في الفن


محمد فيصل يغان
2012 / 4 / 9 - 22:39     


من المتفق عليه أنَّ الفن والدين والسحر وكذا العلم أي الإبداع البشري عموماً كانت في مرحلة الوعي البدائية منصهرة معا في بوتقة واحدة (ارنيست فيشر, الاشتراكية والفن), وانَّ تطور الوعي على مراحل أدى إلى تمايز هذه العناصر عن بعضها البعض مع احتفاظها بصفات تدل على أصلها الواحد. من هنا نجد انَّ البحث في أيٍّ من هذه الأشكال لفاعلية الوعي البشري, لا بد لها من أن تتطرق إلى الأشكال الأخرى, فلا غرابة إذن في أن نلمس ملامح للسحر في العلوم أو أن نلمس الإبداع الفني في الشعائر والنصوص الدينية, فالأصل فيها كلها أنَّها تتعامل مع عالم مفارق ظاهريا للعالم الطبيعي (قوانين مجردة, مثل, مفاهيم, قيم), العالم الذي أوجده الإنسان بالآلية الانفعالية, وأنّها تهدف للتجسير بين هذين العالمين. وهنا نميز العمل البشري المباشر للطبيعة المادية, أي التقنية وأهدافها العملية الواضحة عن أشكال الفاعلية الإبداعية البشرية المذكورة, فالتقنية تبدأ بمحاكاة الأشياء المادية واستنساخها, فالسكين مثلاً هي محاكاة لقطعة حجرية ذات حافة حادة تصلح لقطع الأشياء, وإن كان هناك ما يمكن تسميته إبداعًا, فما هو سوى الفاعلية العقلية الموزونة التي تهدف إلى رفع كفاءة الأداة, وهذا يختلف نوعيا عن عملية تمييز سكين بعينها من خلال نقش رمز عليها أو تطعيمها بالأصداف والحجارة اللماعة, فالممارسة الأخيرة تدخل في مضمار الفن كونها تجسر ما بين هذه السكين والعالم المفارق الذي يستشعره الفنان حدسيا. فإنْ كانت الإشارة المرسومة على السكين ترمز إلى صاحبها, فهي تجسر ما بين السكين المادية وذات الفنان التي تتجاوز وجوده المادي الحسي, وإن كانت إشارة ذات مغزى سحري فهي تجسر ما بين السكين وقوى مفارقة يتمنى منها الفنان طرح قواها بالسكين. وهذا الفارق ما بين شكلَي الفاعلية البشرية المذكورين (التقني و الإبداعي) هو ذاته عند محاكاة شكل الحيوان من خلال لبس جلده وتقليد صوته بهدف استدراجه لمسافة أقرب تسهل للصياد عملية اصطياده, فهذه فعالية تقنية. أمّا محاكاة الحيوان بهدف استحضار ذاته المفارقة والسيطرة عليها قبل الشروع بعملية الصيد فهي ممارسة سحرية وهي بهذا المعنى فن. الفن بأصوله ينتمي للجزء الحدسي من العقلانية البشرية, ينتمي إلى ما يسمى بالجانب الديونيسي للفكر وهو إلمام بالكلي حدسيا ومعاناة متزامنة لكل العناصر والعوامل المشكلة للموقف, أو ما يسمى الهامًا.
هذا هو مصدر الفاعلية الفنية, وبهذا التحديد يكون كل البشر فنانون بالقوة, فكلنا نمتلك جانبا حدسيا ولكن بدرجات من المعاناة متفاوتة, وبدرجات متفاوتة من القدرة على توصيل هذه المعاناة إلى الآخرين حسب تفاوت درجة الإتقان لجانب الصنعة الفنية (الموهبة), فمن حاز على قدرة عالية على المعاناة في التجربة وايضًا على قدرة عالية على توظيف أدوات الصنعة, كان فنانا بالفعل.
