القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية 3-3


هاشم نعمة
2012 / 3 / 8 - 23:29     

دور الجيش

من بين العديد من العوامل التي تؤثر في نجاح الانتفاضات في البلدان العربية، يبرز دور الجيش، ليس لأنه القوى المنظمة الأقدر على حسم مسيرة الانتفاضة أو الثورة، وضبط إيقاع الأحداث والتطورات المتلاحقة كحماية الثوار من بطش القوى المناهضة للانتفاضة فحسب، ولكن لكونه كذلك الأكثر جاهزية لحماية الانتفاضة ذاتها من أي ثورات مضادة، والتصدي لمحاولات سرقتها من قبل العناصر أو الدوائر الموالية للنظام.

في انتفاضة تونس، لعب الجيش دورا مفصليا في إنجاحها، حيث التزم الحياد إبان تحول الحالة الثورية إلى فعل ثوري، ولم يتدخل إلا لحفظ الأمن والحيلولة دون انهيار الدولة. وأستند هذا الموقف من جانب الجيش على ركائز شتى، أهمها: استياء الجيش من سياسة الإضعاف والتهميش المتعمدين له من قبل بن علي لمصلحة الأجهزة الأمنية الأخرى، التي كان يحتمي بها. وفي اللحظات الأخيرة من عمر النظام، تحول موقف الجيش إلى الانحياز للانتفاضة، خاصة مع موقف قائد الجيش البري الجنرال رشيد بن عمار، الذي حاصرت دباباته قصر قرطاج، مما أجبر الرئيس المخلوع على الفرار.( ) إذن لعب الجيش دورا حاسما في منع سقوط مزيدا من الشهداء والجرحى. رغم أن الجيش التونسي لم يمارس أدوارا سياسية مباشرة منذ استقلال البلاد في عام 1956 خلافا لما عليه الحال في العديد من البلدان العربية.

في مصر، سلكت الأمور مسلكا مشابها إلى حد كبير، وإن اختلفت كثيرا طبيعة الجيش المصري وتكوينه وعلاقته بالسياسة، خصوصا في ظل اتصال عسكر مصر بالسلطة السياسية منذ ثورة 1952. وكان واضحا للعيان منذ اندلاع الانتفاضة، وعقب استدعاء الجيش لملأ الفراغ الذي خلفه انسحاب الشرطة، أن الجيش وضع مسافة بينه وبين القيادة السياسية، وحرص على أن يتدخل في لحظة احتدام الأزمة لإقناع الرئيس مبارك بالتنحي لوقف تدهور الأوضاع. وبشكل عام، كان موقفه متوازنا طيلة الوقت، وإن مال في بعض الأحيان إلى الشارع ومطالبه.( )

ولكن هل يمكن فهم موقف الجيش في مصر وتونس من الانتفاضة دون أخذ البعد الدولي بعين الاعتبار دون التقليل من وطنية هذه الجيوش. فمعروف أن للجيش المصري علاقات قوية مع مراكز القرار السياسي والعسكري في الولايات المتحدة خصوصا بحكم المساعدات العسكرية السنوية التي يتلقاها من هذه الدولة. والدورات العسكرية التي يذهب لها ضباط الجيش وبالأخص كباره إلى هذا البلد. وهذه الحالة يمكن أن تنطبق على الجيش التونسي بالأخص في علاقاته مع فرنسا. لذلك من الأرجح أن موقف الجيش الحيادي أرادته الدول الغربية أيضا كي تكون يده نظيفة من قمع الانتفاضة ومن ثم يمكن أن يعول عليه كقوة منظمة للسيطرة على الأوضاع خوفا من انهيارها بالأخص في مصر وما تتمتع به من موقع إستراتيجي في مجاورتها لإسرائيل والخوف على أمنها. في حين أن هذا الحياد لم يحدث في انتفاضات اليمن وليبيا بل حدث انقسام في صفوف الجيش حيث مالت بعض الوحدات العسكرية للانتفاضة وأخرى للنظام وفي حالة سوريا لا زالت مؤشرات الانشقاق في صفوف الجيش محدودة. وإضافة إلى العوامل القبلية في حالة اليمن وليبيا والطائفية في حالة سوريا التي حكمت موقف الجيش من الانتفاضة فيمكن أن يكون غياب أو ضعف علاقة الجيش بالمؤسسات الغربية عاملا ساهم في هذا الموقف الذي آخر انتصار الانتفاضات في هذه البلدان.

استنتاجات

- يحتدم الكثير من النقاش الآن حول ما ستفرزه الانتفاضات من نتائج على صعيد التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ورغم انه من المبكر جدا الخروج باستنتاجات محددة حيث أن الانتفاضات لا تزال في طور الحدث غير المكتمل لكن من المؤكد إن البلدان العربية قد بدأت مرحلة جديدة من الحراك السياسي والاجتماعي والتغيير وسوف لا تعود إلى أوضاعها السابقة وأن قطار التغيير قد انطلق بالرغم من اختلاف سرعته من بلد إلى آخر.

- الانتفاضات في البلدان العربية عملية موضوعية تاريخية نتجت عن التراكم الكمي الذي لا بد أن ينتج عنه تحول نوعي . وهذا يؤكد بأن لا توجد شعوب تعيش خارج التاريخ وثبت بطلان مقولة "الاستثناء العربي" القائلة أن المجتمعات العربية عصية على التغيير للانتقال إلى مجتمعات مدنية ديمقراطية نتيجة عوامل موروثة دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية. هذه المقولة التي تبنتها بعض الأوساط الفكرية الغربية وتأثرت بها بعض الأوساط العربية.

