مقدمة في أثرِ المشكلات السياسية في الصدر الأول للإسلام في نشأة بعض المسائل الكلامية


الاخضر القرمطي
2012 / 3 / 21 - 16:05     

مقدمة في أثرِ المشكلات السياسية في الصدر الأول للإسلام في نشأة بعض المسائل الكلامية


الاخضر القرمطي/وليم العوطة

وليم العوطه
(الاخضر القرمطي)






مقدمة
لا يمكن البحث عن أصل الفكرة إلاّ في واقعٍ إجتماعي كان السبب الأخير في ظهورها. هذه هي نقطة إنطلاقنا في بحثنا هذا. يُصبِحُ حاملُ الفكرةِ عندئذٍ حاملاً لنسقٍ إجتماعي مُتعدد البُنى والظواهر. وما أصل الخلاف في الافكار بين حامليها المختلفين إلاّ في الواقع الاجتماعي بخلافاته وصراعاته السياسية والاقتصادية؛ فالصراع الفكري النظري يكون بذلك إنعكاسًا غير مباشرٍ للصراع الاجتماعي السياسي الاقتصادي، حتّى ولو لم يعِ "المتصارعون" في الرؤى هذه الحقيقة. قلنا إنعكاسًا غير مباشر تأكيدًا منّا على الاستقلالية النسبية للفكر أمام الواقع الاجتماعي المادي، فهو ليس انعكاسٌ مباشرٌ ميكانيكيّ كإنعكاس الوجه في المرآة، إنه إنعكاسٌ يحتفظ للفكر بدرجة من الاستقلالية وبهامش كبير من تمظهره بمظهر "المستقل" عن الواقع الاجتماعي الّذي يفرزه، ويضمن لهذا الفكر مساحةً ،تتراوح في سعتها،من التحرّك و"السيرورة" الذاتية. إلّا أن هذه الاستقلالية النسبية وهذه المساحة تظلّ في نهاية المطاف "مشدودةً" الى الواقع الاجتماعي وما يفرزه، لهذا السبب يستحيل الكلام عن فكرةٍ، فلسفةٍ، أيديولوجيا، أو علم كوقائعٍ مستقلة بحد ذاتها، متعالية عن صيرورة التحوّلات الاجتماعية المادية.
إن كلامنا هذا لا ينفي بالطبع أثر مكوّناتٍ أخرى تلعب دورًا بارزًا في ظهور الأفكار وتطوّرها، وهذه المكوّنات هي تلك ذات الطابع النظري الثقافي البحت (كالأفكار القادمة من مجتمعات أخرى، أو التي تنتمي الى زمنٍ اجتماعي مختلف..) أو هي ذات طابع شخصي نفسي (تتعلّق بالحياة الفردية لحامل الفكرة وبتجاربه الحياتية وبتطلعاته الخاصة..).
والصراع هو الحالة التي تستبطنها الأحداث الاجتماعية كافةً، وتُعتَبَر ظاهرة الصراع ظاهرة ذات أبعاد متناهية التعقيد، بالغة التشابك، يمثل وجودها أحد معالم الواقع الإنسانى الثابتة، حيث تعود الخبرة البشرية بالصراع إلى نشأة الإنسان الأولى، حيث عرفتها علاقاته فى مستوياتها المختلفة: فردية كانت أم جماعية، وأيضاً فى أبعادها المتنوعة: نفسية أو ثقافية، سياسية أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو تاريخية.
ويحدث الصراع الاجتماعي نتيجة لغياب الانسجام والتوازن والنظام والاجماع في محيط اجتماعي معين . ويحدث ايضا نتيجة لوجود حالات من عدم الرضى حول الموارد المادية مثل السلطة والدخل والملكية او كليهما معا . اما المحيط الاجتماعي المعني بالصراع فيشمل كل الجماعات سواء كانت صغيرة كالجماعات البسيطة او كبيرة كالعشاثر والقبائل والعائلات والتجمعات السكنية في المدن وحتى الشعوب والامم . كما أن الصراع ينشأ ولا بد نتيجةً لمصالح الأفراد والجماعات المختلفة والمتناقضة مع بعضها البعض، وعلى المستوى الجماعات تأخذ هذه المصالح شكلَ مصالح اقتصادية أو سياسية بالدرجة الأولى.
وفي التاريخ الإسلامي،وهذا ما يعنينا، جاء علم الكلام-موضوع البحث- ليواجه جملة من التحديات والإشكالات التي واجهت العقل المسلم على مستوى العقيدة، إذ إن علم الكلام يقوم شاهدا على الدور التاريخي الذي قام به المتكلمون للدفاع عن العقيدة في مواجهة مختلف التيارات والأفكار التي كانت تحوم حول هذه العقيدة بغية تشويهها وتحريفها. ويُمكن القول أن علم الكلام الاسلامي كتيار فكري يبغي الدفاع عن العقيدة الاسلامية بالأدلة العقلية، يحوي في داخله الى هذا الحد أو ذاك وجوهًا متعددة من الصراعات الاجتماعية التي أسست- بعد وفاة النبي وربّما قبله- للتيارات الكلامية المتنوّعة والمتصارعة على مستوى الفكر.
وقد لعب الصراع السياسي دورًا بارزًا في تعدد المذاهب الدينية والكلامية بحيث يمكن القول: إن معظم الفرق التي ظهرت في الإسلام يرجع أصلها في المقام الأول إلى أسباب سياسية تتصل بالسياسة. والتنازع على الحكم ويظهر الدور السياسي بوضوح في ظهور الخوارج، والشيعة منذ الفتنة الكبرى، وحدوث الخلاف بين على بن أبى طالب وأصحاب الجمل، وبينه وبين معاوية.. وبعد مشكلة الخلافة بدأت العلاقة الواضحة بين الديني والسياسي، وكانت الفرق عبارة عن أحزاب، ولكن هذه الأحزاب لم تتخذ الشكل السياسي البحت، بل اصطبغت بصبغة دينية قوية، وصار كل حزب سياسي فرقة دينية، وصار الذين يقتلون سياسياً يقتتلون دينياً، وبدلاً من أن يسمى الحزب اسماً سياسياً يدل على المبدأ السياسي الذي يدعو إليه تسمى اسماً يدل على المذهب الديني كشيعة وخوارج، ومرجئة، حتّى أمكن القول، انهم بدلا من أن يتحاجوا بما ينتج عن أعمالهم من مصالح ومفاسد تحاجوا بالكفر والإيمان، والجنة والنار..ألخ
يقينًا أن هذه العوامل لم تكن وحدها "المسؤولة" عن نشأة هذا العلم، فلا يمكن البتة نفي أثر النصوص الدينية (القرآن والأحاديث)، أو أثر الديانتين اليهودية والمسيحية والمِلل والنِحَل الأخرى (كالديانات الفارسية والهندية والصابئة..)، كما لا يمكن نسيان الأثر المهم للفلسفة والمنطق اليونانييْن؛ وبالرغم من أهمية هذه العوامل،وبالأخص القرآن الكريم، إلّا أنه لم يكن الخلاف حول نصوص القرآن الكريم وحده سبباً "كافيًا" في نشأة الفرق الاسلامية إذ أن النزاع السياسي في صدر الاسلام كان له الأثر الأكثر أهمية وخطورة.
ولهذا السبب ، سيقتصر بحثنا هذا على أثر الصراع السياسي في الصدر الأول من الاسلام وأثره في نشأة علم الكلام. وسنتناول بالتفصيل أهم الخلافات السياسية في هذا الزمن من ظهور الاسلام. ففي هذا الوقت برزت مشكلات سياسية كالإمامة وما ارتبط بها من صراعات بدأت منذ أواخر عهد الخليفة الثالث والتي انتهت بمقتله، والتي وصلت ذروتها الى واقعة حرب الجمل والحرب بين معاوية وعلي بن ابي طالب. عن هذه الأحداث، ظهرت أسئلة إشكالية تتناول الحاكم وموقعه وشروط اختياره، وإشكالية مرتكب الكبيرة نظرًا للدماء المسفوكة بين المسلمين، كما ظهرت اشكالية فلسفية على قدر من الاهمية هي تلك المتعلقة بمدى مسؤولية الانسان عن أفعاله، وهل هو مجبَرًا مسيَّرًا أم انه يملك حريةً في الارادة والاختيار.
ولم يكن إختيارنا لهذا الموضوع وليد الصدفة أو العبث، بل لعلّةٍ موجبة، إذ اننا نعتقد أن الخلافات المذهبية والفقهية التي تقضّ مضجع أصحاب الدين الواحد اليوم، اي الاسلام، هي بوجهٍ من وجوهها استمرارٌ لتلك الخلافات التي ظهرت في الصدر الأول للإسلام، مع التأكيد على ملاحظة ضرورية في هذا المجال: فالماضي لا يستمر في الحاضر بل ان الحاضر يعيد استدعاء هذا الماضي إنطلاقًا من شروطه (اي من شروط الحاضر)، اي بمعنى اوضح، إن خلافات المسلمين اليوم ليست هي ذاتها خلافات مسلمي الماضي – في الصدر الاول للإسلام وما أسس له- التي تتكرر كما هي إلاّ بالظاهر – كمقولات ومفاهيم وقضايا وإشكاليات وأسئلة – أما محتواها و مقاصدها فقد كانت عرضةً للتغير بقدر ما كانت المجتمع المسلم متغيِّرًا. هذا من جهة،أما من جهةٍ أخرى، فخلافات اليوم النظرية لها أيضًا جذورها المادية الاجتماعية ولها ما يؤسس لها من صراعات سياسية وغير سياسية بين جماعات المسلمين المختلفة، وهي صراعات أصبحت اليوم تحتل واجهة الحياة السياسية في البلاد العربية والاسلامية.
في الفصل الأول، سنعرض للأحداث التاريخية التي تلت وفاة النبي العربي حتّى واقعة الفتنة الكبرى وما نتج عنها من تصوّرات وتساؤلات لدى الفرق المتنازعة، أمّا في الفصل الثاني فسنعرض لكيفية تكوّن الارهاصات الأولى لبعض المسائل الكلامية إنطلاقًا من هذه الاحداث السياسية المفصلية في التاريخ الاسلامي.
في مطلق الأحوال، عسانا أن نوفّق في بحثنا هذا.

