تأملات في كتاب رأس المال (2) - النقد


محمد فيصل يغان
2012 / 5 / 10 - 20:39     

في هذا المقال نشدد على دور ظهور التجارة و الذي لم يعطه ماركس حقه من التحليل في تطور الاقتصاد إلى الرأسمالية. فعملية الانتاج البشرية الموجهة أصلاً للاستهلاك بهدف اشباع حاجات حيوية لبقاء الانسان يظهر معها نقيضها (على شكل تجارة أولاً) و هو الرغبة في خلق قيمة اضافية دون انتاج بهدف تراكم هذه القيمة (الثروة) ثم لاحقاً يظهر الانتاج بهدف التبادل كنقيض للانتاج بهدف اشباع الحاجات الحيوية, و هكذا يظهر نقيض القيمة الاستعمالية بشكل (قيمة) قابلة للتراكم و التحول إلى رأسمال.
في مرحلة التبادل حيث يسود تبادل المنتجين ذاتهم لنتاج عملهم بهدف الاشباع المتبادل للحاجات الحيوية, تكون علاقة التبادل الاجتماعية حاملة و ممثلة تماماً لعلاقة الافراد المنتجين, و الشكل المادي للسلع أو العلاقة ما بين السلع لا يخفي هذه العلاقة الاصلية. يبدأ الانفصام و تمويه أو حتى نفي العلاقة بين الافراد المنتجين مع ظهور الرغبة في التجارة, أو كما ذكرنا في المقال السابق, الرغبة في تحقيق قيمة مضافة بمعزل عن العمل. هنا يكون التاجر قد عزل ما بين المنتجين من خلال مبادلته لمنتج عمل غيره و بالتالي يحول العلاقة ما بينه و بين المتعاملين معه إلى علاقة تبادل حاجة حيوية مقابل فائض قيمة أو رأس مال
يقول ماركس في الصفحة 36: "إن منتجات العمل لا تكتسب صفة القيمة الاجتماعية المتميزة عن القيمة الاستعمالية, إلا بعد أن تدخل في عالم التبادل, و هذا الانقسام في منتج العمل إلى شيء ذي منفعة و شيء ذي قيمة لا يصير فعالاً من الناحية العملية إلا إذا عظم انتشار عملية التيادل و زادت أهميتها إلى الحد الذي عنده يجري انتاج الأشياء النافعة لغرض التبادل خاصة بحيث يصير من اللازم ان نعمل حساباً لقيم الأشياء أثناء عملية الانتاج ذاتها. من تلك اللحظة يكتسب عمل المنتجين الخاصين طابعاً اجتماعياً مزدوجاً في الحقيقة". من الواضح هنا أن ماركس يتحدث عن ظهور عامل التجارة, فتميز القيمة الاجتماعية للسلعة عن القيمة الاستعمالية لا يظهر في مرحلة تبادل المنتجين لسلعهم بهدف اشباع الحاجات الحيوية (سواء الحاجة المخصوصة بسلعة المنتٍج أو الحاجات الحيوية الأخرى للمنتٍج عن طريق مبادلة سلع أخرى مع سلعته كما يفسر ماركس ملاحظته), بل مع ظهور التاجر الذي لا يرى في السلعة قيمتها الحيوية, بل قيمتها كسلعة رأسمالية (ما يدعوه ماركس القيمة الاجتماعية), و هذا سر تحول التبادل من جهة و الانتاج من جهة أخرى, من غرض اشباع الحاجات الحيوية إلى غرض مراكمة القيمة و بالتالي ظهور الطابع المزدوج لعمل المنتجين الذي يشير إليه ماركس في نهاية الاقتباس, فهذا العمل يصبح وسيلة لاشباع الحاجات الحيوية من جهة و اشباع رغبة الرأسمالي في تراكم القيمة على شكل رأسمال من حهة أخرى. أي أن الازدواجية في العمل الفردي أو الخاص لا تتأتى من ضرورة كونه نافعاً (لصاحبه) و نافعاً للغير كما يقرر ماركس (نفس الصفحة 36) بل من ضرورة كون هذا العمل نافعاً عموماً (يشبع حاجة حيوية انسانية مشتركة ما بين المنتج و الآخرين) و أن يكون بنفس الوقت مصدراً لتراكم القيمة – الرأسمال. و هذه الازدواجية و طغيان شكل النشاط الانساني الموجه نحو مراكمة القيمة بغض النظر عن الحاجات الحيوية و اشباعها, هذه الخاصية التي نضجت على أكمل وجه مع تطور النظام الاقتصادي الرأسمالي (أنظر مقالي في مفهوم الملكية, المنشور على موقع الحوار المتمدن), نقول أن هذه الخاصية هي التي حصرت اهتمام ماركس بالعمل كمصدر وحيد للقيمة و إهماله لعامل الحيوية كما بينا في المقال الأول من هذه السلسلة.