لغة الفن هي لغة تواصل (لغة الحدس), سواء كانت باللغة المحكية أو اللون أو الأصوات, وهذه الوسائل هي وبنفس الوقت أدوات للاتصال (لغة الفكر الموزون), والفنان هو من يمتلك الموهبة على تطويع هذه الأدوات الاتصالية لغرض تواصلي (الميتافورا حسب تعبير أرسطو), وهذا تمليه ضرورة الانتقال من الفردي إلى الجماعي سواء كانت التجربة التي يعبر عنها الفنان مشتركة أو متميزة, أي ضرورة استخدام (لغة مشتركة) (... إنّ تجربتها الذاتية "الشاعرة الإغريقية سافو م.ي." اصبحت موضوعية عن طريق اللغة المشتركة, بحيث اصبح من الممكن أن تقبل كتجربة إنسانية عامة.) (ارنست فيشر الإشتراكية و الفن). فالفنان وإن كان يحوّر ويحرِّف اللغة المحكية عن استخدامها الاتصالي التواضعي, فتصبح كلمة مطر مثلا تعني شيئا مركبا لا علاقة له بالمعنى المتواضع عليه, وكذلك استخدام الألوان بطريقة ابتداعية كأن يجعل لون العينين لآدمي في اللوحة أحمر على خلاف المتعارف عليه في الطبيعة, والأمر كذلك عندما يتلاعب الفنان بالخطوط الطبيعية فيمثل ما هو مستقيم طبيعيا على شكل منحنى أو أن يبالغ بأبعاد الأشياء المرسومة على غير طبيعتها, إلا أنَّ هناك درجة من التواضع على الرموز لا بد منها (.. لهذا يخضع الشاعر الذاتي للقيود الموضوعية للوزن والشكل, للطقوس السحرية والشعائر الدينية. وإذا كان الكائن البشري الشخصي والأشواق الفردية, بل هو يخضع عن وعي لقيود اللغة وقواعد السلوك, فإنّ ذلك كله يغدو بلا معنى ما لم ندرك أنّ الفن هو سبيل الفرد للعودة إلى الجماعة) (المصدر السابق) في الحياة العملية يستخدم البشر هذه الأدوات للاتصال, فالرسوم والكلمات والألوان والأصوات لها معانٍ متواضع عليها لأغراض عملية, وبضمن قدرة هذه الأدوات الطبيعية على التوضيح, أمّا الفنان وكونه يهدف إلى التجسير ما بين عالمين واحد مفارق متعدد الأبعاد (الإلمام المتزامن بكافة أبعاد الموضوع) وواحد مادي محدود الأبعاد, وبالتالي أكثر تسطيحا من أن يسمح للمفارق بالحضور بكافة أبعاده, من هنا دور الفنان وصنعة الفن, أي القدرة على تقعير الكلمة والخط واللون والحركة بما يسمح باستيعاب وتمثيل المفارق المتعدد الأبعاد.
لأهمية التواصل بالشكل الأمثل مع العالم المفارق, عالم القوى السحرية والآلهة, ظهر دور الكاهن والساحر والشامان, كشخص يجيد هذه الصنعة بشكل أفضل من الآخرين وتولى قيادة المراسم والشعائر فكان أوّل تقسيم للعمل في المجتمع البشري البدائي, ومنه انحدرت سلالة الفنانين من قائد للخورص في اليونان القديمة إلى قوٌاد فرق الإنشاد الدينية والشعراء. وهذه العلاقة ما بين الفن والعالم المفارق تفسر إرجاع عملية الإبداع إلى جنيات وشياطين الشعر مثلا وإلى الوحي السحري في حالات الهلوسة.
الأصل الديني والسحري للفن رتب عليه وظيفته الأساسية, التطهير. وظيفة الفن في مرحلة الوعي البدائي هي كما أوضحنا التواصل مع العالم المفارق الذي أنشأه الإنسان انفعاليا (أنظر جان بول سارتر, نظرية الإنفعال), ومن خلال هذا التواصل يحصل التطهير للمجموعة البشرية المشاركة في الطقوس ويخلصها من مخاوفها ومشاعرها القلقة, وقد ظلت هذه الوظيفة مضمرة في الفن, فحتى يومنا هذا تظهر لنا في بعض الأعمال الفنية بشكل واضح ومباشر, وبشكل مضمر ولا شعوري في أعمال أخرى. وفي المراحل التي يسود فيها القلق وعدم الاتزان في المجمتمعات الإنسانية, نرى أنَّ الفنون التي تظهر كردة فعل على هذه الأوضاع تتعاظم فيها الوظيفة التطهيرية من خلال اللجوء إلى التجسير مع عالم مفارق أسمى وأعدل من العالم الواقعي, عالم المثل, حيث ينفصل الأبيض عن الأسود والخير عن الشر بشكل نهائي على خلاف ما هو حاصل في الواقع البشري, حيث يختلط الخير بالشر في النفس الإنسانية الواحدة إلى درجة يفقد فيها الفنان البوصلة والقدرة على التمييز بينهما.
