل وأدوات النضال، وتمتعها بالقضاء الطبيعى المستقل والصحافة الحرة وغير ذلك". ولكن اليس يسمى كل ذلك دون "من تحت ومن فوق" باسم انهاض الطبقات الشعبية لنيل ما يحقق مصالحها؟. اليس هو الكفاح اليومي للطبقات الشعبية ودور الثوريين فيه؟. ما الذي جعله "ذات فجأة" يستحق اسم الديمقراطية من اسفل؟. الم يكن هو ما يحدث دائما والم يكن هو ما حدث دائما في اي ثورة؟. ما هو الجديد الذي جعل كاتبنا "ينبح صوته" الى حد الملل كما يقول في تقديم مسمى جديد لامر كان ولا يزال يحدث دوما؟.
ربما يكون الكاتب قد اخطأ في توصيف وسائل النضال – في تعريفه لموضوعته "الجديدة" – بانها وسائل النضال "المشروعة" فلو كانت تلك الوسائل مشروعة فان ذلك يفترض مسبقا ان الجماهير قد انتزعتها وجعلتها كذلك من الوجهة القانونية. ولكن ربما لم يكن يقصد ذلك على اي حال.
ما كان يقصده في الحقيقة يبدو واضحا في الفقرة التالية – الطويلة – التي اوردتها توا. ولنتأمل "اللخبطة" الذهنية التي وضعت كاتبنا في مأزق. ففي تلك الفقرة يقول الكاتب ان الهدف من الثورة يمكن استنتاجه من وقائعها وتطوراتها ونضالاتها..الخ الخ. وان ذلك الهدف هو "تحقيق الديمقراطية الشعبية من اسفل". انه ليس اقامة مجتمع اشتراكي مثلا والعياذ بالله ولكنه الديمقراطية الشعبية.
ولكن لماذا من اسفل؟. ان اي ديمقراطية شعبية لابد ان تكون من اسفل. والقول بان الهدف هو تحقيق ديقمراطية شعبية "من اسفل" هو لزوم ما لا يلزم او هو بالاحرى سفسطة فارغة. ليس ثمة ديمقراطية شعبية تكافح من اجلها الجماهير الشعبية ضد السلطة السياسية للمستغلين الا وكانت بحكم التعريف ذاته من اسفل لوم يعرف احد من قبل انها ينبغي مثلا ان تكون من اعلى حتى يتفضل علينا الكاتب بذكر ذلك بل ويكرره الى حد الملل كما يقول.
لقد بدأ الناس في 25 يناير مشوارهم عبر اسقاط واجهة النظام نحو اسقاط كل قياداته وكل مؤسساته واجهزته بلا استثناء واسقاط دستوره على رأس قوانينه تلك التي يقوم عليها الاستبداد والبطش ..الى آخر موضوع "الانشاء" الذي اردحه الكاتب والذي يبدو مألوفا لكل من لهم علاقة بما حدث في مصر او يتابعونه اذ انه يتردد ليلا نهارا فيما بينهم.
ولم يكن هناك في واقع الامر مشاركة من الطبقة العاملة بما هي كذلك اي بمعنى الطبقة الواعية بدورها الاجتماعي وبهويتها الذاتية. ولو كان هناك شئ من ذلك لاختلف مسار الامور اي لتوحدت الجماعات الرأسمالية المختلفة "ايد واحدة" لمواجهة خصم يعرف انه خصم دائم. الا ان تلك الجماعات لم تكن ابدا تواجه خطرا مصيريا.
فضلا عن ذلك فان الديمقراطية الشعبية من "اسفل" ( حتى لا يخلطها احد من الحمقى بتلك الديقمراطية الشعبية من اعلى!) لن تتحقق الا بتحقق قدر من وعي الطبقات الشعبية التي تؤلف مادة تلك الديمقراطية بهويتها اي انها لن تتحقق الا عبر الاعتصامات والاضرابات وكافة اشكال الانحراف الاخرى. انه امر لا معنى له في الحقيقة ان نصف هذه الدرجة الجنينية من نضج ظروف الثورة المصرية بانها..درجة جنينية. ثم انه يصبح امرا لا يحتمل حين يترافق مع ذلك عبارات مبتكرة عن ديمقراطية الاسفل وديمقراطية الاعلى وديمقراطية "النص نص". هناك جماهير شعبية تتعلم وتناضل وتناضل وتنتزع مكاسب وتخسر اخرى وقد كان ذلك ابدا هو مسار الثورة اي ثورة في اي بلد. ان جوانب الديمقراطية الليبرالية مثلا التي تتيح للعمال حق الاضراب والحد الادنى من الاجور وحرية الصحافة لم تكن هبة من الطبقة الحاكمة بل انتزعت انتزاعا عبر كفاح مضرج بالدم. وهي كما نراها في الدساتير الغربية مثلا مكتسبات منتزعة من الجماهير الشعبية. فهل يمكن بما هي مدرجة في الدساتير العلوية ان نسميها ديمقراطية من اعلى؟ ام يمكن بما هي منتزعة من قبل الجماهير الشعبية بقيادة الطبقة العاملة ان نسميها ديمقراطية من اسفل؟. انه خيار بائس في التعريفات.
