ما يزال للشعوب قضية !


غسان الرفاعي
2012 / 3 / 22 - 15:59     

يعيش عالمنا المعاصر تناقضا رهيبا ، مستعصيا : فرغم القدرات العلمية
والعملية الهائلة التي يمكن ان تؤمن الوفرة والسعادة والسلام لجميع الشعوب ما يزال الملايين من البشر يعانون الفاقة والجوع والمرض ... والموت ...
تنتهك حرياتهم وتداس كراماتهم الانسانية والوطنية والقومية ...
يحوطهم الخوف على المستقبل وعلى المصير !
هذا الواقع المأزوم يدفع اعدادا متزايدة الى الانتفاض ضد الاستبداد
والعبودية والاستغلال : في اميركا اللاتينية ... في افريقيا ومختلف اصقاع آسيا... وكذلك في اوروبا والولايات المتحدة ... وفي بلداننا العربية !

الراسمالية تدخل العالم في ازمة شاملة مستدامة

ان ما تعانيه اليشرية ، كلها ، بقوة مدمرة لا سابق لها ، ما هو الا مظاهر مريرة لتفجر ذاك التناقض البنيوي الاساس لنظام العلاقات الراسمالية الذي اكتشفه ماركس !
يتجلى هذا التفجر، اليوم ، على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية
جميعا، ... وعلى صعيد العلاقات الدولية! فالثورة العلمية التكنولوجية، والثورة في الانتاجية ، في الوقت الذي زودت فيه الراسمالية الاحتكارية المعاصرة بقوة دفع سياسية ذات طبيعة هجومية اقتحامية ، عدوانية كبيرة ، اضفت على هذا
التناقض ، وعلى مظاهره المختلفة ، سمات نوعية جديدة ، وزادتها تفاقما ، كما ضاعفت تداعياتها السلبية على العالم باسره : فازمات الركود وفيض الانتاج الدورية ، التقليدية ، تتحول الى ازمة اقتصادية - مالية وسياسية شاملة مستدامة ، تؤشر ( بل تؤكد ) من جديد ، وبقوة ، الى انسداد الافق التاريخي والانساني امام هذا النظام !
لن يغير من صحة الدلالات التاريخية لهذا الاستنتاج النظري لا اختلال موازين القوى ، راهنا ، على الصعيد الدولي بانهيار الاتحاد السوفياتي ... ولا عدم نضوج وتهيؤ قوى التغيير الاجتماعية ، سياسيا وتنظيميا ، حتى الان ، سواء على الصعيد العالمي ام على صعيد اي بلد .فلم تجد نفعا جميع التوجهات والاستراتيجيات التي اتبعت ، منذ سبعينيات القرن الماضي: لقد فشلت سياسة القروض الى البلدان النامية في ايجاد المخارج ... وتتعثر فلسفة التجارة الحرة التي ترعاها منظمة التجارة الحرة الدولية على صعيد التطبيق العملي ... وولدت فلسفة الانفاق التضخمي عبر موازنات الدولة ، وعبر استراتيجية القروض السيادية نتائج معاكسة على الصعيد المالي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي ... ان ازمة اليونان والبرتغال واسبانيا ، وما تعانيه ايطاليا ، وما يهدد فرنسا والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة ...

