اقتصاد السوق بين اليوتوبيا والممارسة تعليق أولي على (اقتصاد السوق مصطلح تضليلي) للدكتور قدري جميل

دارا كيلو
2005 / 1 / 14 - 10:14     

من أكثر المصطلحات تداولا في وسط المتخصصين في علم الاقتصاد وغيرهم من المهتمين بالشأن الاقتصادي هو مصطلح اقتصاد السوق, ولكن هذا المصطلح بقدر ما يتداول بقدر ما يحاط بالغموض والإشكاليات. وهذا الغموض في جانب منه قد يكون علميا, أي ناتج عن المشكلة المعروفة في أوساط المهتمين بالعلوم الاجتماعية, حيث أن توصيف الظواهر وتقييمها وتعريفها بأبعادها وآفاقها يبقى مجال أخذ ورد, وهذا أمر طبيعي, ويزداد هذا الغموض في أوساط من لا يعايشون الظاهرة ويحاولون التنظير لها على طريقة عن عن........الخ المعروفة في الأحاديث التي تروى عن النبي محمد. الجانب الآخر من الغموض والالتباس هو إبهامٌ مقصود للمصطلح لغرض ما في نفس من يقوم بذلك.
لنبدأ بتعريف مبسط لماهية اقتصاد السوق, إن اقتصاد السوق هو اقتصاد تقوم فيه آلية السوق بتفرعاتها المختلفة والمعروفة(آلياتها الفرعية) بالتوفيق بين الحاجات غير المحدودة للإنسان وموارده المحدودة. وكون الاقتصاد اقتصاد سوق يعني أن غالبية فعالياته الإنتاجية , المادية والغير المادية, إن لم يكن كلها يقودها منطق السوق القائم على العرض والطلب, التبادل,الربح والخسارة, المنافسة, وحسابات تكلفة الفرصة البديلة ......الخ . هل وجد هكذا اقتصاد؟ الإجابة نعم هذا الاقتصاد وجد مع ولادة الرأسمالية لكنه اكتمل إلى حد ما في إنكلترا أواسط القرن الثامن عشر , وانتشر فيما بعد.
قبل الحديث عن مسألة اليوتوبيا والممارسة, هناك سؤال يجب الإجابة عليه, ولو بشكل مبدئي, , مفاده : هل يمكن الحديث عن اقتصاد سوق خارج الرأسمالية بل هل يمكن الحديث عن اقتصاد خارج إطار الرأسمالية والسوق؟ باعتقادي وبالاعتماد على بعض الإشارات الفكرية والواقعية أن جواب السؤال السابق هو النفي, يمكن الحديث عن فعاليات إنتاجية قبل الرأسمالية, لكن الاقتصاد والسوق واجتماعهما أمر آخر, وأوضح اعتقادي من خلال النقاط التالية:
الأولى, في كل المجتمعات التي سبقت الرأسمالية- والتي رافقتها, إذا صح التعبير, مثل الاشتراكية – لم يكن هدف الفعاليات الإنتاجية التبادل والربح والخسارة . في ما قبل الرأسمالية كانت الفعاليات الإنتاجية بغالبيتها فعاليات اكتفاء ذاتي, وعمليات إدارة الإنتاج وتوزيع الحصيلة كانت تتم عبر علاقات وارتباطات اجتماعية وسياسية. في الاشتراكية قيل أن الإنتاج كان يتم بغرض خدمة الصالح العام, لكن قطعا لم يكن منطق السوق هو السائد, وأعتقد أن الأمر كان اقرب إلى نمط من الإقطاع بنسخة معدل للقرن العشرين.
ثانيا, حسب ماركس فإن الرأسمالية هي التي فرقت بين السياسي والاقتصادي, أي أن الإقطاع طبقة سياسية اقتصادية, أما البرجوازية فهي طبقة اقتصادية لكنها ذات امتيازات سياسية, وهنا يمكن تصنيف المدراء العامين والوزراء والمتحكمين بمفاصل الآلية الإنتاجية في الاشتراكية, والذي يعينون عن طريق رضا وتزكية الحزب السياسي, بأنهم أقرب إلى الطبقة السياسية الاقتصادية.
ثالثا, يقسم بعض الباحثين الاقتصاديين المجتمعات إلى نوعين من المجتمعات: مجتمعات القرار التقليدي القائمة على أساس اتخاذ القرارات على طريقة الآباء والأجداد, ومجتمعات القرار العقلاني التي تتخذ القرارات بناءا على حسابات عقلانية من الربح والخسارة والمقارنة بين الخيارات لكل حالة على حدة. وتصنف المجتمعات الماقبل رأسمالية ضمن المجتمعات التقليدية والرأسمالية ضمن العقلانية, وبرأي أنه يمكن تصنيف الاشتراكية(التي تحققت) في هذا الجانب مع المجتمعات التقليدية, لأن مصدر القرار لم يكن حسابا عقلانيا وإنما أراء ونظريات وتصورات وضعها الآخرون, وهذا يشبه ما خطه الآباء والأجداد.