ويعود بنا الكاتب في تكراره الممل حقا لحكاية من اسفل في النقطة 14 حين يقول "ولا شك فى أن تصوُّر الديمقراطية الشعبية من أسفل على أنها مجموعة من الحريات والحقوق الديمقراطية المحلِّقة فى الهواء يجرِّد هذه الديمقراطية من محتواها الاجتماعى الحقيقى الذى يعطيها جوهرها ومغزاها التاريخى بوصفها انتقالا تاريخيا إلى وضع جديد للشعب المصرى. فالديمقراطية المقصودة إنما تجسِّد كما سبق القول شعبا يتمتع بمستويات معيشية لائقة تقوم على حقوق يجرى تطبيقها فعليا فى مجال الدخول والأجور والمعاشات وإعانات البطالة العادلة المنصفة والرعاية الصحية المجانية والتعليم المجانى والتعددية السياسية وغير ذلك، ويتمتع بالأسلحة النضالية التى يحرس بها هذه الديمقراطية الشعبية التى ستتعرض بصورة متواصلة لهجوم الديكتاتورية من أعلى".
ولكن فلنفترض اننا نعيد صياغة تلك الفقرة بلا حذلقة حتى نوفر على الكاتب "نبح الصوت" فقلنا مثلا "ان على الشعب المصري ان يكافح لاكتساب حريات سياسية جديدة ومكتسبات اجتماعية واقتصادية جديدة". ولكن اليس هذا ما يفعله المصريون كل يوم؟.
ولكن الكاتب يريد ربما من هذه المداخلة التي زج خلالها بتعبير يرى انه ابتكره وهو حكاية "من الاسفل" هذه ان الهدف من الثورة ليس اقامة نظام اشتراكي وانما وضع النظام الرأسمالي تحت رقابة شعبية وتهذيبه من خشونته وفجاجته وجعله اكثر حنانا على الطبقات الشعبية عبر يقظة تلك الطبقات ووعيها بذاتها وبدورها. وقد كان حريا به ان يفعل ذلك دون اضافة ابتكارات او تسجيل حقوق الطبع لعبارات معينة تقلل من شأنه دون ان تفيد مداخلته الاساسية.
ان هذا الطرح – المتعلق بطبيعة النظام الذي يمكن ان يقام - لا يزال محلا لحوار طويل بين المفكرين في مصر وفي خارجها يستحق منه مثلا ان يوضح – دون اي ابتكارات جديدة بليز – لماذا مثلا لا يمكن اقامة حكومة عمالية بدلا من الجبهة الشعبية؟ ومن هم مكونات تلك الجبهة؟ وماذا ستفعل الجبهة مع الرأسمالية التابعة للامبريالية اذا كانت عاجزة بحكم الظروف الموضوعية عن اسناد رأسمالية غير تابعة للامبريالية؟. وهل يمكن اقامة نظام رأسمالي "مهذب" في عالم اليوم وان كان بقوة القسر التي ستمارسها الجبهة الشعبية الحاكمة؟. ولهذا الموضوع خصوصية شديدة في هذه المرحلة ليس بحكم تطور الظروف في مصر وفي المنطقة فحسب ولكن بحكم الازمة الخانقة التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي وما يمكن ان تسفر عنه.
وبين فترة واخرى يتحفنا الكاتب بتعبيرات جديدة يركض نحو تسجيل حق اختراعها مثل مقولة "الثورة السياسية التي تحدث في سياق الثورة الاجتماعية والثورة السياسية التي تحدث في سياق التبعية الاستعمارية" التي وصفها بانها وجهة النظر "الاكثر اهمية" في كل مقالاته دون ان يدرك انه يخلط خلطا بينا بين عمليات التحول الاجتماعي التي تمتد الى قرون نحو الرأسمالية وبين كلمة ثورة التي اكتسبت في الادب الثوري ولو في بلاد الواق واق مفهوما محددا. لقد كان يريد في مقاله المعنون "ثورة 25 يناير طبيعتها وآفاقها" ان يضع فارقا بين الثورة الفرنسية مثلا باعتبارها ثورة جاءت كثمرة لدرجة معينة من التحولات الاجتماعية وانتشار الاقتصاد البضاعي وبين ثورة اخرى مثل ثورة اي بلد واقع تحت السيطرة الاستعمارية فأطلق على الاولى اسم "اخترعه" وهو اسم الثورة السياسية في سياق الثورة الاجتماعية!. ولكن قد يتيح لي الوقت مداخلة اخرى في الرد على تلك الاراء "الاكثر اهمية" او في الرد على موضوعات اخرى اثارها الكاتب بقدر لا يصدق من الاستخفاف مثل ان النمور الآسيوية "فاترينات" لمواجهة الدب الروسي ومن ثم التنين الصيني وحفنة اخرى من الابتكارات التي سجل حق صكها الحصري.
ان المشكلة الآن هي ان هناك جيلا جديدا من الشباب في مصر بل وفي المنطقة يتطلع الى فهم ما يحدث والى تحديد ما ينبغي ان يحدث. وبدلا من الركض نحو تسجيل "براءات الاختراع" قد يكون من المفيد ان نعود الى الاصول والى المعلم الاكبر اي التاريخ لتقديم شئ يستحق ان يقرأ. فهل كان ما كتبه خليل كلفت لا يستحق القراءة؟. الاجابة هي بالنفي. لقد ابرز مواقف صحيحة من اللاعبين الاساسيين الآن في مصر. وقد تكون المشكلة انه جمعها من اراء كانت تقال بالفعل الا ان ذلك لا ينقص من شأن ما كتب. آمل فقط ان يوفر الكاتب على الجميع وجع الرأس وان يقتصد في ابتكار اي مقولات جديدة.