الفصل الأول
وفاة النبي، أحداث الفتنة الكبرى وما تمخّض عنها من إشكاليات


" أمّا بعد، فمن كان معكم يعبد محمدًا، فإنّ محمّدًا قاد مات، ومن كان منكم يعبد الله، فأن الله حيٌّ لا يموت"
أبو بكر

مات النبي محمّد بن عبدالله عام 632 م في المدينة عن عمرٍ ناهز الاثنتين والستين عامًا، بعد إثنتين وعشرين عامًا من قيامه بالدعوة، قضى منها الثلاثة العشرة الأولى في مكّة، وقضى الأعوام الأخيرة منها في المدينة بعد الهجرة.
ما إن اُعلِنَت وفاة النبي العربي حتى "تنبّهت لدى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، نوازع الصراعِ على السلطة" . ولم يقتصر بروز هذا الصراع على المهاجرين والأنصار، بل تعدّى ذلك الى انقسام آخر بين المهاجرين أنفسهم، حيث عادت الى الحياة رواسب الخلافات القديمة بين بني هاشم الّذي ينتمي اليهم النبي وابن عمّه علي بن ابي طالب من جهة، وبني عبد شمس وتيم وأميّة وغيرهم، الّذين ينتمي اليهم سائر المهاجرين، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر بن خطّاب، من جهة أخرى. كما يُمكِن التحدّث عن الصراع القديم بين مكّة، حيث أرستقراطية قريش التجارية وحيث التمايز الاجتماعي الواضح من جانبٍ ، والمدينة تلك المنطقة الزراعية، حيث تغيب الى حدٍ ما تلك التناقضات الاجتماعية الفاضحة وحيث استُقبِلت الدعوة المحمّدية "بصدرٍ رحبٍ" من جانبٍ آخر.
كما يُمكِن التكلّم عن عوامل اُخرى كان لها دور في تفجّر الصراع على الخلافة، لعلّ من أهمها: الأخطار التي كانت تكشّر عن أنيابها من خارج مجتمع المدينة، ومنها خروج أهل الردّة والاضطرابات الناجمة عنه بين القبائل القاطنة جنوب الجزيرة العربية ووسطها التي كانت تهدّد المدينة نفسها تهديداً حقيقياً ؛ والخطر الثاني الذي كان يحدق بالمدينة هو خطر الروم والفرس، إذ كان الخطر الأول خطراً عظيماً وحقيقياً .
وانصبّ اكثر اهتمام علماء الكلام من الفرق المختلفة بموضوع « الامامة » ، لأنّ « الإمامة » كما عرّفت في كتب الشيعة والسنة : « نيابة عن النبي في أمور الدين والدنيا » ولأنّ النبي قال ـ في الحديث المتفق عليه ـ « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ». فتكون الشئون الدينية والدنيوية منوطة كلها بالامام ، وتكون معرفته ثم طاعته واجبةً في جميع المجالات. " . أما ابن خلدون فيعرفها بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به" . "والذي يبدو من استعراض الأحاديث الواردة في باب الخلافة والإمامة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين الذين رووها لم يفرقوا بين لفظ خليفة وإمام، ومن بعد تولية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أضافوا إليها لفظ: أمير المؤمنين - وإلى ذلك ذهب العلماء فجعلوها من الكلمات المترادفة المؤدية إلى معنى واحد فيقول النووي: (يجوز أن يقال للإمام: الخليفة، والإمام، وأمير المؤمنين)" .
يقول الشهرستاني ( الملل والنخل ) في هذا الصدد : " وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان" ، ويقول أبو الحسن الأشعريّ: "أوّل ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد وفاة نبيّهم صلى الله عليه وآله اختلافهم في الإمامة" .
وبهذا الكلام يتبدّى لنا خطورة مسألة الإمامة كمسألة سياسية دينية كان لها الأثر العظيم على نشوء المذاهب والفرق الكلامية فيما بعد. ذلك إن مسألة الحق الديني في الخلافة (أو الإمامة) كان لها الدور في نشوء محورٍ للصراع يرتبط بتحديد المفهوم الديني الاسلامي للخلافة، فهل الخلافة حق إلهي وهل منصب الخليفة منصب إلهي كشأن مفهوم النبوّة، وبهذا يكون الخليفة – أفضل الناس وأعلمهم – إمامًا على المسلمين ويكون اختيراه بواسطة الوحي الالهي المُنزَل على النبي، ويكون على النبي تبليغ المسلمين هذا الإختيار بنصٍّ واضحٍ صريحٍ، ويكون واجبًا على المسلمين الخضوع لهذا الاختيار والاعتقاد به كجزء من الايمان، أو كأصلٍ من أصول العقيدة؟ أم انّ الخلافة منصب رئاسي لا يأتي اختياره من الله، بل هو حق من حقوق المسلمين الّذين يقررون بأنفسهم طريقة اختيار الخليفة والصفات التي يجب ان يتحلّى بها؟
يلّخص الشهرستاني الإشكالية التاريخية عندما يقول ان "الخلافة في الإمامة على وجهين:
أحدهما القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والإختيار. والثاني القول بأن الإمامة تُثبت بالنص والتعيين."
"وما تجب الاشارة اليه هو ان هذه المناقشات التي انطقت ضمن هذه الذهنية تناولت ليس فقط صفات الامام والسلطة المعترف بها لكل شخص تبوّأ منصب الامامة، بل تناولت أيضًا مواضيع أخرى أعمّ ظهرت اثناء تتالي الاحداث" .
اذًا، بعد وفاة النبي، وفي خضّم هذه الشروط، كان على المسلمين الأوائل أن يحسموا مسألة الإمامة اي خلافة الرسول. وقد ظهر بين هؤلاء ثلاثةُ آراء:
1- رأي الأنصار وهم أوّل من آوى الرسول ونصره، واعتبروا انهم الأحق بالخلافة. وقد أعلن الانصار سعد بن عبادة أميرًا لهم، وطالبوا به إمامًا على المسلمين.
2- رأي المهاجرين، وهم أوّل الناس إسلامًا، وكانوا قريشيين بمعظمهم.على رأسهم أبو بكر عمّ الرسول وأوّل الداخلين الى الاسلام.
3- رأي بني هاشم،الّذي كانوا يمثّلون عائلته الضيّقة واعتبروا انهم هم أولى بالخلافة لأنهم أقرب الناس الى الرسول. إليهم ينتمي ابن عم الرسول علي بن ابي طالب،والعبّاس بن عبد المطّلب وعمّار بين ياسر وغيرهم. وقد استند أنصار علي الى حديث الغدير
قام كل فريقٍ من الفرق الثلاث المذكورة سابقًا بالإستناد على أحاديث دينية تسوّف وجهة نظره وتدعمه في مسعاه السياسي. يهمّنا هنا موقف الفريقين الأخيرين. فالفريق الّذي سيستلم الإمامة بعد وفاة النبي، سيستند الى ما ذكره النبي حين قال :" " قريش ولاة هذا الأمر ، فبر الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ". قال : فقال له سعد بن عبادة [زعيم الأنصار]: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء. وقد وردت في السنّة النبوية عند أهل السنة والجماعة نصوص كثيرة تصرّح بفضل أبي بكر وتقديمه على غيره من الصحابة . وهذا الحديث الأخير جعل العديد من المسلمين يعتبرون ان "الامامة في الصلاة هي الامامة الصغرى، وأنّ ذلك يوحي بإسناد النبي الإمامة الكبرى الى أبي بكر، وهي الإمامة العامة في سائر شؤون الإسلام والمسلمين."
أمّا أنصار علي، فقد قالوا بالحق الإلهي للإمامة، وهم يذكرون لإثبات ذلك نصوصًا عدّة، أبرزها على الإطلاق ما يسمّى بحديث الغدير حديث الغدير، حيث يروى عن النبي محمد - صلى الله عليه و سلم - أنه قال في حجة الوداع وبحضور حوالي أكثر من 100.000 إنسان وفي حر الظهيرة بعد أن حمد الله تعالى واثنى عليه، ووعظ فأبلغ في الموعظة ونعى إلى الاُمة نفسه:«أَيّها الناس إنّي قد دعيت ويوشك أن اُجيب وقد حان مني خفوق من بين أظهركم وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فانّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.ثم قال: إنّ الله مولاي وأنا ولي كلّ مؤمن ومؤمنة.وأخذ بيد علي بن أبي طالب وقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه(عليه السلام) (وكرر النبي هذه الجملة ثلاث مرات) اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه واحب من احبّه وابغض من ابغضه وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحقّ معه حيث دار»
في كل الأحوال، ورغم غياب علي بن ابي طالب، تمت مبايعة ابي بكر ليصبح أول خلفاء المسلمين. وإن كانت" بيعة ابي بكر قد أجلّت الخلاف الّذي قام بين المسلمين حول الخلافة عقب وفاة الرسول مباشرةً، أو أرجأته ولكنّها لم تنهه أو تقضي عليه" .
ولم تستمر خلافة أبي بكر إلا سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام استطاع خلالها إخماد حركة الردة والخروج عن سلطة المدينة. وقبل موته عادت مشكلة الخلافة من جديد فما كان من أبي بكر إلا أن حلها بالوصية إلى عمر بن الخطاب الذي أصبح خليفة.
استمر حكم عمر بن الخطاب عشر سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوما تمت خلالها معظم أوائل الفتوحات الإسلامية خصوصا فتح بلاد الشام وبلاد الرافدين ومصر. كل هذا جعل من الدولة الإسلامية تتحول إلى بداية إمبراطورية مترامية الأطراف تشمل العديد من الأراضي والأقوام والشعوب. تدفقت الأموال على المدينة المنورة وانتعشت الحياة الاقتصادية مما أثار فعليا مخاوف أمير المؤمنين الذي عرف بزهده وعدله، ورغم ما عرف به عمر من عدل يتجلى في قصص كثيرة (قصة ابن عمرو بن العاص مع القبطي : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
قبل وفاة ابن الخطاب فطن إلى طريقة جديدة في اختيار الخليفة القادم تخلصه من مسؤولية الاختيار والتي ستكون تطبيقا فريدا لمبادئ الشورى التي يحض عليها الإسلام : ما كان من عمر إلا أن اختار مجموعة من ستة أشخاص (هم من بقي من العشرة المبشرين بالجنة) أي إنهم أشخاص قد حازوا رضا الله ورسوله وأمرهم أن يجتمعوا بعد موته لاختيار خليفة المسلمين.
انحصر أمر الخلافة بعد أول جلسة شورى بين علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، مما دفع بالأمر لإجراء استفتاء في المدينة قام به عبد الرحمن بن عوف وكانت نتيجته لصالح عثمان بن عفان.
ومنذ خلافة عثمان، بدأ يظهر الشكل الديني للصراع على الخلافة بوجهٍ واضحٍ، "وقد ساعد ذلك ما حدث في سلوك الحكّام الّذين يمثلّون الخليفة في الأمصار الممتدة اليها سلطة الخلافة، من صرف أكبر اهتمامهم الى الإثراء الشخصي بطرق اعتباطية، كإمتلاك أراضي الآخرين، وكفرض الضرائب الثقيلة على السكّان حتّى تجمّع الاستياء و[...] تحوّل الى ثورة قام بها فريقٌ من البسطاء وعلى شكل وفود قدمت الى مكة والمدينة [عبّرت عن استيائها وحاصرت عثمان] في داره حتّى لقيَ مصرعه" .
بعد حدوث الفتنة ومقتل عثمان بن عفان، بايع كبار الصحابة الإمام علي بن أبي طالب لخلافة المسلمين، وانتقل إلى الكوفة ونقل عاصمة الخلافة إلى هناك، وبعدها انتظر بعض الصحابة أن يقتص الإمام من قتلة عثمان، لكنه أجل هذا الأمر. يرى أهل السنة أن علي بن أبي طالب لم يكن قادراً على تنفيذ القصاص في قتلة عثمان مع علمه بأعيانهم، وذلك لأنهم سيطروا على مقاليد الأمور في المدينة النبوية، وشكلوا فئة قوية ومسلحة كان من الصعب القضاء عليها. لذلك فضل الانتظار ليتحين الفرصة المناسبة للقصاص ، ولكن بعض الصحابة وعلى رأسهم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رفضوا هذا التباطؤ في تنفيذ القصاص ولما مضت أربعة أشهر على بيعة علي دون أن ينفذ القصاص خرج طلحة والزبير إلى مكة، والتقوا أم المؤمنين عائشة التي كانت عائدة من أداء فريضة الحج، واتفق رأيهم على الخروج إلى البصرة ليلتقوا بمن فيها من الخيل والرجال، ليس لهم غرض في القتال، وذلك تمهيداً للقبض على قتلة عثمان، وإنفاذ القصاص فيهم. أمّا الشيعة فيرون أن علي بن أبي طالب أجل الحكم بالقصاص لسببين:
الانتظار حتى تهدأ الفتنة؛ لم يكن الإمام قادراً على تنفيذ القصاص في قتلة عثمان لعدم علمه بأعيانهم، لذلك فضل الانتظار لتبيان لقتله، وأخذ البيعة من أهالي الأمصار وعزل الولاة وتعيين ولاة جدد وذلك لتقليل سخط الناس على بعض الولاة حيث اتهم اهل الشام ومصر الولاة بالعمل لمصالح شخصية على حساب مصالح الناس وعدم الحفاظ على سنة النبي، فأراد الإمام بذلك احقاق الحق وتهدئة النفوس واعادة الامور إلى نصابها. ويفسر الشيعة خروج طلحة والزبير بأنهما بايعا الإمام طمعا في منصب وهو مالم ينالاه لذلك خرجا عليه واتخذا من القصاص لمقتل عثمان حجة لعزله عن الخلافة أو قتله، اما أم المؤمنين عائشة فهي من حرّض الناس على قتل عثمان فهي من قالت: "اقتلوا نعثلاً (عثمان) فقد كفر" ، وهي التي أثارت الحرب وحرضت طلحة والزبير وأخبرتهم بأن الإمام علي هو من قتله أو سهل مقتله.هذا في ظاهر الأمور، اما في ما حُجِبَ منها يُمكِن التكلّم عن أسباب أخرى أهمّها :
- قيام علي بعزل جميع ولاة عثمان وقد أثارت هذه الخطوة حفيظة الأمويين أقارب عثمان بن عفان .
- اعتقاد طلحة والزبير أن لهما نصيباً في السلطة وطمحا بأن يعينهما عليٌّ ولاة على العراق واليمن ولما انكشف لهما الأمر وخاب ظنهما انفضا من حول الإمام علي.
- الخلاف القديم بين عائشة زوجة الرسول وعلي بن أبي طالب.