2

والانعكاسات السلبية ، الحاصلة فعلا والمتوقعة ، من كل ذلك على البلدان النامية ، شواهد بينة على عمق الازمة وطابعها العضوي .
نتيجة هذا المنحى في التطور تتزعزع ، بل تتقوض نظريات الليبرالية الاقتصادية التقليدية ، وكذلك الليبرالية الجديدة ، وخصوصا بعد ازمة 2008 . كما تنهار نظريات الترميم الذاتي للاقتصاد عبر السوق التي يروج لها ايديولوجيو الراسمال الاحتكاري العالمي . وتسقط نظرية " نهاية التاريخ " ! ويظهر للعيان ، بصورة اوضح فاوضح ، عجز الدول والحكومات عن ايقاف الاعصار المدمر لتفجر تناقضات الراسمالية المعاصرة !
تحت تأثير هذا الخضم المتناقض من العوامل يتعرض العالم الى تطورات ومتغيرات عميقة ، نوعية بمعنى ما ، متدرجة ، تهز المجتمعات ... وتطال النظامين السياسي والاقتصادي الدوليين، وتترك انعكاساتها على مجمل العلاقات الدولية ، وتضغط على دور الامم المتحدة وعلى ميثاقها ! وبصورة موازية تفرض تعديلات وتغييرات على نظام تقسيم العمل الدولي الحالي...
من الطبيبعي ا ن تترافق مع هذه التطورت ، بل ان تتولد منها ، جملة من التناقضات ذات سمات جديدة في العلاقات فيما بين الدول الراسمالية المتقدمة نفسها ... وبين هذه الدول وسائر البلدان : سواء تللك التي تتميز بوتائر تطور ونمو خاصين ، كالصين والهند والبرازيل ، ام مجمل البلدان النامية الاخرى عموما . ورغم ان سمات مشتركة تجمع روسيا بالمجموعتين الاخيرتين ، من حيث مستوى بنيتها الاقتصادية ، الا انها تتميز عنهما ، مع ذلك ، من حيث قدراتها المادية: السياسية والعسكرية ، التي تمكنها من لعب دور "قوة عالمية عظمى " لها تاثيرها على التوازنات الدولية .
في سياق هذه العملية التحويلية الكبرى ، الجارية على النطاق العالمي، التي تشكل العولمة الجذر المحرك لها ، يتعاظم الدور التدخلي ، المباشر وغير المباشر ، لدول البلدان الراسمالية المتقدمة، وخاصة الادارة الاميركية ، في شؤون البلدان الاخرى، وذلك بهدف اخضاع مجمل التطور لصالح الراسمال الاحتكاري العالمي ، على جميع الصعد ، وفي مختلف ارجاء العالم. والترجمة العملية لهذا التوجه في الممارسة الهادفة الى ازالة او تطويع العقبات السياسية والاقتصادية من امام تقدم العولمة ، اخذت ، وتاخذ ، في كثير من الحالات ، شكل العنف والضغط السياسي والاقتصادي ، بل حتى العسكري في حالات "الاستعصاء"! فالراسمال الاحتكاري العالمي يتصرف ، في سعيه الى التفتيش عن مخارج من ازمته الخانقة ، بعدوانية متزايدة ، وبخرق متماد للديموقراطية داخل البلدان وفي ميدان العلاقات الدولية التي يكرسها ميثاق الامم المتحدة . وهو يستخدم ، في هذا السبيل " فائض القوة " الذي ما يزال يمتلكه ، انطلاقا من واقع انه هو الطرف المحدد الرئيسي لمسارات عالمنا المعاصر . وهكذا يضع الشعوب اما م خيارين صعبين لامجال لقبولهما : العبودية او الحرب !
3

