حركة ثورية أم فوضى خلاقة ؟


عقيل طاهر
2012 / 4 / 7 - 01:14     

يدخل المرء بستاناً في غاية الجمال ، مأخوذاً بالجمال لدرجة الجنون , يتوجه نحو الشجرة يقطف ثمارها لكنه يتسمم و يموت ! يقول تولستوي : (( وهم غريب أن تفترض أن الجمال هو الخير )) هذا هو الربيع العربي . فالربيع العربي جميل جداً لدرجة أننا نفترض أنه الخير و نحن على وشك أن نذهب إلى تلك الشجرة و نأكل ثمارها التي ستسبب بموتنا جميعاً .
يأتينا الربيع العربي , بطريقة سريعة , يهدم دولاً و يبني دولاً خلال سنة فقط . الجماهير مبهورة بهذه العاصفة , التي يرونها , من جانبهم , نسيم , فيتمشى الجمهور لابساً ملابس قصيرة آملاً أن يتمتع بالجو الجميل الذي سرعان ما يثبت عكس آماله .
الأسئلة الملحة التي يجب علينا أن نطرحها, هل الربيع العربي أتى بطريقة عشوائية ؟ أي أنتفاضات شعوب يائسة , أم هي من أبتكار اجنبي – و تحديداً أبتكار الولايات المتحدة – و هل كل هذه التضحيات تأتي تحت عنوان : فوضى من أجل الحرية أم فوضى خلاقة ؟ . و لا بد منا أن نحدد معنى " الفوضى الخلاقة " و جذور هذه الفكرة , التي – بإحتمال كبير – تأخذ مجراها في عالمنا العربي لتغير أنظمة ليس في سبيل تحرير الشعب – في معناها الأصلي – بل في سبيل مصالح أمم عظمى تكسب من وراء هذه الفوضى التي تحدث في عالمنا العربي , و لكننا لا يمكننا بهذه السهولة بوح أن الربيع العربي " مؤامرة أمريكية " من دون طرح إثباتات كافية و قوية تدل على تلك التهمة , و في مثل الوقت , لا يمكننا أن نقول أن تلك الثورات من أبتكار الشعب من دون أن نقدم إثباتات قوية تدل على ذلك .
المشكلة التي تداهمنا حالياً , هي الخلل في المفاهيم , فما هو الخير و ما هو الشر ؟ فهل الأنظمة الدكتاتورية الأستبدادية هي أفضل من الأنظمة الجديدة المدعومة أمريكياً ؟ , أو بالأدق , تلك المشكلة التي تداهم الشعب العربي – عموماً – فالفرد العربي لا يعرف أن يقف بجانب من . و أياً كان المسؤول عن تلك الأحداث , فهو متقصد و متعمد في خلق تلك الفوضى التي نشهدها اليوم , ليتحرك بشكل سريع في تلبية آماله و طموحاته .
فالأنظمة الدكتاتورية الإستبدادية , , كانت تتشدق بالوحدة و ثبات الدول , على سبيل المثال , (( معمر القذافي )) في " ليبيا " , فبغض النظر عن ماذا فعل و قتل و عذب ألخ , لكن ليبيا كانت ثابتة و متمسكة و الأهم مستقلة من القيود الأمريكية , و لكن الآن بعد سقوطه , ليبيا على وشك أن تنقسم . فالثورات التي تحدث في عالمنا العربي , ثورات ليس لها نظرية تقودها أو هدف سياسي واضح باستثناء ( الشعب يريد إسقاط النظام ) , فتلك ليست ثورات و لكن حركات فوضوية , فهل تلك الحركات الفوضوية تهدف إلى الحرية من قيود الإستبداد و الدكتاتورية ؟ من وجهة نظر الشعب فالجواب هو نعم , و لكن ما البديل ؟ لا يعرفون الجواب . و قد قلنا سابقاً في مقال ( أزمة الماركسية و غيابها عن الساحة السياسية ) كيف أبتعدت الأحزاب الشيوعية عن الساحة السياسية و تركت الساحة للإسلام السياسي , و يجب علينا أن نحدد هذا الإسلام السياسي أيضاً , ففي مصر القوة الإسلامية السياسية المسيطرة هي ( السُنية ) أيّ السلفيين و الإخوان المسلمين , و هذا يطبق على تونس و ليبيا و سوريا . فالإسلام السياسي السني يقود تلك الإنتفاضات الفوضوية تحت أجندات معينة و محددة , فهم من جانب – أي قوى