لحصول التطهير شرطان, الأوّل أن تكون التجربة مشتركة, أي أن تكون المعاناة التي يخلصنا منها العمل الفني متأصلة في نفوسنا, والشرط الثاني هو أن تكون معاناة الفنان أعمق وأشد من معاناة الجمهور, وأن ينجح في توصيلها للآخرين على هذه الدرجة من العمق. بالمماثلة مع ظاهرة الرنين, نجد أنَّ الشوكات الرنانة تمتلك درجات طبيعية من التردد تتجاوب من خلالها مع المؤثر الخارجي, وهكذا إذا ما نجح الفنان في وضعنا بدرجة أعلى من التوتر اختبرها هو ولم نختبرها نحن سابقا, حصل التطهير. فمن فقد شخصا عزيزا مثلا, تبقى المعاناة في داخله قائمة طوال الوقت, ولكن على درجات منخفضة من التوتر نظرا لطبيعة الحياة ومشاغلها, وقد نمارس نوعا من التطهير من خلال الأحلام أو الانهيارات العصبية أو من خلال المعالجة بالفن, فالعمل الفني الذي يرفعنا إلى درجة عالية من التوتر, ومن ثم يفرغها من خلال تقديم تجربة الفقد هذه فنياً, يخلصنا ولو مؤقتا من مشاعر الحزن الدفينة فينا. هذا فيما يخص وظيفة التطهير, وننتقل الآن إلى الوظائف الأخرى للفن, وظيفتي الإمتاع, والتعليم والتنظيم.
مع تطور الوعي البشري وتطور المجتمعات الإنسانية وظهور المؤسسات والطبقات, أخذ الفن على عاتقه وظائف جديدة, فكانت وظيفة الإمتاع ووظيفة التعليم والتنظيم. فأصحاب الثروة يبحثون عن المتعة والفن قادر على ذلك, ومن هنا بدأت الصبغة السلعية للفن, إلى أن انسلخ الفن عن جذوره تماما وأسقط وظيفة التطهير وحتى وظيفة التعليم والتنظيم لصالح الإمتاع, فتحول إلى صنعة الترفيه, وهذا التحول كما نراه وصل قمته في العالم الرأسمالي, ولا يزال البعض يسميه فنا هابطا بتأثير الأصول.
أمّا الوظيفة التعليمية, أو ما يسمى التعليم من خلال المتعة, فهو الدور الذي أسندته المؤسسات إلى الفن, والتعليم هنا ليس بريئا بل موجه عقائديا, والهدف هو أقرب إلى غسل الأدمغة منه إلى التعليم, ويظهر هذا الدور واضحا من خلال التوظيف الديني للفنون وبخاصة في إطار الكنيسة وفي إطار أنظمة الحكم الشمولية والعقائدية المتحجرة. يشكل الإسلام من هذا المنظور حالة خاصة, فالإسلام يعي جيدا قدرة الفنون على أداء هذا الدور التعليمي التنظيمي, والأهم الدور التطهيري الذي كان يقوم به ضمن الممارسات الوثنية القائمة قبل الإسلام. فالتشدد الإسلامي بمنع الرسم والتجسيم من جهة وسجع الكهان والشعر من جهة أخرى, يبرره إناطة الدور التطهيري بالشعائر الإسلامية من صلاة ونصوص قرآنية وأدعية. أمّا الدور التعليمي فهو أيضًا مناط بتعاليم القرآن والسنة ولا حاجة لمصدر آخر خارجي. ونهاية, فإنّ وظيفة الإمتاع والتي تتوجه للغرائز بشكل أساس, تم اختزالها إلى أشكال من الفنون إما حيادية تماما من حيث الوظائف الأخرى كالزخرف والخط (وفن الخط يركز في معظمه إنْ لم يكن كليا على النصوص الدينية) أو الموشحات والأناشيد الدينية القائمة على الحد