طبيعة تطور البلدان النامية
في ظل العولمة وتحت تاثيرها

تحتل البلدان النامية مكانة خاصة في اطار استراتيجية العولمة المركبة والمعقدة هذه ! فهذه البلدان ، في التقدير وفي الواقع ، تشكل احتياطيا محتملا ومتاحا لتأمين مرونة ما لعلاقات الراسمالية العالمية لتي تعاني الضيق والاختناقات المزمنة والمستعصية ، سواء على صعيد البلدان المتقدمة بصورة خاصة ، ام على صعيدالعلاقات الدولية عامة . ان تفعيل الدور الكامن ، الاستيعابي ، لهذا الاحتياطي الذي تمثله هذه البلدان ،يتطلب نهجا خاصا للتعامل معها ، وذلك عن طريق تطوير وتوسيع العلاقات الراسمالية فيها، وان بدرجة نسبيبة ومحددة ، وفق ما تسمح به خصائص كل بلد مما يسمى " بلدان الاطراف" ، ووفق الدور المخطط له في النظام الاقتصادي السياسي الدولي الجديد الذي يتناسب مع المصالح الاقتصادية والرؤية السياسية للراسمال الاحتكاري العالمي ، بصرف النظر عن تنوع اشكال وسبل تحقيق ذلك في كل حالة خاصة .
بيد ان عملية تكييف هذه البلدان لمثل هذا الدور ستكون ، بلا شك ، عملية مركبة ، متناقضة بطبيعتها وبواقعها، ومتدرجة وطويلة الامد في آن. فاستراتيجية العولمةسوف تسعى الى ازالة وتصفية كل ما تعتبره معيقا لتقدمها في هذه المجتمعات على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية . ان اعادة الهيكلة الكلية الشاملة سوف تستهدف ، لا محالة ، القضاء كليا او جزئيا ، على منجزات تقدمية تحققت بعد نيل الاستقلال ، على جميع الصعد . كما تستهدف ، في الوقت نفسه ، وبصورة موضوعية ، اضعاف وتصفية نسبية للهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعرفية التقليدية التي ما زالت محافظة على وجودها ودورها السلبي في هذه المجتمعات .
بمثل هذا الاجتياح الشمولي في الوقت الذي تكرس فيه العولمة نفسهاعاملا رئيسيا متعاظم التاثير في تحديد سبل تطور البلدان النامية بصورةعامة ، بما فيها بلداننا العربية.... تدفع الى الحياة السياسية ، والى الحراك السياسي، بصورة موضوعية ، وبدون رغبة ذاتية من جانبها ، جماهير واسعة من مختلف الفئات الاجتماعية ، بحوافز ودوافع مختلفة . فالهجوم الشمولي الذي تتسم به استراتيجية العولمة ، يستثير ردود فعل متنوعة : فالقضايا المرتبطة بالعامل الوطني او القومي او السياسي العام او الثقافي (الحضاري )... وحتى الديني والمذهبي التي يستهدفها ، بهذا الشكل اوذاك ، الهجوم الشمولي تصبح ، الى جانب ما يثيره استبداد الانظمة المحلية وفسادها من استياء ، حوافز دافعة الى المواجهة ، منفردة او متضافرة . ان هذا الواقع يضفي على الحركة الجماهيرية سمات التنوع والاصالة الخاصة ، وفق المميزات التي يتسم بها كل مجتمع !

4

ورغم ما يرافق مثل هذا التطور -- كما هو متوقع -- من عفوية ، وحتى من تناقضات وصراعات بينية بين الاطراف ، تحتفظ الحركة
السياسية الجماهيرية بصفة ديموقراطية عامة . وبالتالي من الطبيعي ان نتوقع حصول اعاقات امام تحقيق الاهداف الوطنية والقومية والديموقراطية المشتركة . وهذا يفسح المجال ، ولا شك ، لقوى الردة للعمل من اجل اجهاض الثورة . ان الربيع العربي الذي تفجر في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا يقدم نماذج قوية عن هذه الحقيقة بوجهها السلبي ، رغم المغزى التاريخي والزخم
السياسي الايجابي الذي تعبر عنه .
في ضوء الرؤية الاجمالية هذه نقول انه ينبغي مقاربة جميع القضايا والمشاكل ذات الطابع الاستراتيجي والتكتيكي التي تواجه تطور البلدان العربية التي تنتمي الى مجموعة البلدان النامية ، في اطار هذه العملية المتناقضة التي تفرضها العولمة ، واكتشاف وادراك اشكال وطبيعة تفاعلها مع العوامل والتناقضات المحلية. وهذا يشير ، في واقع الامر ، الى ضرورة مقاربة القضايا المتعلقة بالنضال الوطني والقومي بنهج ومواقف تختلف عما درجت عليه معظم ، بل كل القوى التي رفعت شعارات الحرية والاستقلال ...الخ وذلك لان المواجهة ، في عهد العولمة تتميز : آ) بالتداخل الشرطي بين استراتيجية التحويل السياسي الديموقراطي ، الاصلاحي الجذري ، وفق الشروط الخاصة بكل بلد، وبين النضال لحل القضايا القومية لصالح الشعوب العربية، عبر ممارسة نضالية طويلة المدى لتغيير موازين القوى اقليميا ودوليا ... ب ) بالتداخل الشرطي بين استراتيجية التحويل السياسي الديموقراطية و التنمية الاقتصادية - الاجتماعية في كل بلد عربي وبين استراتيجية التعاون والتكامل الاقتصادي
العربي العام ... وما يفرضه ذلك من اشكال جديدة لتنسيق التعاون والتضامن الجديدة والملائمة فيما بين القوى الوطنية والديموقراطية واليسارية في البلدان العربية على هذه الصعد .