الإسلام السياسي السني – يستفيدون من تلك الفوضى , حيث لا هدف إلا ( إسقاط النظام ) و من السهل ركوب تلك الموجة و التحدث بإسمها , و من جانب آخر , الجماهير التي تطالب ( إسقاط النظام ) ليست معتنقة لإيدلوجية معينة أو أفكار معينة فالمطلب فقط هو ( إسقاط النظام ) ليس بناء دولة ( فاشية ) أو دولة ( شيوعية ) أو ( إسلامية ) , و لكن في ظل هذا الفراغ الفكري يداهم الإسلام السياسي السني إلى هذه العقول و يغذيها بالجنة و النار و الحور و الفردوس , فالجماهير الفارغة فكرياً يسهل إستغلالها , و هذا ما فعل الإسلام السياسي السني في مصر , و تونس , و سوريا , و ليبيا . و الأمر لا يقتضي فقط على الإسلام السياسي السني , بل نجد أيضاً الإسلام السياسي الشيعي , الموجود بكثافة في المنطقة الشرقية و البحرين و العراق و لبنان , فالإسلام السياسي الشيعي على غرار السني , يداهم تلك الجماهير الفارغة فكرياً , و من المهم أن نقول أن الإسلام السياسي الشيعي و السني يداهمون أفكار أبناء طائفتهم فقط , و لهذا نجد نزاعات قوية ما بين الطائفتين في الدول الإسلامية و الشبه إسلامية , فالطائفية تخلق من خلال هذه المداهمات في عقول الجماهير .
فما هو المفهوم الحقيقي للثورة ؟ يقول سلامه موسى : (( و جميع الثورات , ليس في اوروبا وحدها , بل في جميع القارات الاخرى و تجري على اسلوب لا يتغير, هو اضطهاد سابق يجمد و يتعنت ولا يقبل المفاوضة , ثم انفجار , ثم تغيير يؤدي إلى محو هذا الاضطهاد . و يبدو لنا من النظر في الثورات أن الشعب كله ينهض بها , و لكن عند التأمل نجد ان طبقة واحدة تحس الاضطهاد او الضغط أكثر من غيرها , و هي التي تضطلع عندئذ بالدعوة إلى الثورة , و توضح فلسفتها و تهيء محركاتها , حتى ينضم الشعب كله اليها , بعد ان يعرف عدالة موقفها و شرف غايتها . ))

فنفهم أن الثورة تتبلور تحت إضطهاد طبقة لطبقة , و سرعان ما يتكور هذا الإضطهاد إلى أنفجار عظيم للطبقة المضطهدة , فيكون الهدف الرئيس لتلك الطبقة المضطهدة هي أزالة هذا الإضطهاد , و بذلك يشارك الشعب أبناء الطبقة المضطهدة في صنع الثورة تحت شعار أو تحت مفهوم واحد مشترك .
فعلى سبيل المثال , وجدنا الثورة الفرنسية كيف أنفجرت بعد إضطهاد الارستقراط للفقراء , فالطبقة الفقيرة كانت هي الطبقة التي تم أستهدافها , حيث عانت هذه الطبقة من الجوع و الموت و تزيد ماري أطوانيت الطين بله بمقولتها الشنيعة : (( فليأكلوا البسكوت)) . أو مثلاً ثورة أكتوبر العظيمة نجدها نموذجاً مثالياً لثورة العمال , فالإضطهاد الذي كان تقاسيه الطبقة العاملة لا يمكن وصفه, و بهذا تحولت الطبقة العاملة إلى طبقة ثورية تقود الشعب إلى الإطاحة بالنظام القيصري و من ثم بحكومة كيرنسكي المؤقتة .
و أذا أردنا أن نبتعد عن النماذج القديمة , فالثورة الإيرانية هي النموذج الأقرب زمنياً , فالثورة الإيرانية على غرار الثورة الفرنسية و الروسية الثانية , كانت ثورة طبقة ضد طبقة , و كان للشيوعيين دور هام في هذه الثورة , فمثلاً المنظمة الشيوعية الأكثر إبرازاً في عهد الثورة الإيرانية كانت منظمة فدائيي خلق ( أيّ شعب ) إيران و هي منظمة تأخذ الكفاح المسلح نهجاً لنضالها و كانت ترى أن الكفاح المسلح هو الحل الوحيد في سبيل إطاحة نظام شاه إيران البوليسي , و لكن سرعان ما تم أختطاف الثورة من قبل الخميني و أصحابه الملالي .