الأدنى من الألحان الإيقاعية (الدف والطبل) وكذا التجويد. وكون الفن هو جزءًا أصيلاً من تركيبة الإنسان, تطورت مرة أخرى الفنون في الكنف الإسلامي على شكل الشعر الديني والصوفي بخاصة وحلقات الذكر ومجاميع الدراويش. لو أنَّ مختصا بالفنون قام بتصنيف الفنون الإسلامية على مر العصور لوجد أنّها لا تختلف كثيرا عن تصنيفات الفن الغربي, ولوجد أن هناك فنونا يمكن تصنيفها على أنّها كلاسيكية وأخرى رومانسية وثالثة واقعية تتماشى مع دورها كانعكاسات للواقع الاجتماعي. وكما أنّ هناك شروطا للوظيفة التطهيرية للفن, فهناك أيضًا شروط للوظيفة التعليمية والتنظيمية, الشرط الأوّل هو الجدة. فأما أن تكون التجربة موضوع العمل الفني جديدة, أي أنّها فردية بامتياز ولم يخبرها الجمهور, كأن يكشف لنا الفنان عن القبح القابع خلف واجهة كنا نراها دوما جميلة أو الشر القابع في ثنايا ما تعودنا اعتباره خيرا, أو أن تكون طبيعة ودرجة التفاعل مع هذه التجربة والتي يبثها الفنان جديدة وخارج (الترددات الطبيعية) عند المتلقين, كأن يدعونا الفنان للتمرد على واقع ما, اعتدنا أن نتفاعل معه بخنوع. أما التنظيم, فهو توحيد ردود الفعل والمشاعر لجمهور المتلقين, وهو ما نلاحظه في الممارسات الشعائرية سواء الدينية منها أو الحزبية أو الوطنية, وهذه الوظيفة للفن تراهن على بساطة وسذاجة الجمهور المتلقي, كالأطفال مثلا, والطبقات ذات المستوى الثقافي المتدني.
ظهور وظائف جديدة للفن كأداة يوظفها الفكر الموزون بهدف التأثير على الأفراد من جهة, واصطباغه بالصبغة السلعية من جهة أخرى, أدّى إلى تقعيد وتقنين الصنعة بشكل طبيعي تلقائي أحيانًا وبشكل مدروس ومقصود أحيانًا أخرى, وأصبح لكل فرع من فروع الفن قواعد وقوانين يتوجب على الفنان المبتدئ تعلمها وإتقانها, وأصبحت هناك مدارس وأساتذة لهذه الفروع أسوة بكافة الصنائع الأخرى, وهكذا أصبحت السيطرة للجانب الأبولوني من الفكر. ومع انفصال الفن عن توائمه السحر والدين ومهننته, انتفت عنه الصبغة الجماعية وأصبح الفن فاعلية فردية بامتياز, فكل الأعمال الفنية التي تصنف على أنّها عظيمة هي من إنتاج أفراد على عكس الفنون القديمة التي انحدرت منها أجزاء إلينا على شكل فولكلور, فهي جماعية الأصل وإن كان هناك من قاد عملية إبداعها إلا أنّه كان فردا ضمن مجموعة وممثلا أصيلا لأحاسيس الجماعة, ومن هنا قدرة الفنون الشعبية على إحياء المشاعر القومية وتعزيز الوحدة الوطنية.
و أخيراً, فإن أيّة محاولة للسيطرة على النتاج الفني البشري بهدف توظيفه لأغراض فئوية سواء لنظام أو طبقة تؤدي بالفن إلى الضمور ولا تنتج إلا أشكالا مشوهة منه. فالفن بطبيعته انعكاس صادق للواقع في وجدان الفنان الفرد, وبالتالي يمثل المقياس الأمثل لتلاؤم الفرد مع الأوضاع الاجتماعية السائدة, ومؤشرا حقيقيا للانحرافات التي تخلق القلق في نفوس الأفراد.