الأردوغانية والأطلسي وما بينهما


رشيد قويدر
2012 / 4 / 19 - 15:04     

مباشرة؛ نقصد بذلك الوجوه المتعددة لتركيا الأردوغانية ممثلةً في "حزب العدالة والتنمية"، من بين هذه الأقنعة وفي المفاصل التاريخية؛ يبرز الوجه الحقيقي للاردوغانية والذيلية الأطلسية، بما تحمل من مدلول معرف وتاريخ معاين ودور. ذيلية في اطار بحثها المتواصل في اجندتة المرسومة للشرق الاوسط، وأخطرها في وضعها كـ "قاطرة" للمنطقة العربية والاقليم، خاصةً بعد أن شاع عربياً ما سميّ بـ "النموذج التركي"، ودغدغة احلام الأردوغانية.
ذهبت بعيداً في الوقوف على الأطلال الامبراطورية لآل عثمان، وأوغلت في النزوع إلى السيطرة؛ من خلال مفاهيم وايديولوجيا مسلحة مادياً وسياسياً واقتصادياً، وتطويعها خدمةً للمشاريع الغربية، وفي تماثل مع اجندتها.
الأخطر أن هذا يجري في زمن تاريخي لم يعد به النظام العربي الرسمي قادراً على رسم مصائر وتطلعات الشعوب، ومع تصدع بيت العرب، جامعته العربية التي تحولت إلى مومياء محنطة، تستدعى حين الطلب، في هشاشة عربية أدت إلى أنفلات الجغرافيا والتاريخ، بما يشكلان من خطر على حياة ومصير الشعوب..
استخدمت هذه القيادة التركية الحراك العربي لتشكيل نمطها في النظام الأقليمي، عبر الإسلاموية المذهبية السياسية والاقتصادية، ذلك في سعيها المؤجج للغرائز المذهبية ومن القاع السفلي للقيّم، نحو الفوضى (الخلاقة)، وصولاً إلى ما ترنو إليه في الأجندة الغربية. باعتبارها بعينها في المنطقة نموذجاً للدولة الزمنية المقرونة بالسلطات الاسلاموية المذهبية السياسية.
في هذا النموذج وعلى سبيل المثال؛ إذا ما ولينا وجهنا إلى مصر العروبة؛ سنرى أن الإخوان المسلمين القرين الاردوغاني، ولاحظ التسمية – العدالة والحرية؛ قد قرروا احتكار عملية اصدار القرار السياسي، وإقصاء ممثلي كل الأحزاب السياسية والليبرالية واليسارية؛ بالإصرار على تشكيل الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور الجديد لمصر، ومن خمسين بالمئة من حزبهم وحزب النور السلفي وما شابههم، في مجلسيّ الشعب والشورى، أي تحقيق انقلاب تشريعي كامل على التشريع المصري، بما يعني ذلك من مغادرة الحداثة القانونية التي تطبقها جميع النُظم الحداثية، وبما هو مغاير للحداثة الاجتماعية بعدم التمييز، وبناء مجتمع يذوب الجميع في نسيجه..
رغبة الاردوغانية المحمومة في الاقتراب من الغرب، سياسياً ممثلاً بروكسيل وحلف الاطلسي، والانضواء تحت سقف الاتحاد الاوروبي، ولا غضاضة في الاخيرة سوى عدم تماثل الأردوغانية مع انماطه الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، سوى أنه جعل من أنقرة رهينة كبيرة لخدمات الغرب، باستخدامها في حل مهماته الاستراتيجية والتاكتيكية في سياق شعوب "الشرق الاوسط الكبير" العربية والاسلامية، والعمل على زرع الانشقاق في المعسكر الاسلامي عموماً.
وباعتبار الاردوغانية مسمار جحا الاميركي، فلا يجد صاحبها حرجاً في التدخل في كل شاردة وواردة في دول الاقليم، واطلاق الفتاوي السياسية في شؤونها وشجونها، في حين أن تركيا ذاتها هي دولة مأزومة بنيوياً، وتعاني من أزمات لا حصر لها، على المستوى القومي الإثني والمذهبي، وما أدل على ما نذهب إليه هو الموقف الفرنسي في كبح الأحلام التركية، بالتلويح في كل مرة بمذبحة الأرمن وغوائلها..
سبق وأن عزف اردوغان على عصب وجداني عاطفي عربي مؤثر لدى الشعوب العربية، ونجح في كسب الإفتتان والود، ذلك عبر سفن كسر الحصار عن قطاع غزة، بما تمثل القضية الفلسطينية انسانياً في الوجدان العام. لكنه بعد هذا الكسب، وقف على لائحة الانتظار، لأمر الراعي الاميركي؛ في استئناف العمل بالاتفاق الاستراتيجي التركي – الصهيوني، نظراً لفعاليته ومفصليته في الاستراتيجيا الأميركية في المنطقة؛ وعندما نصل إلى هنا؛ بالتأكيد سيختفي الصراخ الاردوغاني الشعبوي وشروطه الفارغة من المضمون، خاصةً وأمامه اليوم حقول الغاز الواعدة والمكتشفة بين شرق قبرص والشاطئ الشرقي للمتوسط، بما تشي من اسالة اللعاب والبحث عن حصة في السطو على الثروات. هذا ما يتطلب تدخل العراب الاميركي، لحل المشكلة القبرصية المزمنة.