دور ومكانة الانظمة العربية
والقوى السياسية في الاوضاع الجديدة

هذا المنحى العام للتطور الذي تحدده عوامل موضوعية ، سيبقى محكوما في مساره الداخلي الملموس ، وفي مداه المستقبلي المنظور،بالتوازنات
السياسية وبطبيعة حركية العلاقات فيما بين القوى الفاعلة اقليميا ودوليا ... وهذا يستوجب ، بصورة منطقية والزامية، ابداء مرونة واقعية في الممارسة التكتيكية ،
الامر الذي لا يتعارض مع النهج الثوري العام لحزب اليسار !


5


فما هي ، بصورة تقديرية عامة ، طبيعة وحجم الدور المتوقع من
جانب القوى السياسية المحلية في هذا الطور الجديد من العمليةالسياسية ؟
ان الانظمة العربية عامة ، رغم الفروقات فيما بينها ، من حيث مضمون وطبيعة هياكلها الدستورية والتشريعية والتنفيذية ، ورغم الخلافات والتناقضات المزمنة في علاقاتها البينية ... هي اطر للسلطة متشابهة من حيث
تخلفها عن العصر : عن طبيعة الدولة المدنية ... هي اجهزة استبدادية للتسلط ، تغّيب او تزوّر الارادة الشعبية... تعتمد في الحكم على اجهزة القمع والمخابرات ... تستند على هياكل وبنى اقتصادية واجتماعية تقليدية متخلفة ... فتتحول ، بهذه
الصفات ، الى " دولة ريعية " يقتصر همها وهاجسها الرئيسي على توفير
الامتيازات المادية والسياسية لفئات طفيلية حاكمة فاسدة !
لقد اثبتت التجارب ، والنتائج السياسية التي ترتبت على ممارساتها ،
انها ليست عاجزة وحسب عن تحمل ومواجهة تحديات المرحلة الجديدة التي تواجه شعوبنا، بل انها ، فوق ذلك ، تتحمل مسؤوليات الضعف والهوان الذي
تعيشه بلداننا ، سواء في الميادين الوطنية والقومية عامة ، ام في ميادين التنمية
الاقتصادية والاجتماعية والتربوية ...الخ، وتشكل عائقا اما م الخروج من هذه
الحالة المأساوية الدائمة .
وهي ، بهذه المواصفات السياسية والاجتماعية ، ستكون على استعداد ،
بل ان بعضها قد انخرط فعلا بدور ملموس ، لتسهيل استراتيجية العولمة ، اما انصياعا ، كاستمرار طبيعي لدور التبعية السياسية الذي تمارسه ، واما بقبول
" تسويات " مذلةلازالة صعوبات وتناقضات من امام هذه الاستراتيجية ، نشأت وتجمعت، بعوامل مختلفة، عبر المسيرة السياسية للمنطقة ، بفعل سياسة الدول الغربية المعادية لقضايانا الوطنية والقومية .
في موازاة ذلك يتضح، بصورة اوضح فاوضح، قصور برامج الاحزاب
والقوى القومية عبر الممارسة السياسية الطويلة من مواقع السلطة ومن خارجها.
بل يمكن التاكيد بان ممارسة الحكم من قبل فصائل من هذه القوى ، في اكثر من
بلد عربي ، ادى ، عبر عملية تمايز سياسي فكري ومنافسة جرت داخلها ، الى نتائج كارثية على الصعيد الوطني الداخلي على مختلف المستويات، وعلى الصعيد
القومي والعلاقات القومية ! فرغم بعض الانجازات التقدمية النسبية التي تحققت في مراحل اولى من ممارسة السلطة ، في ظل اوضاع نهوض جماهيري داخلي ووضع دولي ملائم، تحول نهج فصائل رئيسية ، وفي بلدان
رئيسية، الى سياسة رجعية معادية للديموقراطية وللشعب ، قائمة على الارهاب والاغتيال والشوفينية واضطهاد الاقليات القومية والاتنية .... وجرى ويجري التفريط ، عمليا ، بقضايا قومية وقضايا سيادية وطنية تحت ضجيج من
الشعارات الاعلامية " الثورية " !

