الإصلاح الاقتصادي ودور الدولة في النشاط الاقتصادي في الجمهورية العربية السورية


مصطفى العبد الله الكفري
2005 / 1 / 20 - 10:03     

لم تكن نتائج استراتيجية التنمية ذات النموذج الشمولي التخطيطي على المستوى الذي كان متوقعاً، بالرغم من أن هذا النموذج قد حقق مكاسب كبيرة في مجال البنية الأساسية، وإقامة بعض الصناعات الكبرى ذات الأهمية، والإنصاف والمساواة في توزيع الدخل وفرص الوصول إلى العمل والأصول الإنتاجية، وتحسين مستوى المعيشة والتنمية البشرية، إلا أن نطاق القطاع العام اتسع بشكل كبير جداً وضيق الخناق على القطاع الخاص أحياناً وأدى إلى تهميشه، وقد أدى هذا الأمر إلى انخفاض الكفاءة الاقتصادية ومستوى الأداء الاقتصادي، وضعف النمو الاقتصادي، وظهرت الاختلالات الكبرى في الاقتصاد وتفاقمت لدرجة، أصبح من الضروري القيام بالإصلاح الاقتصادي الذي يعني فيما يعنيه الانتقال من النموذج التنموي الشمولي إلى النموذج (الليبرالي) التحرري.
لقد ازداد دور الحكومة في النشاط الاقتصادي في سورية منذ بداية الستينات من القرن الماضي وتعاظم في النصف الثاني منها، ويرى ذلك واضحاً من خلال زيادة حصة الإنفاق الحكومي في الناتج المحلي الإجمالي. وتزايد دور القطاع العام في مجال الاستثمار.
ولقد جاء توسع دور الحكومة والقطاع العام في النشاط الاقتصادي في سورية، نتيجة لتحول دور الدولة من دور تقليدي محصور في الحد الأدنى من الوظائف الأساسية إلى دور إنمائي يمتد إلى جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واستخدام الميزانية كأداة تدخل وضبط. وكان السند النظري لذلك التحول في دور الدولة يرتكز على الفكر الاقتصادي السائد والسياسة الاقتصادية المتبعة. حيث اعتبر القطاع العام عنصر حاسماً في عملية التنمية لا بل قائداً لها، مما دعا الحكومات المتتالية لترعى التنمية الشاملة تحقيقاً للمصلحة العامة وتوخياً للمساواة والإنصاف.
وفي ظل الدور الإنمائي المتزايد للدولة، يبرز التخطيط كوسيلة لتحقيق التنمية الشاملة. وأصبح التخطيط الشامل والمركزي في سورية هو القاعدة. وقامت مجالس التخطيط المركزي، إلى جانب هيئة تخطيط الدولة (وزارة التخطيط) بصياغة خطط التنمية الاقتصادية الاجتماعية طويلة الأجل ومتوسطة الأجل والخطط السنوية. وبذلك تضمنت السياسة الاقتصادية المتبعة عدم الاعتماد على آلية السوق، وتدخل الدولة المباشر في النشاط الاقتصادي لتوجيه عملية التنمية. وفي ظل التخطيط الشامل والدور الإنمائي للدولة، حققت سورية إنجازات تنموية كبيرة وهامة وبخاصة في مجال التعليم والصحة والتغذية والعمر المتوقع عند الولادة (أي في مجال التنمية البشرية). وكذلك في تنامي حجم الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط دخل الفرد والبنية الأساسية.
وبالرغم من تلك الإنجازات التي تحققت، فإن مساهمة القطاع العام في عملية التنمية والتطوير والتحديث في ظل الدور الإنمائي للدولة، كانت دون المستوى المتوقع لاحقاً، الأمر الذي دعا إلى إعادة النظر في دور الدولة في الحياة الاقتصادية. وأخذت قضية الإصلاح الاقتصادي تطفو على السطح وزاد الاهتمام بها في أعقاب أزمة الركود الاقتصادي والسياسات الانكماشية التي اتبعتها الحكومة في الثمانينات. إضافة إلى انخفاض أسعار السلع التصديرية الرئيسية، تدهور معدل التبادل التجاري، خلل ميزان المدفوعات، تباطؤ معدلات النمو، والعجز المتزايد في الميزانية.
وفي إطار البحث عن مصادر جديدة للنمو الاقتصادي، وسياسات اقتصادية معززة له في المدى المتوسط والطويل، اتخذت عملية إعادة النظر في دور الدولة في الحياة الاقتصادية أهمية خاصة. وبدأت عملية الإصلاح الاقتصادي في منتصف الثمانينات، وبدأ دور الدولة الإنمائي يتراجع أمام تقدم عملية الإصلاح الاقتصادي. وفي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات أخذ الإصلاح الاقتصادي دفعة جديدة، وبخاصة بعد صدور قانون تشجيع الاستثمار رقم /10/ لعام 1991.
إن إعادة النظر في دور الدولة في الحياة الاقتصادية والتحول من الدور الإنمائي إلى الدور التصحيحي للدولة، لا يعني تخلي الدولة عن مواجهة التحديات التنموية، بل يؤكد على دور جديد ومختلف للدولة في السعي لتحقيق التنمية. ويشتمل الدور التنموي الجديد للدولة على ثلاثة عناصر رئيسية هي: (الأول هو التحرير الاقتصادي الذي يقوم على إزالة القيود والمعوقات أمام التجارة الخارجية، ودعم المنافسة في ظل تشجيع القطاع الخاص. والثاني هو إصلاح القطاع العام، عن طريق تحسين إدارة المصروفات العامة، وإصلاح الخدمة المدنية، وتحسين أداء المؤسسات العامة. والثالث سياسة اقتصادية كلية تقوم على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي).