مجموعة من المتناقضات تظهر و تتعمق مع ظهور تبادل فائض الانتاج ما بين الأفراد و المجموعات المختلفة, فالانتاج من أجل اشباع الحاجة الحيوية الفردية للمنتج (القيمة الاستعمالية للسلعة هي شكل القيمة الوحيد) تترافق مع الملكية الفردية بشكلها الأكثر بدائية. مع الانتقال لمرحلة المنتج الفائض و القابل للتبادل يبدأ ظهور الشكل الجديد لقيمة السلعة أي القيمة التبادلية كنقيض للشكل الأول, يظهر أيضاً الشكل النقيض للملكية الخاصة, أي الملكية المشتركة, و ذلك من حقيقة كون قيمة الفائض من أي سلعة مبنية على معدل القيمة الاستعمالية الاجتماعية لتلك السلعة كما أوضحنا في المقال السابق, و من كون هذا الفائض لدى الفرد المنتج هو ضرورة لإشباع الحاجات الحيوية للمجتمع, و هذا الحال ينطبق عليه قول ماركس في صفحة 51: " مجتمع فطري قائم على أساس الملكية المشتركة". و لكن و في وضع الفائض, يكون للفرد فرصة حيازة (ولو بشكل مؤقت) قيمة استعمالية اجتماعية (ثروة اجتماعية) يبادلها مع الآخرين لتحصيل قيمة استعمالية خاصة به (ثروة فردية)على شكل سلع. هنا يبدأ النشاط التجاري بالظهور كشكل للتناقض ما بين شكلي الثروة الفردي و الاجتماعي بهدف زيادة الشكل الأول على حساب الثاني من خلال التلاعب بعملية التبادل و بدون بذل جهد انتاجي مادي, و تنتقل هذه الرغبة كما بينا سابقاً إلى مستوى الانتاج بحيث تزدوج طبيعة الانتاج لتصبح موجهة لاشباع الحاجة الحيوية (انتاج قيم استعمالية) و أيضاً للتبادل (قيمة تبادلية) بهدف مراكمة القيمة, و هكذا يظهر للشكل الأصلي للانتاج الموجه للقيمة الاستعمالية نقيضه على شكل انتاج موجه للقيمة التادلية. و تجدر الإشارة هنا إلى أن ماركس لا يعزو ظهور القيمة التبادلية كنقيض للقيمة الاستعمالية إلى ظهور الرغبة في تراكم القيمة, بل يعزوها حصراً إلى التوسع النوعي و الكمي في عملية التبادل حيث يقول في صفحة51: "تنمو الضرورة الداعية إلى شكل للقيمة كلما حدثت زيادة في كمية و أنواع السلع التي يحدث التبادل قيماً بينها", بينما نعزوها في تحليلنا هذا إلى ما ذهب إليهماركس جزئياً و إلى ظهور فرصة مراكمة الثروة و التي تتسع مع التوسع في عملية التبادل و محاولة الأفراد استغلال هذه الفرصة لصالحهم الفردي.
و يؤدي التناقض المذكور أعلاه إلى ظهور التناقض الآخر المهم ألا وهو في ظهور الدور النقدي للسلعة كنقيض لدور المعادل للقيم الاستعمالية الأولي و كما يقول ماركس في الصفحة 50: "و المقايضة المباشرة للسلع تتخذ الشكل الأولي للتعبير عن القيمة و ذلك من ناحية واحدة و هذا الشكل هو س سلعة أ = ص سلعة ب. و الشكل المباشر من المقايضة عبارة عن س قيمة استعمالية أ = ص قيمة استعمالية ب", و مع ظهور التجارة و الرغبة في تراكم الثروة, أي مع ظهور القيمة التبادلية, يظهر التناقض في السلعة بحيث تصبح حسب ماركس "كل سلعة وسيلة تبادل بالنسبة لصاحبها و معادلاً بالنسبة لكافة الأشخاص الآخرين", و ينحل هذا التناقض جزئياً من خلال ظهور السلعة المعادل و التي لا تزال تحمل كلا القيمتين الاستعمالية و التبادلية أيضاً(ينطبق هذا التناقض على الذهب و النقد الذهبي وإن بدرجة أقل) و التي تحل تناقضها أخيراً بظهور النقد الاعتمادي كشكل كامل للنقد (سلعة لا تمتلك أية قيمة استعمالية حيوية) يتناسب مع الرغبة التجارية في مراكمة الثروة.