نتج عن مقتل عثمان، وتسلّم علي مقاليد الحكم، ما سيُعرَف بالفتنة الكبرى في التاريخ الاسلامي في موقعة الجمل. و موقعة الجمل هي معركة وقعت في البصرة عام 36 هـ بين قوات علي ابن أبي طالب والجيش الذي يقوده الصحابيان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام بالإضافة إلى أم المؤمنين عائشة التي قيل أنها ذهبت مع جيش المدينة في هودج من حديد على ظهر جمل، وسميت المعركة بالجمل نسبة إلى هذا الجمل.
يختلّف مؤرّخو الشيعة ومؤرّخو السنّة حول تفاصيل ما حدث في هذه المعركة، من حيث سبب خروج الجيشين، وكيفية بدء القتال وانتهائه. ولكن، وكما هو معروف، انتهت المعركة بإنتصار جيش علي، و قتل في المعركة عشرة آلاف من جيش البصرة ( ثلث الجيش ) وخمسة آلاف من جيش علي بن أبي طالب ( ربع الجيش)، وانتقال مركز الخلافة من المدينة الى الكوفة، اي الى اطراف الدولة الاسلامية، ومن أبرز ما نتج عن هذه المعرَكة يُمكن القول ان الهالة المقدسة حول الخليفة والخلافة الاسلامية قد سقطت.
ولم يمض زمن طويل على هذه الواقعة التي انتهت بانتصار عليّ بن أبي طالب حتّى أعلن معاوية بن أبي سفيان والي الشام منذ عهد عمر بن الخطاب مطالبته بدم الخليفة المقتول، وبدأت الحرب بينه وبين علي بن أبي طالب الذي انتقل إلى الكوفة، عرف الصراع بين الرّجلين مراحل عديدة، وتعدّدت الوقائع بين أتباعهما، ومثّلت واقعة صفّين حدثا مهما في مسار هذا الصراع، فبعد هذه الواقعة خرج عدد من أتباع علي بن أبي طالب عنه لقبوله التحكيم، وأخذوا يتعرّضون لأتباعه، فقاتلهم علي بن أبي طالب، وانتصر عليهم يوم النّهروان، ومن أجل الثأر لقتلاهم ولوقف الفتنة سعى الخوارج إلى قتل المتسبّبين فيها، ونجحوا في قتل علي بن ابي طالب، وتنازل الحسن بن علي عن حقّه في الخلافة التي آلت إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك انتهت الفتنة في مظهرها العسكريّ، وتفرّق المسلمون إلى طوائف ستظلّ تتصارع إلى يوم النّاس هذا.
هذه الفتنة الكبرى(36ه)- وما تلاها- هي الحدث السياسي الأخطر الّذي سيكون له الأثر العظيم في تبلور ونشوء المسائل الكلامية ذات الصلة وعلى رأسها: مسألة مرتكب الكبيرة ومسألة مسؤولية الإنسان عن أعماله. وهي المسائل التي ستطرحها الفرق الكلامية والمذاهب الاسلامية الدينية السياسية التي تبلورت على إثر هذه الاحداث السياسية التي ما زالت تُرخي بظلالها الثقيل حتى يومنا هذا. هذا وقد أسست هذه الأحداث السياسية الكُبرى لنمطٍ من التفكير الديني- العقلي نقل الى حيّز النقاش والجدل مسائلاً كلامية على قدر كبير من الأهمية، وهذه المسائل هي:
1- مسألة الحاكم وشروط اختياره ومدى وجوبه (مسألة الإمامة)، وهي مسألة ذات طابع فلسفي سياسي.
2- مسألةمشكلة مرتكب الكبيرة، بعد معركة الجمل، حيث نشأت من التساؤل عن موقف الفريقين، أيهما على حقّ وأيّهما على خطأ.
3- مسألة مدى مسؤولية الانسان عن الكبيرة التي يرتكبها، وهي المسألة التي ستنقل المتكلمين ومن ثم الفلسفة الاسلامية العربية الى تناول مسألة القدر والحرية والاختيار والجبرية.



الفصل الثاني
مواقف الفرق الاسلامية من مسألتي الإمامة ومرتكب الكبيرة

تبيّنَ لنا أنّ مشكلة الحكم بعد وفاة النبي كانت أساس الصراع السياسي ونشؤ الأحزاب والفرق الإسلامية، وقد أدت مشكلة الحكم إلى صراعات بين المسلمين وقد أدى هذا الخلاف إلى بروز فئة جديدة كان لها دور كبير على المسرح السياسي اثر النزاع بين علي ومعاوية وان قبول علي للتحكيم هو أساس ظهورهم ، الا وهم الخوارج .
ومما يجدر ذكرة أن هذه الفرق والأحزاب لم تظهر دفعة واحدة ولم تضع برامجها السياسية بصورة ثابتة ومدونة ، وانما آخذت تستقي أسس مبادئها وأفكارها من المصادر الإسلامية الأساسية وتفسيرها للقران الكريم والسنة النبوية ومن تجارب الأمة العربية والإسلامية ، ولما كانت هذه الفئات السياسية قد ظهرت في مجتمع اساسة الدين وبهدف قضية أساسية دينية (الخلافة) فلا بدلها أن تأخذ شكلا" دينيا" لكي تستطيع ان تكسب لها اكبر عدد من المؤيدين.

