قضية تحرر المرأة العربية


هشام غصيب
2012 / 3 / 24 - 10:37     

التاريخ صراع متواصل، صراع وحشي دموي متواصل، باستثناء صراع المرأة المتواصل من أجل تحررها وكرامتها الإنسانية. فهو صراع ناعم مسالم يعكس نعومتها وحنانها الطافح. ولكم نحن الرجال في حاجة إلى أن نتعلم ن النساء بعضا من نعومتهن وحنانهن من اجل التخفيف من حدة هذه القسوة والوحشية، التي تعصف بنا اليوم.

لكن نعومة صراع المرأة من أجل انعتاقها لا يعني مطلقاً نعومة وضعها عبر التاريخ. فهي ما زالت تعاني اليوم كل أصناف القهر والاستغلال، التي عرفها التاريخ، مجتمعة: الصنف العبودي، والصنف الإقطاعي، والصنف الرأسمالي، والصنف الكولونيالي. وإلا فكيف لنا أن نصف حصر النساء في بيوتهن الضيقة وحصرهن في العمل البيتي وحده وفي زي واحد خانق؟ ألا تذكرنا هذه القيود بالقيود الإقطاعية؟ وألا نشتم منها رائحة تحويل المرأة إلى ملكية خاصة، أي رائحة العبودية؟ وألا يستعمل الدين لتبرير هذا القهر كما استعمل في تبرير الأصناف الأخرى من القهر؟ بذلك، ففي المرأة، وبخاصة في الوطن العربي، نجد القهر التاريخي بكل أصنافه متجسداً. ولا نبالغ إن قلنا إن قضية تحرر المرأة هي القضية التحررية المحورية في الوطن العربي اليوم. وهي تنطوي على قضية التحرر من كل أصناف القهر التاريخي مجتمعة. وأحسب أن أساس هذا القهر المتعدد الأبعاد هو النظر إلى المرأة على أنها موضوع مفعول فيه وبه وعليه، أي موضوع لاستعمال الذات الذكورية-موضوع له وظائف استعماليه محددة: وظيفة حاضنة تفريخ ووظيفة موضوع للشهوة الجنسية ووظيفة عبد منزلي غير مدفوع الأجر. ففي اللحظة التي ينظر إلى المرأة على أنها موضوع يتم تحويلها إلى ملكية خاصة. من ثم فإن جوهر فعل التحرر هو رد الاعتبار إلى المرأة بوصفها ذاتا تفكر وتشعر وتريد وتتخيل وتفعل، أي تحولها من موضوع إلى ذات، سواء في نظرها أو نظر الرجل أو على صعيد العلائق الاجتماعية الموضوعية.

وهنا ينبغي إبراز نقطتين جوهريتين:أولاً، إن وضع القهر هذا يستلزم الخطاب المناسب للتعامل معه. وأرى أن الخطاب الضروري والطبيعي للتعبير باقتدار للتعبير عن قضايا القهر بعامة، وقضية المرأة بخاصة، هو الخطاب الماركسي. فهو المهيأ مفاهيمياً وفي بنيته الداخلية لتدبر أصناف القهر التاريخي.

لكن هذا الخطاب، ولسوء الطالع، انحسر في الخمسة والعشرين عاماً المنصرمة لصالح خطاب ليبرالي ضحل يركز على الحقوق الشكلية التجريدية الهوائية من دون الغوص في أعماق العلائق الاجتماعية الموضوعية، علائق القهر والاستغلال العيانية. لذلك فهو خطاب منقوص جداً يعجز عن مخاطبة القضايا في أعماقها. وعليه، فهو يخفق أيضا بوصفه مرشداً للفعل المؤثر.

ثانياً، ينبغي الانتباه إلى أن قهر النساء ليس متجذراً في الفروق البيولوجية، وإنما في الوقائع والعلائق الاجتماعية التاريخية، تماماً كحالة قهر الأمم والطبقات الاجتماعية. ولما كان الأمر كذلك، وبالنظر إلى الترابطية الجدلية، التي تتسم بها المجتمعات، فإن قضية المرأة ترتبط جوهرياً بالبنية العامة للمجتمع. إنها ترتبط بالوضع الاستغلالي الاجتماعي العام. وبمعنى ما، فإنه يمكن القول إن قهر النساء، وخصوصاً في الوطن العربي، هو من مخلفات العصور وأنماط الإنتاج الغابرة. لكنها مخلفات تعززها وتديمها علائق إنتاج الرأسمالية الموجودة فعلاً. من ثم، فهي ترتبط بنيوياً بالطبيعة الاستغلالية الراهنة للرأسمالية المعاصرة. وتصل آليات التعزيز والإدامة أوجها في المجتمعات المحيطية، وفي مقدمتها الوطن العربي فالرأسمالية الرثة التابعة في الوطن العربي أكثر فاعلية بكثير في تعزيز العلائق ما قبل الرأسمالية، بما في ذلك علائق قهر المرأة. ومن ثم، فإن تحرر المرأة، وغيرها من حالات التحرر، تستلزم تخطي الرأسمالية الرثة السائدة في الوطن العربي.

ويقودنا ذلك إلى مهمات حركة التحرر القومي العربية. نحن في حاجة إلى إعادة بناء حركة التحرر القومي العربية من اجل تحقيق مهمات تاريخية أساسية، سبق أن حققتها أمم أخرى، كالأمة الروسية والصينية واليابانية والكورية والفييتنامية، وإلى حد ما الهندية وأمم أميركا اللاتينية. وهذه المهمات هي شبكة من المهمات الديموقراطية والاشتراكية. وفي مقدمة هذه المهمات: تصنيع الوطن العربي، وتحديث الثقافة والإنتاج والسياسة العربية، وتصفية مخلفات العصور ما قبل الرأسمالية، والاستقلال القومي، وتوحيد الأمة، وتحرير الموارد العربية، بما في ذلك الأرض العربية، وتحرير قوى الإنتاج العربية، وتحرير الجماهير العربية من كل أشكال القهر والاستغلال. ولا شك أن تحرر المرأة العربية هو جزء جوهري من تحرر قوى الإنتاج العربية وتحرر الجماهير العربية، كل الجماهير العربية، من جميع أشكال القهر والاستغلال. وهذا يعني أن تحرر المرأة العربية هو مهمة أساسية من مهماتنا الاجتماعية الديموقراطية، وينبغي أن يكون أولوية من أولويات حركة التحرر القومي العربية. ومن المؤسف حقا أن هذا الرابط الجدلي الضروري بين تحرر المرأة وقضية التحرر العامة قد قطع في الخمسة والعشرين عاما الأخيرة. وقد آن الأوان، وخصوصاً في ظل الثورات العربية الراهنة، أن نرد الاعتبار إلى هذا الرابط، على الصعيدين النظري والعملي، في سياق إعادة باء حركة التحرر القومي العربية.