و الثروة أيضاً لا تكون بمنأى عن هذه التطورات, فهي بعد أن كانت ممثلة بالقيم الاستعمالية المتوفرة فعلاً للأفراد و قيد التبادل اليومي, أي مجموع الحاجات الحيوية المشبعة, تتحول تدريجياً إلى الشكل الانتقالي لتراكم السلعة المعادل أو مجموع القيم التبادلية المتوفرة ثم لاحقاً و في ظل السلعة النقدية, تتقمص الثروة شكلاً نقيضاً للقيم الاستعمالية, أي مجموع القيم المكتنزة و المسحوبة من مجال الاستهلاك (في العام 1815 بلغت نسبة الكتلة النقدية في البنوك نحو 6% في الدول الرأسمالية الرئيسية و نمت هذه النسبة في نفس الدول إلى 68%. أنظر أنيكين, الشيطان الأصفر) . فالثروة في هذه الحالة هي جزئياً القيم الاستعمالية السائلة في التعامل اليومي في السوق و جزئياً أيضاً تكون القيم الاستعمالية المطلوبة من طرف ما و المكتنزة عند طرف آخر. هنا يتحول فائض الانتاج الجزئي عند أحد الأطراف من شكل متحرك (سائل) لاشباع حاجات حيوية لطرف آخر عن طريق تحوله إلى قيمة استعمالية مرة أخرى من خلال التبادل, إلى فائض ثابت (إكتناز) لدى الطرف صاحب الثروة على حساب الاحتياجات الحيوية للأطراف الأخرى و هذا ما يلاحظه ماركس بقوله في الصفحة 90: "تباع السلع لا بقصد شراء غيرها و لكن لكي يحل شكلها النقدي مكان شكلها الطبيعي المادي. هذا التغيير في الشكل و الذي كان القصد منه أولاً تنمية تداول السلع تحول فصار غاية في حد ذاته. و بهذا تجمد النقود و تحول إلى اكتناز للمال". و يتلازم امتصاص القيمة و كنزها مع التضخم النقدي و من خلاله, مما يفرض استبعاد النقد الذهبي من السوق (ظاهرة التضخم في ظل النظام الذهبي شبه معدومة) و إحلال النقد الورقي مكانه كخطوة أولى, ثم لاحقاً بفك الارتباط نهائياً ما بين الذهب و النقد.
بالنتيجة و مع ظهور و تطور النقد, تأخذ الثروة شكل التناقض ما بين الثروة المادية الممثلة بالقيم الاستعمالية, و الثروة المجردة (قيم مجردة)على شكل نقد مكتنز.
يقول ماركس أن السلعة التي تقوم بدور النقود لم تخلق بالطبيعة بصفتها نقوداً, بل أن هناك علاقة تتطور ما بين السلع نفسها (لنسمها علاقة نقدية) تتطلب تمثيلها شكلاً من قبل سلعة ما و هذا واضح في قوله المختصر في الصفحة 57: "ليست النقود هي التي تجعل السلع قابلة للتعادل أو ذات معيار واحد بل الصحيح هو العكس". و تاريخ تطور شكل النقود هو بالواقع تاريخ محاولات المجتمع لغربلة السلع المتوفرة و اختيار أنسبها لهذه المهمة. و من الطبيعي أن يعتمد فهمنا لتطور شكل النقود على فهمنا لتطور العلاقة النقدية المذكورة, و الملاحظة هنا أن ماركس اقتصر تحليله لهذه العلاقة على المرحلة التبادلية للقيمة أي المرحلة التي يهدف فيها أطراف عملية التبادل إلى الحصول على القيمة الاستعمالية لسلعة ما لدى الطرف الآخر من خلال مبادلتها بالفائض لديهم من سلعة أخرى, اعتماداً على كون السلعة الأخيرة تمثل قيمة تبادلية من خلال إسباغ السوق لمعدل قيمة استعمالية اجتماعية عليها. و لم يتطرق بالشكل الكافي إلى التناقض في العلاقة بين السلع و الذي ينشأ بظهور رغبة الأفراد بمراكمة الثروة من خلال الفرص التي توفرها طبيعة العمليات التبادلية الموسعة في السوق, اي إلى عدم اقتصار الدافع لدى هؤلاء الأفراد للمشاركة في نشاط التبادل على اشباع الحاجات الحيوية من خلال القيم الاستعمالية للسلع, أي بداية ظهور التجارة, و حين لم يعد "كل بيع شراء" و هي العبارة التي تصدق فقط على حالة التبادل لاشباع الحاجات الحيوية و هي الحالة التي يحصر ماركس تحليله فيها.