6

بيد ان المأزق الاساسي في نهج وبرامج القوى والاحزاب القومية
يكمن في عدم اخذها بعين الاعتبار التغيرات النوعية المستجدة التي طرأت على
طبيبعة النضال الوطني والقومي في عهد العولمة . فالمفاهيم والصيغ واساليب
النضال القديمة باتت قاصرة بصورة عامة، عن تلبية متطلبات المرحلة الجديدة،
ولم تعد تلبي الحاجات والطموحات السياسية والاجتماعية والمعنوية الاشمل
للجماهير التي اخذت تعبر عنها ، ولو بصورة عفوية ، في تحركات الربيع
العربي ، الى جانب تمسكها بالقضايا القومية !
ويمكن التقرير ، مبدئيا ، بان برامج القوى الاسلامية عموما ( هنا لا يجري الكلام عن التنظيمات الارهابية التي اقل ما يقال في ادانتها بانها عبثية )،
تشكو من نقاط الضعف والقصور اياها التي تشكو منها برامج الاحزاب القومية . فما تعانيه مجتمعاتنا وبلداننا ( كما جميع البلدان النامية ) ، نتيجة
خضوعها الطويل للسيطرة الاستعمارية ، وتعرضها ، راهنا ، لهجوم العولمة،
على الصعد السياسية ( الوطنية والقومية ) والاقتصادية والاجتماعية ..الخ لا تعالج
بحلول وبوصفات ربما كانت صالحة ، نوعا ما ، في مجتمعات سابقة اقل تعقيدا ،
واقل ترابطا فيما بينها .
الى جانب ذلك ، ان عدم رؤية الطابع الشمولي لهجوم العولمة : بمعنى تعدد
جبهات المواجهة وترابطها والتفاوت الزمني في عوامل النضج والاحتقان والتفجر في كل منها ، مما يفرض اشكالا واساليب متنوعة للنضال ويستوجب
التنسييق والتدرج فيما بين الصعد المختلفة... يدفع العديد من الفصائل الاسلامية
وبعض الفصائل والتيارات القومية ، الى خيارات خاطئة بترجيح اسلوب وحيد
للنضال هو الكفاح المسلح . وهذا الشكل من النضال لا ياخذ بعين الاعتبار لا
المدى الاستراتيجي الطويل نسبيا للصراع مع العولمة ، ولا ميزان القوى
بين شعوبنا واعدائها في كل جبهة من جبهات المواجهة الشمولية . كما لا يؤخذ
بعين الاعتبار ان العدو من جهته يمارس هجومه ويحقق اختراقات وتقدما في
ميادين وجبهات نتركها امامه دون دفاعات او تحصين .
اما بالنسبة لقوى اليسار والديموقراطية ، بما فيها ، وبتحديد خاص ،
الاحزاب الشيوعية ، فينبغي الاعتراف بانها لم تكن جاهزة ، من حيث
يرامجها وقدراتها التنظيمية ، لتقوم بالدور الذي تتطلبه المرحلة الجديدة .
هذا بصرف النظر عن الاسباب : سواء اكانت تفصيلية ام اساسية عند هذا
الفصيل او ذاك . والدليل الابلغ والاقوى ، في هذا المجال ، هو ان اغلبها ،
ان لم نقل كلها ، كان غافلا عن الاحساس بذاك المخاض الهائل الذي كان يمور
في مجتمعه ، والذي تفجر في الربيع العربي . وهذا الامر يتطلب تقييما لا
ينبغي ان يتوقف عند حدود الاعتراف " بالخطيئة " ، طلبا " للغفران " وحسب!
بل ينبغي ان يرفق بنظرة تقييمية نقدية للممارسات النظرية والسياسية السابقة ،
واعادة صياغة البرامج واستراتيجية اليسار وتكتيكاته على اساس نظرة تجديدية،

