من الإدارة بالأزمة إلى الإدارة بالفوضى ، تطور الإستراتيجية الأمريكية في سياستها الخارجية .!!


احمد عبد الستار
2012 / 4 / 19 - 08:58     

قبل الخوض في موضوع الأزمات وافتعالها وتطوراتها , في إدارة أمريكا للسياسة الخارجية في العالم , ضرورة التفريق قبل كل شيء , بين مفهومي ( إدارة الأزمة ) ومفهوم ( الإدارة بالأزمة ) السياسيين . اللذان تلازما مدة طويلة كبرامج استراتيجيه اعتمدتهما السياسة الخارجية الأمريكية كمنهج عمل , لتغيير نتائج الكثير من القضايا العالمية الساخنة لصالحها ,سيرا على ديدنها الدائم للهيمنة على العالم .

يبدو المفهومان متقاربين من حيث اللفظ والشكل , ولكنهما يتضمنان فرقا في المعنى وفي الواقع , فالمفهوم الأول يشير إلى وجود نزاعات حقيقية , إن جاز القول , بين ما تعارف عليه العالم , خلال ما سمي بالحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي ( الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية ) و المعسكر الغربي بقيادة ( أمريكا , وأوربا الغربية ) , على سبيل المثل , مثل أزمة الكوريتين , وأزمة برلين وأزمة الصواريخ الكوبية , في العقدين الخامس والسادس من القرن المنصرم , وكيف توصل الطرفان المتنازعان إلى نتائج تحول دون إغراق العالم بطوفان نووي لم يبق على أحدٍ ولم يذر .

فالأزمات المذكورة هي أزمات قد حصلت ووقعت فعلا دون أن يفتعل وجودها طرفا ما , وقد حصل وقوعها بحكم ضرورات التأزم التاريخي بين المعسكرين , حلت بطريقة ( إدارة الأزمة ) , أي السعي لحلحتها أو حلها نهائيا بشتى الطرق والأساليب السياسية المتاحة , وسخرت الجهود السياسية المبذولة آنذاك كهدف لحلها والتخلص من عواقبها الوخيمة .

أما المفهوم الثاني ( الإدارة بالأزمة ) , فهو يختلف عن الأول من حيث طبيعته ومن حيث الأهداف . تكون ( الأزمة ) هنا أما مفتعلة وأما مخلوقة , لمقاصد سياسية تأتي في غالب الأحيان من مصدر خارجي , وفي معظمها تكون أمريكا هي السبب المباشر وراء افتعال مثل هكذا أزمات , لأنها صاحبة الباع الطويلة والمتمكنة , والخبرة الكبيرة بهذا الخصوص بالذات , تهدف ورائها تطويع حالة ما في بلد ما لاستراتيجياتها بعيدة المدى , بواسطة افتعال الأزمات والتدخل عبر هذه الأزمات في الشأن الداخلي لبلدان العالم وتغيير اتجاه حركتها باتجاه مصالحها ( أمريكا ) الخاصة , ومدمرة مصالح بلدان العالم وجماهيرها بعرض حائط الأزمات المفتعلة . وقد شهد العالم وشهدنا في منطقتنا الكثير من الأزمات المفتعلة والمخلوقة لاسيما في الآونة الأخيرة من العقود القريبة الماضية , مثلما افتعلت أزمة الكويت وغزو القوات العراقية إليها واحتلالها , وحصل ما حصل من تداعيات , كانت من نتائجها تدمير العراق وثم احتلاله وتمزيقه بين الطائفية والفوضى الكبيرة . وكما يحصل الآن في مصر وافتعال الحرب الطائفية بين الأقباط والمسلمين , وكذلك ما يحصل في ليبيا من صدامات قبلية ليس بعيدا موضوعها عن هذا الأمر , وهذه الأمثلة نوردها على سبيل المثل لا الحصر .