أولاً: الخوارج ومسألة مرتكب الكبيرة ونظرية الإمامة:
تكوَّنت في العقد الرابع من القرن الأوّل بعدما نشبت الحرب بين الإمام عليّ ومعاوية بن أبي سفيان. وقد انشعب الخوارج فيما بينهم وتشتت مذاهبهم , وإلا أنهم اشتركوا في مسائل ثلاث :
1- إكفار علي (عليه السلام ) وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضي بالتحكيم .
2- إكفار مرتكبي الذنوب .
3- إيجاب الخروج على الحاكم الجائر.
رفع الخوارج شعار خلاصته أن "الحكم لله لا للرجال" وأنّ "الحقّ حقُّ الله"، فليس لأحد أن يتصرّف به أو يجعل أحدًا من الرجال حكمًا يحكم به على هواه. و"تطبيقًا لهذا المبدأ، قالوا انه ليس لنبي اذا وضع لأمّته أمرًا أن ينكص على عقبيه. وما دام علي قد قبِلَ التحكيم في حقٍّ وضعه النبي فهو اذن قد نكص على عقبيه" . وقد استند موقفهم هذا، وما قاموا به بعدئذٍ من عمليات اغتيال، على مفهومهم للإيمان، حيث اعتبروا ان الايمان لا يقف عند الاعتقاد الداخلي بل يُضاف اليه أمرٌ آخرٌ ضروري هو العمل الخارجي العضوي، حيث ان المؤمن ليس مؤمنًا ما لم يكتمل له عنصر العمل المطابق لإيمانه الداخلي.
إنطلاقًا من رؤيتهم هذه سيحكم الخوارج على مرتكبي الكبائر الذين يموتون قبل التوبة، بالكفر والخلود في النار،وقد استدلوا على معتقدهم ذلك بأدلة، منها قوله تعالى: { بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 81]؛ وهذا هو خلافهم الأساسي مع أهل السنة - بالإضافة إلى قتال علي -. وقد تبلورت تلك الفكرة في صراعهم الفكري والمسلح ضد بني أمية، عندما ظهرت قضية "الحكام الذين ارتكبوا الكبائر واقترفوا المظالم".
بموقفهم هذا خالف الخوارج كلاًّ من الشيعة والسنّة في مسألة الإمامة : فبعد ان كانت نظريتهم تقوم في بادىء الأمر على ان عليًّا قد خالف حقّ اللهِ حين رضيَ بالتحكيم ، تغيّرت نظرتهم بعد ذلك، فأصبحوا يقولون بعدم حصر الخلافة في علي وأولاده كما يرى الشيعة، وبعدم حصرها في قريش كما يرى أهل السنّة، "قائلين بأنه يصح أن يكون الخليفة من غير بني هاشم وقريش والعرب بوجهٍ عام، بل يصح حتّى أن يكون عبدًا حبشيًا.[و] إن الخلافة للأمة والأمة وفق الخليفة. ولذلك وجب عندهم ان تنتخب الأمة كل من تراه جديرًا بمنصب الخلافة لرعياة مصالحها، ومن حق الأمة حين يخرج الخليفة عن خطة هذه الرعاية، لا ان تعزله وحسب ، بل ان تقتله كذلك". وعلى هذا الاساس، أصرّ الخوارج على الإختيار والبيعة في الحكم، مع ضرورة محاسبة أمير المسلمين على كل صغيرة ، كذلك عدم حاجة الأمة الإسلامية لخليفة زمن السلم. والإمامة عندهم من "الفروع" وليست أصلا من أصول الدين، ولذلك قالوا: إن مصدرها هو الرأي وليس الكتاب أو السنّة.
ثانيًا: الشيعة ومسائل الايمان ومرتكب الكبيرة والامامة والعصمة:
نشأ التشيّع مع نشوء مسألة الخلافة أو الإمامة فور موت صاحب الدعوة الاسلامية، ومن ثمّ تبلور هذا الموقف الشيعي مع احداث الحياة العربية الاسلامية، حتّى نشأت وتفرّعت عنه مواقف سياسية وفكرية كلامية وفلسفية، تألّف منها مذاهب وفرق شيعية متعددة تضاءل بعضها ونما بعضها الآخر واتسّعت قاعدته ولا يزال يحتفظ بوجوده حتى اليوم.
ورغم تعدد واختلاف الفرق الشيعية من حيث المبدأ والاجتهاد ومن حيث المحافظة على الارتباط بالاصول الاسلامية، فإن هناك أمرًا مشتركًا بينها هو الموقف من شخص علي بن ابي طالب.
رأى الشيعة ان السلطة السياسية "لم تنته بوفاة النبي، بل انها امتدت في علي بن ابي طالب والأئمة من بعدها، وقالو بأن الخلافة بالنص والتعيين. وعارضوا مبدأ الاختيار لأن الامامة عندهم ليست قضية مصلحية تُناط باختيار العامة، وبتنصيب الامام بنصبهم، بل هي قضية اصولية، وهي ركن من أركان الدين." وهذه السلطة – اي الامامة- هي حق الهي وليست حقًّا للناس في اختيار من يصلح لقيادتهم. كما انها لا تقتصر على المجال الديني بل تتعداه الى المجال السياسي والاجتماعي والى كافة ميادين الحياة الاجتماعية؛ وهي بهذا المعنى سلطة روحية وزمانية في الآن عينه.
حاول الشيعة تأكيد رأيهم في الخلافة، وأوردوا لذلك نصوصًا عدّة من القرآن والأحاديث النبوية، وقد قسّموا النصوص القرآنية الى جليّة وخفيّة؛ فمن النصوص الجلية الآية الكريمة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [ النِّساء:59 ]. "ومن الخفيّ عندهم ان النبي بعث "علّيًا لقراءة سورة [براءة] في الموسم حين انزِلَت، فإنه بعث بها أوّلاً أبا بكر، ثم أوحى اليه: ليبلغه رجل منك-أو من قومك، فبعث عليًا، ليكون القارىء المبلغ، قالوا وهذا يدل على تقديم علي."
كما يستند الشيعة (المعتدلون منهم بالتحديد وليس الغلاة)، لتبرير امامة علي وذريته، على ما يسمّونه الدليل العقلي، تمييزًا له عن الدليل النقلي (النصوص الدينية). أمّا خلاصة الدليل العقلي فتكمن في هذه النقاط الثلاث:
1- ان الإمام يجب ان يكون معصومًا عن الخطأ كالنبي، وتقول الشيعة "انه لم يكن عند موت النبي معصومًا غير عليّ بالاجماع، فيجب اذن ان يكون هو الامام".
2- شرط الامام كونه لم تصدر عنه معصية، وبما ان عليًّا لم يعبد الاصنام قبل الاسلام قط، فقد تعيّن ان يكون هو الامام.
3- انه يجب في الامام ان يكون افضل علمًا من غيره في عصره، وقد كان عليًّا كذلك، فوجب اذن ان يكون الامام دون غيره.
تمسّك الشيعة بعلي وفضّلوه على سائر آل بيت النبّوة وسائر الصحابة لعوامل عدّة أهمها صلة القرابة التي تربطه بالنبي، شخصيته وصفاته، واستشهاده واستشهاد أبنائه. والخلاف الرئيسي بين الفرق الشيعية المتعددة تعود الى تسلسل الخلافة بعد علي، وبالتحديد منذ واقعة كربلاء وموت الامام الرابع علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، حيث افترقت الشيعة منذ ذاك الى فرقٍ بدأت بثلاث: الإمامية (الاثني عشرية-اتباع محمد الباقر بن زين العابدين)- الزيدية (أتباع زين بن علي زين العابدين) والكيسانية (أتباع محمد بن الحنفية وهو ابن عم علي بن ابي طالب مباشرة)؛ ومن ثم أخذت الفرق الشيعية تتشعب وتتعدد ، وذلك تبعًا "لما كان يدخل على النظرية الشيعية من أفكار جديدة تتحرك وتتموّج في ذلك المجرى الفكري الّذي بدأ يتكوّن أولاً من البحث في مشكلة القدر ومسؤولية الفعل الإنساني وعلاقته بالفعل الإلهي، ومن الصلة بين بحث هذه المشكلة ذاتها والصراع السياسي الحزبي حول مسألة الخلافة [...] ثم بدأ يتبلور خلال نهوض الحركة الكلامية-الفلسفية النامية الصاعدة."
وهكذا نرى مثلاً في مسألة الإمامة أن الإمامية الاثني عشرية (والاسماعيلية أيضًا) قد اشترطت عصمة الإمام مستدلّين بذلك بآيات قرآنية منها آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا ) [سورة الأحزاب : آية 33]، والمراد بـ(أهل البيت) بحسب المراجع الشيعية: علي وفاطمة والحسن والحسين . كما استدلّوا على ذلك ببعض الأحاديث النبوية كقول الرسول: "أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون" .
إذً، فالإمامة عند الشيعة هي زعامة ورئاسة إلهية عامة على جميع الناس، وهي أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها؛ إذ لابد أن يكون لكل عصر إمام وهادياٌ للناس، يخلف النبي محمد في وظائفه ومسؤولياته، ويتمكن الناس من الرجوع إليه في أمور دينهم ودنياهم، بغية إرشادهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم.
هذا في حين يغلب على تعريفات الخلافة أو الإمامة عند علماء أهل السنة قديمهم وحديثهم إعطاء الطابع التنظيمي والتنفيذي لرئاسة الدولة الإسلامية ، ولحفظ وتحقيق مصالح الناس على هدى مبادئ الشريعة .وهذا يشمل إقامة الحدود ، وتدبير أمور الأمة ، وتنظيم الجيوش ، وسد الثغور ، وردع الظالم وحماية المظلوم ، وقيادة المسلمين في حجهم وغزوهم وتقسيم الفئ بينهم .وهم بذلك لا يعترفون بفصل الدين عن الدولة وسياستها وشؤونها الإدارية ، بل يعتبرون أنهما قائمان على بعضهما بعضا . ويقول ابن تيمية في ذلك : ( يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين ، بل لا قيام للدين إلا بها . فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لحراسة الدين من رأس ) .