7


تستخدم منهجية ماركس المادية الديالكتيكية التاريخية ... بعد تحريرها من القيود
والتفسيرات الذاتية التي سببتها الممارسات النظرية والسياسية في الماضي ، والتي
خنقت وشوهت الروح الثورية : العلمية ، النقدية، الموضوعية لهذا المنهج !
ان مجمل التحليل العام الذي تابعناه يبين ان الواقع الموضوعي للبلدان
النامية في عهد العولمة قد حدد ، بالتوجه العام ، الاطار والسقف السياسي
والاقتصادي والاجتماعي الذي ينبغي ان يؤخذ بعين الاعتبار ، سواء في تحديد
طبيعة برنامج النضال ، ام في تحديد سبل ووسائل تحقيقه. على هذا الاساس
يمكن ان تتخذ الاستراتيجية العتيدة لقوى الديموقراطية والتقدم ، بما فيها قوى
اليسار ، من حيث المضمون والجوهر ، وبالخط العام ، طبيعة " استرتيجية
انقاذ وطني " ، بالمفهوم الشامل الجديد للوطنية الذي يربط في عملية سياسية
واحدة ، مركبة عضويا ، لكنها متدرجة المراحل زمنيا ، ما بين مهمة استكمال
السيادة الوطنية والتحرير وقضية تحويل النظم الرجعية القائمة الى نظم علمانية
ديموقراطية شعبية ، يقودها تحالف واسع للقوى السياسية الوطنية –
الديموقراطية ، عبر عملية نضالية اصلاحية ديموقراطية مستدامة ، تستند على
حركة جماهيرية يجري بناؤها في خضم النضالات كقوة فاعلة ، منظمة ، واعية
لاهدافها القريبة والبعيدة بصورة عامة ، متعاظمة التاثير في حياة البلاد السياسية ، حتى تصبح قادرة على اجراء التحويل السياسي الجذري ، وان تواجه بشكل سليم وناجع ضغوط العولمة وشروطها : لتخفيفها ، ولبناء اسس
ومرتكزات مادية ، اقتصادية وسياسية لمقاومتها وردها ، .... وان تسهم ، بذلك ، الى جانب الشعوب والقوى الديموقراطية على الصعيد الاممي في مواجهة الراسمال المعولم .

من البديهي ان هذا التعميم النظري لا يقدم الا مؤشرا عاما لمنحى التطور وموجباته التوجيهية العامة وحسب . وبالتالي فان الممارسة النضالية ،
السياسية الملموسة تحتاج الى خطط تطبيقية تفصيلية على اساس دراسة الواقع
الملموس في كل مجتمع بذاته في ضوء ذلك . ومن المفترض والطبيعي ان تقع
المسؤولية الاولى على قوى اليسار في دراسة ومعرفة طبيعة الحياة السياسية ،
وطبيعة الدولة والوضع الاقتصادي والاجتماعي والعلاقات الداخلية فيما بين القوى
السياسية والتشكيلات الاجتماعية والاتنية المختلفة وموازين القوى فيما بينها في كل
حالة خاصة ... وعلاقة جميع عناصر ومكونات هذا الداخل مع قوى الخارج ..الخ
هذه الدراسة تفرضها ضرورات النضال . فالوضع القائم في كل مجتمع
من مجتمعاتنا مسنود، بكيفيات واشكال مختلفة ، بقوى وعلاقات ومصالح داخلية
وخارجية متشابكة . فلا تغيير ، ولا تطوير دون حصول تغيير في موازين
القوى السياسية - الاجتماعية لصالح قوى التقدم .