- يكون المستوى السياسي في البنية الاجتماعية أول المستويات تأثرا بفعل الثورة وقابلية للتغيير. حتى وأن تطلب التغيير فيه مدى زمنيا أبعد مما يتوقعه عادة من يصنعون الثورة. ومن المفهوم أن الجانب الاقتصادي يشهد التغيير نفسه بعد السياسي وإن بإيقاع أبطأ من الأول، لأن الديناميات الاقتصادية موضوعية جدا وحيز التدخل في قوانينها ممكن لكنه أقل بكثير مما هو في السياسة حيث مساحة الإرادة أوسع. لكن نظيرتها في المجال الاجتماعي والثقافي تأخذ زمنا أطول قد يستغرق جيلا أو جيلين قبل أن تبدأ الإفصاح عن نتائجها.( )

- هناك حقيقة يجب التوقف عندها لتبيان أن الأسباب الحقيقة الكامنة للانتفاضات لم تكن تتمثل بوسائل الإعلام الاجتماعية حيث شهد التاريخ الإنساني الكثير من الانتفاضات والثورات رغم غياب هذه الوسائل في وقتها. نعم استخدمت هذه الوسائل للوصول إلى أوسع الجماهير وتوسيع النقاش وسطها وتحشيدها للانتفاضة والتغلب على رقيب السلطة. ويؤكد قولي هذا أن هناك العديد من الأمثلة لناشطين استخدموا وسائل الإعلام الاجتماعية بمهارة لكن نشاطاتهم فشلت، كما جرى في بيلاروسيا في آذار( مارس) 2006. وفي انتفاضة الحركة الخضراء في إيران، خلال حزيران (يونيو) 2009. وانتفاضة أصحاب القمصان الحمر في تايلاند عام 2010.( )

- كانت سعة المشاركة الشعبية في الانتفاضات حيث ضمت كل طبقات وشرائح المجتمع والتنظيمات السياسية والنقابية والمهنية عنصر قوة عجل بسقوط رأس النظام في تونس ومصر. لكن هذه السعة تحمل في أحشائها مخاطر الانقسام فيما يخص مسار التوجه لإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حيث الكثير من المنتفضين كان هدفه الأساس سقوط النظام دون التفكير في النظام البديل ويزيد المسألة التباسا غياب قيادة موحدة للانتفاضة تمتلك برنامجا محددا للمرحلة الانتقالية على الأقل.

- عدم رفع شعارات معادية إلى الدول الغربية وإسرائيل ينم عن فهم الجماهير بأن هذه الشعارات تستخدمها الأنظمة الأستبدادية للاستهلاك الإعلامي ولتبرير قمع أي توجه نحو التغيير دون إغفالها أن سياسة هذه الدول تحاول التكيف مع مرحلة الانتفاضات لضمان مصالحها في المرحلة اللاحقة. ومن ثم كانت شعارات المنتفضين تعطي الأولوية للوضع الداخلي الذي يشكل إعادة بنائه عاملا أساسيا لإقامة علاقات دولية تتسم بالندية والمصالح المتبادلة.

- لا يزال خطر الثورة المضادة قائما في ظل بطء التحولات وإعاقتها ولجوء المحتجين للتظاهر بين الحين والآخر للضغط من أجل الإسراع في انجاز التحولات. وتراهن فلول النظام السابق والتي لا تزال تتحل مواقع قوية في مؤسسات الدولة والمجتمع على عنصر الوقت لتراجع المد الثوري ومزاج الجماهير نحو التغيير.

- ما حدث يشير أن الإسلام السياسي ابتعد، بدرجة كبيرة، عن رفع شعاراته بشكل مباشر وإلى مسايرته للشعارات التي رفعتها القوى الوطنية والديمقراطية أملا في استثمار فرص العمل السياسي التي تتيحها له أوضاع ما بعد سقوط الأنظمة أو إصلاحها. أما الفكر الإسلامي المتطرف مثل تنظيم القاعدة فقد وضع في مأزق حقيقي. فرغم أعماله العنيفة المعتمدة على الإرهاب والقتل لم يستطع التأثير في سياسة أي بلد بينما مظاهرات سليمة أسقطت أنظمة قمعية بوليسية.

- سيتأثر الوضع في العراق أكثر بما تحققه الانتفاضات في البلدان العربية من نجاحات وبالأخص عندما تتحول إلى ثورات حيث تتعمق التحولات في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولذلك فإن مقولة "الربيع العربي" حدث بالعراق أولا ولا يمكن أن يتكرر هي مقولة مردودة على أصحابها من وجهة النظر الموضوعية والتاريخية لأن الأسباب الموضوعية للإصلاح والتغيير في العراق ناضجة وربما أكثر من بعض البلدان العربية.

- ربما لن يتكرر نموذج التغيير على الطريقة التونسية والمصرية في البلدان العربية الأخرى على الأقل في المدى المنظور نتيجة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وإقليمية ودولية تجعل لهذه البلدان خصوصيتها في التغيير.

- رغم الطابع الايجابي للعامل الإقليمي والدولي ودوره في نجاح التغيير الذي يساهم في عزلة النظام السابق لكن عندما يكون دوره عسكريا كما حدث في ليبيا فهذا يحمل مخاطر التأثير المباشر في التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمرحلة ما بعد سقوط النظام وبناء دولة مدنية ديمقراطية مستقلة.

- هناك دول تتجه للإصلاح السياسي التدريجي مثل المغرب وإلى حد ما الأردن حيث تغيير النظام لم يطرح إلى الآن من قبل المحتجين ويمكن أن تكون الدول الغربية قد فكرت بهذا النموذج لدول الخليج العربي خوفا من التغيرات العاصفة التي يمكن أن تهدد إمدادات النفط لها من هذه المنطقة الحيوية.