فالثورة في نموذجها الأصلي هي دائماً أنفجار طبقة تعاني و تقاسي إضطهاداً على أساس طبقي, فالثورة الفرنسية و الروسية و الإيرانية و الجزائرية و القرمطية ألخ .. تنتج من الإضطهاد الطبقي نحو العمال أو الفقراء أو الفلاحين .
و لكن , ما يميز تلك الثورات عن ثورات الربيع العربي ؟ الأمر معقد قليلاً , ففي مصر نجد أن الإضطهاد الطبقي موجود و أيضاً في تونس و ليبيا , و لكن تلك الثورات مطلبها الأساسي هي الديمقراطية , بالنموذج الغربي طبعاً , أياً كانت الايديولوجية المسيطرة لتلك الثورات فهي تطالب الديمقراطية , فحزب النهضة في تونس على سبيل المثال , حزب إسلامي يريد تطبيق الديمقراطية بنموذجها الغربي , فالأمر الذي يجب علينا أن نسلط عليه الأضواء هو أن المطالب ليست كالسابق , ( إشتراكية ) أو على الاقل لها روحاً إشتراكياً , مثل الثورة الفرنسية التي حملت شعار ( الإخاء , و المساواة , و الحرية ) , فالآن الثورات تعتمد على حريات سياسية أكثر من حريات إجتماعية و بذلك أعتقاداً أن الحرية السياسية ستجلب معها الحرية الإجتماعية , و من الصعب أعتقاد ذلك , فالثورة الأمريكية على سبيل المثال , كانت غايتها نبيلة , الإطاحة بالإستعمار الأنجليزي, و لكن حين مسك السلطة ( جورج واشنطن ) ركز على تأسيس دستور يدعم مفهوم الحرية السياسية أكثر من مفهوم الحرية الاجتماعية , فبالرغم من وجود فقر في الولايات الأمريكية أو سابقاً القارة الأمريكية , فكان التركيز الأهم هو الحرية السياسية , و الولايات المتحدة قدمت نموذجاً حول المطالبة بالحرية السياسية أولاً , فالإضطهاد الطبقي بعد الثورة كان واضحاً . و هنا لا يمكننا أن ننكر مطالب الأفراد – في الثورات الحالية – فلا شك أن الأفراد يطالبون بالحرية الإجتماعية – أيّ – أزالة القيود الطبقية , و لكن , توجهات الاحزاب التي تقود هؤلاء الأفراد مختلفة تماماً .
هذا من جانب , من جانب آخر نجد أن أيضاً الحركات الثورية ليست كالسابق , فمثلاً , الثورة الروسية الثانية تحت قيادة البلاشفة كانت لها نظرية ثورية واضحه , و هي الإطاحة بالحكومة المؤقتة البرجوازية و إستبدالها بحكومة تحت قيادة البروليتاريا , و لكن الآن في مصر او تونس المطلب الأساسي هو ( الشعب يريد إسقاط النظام ) , فيسأل السائل , بعد إسقاط النظام ماذا تريديون ؟ يجاوب البعض ( حرية تعبير , حرية سياسية ) فالمغزى من ذلك هو أن ليس هناك هدف واضح أو ثابت على الأقل كما في السابق .
فكل هذه الإختلافات ما بين الحاضر و الماضي , بين أهداف الثورات و الحركات الثورية , نستطيع أن نحللها ليس على مبدأ أن " أنتهى الصراع الطبقي " , بل أن الحركات الثورية الحالية ليست بحركات ثورية , لأنها لا تتسم بسمات الثورة كما نعرفها , فالصراع الطبقي لا شك موجود , و لكن الثورات التي أنفجرت لم تنفجر على أساس إضطهاد طبقي , بمثل الطريقة التي رأيناها في الثورة الروسية الثانية , لا ريب أن بعض الأفراد خرجوا ليحظون على حرية أجتماعية , و لكن , من غيّر مسار تلك الثورات أو الإنفجارات لم يضع الحرية الاجتماعية كهدف رئيس له .