8


الكتلة الشعبية التاريخية

ان مضمون وجوهر هذه الاستراتيجية العامة تتطلب من قوى اليسار
ان تعكس ، بصورة اساسية وحصرية ، مصالح التطور الديموقراطي العام للمجتمع ككل ، وان تستجيب لمتطلباته العملية : الفكرية والسياسية والتنظيمية
جميعا ، بما في ذلك ما يتعلق ببناء الحزب اليسارى نفسه ، من حيث طبيعة تركيبه الاجتماعي المنفتح، وسبل نضاله المرنة والديموقراطية، ومن حيث المباديء
الديموقراطية التي تحكم حياته الداخلية !
ان مفتاح تحقيق هاتين المهمتين المترابطتين شرطيا هو السعي الى
ادخال الجماهير ، بصورة واسعة وفعالة ، في العملية السياسية باعتبارها المهمة
النضالية الاساسية لقوى اليسارلتأمين السبيل الواقعي لتغيير موازين القوى ، وضمان بقاء مسيرة النضال في خطها الصاعد من جهة، ولخلق البيئة الملائمة
لانطلاق حزب اليسار من جديد للعب دوره الذي مازال يتطلبه التاريخ ، وبقوة
اكبر ، في الظروف الجديدة التي تمر فيها بلداننا والعالم في ظل الراسمالية
المعاصرة المازومة !
واذا كان تفجر الطاقات الثورية في الربيع العربي قد قدم نموذجا حيا ،
قويا لما يمكن ان تجترحه الجماهير من منجزات ايجابية كبيرة ، فان الصعوبات
والتعقيدات الجدية التي رافقت ذلك تبين ان الاستراتيجية الجديدة تفترض، بل
تستوجب ان يستكمل الحراك الجماهيري، بالتوازي، كامل الشروط والمواصفات
السياسية والتنظيمية التي تؤهله للعب دوره التاريخي كما ينبغي .
ان يناء " الكتلة الشعبية " التاريخية المنظمة والواعية لمهمتها في التحويل
الديموقراطي وفق ما تحدده الشروط الموضوعية المعاصرة ، يتطلب ، حسب
اجتهادنا ، نهجا جديدا لتعامل اليسار مع الجماهير . فالنهج السابق كان يشوبه ،
في اغلب الاحوال ، فهم خاطىء وتفسير جامد لمقولة " الصراع الطبقي ".
حيث كانت تعتبر، بصورة صريحة او مضمرة، ان الممارسة السياسية العملية
والوعي السياسي هما نتاج عفوي يتولدان بصورة ميكانيكية ومباشرة من موقع الفرد وانتمائه الاجتماعي ( الطبقي ) ! هذا الفهم الخاطىء كان يستبعد تاثيرات عوامل سياسية وايديولوجية واجتماعية اخرى عديدة : وطنية ، قومية ، دينية ،
ثقافية ، نفسية ...الخ ، الى جانب الانتماء الطبقي ، ذات تاثير مباشر في تكوين
وتركيب وبناء مواقف الناس وسلوكهم الفردي والاجتماعي . لقد افسح هذا
الفهم الخاطىء المجال ، في كثير من الحالات ، اما الى سلوك نهج منغلق ازاء
الجماهير ومنعزل عنها، بصورة عامة ، وازاء المثقفين والفئات الوسطى
بصورة خاصة ... وسد الطريق ، بذلك ، امام الافادة من طاقاتها الايجابية


9

واطلاقها ، واما الى ممارسات شعبوية عفوية، لا يمكن ان تؤدي الى تحقيق
اهداف واضحة يسعى اليها الحزب اليساري . لقد اسفر ذلك ، في حالات
معينة ،عن فقدان الحزب اليساري لاستقلاليته وهويته ، وسقوطه في التبعية
والالتحاق بقوى واطراف سياسية اخرى .
ان الرؤية الجديدة لمنحى نطور بلداننا تتطلب ، اذن ، التعاطي مع
الجماهير التي يهيؤها التطور العام موضوعيا لتكون من مكونات الكتلة
الشعبية التاريخية الديموقراطية العتيدة ، باقصى المرونة والتفهم . هذا يعني ،
في المجال العملي ، ان نستكشف لدى كل فئة ، في كل منطقة او قطاع ،
القضية او الشعار الذي يمكن ان يحركها في فترة محددة باتجاه ديموقراطي عام ولو وفق خطوات جد بسيطة ، شرط ان تكون في مستوى تقبلها... والتصدي الى كل ما يستفز او يحرك عوامل التخلف الكامنة في الوعي الاجتماعي التقليدي : كالتاثيرات الطائفية او المناطقية او العشائرية او العائلية ...الخ
من الطبيعي ان هذا التوجه المنفتح للعمل مع الجماهير ووسط الجماهير، يرفع ويؤكد اهمية دور منظمات المجتمع المدني ، من حيث هي
اطر اولية ، تدريبية ، لتنظيم الدفاع عن المصالح الجماعية لفئات اجتماعية
محددة . بهذه الصفة تكتسب صفتها الديموقراطية في المجتمع ، في تطوير
الوعي الاجتماعي النضالي الديموقراطي للجماهير . وفي هذا المجال بالذات
لابد من اجراء تصحيح وتعديل في طرق التعامل مع هذه المنظمات وفي
كيفية ادارة اعمالها ، للخلاص من اخطاء خطيرة ارتكبتها جميع القوى السياسية ، بما فيها الاحزاب اليسارية ، في المراحل الماضية . ان تحويل هذه المنظمات ، في الممارسات السابقة ، الى ملاحق تابعة للاحزاب
السياسية او للسلطة ، وتسخيرها للقيام بمهام تتجاوز تلك التي تلائم طبيعتها ،
افقدها الدور الحيوي المفروض ان تقوم به ، اي السعي الى تجميع فئة
اجتماعية معينة حول مصالحها الفئوية المباشرة ، بصرف النظر عن الانتماءات العقائدية والايديولوجية والسياسية للافراد . فهذا النهج الخاطىء الذي فرض على منظمات المجتمع المدني حولها الى اطر واجهزة شكلية ، فقدت معها استقلاليتها ، وجعلتها ادوات في خدمة الاهداف والمناورات التكتيكية المباشرة
للاحزاب السياسية .