وأمّا في موضوع مرتكب الكبيرة، فقد ذهب الامامية في هذه المسألة الى أن مرتكب الكبيرة لا يخرج عن الايمان بالمعصية مهما كان نوعها، لانه لا يعتبر في الايمان اكثر من التصديق بالقلب عند أكثر الامامية. وقد ذكرنا أن بعضهم اضاف اليه الاقرار باللسان، فالعصاة اذا لم يبلغ بهم الحال الى الجحود والتشكيك لا يخرجون عن الايمان، وبذلك يلتقي الامامية مع الاشاعرة ومع المعتدلين من المرجئة.
ثالثًا: المرجئة ومسألة مرتكب الكبيرة
الرأي الأقرب إلى الصواب في نشأة المرجئة أنها نشأت بعد ظهور الخوارج والمعتزلة كردِّ فعلٍ لهم؛ لأن الخوارج ترى أن مرتكب الكبيرة كافر مخلَّد في النار، وتكفر عليًّا وعثمان والقائلين بالتحكيم.
والمعتزلة تقول: إن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، وأنه مخلَّد في النار أيضًا؛ فظهرت المرجئة لتعلن الرأي المقابل لهذين الرأيين وتقول: إن مرتكب الكبيرة مؤمن ناجٍ، وتذهب إلى مسالمة جميع الطوائف، والقول بإيمان ونجاة كل المسلمين . وعلى ذلك تكون المرجئة قد نشأت باعتبارها حزبًا سياسيًّا مستقلاًّ قام مع الحزبين الآخرين: حزب الشيعة، وحزب الخوارج.
وكانت المرجئة أول أمرها تُرجِئ أمر الصحابة المتقاتلين إلى الله تعالى، وترجئ أمر تعذيب أهل الكبائر إلى الله، ثم غلوا بعد ذلك حتى صاروا إلى قولتهم المغالية المنكرة: "لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة". وقالوا: "إن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقِيَّة وعبد الأوثان، أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك فهو مؤمن كامل الإيمان"
رابعًا: المعتزلة
ظهرت في أواخر الخلافة الراشدة مع بداية زمن الأمويين حيث تطورت ونضجت جل مقولاتهم الكلامية. ومع بداية عصر العباسيين شهدت ذروة القوة والهيمنة (193-227 هـ) حتى زمن المتوكل، وبعد ذلك عرف هذا المذهب مرحلة الضعف والانحطاط ..
واشتهر المعتزلة بأصولهم العقدية المعروفة، وهي: التوحيد، والعدل الإلهي، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ما يهمّنا من آراء المعتزلة هو ما يتصّل مباشرةً بموقفهم من المسائل النظرية التي ولّدتها الخلافات السياسية في صدر الاسلام ومن ثمّ تلك المتعلّقة بالدولة الأموية الحديثة النشأة.
ويبدو لنا تأثير العامل السياسي واضحًا حين نتفحّص تسمية المعتزلة بهذا الاسم،فقد ترددت كلمة "اعتزال" وكلمة "معتزلة" كثيرًا في تاريخ الصراع الفكري والسياسي في الاسلام حتّى قبل "نشوء هذه الجماعة التي استقر عليها اسم "المعتزلة" في نهاية القرن الأول للهجرة وأواخر القرن السابع ميلادي" . وقد دخلت هذه التسمية كمصطلح سياسي وفكري حين اُطلِقَت على جماعة من الصحابة الّذين اتّخذوا موقف الحياد من موقعة الجمل التي سبق وتكلّمنا عنها، كما انهم ايضًا اتّخذوا الموقف عينه من حرب صفّين بين علي ومعاوية، فقيل يومها عنهم انهم قد اعتزلوا عن علي ورفضوا محاربته ومحاربة خصومه معًا. وفيما بعد اُطلِقَت هذه التسمية على فئة أخرى من جماعة الحسن بين علي بن ابي طالب اعتزلت عنه وعن معاوية حين عقد الاثنان صلحًا، فانصرفت هذه الجماعة الى "العبادة وقراءة القرآن" . فهل من صلة (سياسية بالدرجة الأولى) بين هؤلاء المعتزلة وأولئك الّذين يرتبطون بإعتزال واصل بن عطاء (ت:748) حلقةَ الحسن البصري؟
يكمن الجواب عن ذلك في الخلاف النظري الّذي حصل بين واصل واستاذه البصري، وهو خلافٌ يرتبط بمشكلة مرتكب الكبيرة، ففي حين رأى البصري ان مرتكب الكبيرة "منافق" ليس مكتمل الإيمان يستحق ما يستحقه غير المؤمن من الجزاء في الآخرة، رأى واصل انه "فاسق" اي مؤمن من حيث الاعتقاد ولكنه عصى أحكام الشريعة من حيث العمل بارتكابه الكبيرة. وهذا معنى تسمية "منزلة بين منزلتين" اي ان مرتكب الكبيرة هو في مرتبة وسط بين المؤمن والكافر، وليس بهذه الحالة مؤمنًا أو كافرًا.
وفي مسألة الايمان، يرى المعتزلة أن الإيمان الشرعي المعتبر مركب من أجزاء ثلاثة: اعتقاد بالقلب، وتصديق باللسان، وعمل بالجوارح. وهكذا نرىانهم قد عولوا على العمل كثيرا، والعمل عندهم له شأن لأنه لا قيمة للتكاليف إذا لم يقم بها من كلفوا بأدائها، ولهذا جعلوا الإيمان قولا ومعرفة وعملا، فالقول لا بد منه حتى يكون كالبيان والإظهار لما في القلب، ولا يمكن أن نميز المؤمن عن غيره إلا بالنطق باللسان ولا يقل العمل عندهم في تحقيق الإيمان عن الركنين الآخرين. وهذا الأمر موضع اتفاق بين المعتزلة والخوارج .
هكذا أصبح المعتزلة في منزلة وسط بين رأيي كل من المرجئة والخوارج. هذا الحل النظري الوسطي يبدو الى حد كبير امتدادًا للموقف السياسي -الوسطي المحايد- المعتزلي الأول في معركتي الجمل وصفّين. وجواب واصل بن عطاء جاء في سياق الكلام على الخوارج والمرجئة ، ومن المعلوم أن هاتين الحركتين كانتا تعبيرَا عن موقف سياسي تجاه معركة سياسية محتدمة على ارض الواقع، "فلم يبقَ اذا شك بأن القاعدة النظرية التي وضعها واصل بشأن مرتكب الكبيرة في سياق الكلام عن الخوارج والمرجئة، لم تكن بمعزل عن الواقع العربي الاسلامي بما كان يصطرع فيه حينذاك من آراء وخلافات ومواقف سياسية ، وان اتّخذت هذه القاعدة المعتزلية وجهها النظري المجرّد وطابعها الديني الخاص" .
واذا انتقلنا الى المسألة الأخرى المتصلة بمسألة مرتكب الكبيرة،اي مسألة مسؤولية الانسان عن أعماله وأفعاله (الجبرية والحرية)، نجد أن المعتزلة وفي معرض كلامهم عن العدل الإلهي، اعتبروا ان الانسان يتحمّل المسؤولية عن أفعاله خيرها وشرّها
يقترب موقف المعتزلة من الإمامة وبشكل كبير من موقف الشيعة في هذا الأمر حيث يقول الشهرستاني في هذا المقام :"لا إمامة إلا با النص والتعيين ظاهرا مكشوفا" إلاّ انه يختلف في مواضع عدّة:
فقد ذهب المعتزلة الى "أنّ نصب الإمام واجب عقليًا، اي ان دليل الوجوب دليل عقلي" ولكنه واجبٌ على العقلاء فقط وأن نصب الإمام يتم عن طريق اختيار الناس له بالشورى.
ويقول علماء المعتزلة أن الإمام لا يحتاج إلى معرفة الشرع من جهته وأنما يحتاج إلية لتنفيذ الأحكام الشرعية مثل إقامة الحدود وحفظ الثغور واعداد الجيوش والغزوات وما إلى ذلك .
ويقول النشء الأكبر عن المعتزلة في هذا المقام : " المعتزلة كلهم صنفان : صنف أوجبوا الإمامة وزعموا أن نصب الإمام فرض على الأمة في عقد الدين ، وصنف أنكروا وجوب الإمامة وزعموا أن للمسلمين أن يقيموا إماما" ولهم أن لا يقيموا ، وليس لاحد الأمرين أولى من الأخر وشبهوا لك بالصلاة بإمام وبغير إمام وقالوا كل ذلك حسن أي أن فعلة الإنسان فجائز ، وحجة هؤلاء أن حكم الإسلام مخالف لطبيعة اتخاذ الملوك والممالك ويقولون أن النبي (ص) لم يكن ملكاً ولم يجعل ملك امتة في أحد بعدة ويبررون ذلك بقولهم (أن الملك يعود ألي الغلبة والاستئثار وفي الغلبة والاستئثار فساد الدين وابطال احكامة والرضاء بأحكام الملوك المخالفة لحكم الكتاب والسنة ) .
أما الذين قالوا بوجوب الإمامة فانهم وضعوا لذلك شروطا" مهمة يجب أن تتوفر في الإمام أهمها :
1. يجب أن يكون الإمام قادرا" على القيام بما يفوض إلية من الأمور .
2. أن يكون عالما بذلك .
3. الأمانة .
4. أن يكون عدلا" .
وهم يشترطون العدل في الإمام، لذا فان طاعة الإمام عند المعتزلة لاتكون لامام فاسق أو مبتدع أو مرتكب للمعاصي والذنوب أو أنة يحمل صفات منكرة أو خصال سيئة.