فما هي المشكلة مع فوضى تهدف إلى إسقاط أنظمة دكتاتورية إستبدادية ؟ , الفوضى التي تحدث في عالمنا العربي مثل فوضى الخلايا التي تحدث في الجسم التي تؤدي إلى السرطان , فلا توجد مناعة لتلك الخلايا و بذلك يسهل أصابة هذا الجسد بالسرطان , الأمر سيان مع الحركات الفوضوية في عالمنا العربي , فليس لتلك الحركات أي مناعة أو بالأدق أي نظرية أو هدف دقيق و ثابت فالحركات تنتج من معاناة إجتماعية و سياسية , و لكن , لا هدف له خط دقيق و واضح و لذلك يسهل أستغلال تلك التحركات , و هذا ما تفعله الآن جماعة الإسلام السياسي في أنفجارات الشعوب , فبوعزيزي على سبيل المثال , كان يعاني من معاناة شخصية ما أدى إلى انتحاره , و من ثم أدى إلى أنفجار الشعب التونسي و بسبب الفراغ الفكري و الثوري لدى الشعب عموماً الذي كان يفكر فقط بإطاحة ( بن علي ) أستغلت حركة النهضة أنفجار الشعب الذي يخلو من هدف ثوري واضح و يمكننا أن نرى هذا النموذج في ليبيا و مصر أيضاً , و يقولها لينين : (( لا يمكن أن توجد حركة ثورية من دون نظرية ثورية )) , و كان على حق , لأن الثورة الروسية تحت قيادة البلاشفة كان لها نظرية ثورية و هدف ثورية جعلها تستلم الحكم و تطبق هدفها و نظريتها , كما أن هذا النموذج نجده في حركة القرامطة و الثورة الفرنسية. فتلك الفوضى الحالية يسهل تحريف هدفها و غايتها التي يعتبرها أصحابها نبيلة , و لا يمكننا أن نعتبرها العكس , لا يمكننا أن نبيع دم الشعب التونسي و المصري و الليبي , فكان الغاية من تلك الأنفجارات غاية نبيلة تريد إسقاط أنظمة دكتاتورية أستبدادية و لكن ينقصها هدف واضح . يمكننا أن نستفيد من ثورة مصر 1952 , حيث كان الهدف الرئيس هو إسقاط النظام الملكي بإستبداله بجمهورية , و لكن هذا الهدف لم يتحقق تحت فوضى , بل تحت إنقلاب عسكري له رؤيته المستقبلية لمصر , فأستطاع جمال عبدالناصر أن يعين محمد نجيب رئيساً لمدة سنتين من دون أي مشاكل داخلية , أعني من دون أي مشاكل في طريقة الحكم , لأن الضباط الأحرار كان لهم هدف معين و فكر معين يستطيع أي شخص أن يتولى تطبيقة , و لكن الآن , يصعب معرفة من سيقود و كيف "هذا " سيقود , لأن لا شيء واضح , غير أن قد تم إسقاط الأنظمة .
تلك الفوضى تعتبرها الولايات المتحدة فوضى خلاقة , فوضى عارمة لكن مقيدة بقوانين غامضة تؤدي إلى إسقاط أنظمة و من ثم إستبدالها – من المرجح – بأحزاب دينية تخدم مصالح الغرب . فالغرب لا يريد أن يقحم نفسه و يسهب نفسه في إنقلابات تحت قيادته , بل سيستخدم وسائل أفضل , مثل الوسائل الألكترونية , حيث , تستطيع أن تنجب ثورة و تقود شعباً من حاسوب أو برنامج ( تويتر ) أو ( فيسبوك ) , و هنا نستطيع أن نرى كيف تخلى الغرب عن الوسائل السابقة , مثل التدخلات العسكرية , لنتذكر فيتنام و حرب الخليج و غزو العراق , فالأمر أصبح سهلاً , الشعب ينجز ثورته و يخسر أفراده و يسلم وطنه إلى الأجنبي , و فوق ذلك , من دون أن يدري الشعب أن هذه هي النهاية . و هذا كله يدرج تحت أمل ظفر الديمقراطية الغربية , فبعد سقوط المنظومة الاشتراكية و سيطرة القطب الواحد و هو القطب الغربي و على رأسه الولايات المتحدة , أصبح هدف الغرب هدف أوسع و أكبر , لا يوجد الآن جدار برلين ليفصل الشرق من الغرب , سقط هذا الجدار و أصبح العبور بالنسبة للغرب سهلاً .