الصراع الأيديولوجي

في هذا السياق المتشابك ، المعقد، من نشاط قوى سياسية واجتماعية
متضاربة المصالح والرؤى والاهداف ، ممثلة بدول وانظمة واحزاب ... وتشارك فيه جماهير بتكوينات فكرية وسياسية وانتماءات قومية واتنية مختلفة ،


10


لا يمكن الا ان يؤدي الى اتساع واحتدام الصراع على الجبهة الايديولوجية ...وان يفرز ذلك تشوشا والتباسات على صعيد الوعي الاجتماعي !

فالراسمال المعولم يحاول ان يخفي اهدافه الحقيقية التي يسعى الوصول اليها عبر استراتيجيته الهجومية لاعادة هيكلة النظم والمجتمعات والعلاقات الدولية وفق مصالحه، برفع شعارات الديموقراطية وحقوق الانسان.
محاولا ، عن هذا السبيل ، استغلال طموح وتطلعات الجماهير المشروعة
التي عانت طويلا من مرارة واستبداد انظمتها ، ومن التخلف الذي فرض على مجتمعاتها على الصعد السياسية والتنموية جميعا . من هنا ضرورة التمييز ، وعدم الخلط بين الليبرالية المعبرة عن طموحات ومواقف الجماهيرالناتجة من دوافع وطنية او قومية اوسياسية - اجتماعية، وحتى دينية،وبين ليبرالية العولمة التي تستخدم غطاء تمويهيا لمشاريع الولايات المتحدة وغيرها من الدول الراسمالية الكبرى .
وتسهم الانظمة العربية ، من جهة ثانية ، بدورها في محاولة خلق
التشويش والالتباسات في الوعي الاجتماعي بطروحات تستهدف ، بالدرجة الاولى ، تطويق النهوض الجماهيري ، وبصورة خاصة بعد تفجر " الربيع العربي ". وهي تركز ،بقوة خاصة ، على افتعال تناقض مصطنع بين ا لمعتقدات الايمانية للناس وبين الطروحات العلمية لمعالجة مشاكل المجتمع والدولة في بلداننا . لهذا هي شديدة التاكيد على ما تسميه " الحفاظ على خصوصية مجتمعاتنا " ! وهي بذلك تريد ، في الحقيقة ، ابقاء التركيبة السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي تؤمن لها التحكم والامتيازات بمنأى عن اي تغيير او اصلاح ! وهي قد تفسح في المجال لبعض التقدم التكنولوجي ، وبعض الاصلاحات الادارية تحت ضغط مصالحها الخاصة او ضغط العولمة ومتطلباتها ... لكنها تقف ، من حيث المبدأ ، ضد الحداثة ، وتعارض بشراسة اي تحديث في نظم الحكم : في الدستور وبناء الدولة العصرية ، تقمع الديموقراطية او تشوه ممارستها عن طريق التزوير والضغط المادي والمعنوي ... تستند في ذلك الى المال والى الاطر والتكتلات الاجتماعية التقليدية ( القبلية -- العائليبة -- الطائفية -- المذهبية ) ... مع السعي الى تقييد او محاربة الحياة الحزبية العصرية بمختلف الطرق والوسائل لمنع انتظام الجماهير في اطر نضالية تعبر عن ارادتها ومصالحها .