أما أصول اختيار الإمام عند المعتزلة فإنها-أي الإمامة- لاتقوم ألا بالاختيار والبيعة ورفضوا النص والوصية مخلفين بذلك الأمامية، وكذلك خالفوا المرجئة الذين أجازوا إمامة المتغلب على السلطة والمغتصب للإمامة. وهم يرون أن أسلوب الاختيار يختلف باختلاف وتطور الأزمنة وتغيرها ووضعوا للاجتهاد دورا كبيرا في هذا المقام، أي أن اختيار الأمام متروك للفعل البشري وما تقتضيه مصالح الناس والعباد والبلاد. وبالتالي فان المعتزلة اعتبروا أن الاختيار هومن باب الحرية للناس التي لا يجوز الاعتداء عليها.
وتمشيا مع الطابع السياسي لمنصب الإمام رأي المعتزلة جواز الخروج على الحاكم وعزلة إذا أخل بشرط من شروط المطلوب توافرها فيه والتي سبق أن ذكرناها لان منصب الإمام يستند إلى رضا المحكومين وانه يعتبر خادما لهم منفذا لحدود الله وشرعة ، وانه حتى بعد بيعته يظل استناده بجماعة المسلمين لاالى قوة غيبية ولا الى قوة عصبية أو قبلية أو أسرية فالإمام يستشير اصحابة فيما يفعل ليعرف الصواب من الخطاء كما كان يفعل رسول الله لقولة تعالى : "وامرهم شورى بينهم " .
وهذا يعزز من فكرة أن المعتزلة يرفضون مبداء العصمة لا بل يرون بأن الإمام الذي تنطبق علية هذه الشروط ويتصف بالصفات الحسنة والأخلاق الكريمة الفاضلة ، إنما هو إمام صالح تجب طاعته وتنفيذ أوإمرة وذلك امتثالاً للآية: " واطيعوا الله والرسول واولي الأمر منكم " ، ولم يجز المعتزلة الخروج على الحاكم إلا إذا خالف شرع الله وحكم بما لم ينزل به الله سلطان ، أو خالف سنة النبي . ويرى المعتزلة أن الوسيلة في الأمر بالمعروف أن يبدأ بالحسنى، فإن لم يفد انتقلنا إلى اللسان، فإن لم يفد انتقلنا إلى اليد، فإن لم يفد انتقلنا إلى السيف، فهم إذاً يبدؤون من الأسهل إلى ما هو أكبر منه، ولو أحوج الأمر على السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بأس في ذلك.ثم هم بناء على استعمال السيف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرون قتال المخالف لهم؛ سواء كان سلطاناً أو غيره من عامة الناس إذا كانوا جماعة وفي مقدورهم ذلك، ولذا قالوا: بوجوب الخروج على السلطان الجائر وقتال المخالفين لهم ..
وهذا العدل الذي يشترطونه "يتضمن الأخذ برأيهم في التوحيد وفي القدر. فإذا عرفنا ان رأيهم في القدر لا ينفصل عن القول بحرية الانسان، اي رفض الحتمية القدرية [...] استطعنا ان نستنتج من ذلك ان مفهوم العدل الدنيوي الأرضي عندهم لا ينفصل ايضًا عن قضية حرية الانسان هذه." وهنا تتبدّى لنا تلك العلاقة بين المفهوم الديني النظري للعدل عند المعتزلة (العدل الإلهي) وبين مقابله الواقعي المتجسّد في الإمام العادل او في السلطة السياسية العادلة. وهذا ما ينقلنا الى تناول مسألة العدل الإلهي والحرية الإنسانية عند المعتزلة.
يتفق المعتزلة ان الله لا يفعل الشرور، وان ارادته لا تتدخل في فعل الطاعة من المطيع ولا في فعل الكفر من الكافر، لا بل إن الله لا يفعل الا "الاصلح" لعباده. وقد أكّدوا على حرية ارادة الانسان في افعاله.
خامسًا: مشكلة القدِر والحرية الانسانية بين القدريـّة والجبرية
الجبرية هي إحدى الفرق الكلامية التي تقول بالجبر، بمعنى أن العباد مجبورون على أعمالهم، وأول من قال بهذه المقالة هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، فالجهمية هم أول من حمل لواء هذه الدعوة، وقد كانت بدعتهم هذه ردة فعل لبدعة القدرية الذين غلوا في نفي القَدَر. والجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب . والجبرية أصناف فالجبرية الخالصة لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل بالأصل. وأما الجبرية المتوسطة فتثبت للعبد قدرة غير مؤثرة؛ فأما من أثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في العقل -وسمي ذلك كسبا- فليس بجبري والمعتزلة يسمون من لم يثبت للقدرة الحادثة في الإبداع والأحداث استقلالا جبريا وقد عدوا النجارية والضرارية والكلامية من الصفاتية والأشعرية جبرية.
أمّا القدَرية فنسبة إلى القدر، وهي فرقة كلامية زعمت أن العبد مستقل بإرادته وقدرته وليس لله في فعله مشيئة ولا خلق، وأنكر غلاتهم علم الله السابق، وأول من أظهر القول بالقدر معبد الجهني. ويعود أصل شبهة القدر الى الزعم بتنزيه الله عن نسبة الشر والكفر اليه فى افعال
العباد، فزعم أصحاب هذا المذهب ان العباد هم الفاعلين للشر والكفر، وغفلوا انهم بذلك اخرجوا قسما عريضا من افعال العباد وأراداتهم خارج إرادة الله وخلقه فلم يعد الله فاعلا لكل مافى الكون ، واصبح فى كون الله مالم يخلقه الله. وتعتبر المعتزلة كفرقة كلامية امتداداً للقدرية الأوائل بحيث تبنوا آرائهم وعمَّقوها من الناحية الفلسفية، ولهذا سمَّي المعتزلة بالقدرية.
وقد استند كل من أصحاب الجبر والقدَريون الى النصوص الدينية وبالتحديد تلك الآيات القرآنية التي تدعم وجهة نظر كل من الفريقين.
و"إذا أخذنا بالحسبان أولاً ان الظاهرات الفكرية لا تنشأ تلقائيًا دون ممهدات سابقة لها. وثانيًا [انها] لا تنشأ بمعزل عن الظاهرات الاجتماعية[...] واذا أخذنا بالحسبان ثالثًا ان بحث مشكلة القدر بالخصوص قد ارتبط بموقف سياسي في جوهره وديني في مظهره [...] صحّ لنا أخيرًا ان نستبعد القول الشائع لدى كثير من مؤرّخي الفلسفة العربية بأن البحث في هذه المشكلة بدأ مع معبد الجهني" في ما بين النصف الأول والنصف الثاني من القرن الأول للهجرة.
كما يُمكِن الرجوع الى شواهد تاريخية عديدة تُظهِر ان التفكير بمسألة القدَر، وما يتعلق منها من أفكار تطال حرية الانسان ومسؤوليته، تعود الى عهد الخلفاء الراشدين. وقد كانت مواقف الخلفاء الراشدين والصحابة متباينة. وهذا ما يدفعنا الى القول ان هذه المسألة كانت ذات واقع موضوعي قائم بصورة مستقلة قبل ظهور معبد الجهني وغيلان الدمشقي. كما أن هذه المسألة ستأخذ مظهرها الجلي منذ لحظة بدء الحكم الأموي، حيث " احتاج الاُمويون منذ البداية إلى تبرير سياستهم الجائرة وركوبهم المعاصي ، فذهبوا إلى تأويل بعض آي القرآن الكريم بما يفيد الجبر والتسيير ، ليقولوا للناس إنّ ما صنعناه إنّما هو من قضاء الله تعالى وقدره ، وليس من أيدينا ، بل حتّي مناصبهم هذه فهي من الله تعالى فهو الذي جاء بهم إلى الملك وملّكهم ، لأنّه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء !! هكذا ليكونوا أبرياء من كلّ ما ارتكبوه في طريقهم إلى انتزاع الملك ! وليكونوا مخولين في كلّ ما يصنعون بعد ذلك"
وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ أهل القدر هم أصحاب مقالة كلاميّة نظريّة قوامها أنّ الإنسان فاعل بإرادته وقدرته وهو مسؤول في الدنيا والآخرة على أفعاله، لكنّ هذه المقالة سياسيّة بامتياز إذ تأسّست عليها ثورات ضدّ الحكم الأمويّ.
و خلاصة القول إن قضية أفعال العباد بين الحرية والجبرية تكتسب دلالتها العميقة من خلال الكشف عن الأفق السياسي الذي يحركها، فلا يمكن دراسة أي قضية في علم الكلام دون الكشف عن السياق السياسي الذي تخلقت فيه، لأن ذلك يضيء مساحات مظلمة في تاريخنا الثقافي، والذي قام فيه السياسي بالدور الفاعل في تحريك الديني والثقافي لخدمة أغراضه.