نوضح تالياً ماذا يعني تحول السلعة من معادل عام إلى نقد. يقول ماركس كما أوضحنا في المقال السابق, أنه في حال مبادلة س من السلعة أ مع ص من السلعة ب, تكون القيمة في س قد عبر عنها بواسطة الحجم ص من القيمة الاستعمالية للسلعة ب. و هنا لا يوضح ماركس أن القيمة الاستعمالية في هذه المرحلة مقصورة على (اشباع حاجة حيوية) فهو كما ذكرنا لا يتعامل مع عنصر الحاجة الحيوية في تحليله.
ألآن ما الذي يتغير في العلاقة المذكورة أعلاه حتى نقرر أن السلعة المعادل ص قد تحولت إلى نقد؟ ما تغير ببساطة هو طبيعة الحاجة التي يشبعها الحجم ب من السلعة ص, فالنقود لا تشبع حاجة حيوية (مأكل, ملبس, إلخ) بل تشبع جزئياً الحاجة إلى درجة سيولة عالية للقيم الاستعمالية و جزئياً أيضاً الحاجة لتراكم الثروة, أي أن القيمة الاستعمالية للسلعة النقد (عدا عن سيولتها السوقية) و المهمة هنا هي كونها مستودع للقيمة و بالتالي وسيلة لتراكم القيمة, الشكل المجرد لكل القيم الاستعمالية الحيوية للسلع كافة, أي الشكل المجرد للثروة. و هنا يظهر الشكل الجديد للقيمة على شكل (الثمن) و هو ما يلاحظه ماركس دون الرجوع للأصل الذي بيناه في التحليل أعلاه حيث يقول في الصفحة 57: "حينما نعبر عن قيمة السلعة بالذهب فنقول أن س من السلعة أ = ص من السلعة النقدية, فإننا نقصد شكلها النقدي أي الثمن". و بذلك و حسب ماركس أيضاً " يكون الشكل العام للقيم النسبية قد استعاد مظهره الأصلي و هو الشكل البسيط أو المنعزل للقيمة النسبية" و المقصود برأينا هنا الشكل المنعزل عن القيم الاستعمالية الحيوية. و عند هذا المفترق لأشكال التناقضات, يقول ماركس في الصفحة 58: "و لكن النقود من جهة أخرى ليس لها ثمن" بمعنى أن النقود (الذهب في مثال ماركس) لم تعد سلعة لها قيمة استعمالية تساهم بمراكمة الثروة المادية (و الثروة بالتعريف الذي يرتضيه ماركس هي تراكم أو مجموع القيم الاستعمالية كافة) أي أن النقود فقدت القيمة الاستعمالية الحيوية من جهة, و تحولت قيمتها النسبية إلى مستودعاً للقيم عموماً و شكل للثروة المجردة المكتنزة.
نرى هنا أن عامل الحيوية يختفي تدريجياً من تحديد قيمة السلعة المعادل حتى يكاد يختفي نهائياً في حالة السلعة النقدية (الذهب ما يزال يحتفظ ببعض القيم الاستعمالية الحيوية في نظر بعض فئات المجتمع مثل تطبيقاته في الصناعة من جهة و الزينة و الحلي من جهة أخرى, و الأخيرة هي حاجة تعتبر حيوية للطبقة الغنية المحدودة العدد أصلاً), و لا يتبقى مصدر لقيمة السلعة النقدية سوى عامل الندرة و الذي يحيله ماركس بالكامل إلى العمل (سبق و أن أوضحنا أن حجم العمل اللازم لإنتاج سلعة ما هو مؤشر عن مدى ندرة هذه السلعة).
نتطرق هنا إلى الأسباب التي من أجلها يتم (اعتماد) سلعة ما كسلعة نقدية في المجتمع, و مصدر الثقة في هذه السلعة.