وفي ظل الدور الجديد للدولة، لابد من إصلاح القطاع العام وتحسين أداء المؤسسات العامة، وتحديد مجالات عمل الحكومة، وترك مجالات أخرى للقطاع الخاص في ظل سياسة اقتصادية جديدة تؤمن باقتصاد السوق الاجتماعي، بحيث يتم تقليص عمل الحكومة في بعض الميادين وبخاصة التي يمكن لاقتصاد السوق الاجتماعي أن يجعلها تعمل بصورة ناجحة وجيدة، تركيز دور الحكومة في المجالات التي لا يمكن الاعتماد فيها على اقتصاد السوق وحدها، مثل: الاستثمار في التعليم والخدمات التعليمية والصحية والغذاء والتخفيف من وطأة الفقر، والمساواة في الوصول إلى فرص العمل وأموال الإنتاج.
(تنطلق استراتيجية التنمية الجديدة، المعتمدة على السوق، من تكامل نشاط ودور القطاعين العام والخاص في تحقيق أهداف الاستراتيجية المتمثلة في التنمية الشاملة، المرتكزة على كفاءة تخصيص الموارد. وفي إطار ذلك التكامل المنشود، تبرز الحاجة للتعرف على القيود التي يمكن أن تقلص الكفاءة الاقتصادية، والحوافز التي تحث على رفعها لدى كل من القطاعين).
وبذلك تبدو أهمية التعددية الاقتصادية كسياسة يتم اتباعها لخلق نوع من التكامل بين مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني (العام، الخاص، المشترك والتعاوني).
أن السياسات القائمة على ملكية الدولة لمعظم النشاطات الاقتصادية، ووجود قيود بيروقراطية وقانونية تحد من انسياب رؤوس الأموال، وتوفير الدعم والحماية المتواصلة للصناعة المحلية ولفترات زمنية طويلة، والعمل بأسعار صرف قسرية، سيؤدي إلى تحجيم الإنتاجية وإعاقة النمو الاقتصادي في أية دولة. كما أن التنمية ذات التوجه الداخلي، والقائمة على منح الامتيازات للصناعات المحلية وحمايتها من المنافسة الخارجية بواسطة القيود الكمية والتعريفة الجمركية المرتفعة أو منع الاستيراد، ستفضي إلى توجيه الاستثمار نحو صناعات ذات قدرة إنتاجية منخفضة لا تستطيع المنافسة في الأسواق المحلية أو العالمية، إضافة إلى أن الحماية الجمركية والقيود على الواردات تعمل على حرمان المستهلكين من الحصول على سلع ذات مستوى جودة عالية، كما أنها ترفع أسعار السلع محلياً.
ولكي تتمكن سورية من التأقلم السريع مع التوجهات التجارية الليبرالية العالمية وتحرير التجارة الخارجية من كافة القيود، عليها أن تهتم بخلق بيئة محلية تشجع التنافس وتساعد على الابتكار وزيادة الإنتاجية، وإعادة تأهيل مواردها البشرية وبنيتها الأساسية والتكنولوجية، واقتناص نصيب أكبر من تدفقات الاستثمار العالمية. لأن التطور الاقتصادي اصبح يعتمد بدرجة كبيرة على درجة الاندماج في النظام الاقتصادي العالمي. أما الدول التي تختار أن تبقى خارج النظام الاقتصادي العالمي، ستجد نفسها في عزلة دولية وستدفع ثمناً باهظاً ربما يصل إلى إضاعة فرص التنمية الاقتصادية.
تستبعد القيادة السياسية والحكومة في الوقت الحاضر في سورية عمليات الخصخصة وتعتبرها تهديدا مباشرا للعمالة، وفي الحقيقة تستند الإصلاحات التي قامت بها الحكومة على زيادة دور القطاع الخاص في الاقتصاد، وبخاصة في مجالات الصناعة والسياحة والتجارة الخارجية، والانفتاح على الاستثمار الخارجي المباشر، إلى جانب التحرير الجزئي للتجارة الخارجية، والتوجه إلى تشجيع الصادرات.
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
[email protected]

- See ,Collier Paul, The Role of the State in Economic Development : Cross Rogional Experience, University of Oxford, paper Presented at the African Economic research Consortium Plenary Session, Nairobi 1996.
- د.علي توفيق الصادق ...، جهود ومعوقات التخصيص في الدول العربية، صندوق النقد العربي، أبو ظبي 1995، ص 19.
- علي توفيق الصادق، ..، ص 26.
- الإصلاحات الهيكلية والنمو الاقتصادي في سورية، محمد هشام خواجكية، الحياة العدد:13851 15-02-2001 ص 13.
- المصدر السابق.
- يمكن العودة إلى: Carol J. Lancaster, African Economic Reform: The External Dimension, Institute for International Economics / June 1991.