الخاتمة
حاولنا في هذا البحث تبيان دور الشرط السياسي في تأسيسه للعمل النظري ولمقولاته، وهكذا نظرنا الى المسائل الكلامية في مرحلتها الجنينية بإعتبارها نتيجة مباشرة حينًا وغير مباشرة حينًا آخرًا لتلك الشروط السياسية التي طبعت بطبعها الصدر الأول للإسلام.
وقد تمحور بحثنا بالدرجة الأولى على تناول المرحلة الكلامية العملية السياسية المظهر منتقين بعض الفرق العقائدية والكلامية الاسلامية محاولين تبيان أثر الصراع السياسي على نشوء النظر العقلي الديني. واقتصرنا في هذا البحث على فرق الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة والجبرية والقدرية، محاولين المحاججة عن رؤيتنا ومفادها أن أحداث الصدر الأول للإسلام منذ وفاة النبي حتى معركة صفّين في سياقها السّياسيّ المضطرب، قد شكّلت إرهاصات علم الكلام الإسلامي أو علم العقائد، فكانت عبارة عن مقولات سياسيّة مختزلة مركّزة تعبّر على مواقف أصحابها من الأحداث مشبعة بالعمق العقائديّ وبالمظهر الديني. وقد كانت الأسئلة واقعيّة مباشَرَة ظرفيّة، لكنّها سرعان ما أنتجت مقالات كلاميّة وإرهاصات تشكّلات سياسيّة عقائديّة ستتألّف عنها لاحقا فرقٌ ومذاهب لكلّ منها "أدواته" النقلية والعقلية.