في مرحلة التبادل من أجل اشباع حاجات الكفاف الحيوية, تكون القيمة الاستعمالية الحيوية (بالإضافة إلى خواص السلعة المادية الأساسية من مثل قابلية التجزئة لدرجة معقولة و دوام السلعة لمدة زمنية معقولة) هي الشكل الوحيد للقيمة المعترف به اجتماعياً, هكذا يتم فرز سلع ذات قيمة استعمالية حيوية مستمرة على مدار الفصول لدى كافة أفراد المجتمع أو على الأقل لدى أكبر عدد ممكن منهم, كالفرو مثلاً في المناطق الباردة و السمك المحفوظ بالملح في البيئات البحرية. هذا من ناحية عامل الحيوية, اما من ناحية عامل الندرة, فإن السلعة الأنسب يكون لها درجة معقولة من الندرة بحيث تجعلها متوفرة بكميات معقولة مناسبة لتيسير عمليات التبادل و أيضاً, أن يكون معدل إنتاجها مقارب لمعدل استهلاكها الحيوي. و نرى أن الصفة الأخيرة هي ميزة للذهب, حيث أن كمية الذهب (التي كانت) متوفرة عالمياً (كانت) معقولة لتسيير حاجات التبادل, كما كان إنتاج الذهب و استهلاكه من جهة أخرى متقاربين أيضاً مما جعل من الكتلة الذهبية المتوفرة عالمياً لتلعب دور النقد ثابتة إلى درجة مقبولة.
خلال المرحلة المذكورة (مرحلة التبادل من أجل اشباع حاجات الكفاف الحيوية), تبدأ في التبلور فرص مراكمة الثروة من خلال عملية التبادل دون التورط في عمل منتج (بذور التجارة), فلأغراض التجارة, لا تعود القيمة الاستعمالية الحيوية للسلعة أساساً في اعتمادها كسلعة نقدية و مصدراً للثقة بتواصل قبولها من المجتمع, و تتناقض الصبغة الاستعمالية الحيوية للسلعة مع دورها الجديد كمستودع للقيمة و أداة لمراكمة الثروة, هكذا نجد أن عامل الندرة يبدأ بالطغيان على عامل الحيوية في تحديد المعادل و نرى تاريخياً محاولات معزولة لاعتماد سلع نادرة (نسبياً) ليس لها قيمة استعمالية حيوية من مثل الأصداف البحرية و الكهرمان (أنظر أنيكين, الشيطان الأصفر). و كان للذهب دوراً مميزاً في تاريخ السلعة النقدية نتيجة طبيعة الندرة المناسبة فيه, و كون القيمة الاستعمالية الحيوية (المحدودة) له كما تراها الطبقات الغنية كافية لبث الثقة في استمرارية الطلب عليها دون أن تكون هذه القيمة الاستعمالية موجودة لدى المجاميع الكثيرة من الأفراد محدودي الثروة و بالتالي الحد من تناقض القيمة الاستعمالية مع دور الذهب كمستودع للقيمة. و الانتقال إلى مرحلة المسكوكات الذهبية يظهر مع ظهور الدولة و هو حل لعدة مشاكل منها لتثبيت الثقة و درجة اعتماد الذهب كسلعة نقدية من خلال إزالة الشك حول جودة و وزن المسكوكة من جهة, و تعميد الذهب المسكوك كمستودع للقيمة فقط دون أي قيمة استعمالية أخرى (نقل مصدر اعتماد الذهب من القيمة الاستعمالية لدى الطبقات الثرية إلى اعتماد الدولة للذهب كمستودع قيمة). و في الفترة الحديثة و مع إقصاء نظام الغطاء الذهبي للعملات دولياً (قرار امريكا بفك الارتباط ما بين الدولار و الذهب عام 1971) و ظهور نظام تعويم العملات, تحولت العلاقات الدولية الاقتصادية و المالية إلى أشبه ما يكون بالمقامرة نتيجة فقدان النظام النقدي الدولي لأي مصدر للاعتماد و الثقة عدا الدور المشبوه أصلاً لصندوق النقد الدولي.
و نشير هنا إلى أن الرغبة في مراكمة الثروة هي السبب الرئيسي في فشل نظام العملة المزدوج (الذهب و الفضة) نتيجة الفرصة التي يتيحها اختلاف القيمة الحقيقية لأحد المعدنين مع قيمته الاسمية المعتمدة رسمياً. و نفس الظاهرة تتكرر في بعض الحالات في نظام النقد الثنائي القائم على المسكوكات المعدنية و العملة الورقية, و ذلك عند اختلاف القيمة الفعلية للمعدن المسكوك مع قيمته الاسمية (انيكين, الشيطان الأصفر).