للتأكيد فيما نذهب إليه؛ هو أن تركيا لم تتخذ أية خطوات سياسية عملية، ممكن أن تكون قاسية ضد اسرائيل، كما لا توجد تغييرات تذكر في العلاقة الاقتصادية بينهما، فضلاً عن اهتمام تركيا المحموم بتنمية التعاون العسكري والعلاقات في مجال التنسيق الأمني.
هكذا، فالضجيج التاكتيكي الدخاني سرعان ما سيهدأ أمام الاستراتيجي، أمام مشروع خط (نابوكو) للطاقة، عندما يبدأ الميل بانعاشه؛ لنقل الغاز من آسيا الوسطى وبحر قزوين إلى شواطئ المتوسط التركية، أي الهدف الرئيسي هو بادماج تركيا في الهيمنة على مصادر الطاقة.
بل إن نشر الدرع الصاروخية الاميركية الاطلسية في ملاطية بهضبة الأناضول، خدمةً للسياسيات العدوانية المشبوهة، ووفقاً للسان الحال الأطلسية بالذات؛ فهي ضد ايران، بما تعني من وضوح عميق في تل أبيب، حول الاستعداد ومن الأراضي التركية العمل لحماية الدولة الصهيونية من "الخطر الايراني النووي" كما هو مُدَعى، وبما يعني من دور في مواصلة الأجندة الغربية في العالم الاسلامي وفي نطاق الاقليم، هذا كله في سياقات الوجه الحقيقي للاردوغانية..
في الأقنعة والانتهازية الأردوغانية، نشاهد الإقتناص الشُعبوي للفرص، حين قام اردوغان بزيارة القاهرة بالتزامن مع الأحداث الكبيرة التي أجبرت السفير الاسرائيلي بالخروج مطروداً من القاهرة، بسبب الاحتجاجات الشعبية الغاضبة والحاشدة.
إن توقيت الزيارة مع منتصف الليل؛ كانت كفيلة بأن يحظى باستقبال عاطفي من الشعب المصري، تقديراً واعجاباً، وبما ترمز من معنى لذاته في مشهد الشارع العربي، نحو فرض نموذج بعينه بكامل أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية "المسلسلات التركية الكثيرة والمطولة"، ومعها رعايته للديمقراطية العربية في عموم اقانيمها، باعتباره قريباً من التاريخ والجغرافيا والتراث.. أي باعتباره البديل.
ونرى أيضاً وجهاً آخر للسياسة التركية، في "استخدام لغة الحوار"، وفي نصائحها التي توجهها هنا وهناك، هذا الوجه الذي يسقط مباشرةً في التعامل مع الداخل التركي ذاته، والذي يتمثل بتصعيد العمليات ضد المعارضة الكردية في بحثها عن حقوق قومية، في الحرب الشاملة العسكرية والسياسية، ومؤخراً جرى اعتقال ستة الآف ناشط سياسي ومدني وحقوقي كردي، فأحلام "الباب العالي" الساعي بجنون إلى الدخول تحت خيمة الاتحاد الاوروبي، هذه الاحلام المبددة تعود بشكلٍ آخر من الخطط نحو "كومنولث عثماني" يضمُّ خمسة وأربعين بلداً..
تجري هذه الأحلام دونما توقف عن منهج مذهبي سياسي، مبهوراً بأبواقه الفضائية العربية الموغلة في التكفير وبصب حرائقها في الانقسام المذهبي المقيت، في خدمةً لتوسعية آل عثمان، وتسميم الهواء الاعلامي بالمتخيل الأسطوري، بالتعبد في كهوف الماضي، حين تستدعيه في كل لحظة لتقرر به ثقافات الشعوب المعاصرة، في استنساخ ما بعده استنساخ للأفكار الماضوية..
نتساءل ونحن في عالم اليوم عن حروب القبائل الليبية، هذه الحروب التي لم تكن لتقع حتى تحت الحكم الملكي والاقطاعي..
إن العالم قد تغيّر، وثمة جديد قد تبلور، وهناك دول تحجز دورها ووجودها وتقرع التاريخ بقوة مثل روسيا والصين والهند ومعها دول اخرى تشكل مجموعة "بريكس"، وقد طرقت أبواب العالم الراهن بقوة، تقول: "نحن هنا"، مغايراً لأحلام العالم القطبي الآفل، واية أحلام ومشاريع أُخرى بما فيه النيوعثماني الذي ولد ميتاً..