نرى من خلال ما يتكرر من سيناريو يكاد يتطابق تطابقا كليا , في ما جرى وما لا زال يجري في البلدان التي تدخلت بها أمريكا أو التي دخلت إليها , إن فصول المسرحية متشابه في كل هذه البلدان , ابتدءا من أفغانستان إلى الصومال مرورا بالعراق ومصائبه التي ليس لها عد , والذي ما زال يجري في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا . نرى إن موضوع النية في تدمير هذه البلدان وإعادتها للوراء قرنا كاملا على تاريخ أنشاء دولها ومجتمعاتها المدنية والعصرية , ملموسة لمس اليد . ولو عدنا لبداية الأزمة العراقية الكويتية وراجعنا قول ( دك جيني ) لطارق عزيز , خلال اللقاءات الثنائية , بين الطرفين , بأننا قادرون على إعادة العراق إلى ما قبل العصر الصناعي , سيساعدنا في فهم نية أمريكا وفهم خططها واستراتيجياتها بعيدة المدى العالمية أو في المنطقة , ومن الملاحظ انه قد تم تدمير العراق تدميرا مبرمجا , سحقت كل بنيته الخدمية والصناعية تدميرا كاملا وتعطيل الشرايين الأساسية لحياة المواطنين مثل الكهرباء والماء الصالح للشرب وغيرها كثيرا.. أي أَعيد العراق القهقرى قرنا أو أكثر على زمن العصر الصناعي الحالي , وتم احتلاله وتدمير مؤسسة الدولة بالكامل .

في بلد مثل العراق ( الذي لا زال نورده مثلا ) عندما تدمر مؤسساته العصرية , فأن ذلك يعني ستبرز فورا على سطح المجتمع مؤسسات ( ما قبل الدولة ) , وهي المؤسسة القبلية والمؤسسة الدينية , وهذا الأمر خاص ببلداننا يتعلق بحكم طبيعتها المتخلفة , قياسا إلى رسوخ الحياة العصرية في البلدان المتقدمة .

فإن تدمير مؤسسة الدولة في البلدان المتخلفة يعني تفكيكها وإعادتها إلى مكوناتها الأولية قبل قرون من تأسيس دولها المعاصرة , وهذا بطبيعة الحال سيؤدي إلى خلق حالة من الفوضى , كما هي مشهودة في مناطق كثيرة تعرضت لانهيار الدولة , وما يحصل في أفغانستان والصومال والعراق دليل بيّن على صدق حقيقة هذه التجربة الجديدة , وستنتقل الفوضى لبلدان ما يسمى بالربيع العربي , أي البلدان التي حصلت بها ثورات جماهيرية أسقطت الأنظمة الدكتاتورية , وهي الآن بلا حكومات تسيطر على الدولة , بشكل فعلي , صعد الإسلاميون ظهر الموجة ليسيطروا على المجتمع من خلال مؤسساتهم القديمة على الدولة , ونرى الفوضى تضرب بإطنابها في ليبيا ومصر وتونس , كذلك .
وحتى في سوريا سواء أطيح بالأسد أم لا فأن الفوضى قد شاعت كما شاعت في اليمن بعد تنحي صالح عن الحكم .

بعد هذه التجارب التي طبقت في الواقع وبعد تكرارها بشكل منتظم , يمكن القول بما يشترك من قواسم خلالها , إن الإستراتيجية الأمريكية الموضوعة لإدارة هذه البلدان هي الفوضى , لا حكومة فعلية ولا دولة مركزية , بمعنى إدارة زمام البلد وتلبية حاجات أبناءه الضرورية لحياتهم اليومية , لكي تبتعد بواسطة مؤسسات القرون الوسطى تطلعات جماهير هذه البلدان مسافة بعيدة جدا عن إمكانية تحقيقها , والجماهيرية المتمدنة تعلمت الدرس سريعا وستنبثق سلطة ودولة تلبي حاجاتها وتطلعاتها التي لا تقبل المساومة أو المهادنة , على أنقاض العفن الرأسمالي برمته .