ينبهنا ماركس إلى حقيقة أن الذهب و إن أصبح مقياساً للثمن, فإنه ما زال مقياساً للقيمة إذ يقول في الصفحة 61: "و لكن الذهب يصلح مقياساً للقيمة لأنه هو ذاته منتج عمل و بهذا يكون في أساسه أو في طبيعته قابلاً للتغيير من حيث قيمته". و يوضح بأن هذا التغير في قيمة الذهب "لا يؤثر في وظيفته من حيث أنه مستوى أثمان".
ما يورده ماركس عن كون الثمن ليس بالضرورة تمثيلاً حقيقياً عن حجم قيمة سلعة ما كما في قوله صفحة 65: "... و على ذلك فاحتمال وجود اختلاف كمي بين الثمن و حجم القيمة أو إمكان اختلاف الثمن عن حجم القيمة, من الأمور الكامنة في شكل الثمن" أي أن الثمن ممكن أن يتغير دون أن يتغير حجم العمل اللازم لانتاج وحدة السلعة و وحدة السلعة النقدية, فمع بقاء نسب حجم القيمة أو العمل ثابتاً, من الممكن أن تتغير النسبة العرضية لشكل القيمة كثمن (عوامل السوق من عرض و طلب مثلاً), أي أن الثمن "يعبر بوجه عام عن القيمة" و لكنه ليس بالضرورة معادلاً لها. و يضرب مثلاً عن كون إنتاج ربع من القمح يحتاج لنفس حجم العمل لإنتاج جنيهين ذهب, فمع ثبات أحجام العمل هذه يمكن أن يكون ثمن الربع من القمح جنيهين أو ثلاثة. و التفسير الذي نقدمه هو في أنه مع ظهور عامل التجارة (و الذي يستغل عوامل السوق و تذبذباته) لا تعود القيمة الاستعمالية هي الدافع الوحيد للدخول في عمليات التبادل, بل مراكمة القيمة تصبح دافعاً آخر و هنا مصدر انفصال حجم القيمة من ناحية المبدأ عن الثمن, و هذا هو أصلاً الهدف من تطور السلعة المعادل إلى سلعة نقدية و لاحقاً إلى نقد اعتمادي, و بخصوص المثال الذي يضربه ماركس عن الطبيعة الخيالية للثمن من حيث أنها تسمح لأمور ليس لها قيمة (بمعنى قيمة مادية متمثلة بعمل اجتماعي) مثل الشرف و الضمير بأن تصبح مثل السلع من حيث أن لها ثمن, نعود فننبه إلى أن تقديم تفسير لما يقوله ماركس غير ممكن لو أن القيمة كانت تتحدد فقط بعامل الندرة المعبر عنه بحجم العمل البشري, و لكن عامل الحيوية هنا هو الأساس فالشرف و الضمير (أو غيابهما في حالة المشتري) حيويين للمجتمع البشري.
بالإجمال, مع ظهور التجارة و الرغبة في مراكمة الثروة الفردية بدون عمل منتج, يتطور النظام النقدي و مشتقاته بحيث يسمح بنشوء اقتصاد طفيلي ورقي وهمي قائم على التجارة و المضاربة و الربا و كل أشكال امتصاص الثروة التي ينتجها الاقتصاد المادي القائم على الانتاج المادي من قبل طبقة طفيلية, و تنبع كافة التقلبات و الأزمات الاقتصادية من جراء خروج هذا الاقتصاد الطفيلي عن السيطرة.
إن تطور النشاط الاقتصادي كما استعرضه لنا ماركس و التوضيحات التي أوردناها هو ظاهرة طبيعية كأية ظاهرة أخرى, و هي تتبع قوانينها دون أي اعتبارات انسانية مما يجعل تدخل البشر لضبط هذه الظاهرة و تسييرها بما لا يضر بالمجتمع البشري و بما فيه صالح هذا المجتمع, نماماً كما يتدخل الانسان لضبط الظواهر الطبيعية كالفيضانات بإقامة السدود و الأقنية لحماية التجمعات السكانية من جهة و استغلال المياه بالشكل الأمثل للبشر. أي أن تحليل الظاهرة الاقتصادية في مجمله يهدف إلى فهم العوامل و القوانين المسيرة لهذه الظاهرة حتى نتمكن من السيطرة عليها و توجيهها بالشكل الأمثل.