رابعا, ظهر علم الاقتصاد كعلم مكتمل, كما يُتفق عليه بين الاقتصاديين, في بريطانيا مع إصدار آدم سميث لكتابه( ثروة الأمم) أواسط القرن التاسع عشر. وللتوقيت والمكان أهمية كبيرة هنا, حيث أن التوقيت هو تاريخ تبلور الرأسمالية, والمكان هو المكان الذي تبلورت فيه الرأسمالية أولا. وهذا أمر طبيعي لأنه إذا لم تكن هناك ظواهر كيميائية لن يكون هناك علم اسمه الكيمياء. وآدم سميث هو المنظر الأبرز لاقتصاد السوق وصاحب فكرة اليد الخفية(invisible hand) للسوق, التي تقود الجميع لتحقيق أفضل إشباع ممكن. والمهم الإشارة هنا إلى آدم سميث لم يكن يتحدث عن سوق مستقبلية وإنما كان يتحدث عما هو موجود.
تأسيسا على ما سبق يمكن القول أنه يمكن الحديث عن علم الاقتصاد واقتصاد السوق في الرأسمالية فقط, والتي آليتها الأساسية هي السوق, حيث تبلور اقتصاد السوق ,أو الاقتصاد بشكل أدق, كظاهرة وهو ما شكل موضوعا لعلم خاص بالظاهرة المعنية هو علم الاقتصاد. بالتالي يمكن القول أن الرأسمالية فقط هي مجتمع اقتصادي, أما في غيرها فلم تتبلور ظاهرة مستقلة عن الكل الاجتماعي السياسي اسمها الاقتصاد الذي ينطوي على السوق, وبالتالي يمكن القول هي مجتمعات ما قبل اقتصادية.
إذا كانت السوق هي ظاهرة جوهرية في الرأسمالية والاقتصاد, أو هي تعبيرات لمسألة واحدة, فإنه مع حيوية الرأسمالية فإن السوق قد تتبلور بأشكال مختلفة تتراوح بين المنافسة الكاملة والاحتكار المطلق ولكن ضمن إطار الرأسمالية نفسها. وعليه فإن مصطلح اقتصاد السوق ليس مصطلحا حديثا, وهو أقرب إلى التعبير عن ممارسة فعلية, منه إلى التبشير بيوتوبيا مستقبلية, بل إن اقتصاد السوق بمنطقه القائم على حسابات الربح والخسارة هو أغراق في الممارسة الواقعية, وكما نعلم أن حسابات الربح والخسارة لا تؤمن بأحلام الفلاسفة والمصلحين.
سقت هذه المقدمة كمحاولة للدخول في موضوع يشكل هاجسا شخصيا بالنسبة لي, حيث أرى أن علم الاقتصاد (وضمنا الاقتصاد كفعالية اجتماعية) لم يتوطن لدينا, ويتم التعامل مع الشأن الاقتصادي بمنطق التعامل مع قضايا الفلسفة والاجتماع والأيديولوجيا. قد يكون هذا مبررا بمعنى أن من لم يتعرف على ظاهرة ما لا يستطيع أن يصفها. وقد دفعني أيضا لتناول الموضوع قراءتي في العدد /1073/ تاريخ 9/1/2005 من الحوار المتمدن (موقعREZGAR ) ما يشبه التغطية الصحفية لمحاضرة للدكتور قدري جميل بعنوان (اقتصاد السوق مصطلح تضليلي) هذه التغطية دفعتني لإبداء بعض الانطباعات الأولية التي يمكن أن توسع مستقبلا .
بداية لم استطع أن أتبين إن كان هناك مراسل للحوار المتمدن لخص محاضرة الدكتور قدري , والمادة مكتوبة بتلك الصيغة, أم أن الدكتور قدري نفسه لخصها لصالح الحوار المتمدن, حيث أن المادة منشور باسمه. ولم استطع الحصول على نص المحاضرة بالكامل حتى أتمكن من مناقشته بشكل مناسب, وآمل أن ينشرها الدكتور قدري قريبا على الانترنت.نفهم من ملخص الاستعراض أن هناك صراعا بين قوى العولمة وأنصارها وتابعيها في الداخل(سوريا) التي تريد التخفيف والاستغناء عن دور الدولة الاقتصادي من جهة, و(السواد من الناس والقوى الوطنية)باتجاه تقوية وإصلاح دور الدولة, وهنا يأتي الحديث عن اقتصاد السوق ليحل محل الدولة, كشعار تضليلي استخدم لعودة غير معلنة للرأسمالية في الدول الاشتراكية, ويراد استخدامه الآن في سوريا. ثم يعود ليقول أن هناك أكثر من شكل لاقتصاد سوق , فهناك اقتصاد السوق الحر, اقتصاد السوق الاحتكاري, اقتصاد السوق الاشتراكي السوفيتي, واقتصاد السوق المشوه. ويعلن الرجل في النهاية تمسكه بالدولة وأمله في إصلاحها.