لائحة المصادر والمراجع

1) مروة، حسين، النزعات المادية في الاسلام، دار الفارابي، بيروت،طبعة عام 1987، الجزء الأول.
2) الشهرستاني،أبو بكر أحمد، الملل والنِحَل،تحقيق محمد سعيد الكيلاني، دار صعب، بيروت، طبعة 1987، الجزء الأول.
3) سوريل،دومينيك، الاسلام في القرون الوسطى، ترجمة علي المقلد،دار التنوير،بيروت، الطبعة الاولى،1983.
4) المغربي، علي عبد الفتّاح،الفرق الكلامية الإسلامية، مدخل ودراسة،مكتبة وهيبة،القاهرة،الطبعة الثانية 1995.
5) هويدي، يحيى، دراسات في علم الكلام والفلسفة الاسلامية،دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة،الطبعة الثانية 1979.
6) الفضلي، عبد الهادي،خلاصة علم الكلام،دار المؤرّخ العربي، بيروت، الطبعة الثانية،1993.
7) النشّار، علي سامي، نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام،دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة، 1971.
لائحة المصادر الالكترونية
1) (الظروف التاريخية لنشوء وتطور الفلسفة العربية الإسلامية-د. عيدروس نصر-
http://www.aleshteraki.net/articles.php?lng=arabic&aid=1400)
2) السيد علي الحسيني الميلاني،الإمامة في أهمّ الكتب الكلاميّة، منقول عن شبكة الانترنت على الموقع :
http://rafed.net/booklib/view.php?type=c_fbook&b_id=73&page=151#522
3) الموسوعة العَقَدية
http://www.dorar.net/enc/aqadia
4) http://hadith.al-islam.com
5) http://www.islamww.com/booksww/pg.php?b=3972&pageID=529
6) عيساوي، سهيل،ثورات فجّرت صمت التاريخ الاسلامي،نقلاً عن الانترنت:
http://www.khayma.com/sohel/thawrat/thawrat.htm
7) http://alnor.4t.com/t
8) http://alkafi.net/vb/
9) http://www.mezan.net/r
10) http://rafed.net/booklib/view.php?type=c_fbook&b_id=21&page=71#71
11) http://www.islamstory.com/ar/
12) http://ar.wikipedia.org