وفي مناقشتي المبدئية للدكتور قدري سأتناول النقاط التالية:
أولا- إن أول ما يحز في النفس هو غياب المنطق العلمي الأكاديمي في التعامل مع قضايا علمية وعملية أيضا, حيث يتم الخلط بين السياسي والاقتصادي, بين العلم والموقف, فالدكتور قدري, رغم أنه وكما ورد في سيرته يحمل الدكتوراه في الاقتصاد, يوزع سلفا تهما سياسية على تحليلات علمية اقتصادية, حيث يجرد الداعين لاقتصاد السوق والحد من دور المباشر للدولة من الوطنية, ويقربهم من العملاء لمؤامرة خارجية. وهذا أمر مؤسف حقا ويسد الطرق على التحليلات العلمية, ويسلط إرهابا يقمع الفكر العلمي الحر. وفي النتيجة ذلك أمر غير لائق بالمناقشات العلمية. وقد أحسست بأنه اتهمني باللاوطنية حيث أنني كباحث في المجال الاقتصادي من أنصار اقتصاد السوق, مع أنني لست عميلا أو مخبرا لأي جهة داخلية أو خارجية أو محسوبا عليها. والغريب أن يتم الربط ببين الوطنية والتمسك بالدولة بهذا الشكل المتشدد, ووجه الغرابة يتمثل في أن يشدد شيوعي على الوطنية إلى هذه الدرجة التي تتجاوز الحد الطبيعي للأمور, رغم أن الشيوعية بطبيعتها عابرة للأوطان,ومعروف شعار "البروليتاريا لا وطن لها". وكذلك معروف على نطاق واسع النقد اللاذع الذي وجهه لينين لمنتسبي الأممية الثانية حين وقفوا مع حكوماتهم بحجة الدفاع عن الوطن في الحرب العالمية الأولى. كذلك فإن الوطنية, إذا شئنا التشديد مع الدكتور على الوطنية, في جانبها الاقتصادي تعني أن يدار الاقتصاد بطريقة تؤدي إلى أقصى كفاءة في الأداء, وهنا يمكن أن نقارن بين اليابان التي راهنت على السوق وأية دولة أخرى راهنت على الحكومة وتدخلها المباشر, أيهما أقدر الآن على اتخاذ قرارات لمصلحة أوطانها وشعوبها من ناحية تحقيق النتائج وليس الجعجعة والشعارات الفارغة.
ثانيا- يتحدث الدكتور قدري عن سوق اشتراكية حيث كل شيء تتحكم به الدولة, أين السوق في هذا؟, فمصطلح السوق أساسا وكما تعلمناه هو الحيز الذي تلتقي فيه الحاجة الإنسانية لتبادل الفائض, أي تلاقي العرض والطلب, فعن أية سوق يتحدث( اذكر هنا أن ماركس تحدث عن مجتمع مدني هو السوق ومجتمع سياسي يتعلق بالدولة والحكم وشؤونها). يبدو أن الرجل تأثر برواج اقتصاد السوق, رغم أنه اعتبره مؤامرة, وسلك سلوك البعض الذي تحدث في فترة الخمسينات والستينات عن اشتراكية عربية واشتراكية إسلامية, وكما يتحدث الكثيرون الآن عن ديمقراطية(شورى) إسلامية أو عربية ...الخ, تهربا من تسمية الأشياء بمسمياتها ومواجهة الواقع كما هو. طبعا الأشكال الأخرى لاقتصاد السوق التي ذكرت هي حقيقة ولكن تلك الحقيقة معروفة ولا يخفيها من يدعون لاقتصاد السوق. وبالنسبة للوضع السوري فإن الدكتور يرى أن اقتصاد السوق نوع من المؤامرة كالتي حدثت في الدول الاشتراكية, والسؤال هنا , وضمن إطار التشكيلة الخماسية التي تعلمناها من ماركس, أين يصنف سوريا؟ من خلال سياق التغطية هناك إشارة مبهمة وكأنها اشتراكية. إذا كان الأمر كذلك فإنني أهنأ الدكتور على تلك الاشتراكية وأنهي النقاش. ولكن هناك إشارات باتجاه آخر, لذلك نعيد السؤال أين نصنف سوريا, هل الاقتصاد السوري اقتصاد رأسمالي أم ما قبل رأسمالي؟ إذا كان رأسماليا فلماذا يتعب الرجل نفسه بالحديث عن مؤامرة التحويل إلى اقتصاد السوق الذي هو ستار للتحول إلى الرأسمالية, فالأمر متحقق على أرض الواقع. أما إذا كان ما قبل رأسمالي فإن التحول إلى الرأسمالية من مرحلة ما قبل الرأسمالية يعتبر خطوة كبيرة إلى الأمام, والأمر كذلك من وجه نظر ماركسية, فما الذي يزعجه إذا كان المجتمع يخطو خطوة إلى الأمام يفترض أن يباركها, كما كان ماركس ينظر بإيجابية إلى نشر علاقات الإنتاج الرأسمالية في الهند.
ثالثا- اعتمادا على المقدمة التي سقناها فإن اقتصاد السوق ليس شعارا أو يوتوبيا للأحلام, ومن يتعامل معه يعرف سيئاته, وهو تعبير عن ممارسة. والذين راهنوا عليه لم (يأكلوا كم ) حسب تعبير الدكتور, والحقيقة المؤسفة أن الذين راهنوا على الاشتراكية السوفيتية وشقيقاتها ومشتقاتها المشوهة, وأنا منهم, هم الذين أكلوا الكم, فالسوق لا يعرف الأحلام. المشكلة هنا أن الدكتور يأبى, وربما منظومته الفكرية والإيديولوجية لا تسمح له بذلك, التمييز بين ما هو متحقق وما ينظر له كمشروع للأحلام المستقبلية. أي أنه ينظر إلى اقتصاد السوق كما ينظر إلى مصطلح الاشتراكية, رغم أن السوق في أساسها قائمة على النواقص والمصالح بينما الاشتراكية إيديولوجيا شاملة تدعي الكمال وهي تعبير عن أحلام العدالة. ولذلك يبحث عن أي شائبة ويضخمها كنواقص لاقتصاد السوق رغم أن هذه النواقص هي أمر طبيعي فيما يتم الحديث عنه, بالطبع بالمعنى الاقتصادي وليس بأي معنى آخر. وكون اقتصاد السوق شعارا للتضليل فإنني أعتقد أن كل من يلم بأساسيات الاقتصاد يعلم أن السوق تعني الرأسمالية ولا شيء غير الرأسمالية, وبالتالي لا حاجة للتضليل بمسألة واضحة.
رابعا – يقيم الدكتور مفارقة وهمية بين الدولة والسوق, إما هذا أو ذاك,رغم السوق لا تقوم ولا تزدهر إلا بوجود دولة قوية وقوية جدا, والدولة المقصودة هي دولة القانون والمؤسسات أي الجهاز الذي يستخدم القسر الشرعي في تطبيق القوانين وحماية الحقوق. فإذا كانت السوق حيزا لتبادل العرض والطلب فإن الأمر يعني وجود شخصين على الأقل, أحدهما يمتلك شيء ما والأخر شيء آخر يريدان تبادلهما. هنا إذا لم يعترف كل منهما بشرعية ملكية الآخر لما يمتلكه ووجود قانون ,وقوة تطبق هذا القانون, يحمي تلك الملكية فإن أقواهما جسديا أو بأساليب أخرى سيسلب الأضعف ما يمتلكه, ولن يكون هناك تبادل أو سوق . والمشكلة هنا أنه يتم الخلط بين الدولة كجهاز سياسي للحكم وسلطة شرعية, وهذا مطلوب وبقوة في اقتصاد السوق أكثر من غيره , والدولة كجهاز يستولي على الفعالية اقتصادية, أي تندلق خارج إطارها الأساسي. وهذا أمر مرفوض نظريا وثبت فشله عمليا في كل التجارب. وبالتالي فإن الدكتور, بشكل مقصود أو غير مقصود, يخلط الأوراق لكي يحارب على جبهات وضد أناس ولكن ليس في الاتجاه الصحيح في أحسن الأحوال.
حقيقة اعتبر أن علم الاقتصاد تعرض لظلم كبير حيث انتشر في مجتمعات لم تبلغ بعد مرحلة الاقتصاد, وتم تأهيل كوادر علمية متخصصة في الاقتصاد في مجتمعات لا تعترف بأساسيات الاقتصاد, بحيث أصبح الجميع يتحدث في الاقتصاد بلغة ليس لها علاقة بالاقتصاد لا من قريب ولا من بعيد وسيمر وقت طويل حتى يتوطن الاقتصاد كظاهرة وكعلم في الكثير من مجتمعاتنا المتخلفة.