ثورة مصر الدائمة


مجدى عبد الهادى
2012 / 3 / 1 - 07:37     

ثورة مصر الدائمة : من 1795 إلى 2011م




"المثال الثورى لا يعنى تحقيق تكامل الواقع فى صورته، بل تقدماً مستمراً فى إتجاهه، بحيث يستطيع، إن كان ناجحاً أن يحقق أو يمثل منعطفاً تاريخياً جذرياً فى المجتمع الذى يتجه إليه ويمارس ذاته فيه"

التجربة الثورية بين الواقع والمثال – د/ نديم البيطار




تقـــديم
-----
لم يحدث أبداً أن حققت ثورة واحدة فى التاريخ كافة أهدافها دفعة واحدة وبقدر ما تعطى هذه الثورات من آمال تعلو برقابها عنان السماء، بقدر ما تنحط بصانعيها إلى مهاوى اليأس والإحباط.

فالمثل الثورى لم يصنع يوماً ليتحقق، فمن حيث منشأه ليس وليداً لواقع بقدر ما هو إنعكاس وإستجابة بشرية معاندة لواقع بائس، تحياه البشرية على غير رغبة بما يجعله ضرورة لا غنى عنها، ما دامت غرائز البقاء قابعة فى قلب السيكولوجيا الإنسانية.

فالموت والإنتحار يحلان كل المشاكل ولكنها غريزة البقاء هى ما تبقى على الإنسان يكابد واقعاً مؤسياً، يبارزه وينابذه، فيصرعه قليلاً، ويصطرع على يديه غالباً.

هذا البقاء الإجبارى هو ما يجبر البشر على التصدى الجماعى الإجبارى للواقع المريض، الذى هو من صنعهم فى غالب الأحوال، ففى موقع الظالم يصنع بعضهم واقعاً مريراً عن وعى وتقاليد طبقية متوارثة لترسيخ وتوريث أوضاع تحمى مكاسبهم، وفى موقع المظلوم يحمى بعضهم ذاك الواقع، بل ويمدون شرايينه – جبراً أو إختياراً – بالدماء التى تحفظ له الحياة وتضمن له الإستمرار، علاوة على تعاميهم وتغاضيهم – الواعى واللاواعى والعفوى والعمدى – عن مباذل واقعهم وأسبابها الحقيقية.

هذا الواقع يتجاوز الفرد، حاطاً بكلكله على صدره الضعيف، ساحقاً إياه، ومحيلاً كيانه الهش إلى رماداً تذروه رياح العبودية المتفشية فى جموع الجماهير المهزومة، تفشى الجراثيم فى الدم الفاسد.

لحسن الحظ لم يصنع كافة البشر من ذات الخامة أو الطينة، وربما هى حكمة الخالق أن يصنع بعضهم من طين الموت والآخر من طين الحياة، وبعضهم من طين حار والآخر من طين بارد.

وهذا ما تظهره الإستجابات الإنسانية المتعارضة للواقائع المشتركة، وهى الخصيصة التى أختص بها البشر وحدهم، والتى صنعت تاريخهم، فتميز الحيوان البشرى هو فى تعارض إستحاباته ما بين فرد وآخر، وللفرد الواحد فى الأزمنة المختلفة، بما يعطى تنوعاً وتجدداً فى توالفات الأحداث التى صنعت تاريخنا الغريب المتمايز داخلياً، رغم ما يظهره آحياناً من تكرار، يظنه البعض ثباتاً لا يعرف التحول.

هذه الإستجابات المتعارضة لم تترك لواقع حق الخلود، فما يولد يموت، وما بنيناه نهدمه، وما خلقناه نقتله، وما قبله بعضنا يرفضه البعض الآخر، وما أحببناه فى زمن كرهناه فى زمن لاحق، والعكس بالعكس.

هذه التعارضات والتناقضات السلوكية تشكل أرضية سيكولوجية للرفض والتمرد، هى أولى مراحل الثورة، وهى وقودها الذى يغذيها ويزكى أوارها ضد الواقع المرفوض.

وليست هذه نظرية جديدة أو قديمة فى سيكولوجيا أو بيولوجيا الثورة، تلاحق ثنائية هيجل المتمثلة فى السيد والعبد، فالسيد والعبد لدى هيجل ثابتين مفهومياً على أرضية سيكوبيولوجية، لهما حكم البيولوجيا، نقيض متحد لا فكاك منه ولا نهاية له، خالد خلود الإله المتهم لدى البعض بصناعة الثنائية ذاتها!

هذا التعارض والتناقض فى الطبيعة البشرية، هو الذى خلق إلى جانب الضعف والخنوع، القوة والتمرد، وإلى جانب ذل العبودية، عزة الحرية وكبرياء الكرامة، ما جعل البشر بحراً ذى مد وجزر، ينجر حيناً من الدهر إلى جزر عميق ينطوى فيه على نفسه تاركاً للشاطئ العلو والإستكبار، ومرتداً عليه حيناً آخر خافضاً إياه تحت أمواجه، ملغيا لوجوده وإستعلائه، ساحقاً له ببطء لكن بثبات، عبر عملية طويلة وشاقة من التعرية والتفتيت المستمر.

وهكذا هى معركة الحرية، التى تمتطى فيه الجماهير صهوة الثورات، معركة طويلة لا تنتهى مرة واحدة وللأبد، بل هى معركة تعرية وتفتيت دائمة، هدفها بعيد، ويديها فى مرمى القدم، فالعين بصيرة واليد قصيرة، كما يقولون!!

والعين تنظر نحو المثل الثورى البعيد الذى يمثل مطامح البشرية الأبدية، والتى عكستها الأديان، التى تم إستيعابها نفسها ضمن منظومات الإستعباد، لتصبح آمال البشرية كائنات ميتافيزيقية، تفارق الواقع ولا تحايثه، فتصبح فى حكم الوهم.

أما اليد فتعمل فيما هو فى محيط القدرة، وفى مرمى القدم، فلا تخرج عن إطار الواقع المرسوم، فتغيره بحساب وبقدر، ضمن حدود وقيود فرضها هو، ووضعها التاريخ كقواعد ومراجع ذات إعتبار .

هذه الفجوة ما بين الواقع والمثال، هى تيمة ثابتة تاريخياً، حتى لدى الثورات الناجحة، وليس هذا نابعاً من فشل الثورات بقدر ما هو ناتج عن سمو المثال الثورى فوق الإمكانات، كما أن سيكولوجيا الثورة نفسها، إنما تعمل على رفع سقف الطموح البشرى، فى ظل ما تمثله الثورات من لحظات إنتشاء تاريخى، تعيشها الشعوب خارج الزمن، زمن الرتابة والعبودية والخنوع.

أما الثورات الفاشلة فهى أسوأ حالاً، وحتى وإن كان الفشل والنجاح مجرد رتب على سلم متدرج، فإن المردود المادى والنفسى لهما شديد الآختلاف.

ورغم ما تتركه الثورات الفاشلة من يأس وقنوط لدى الشعوب، وشعور بالعبث واللاجدوى، فإنها تترك تراكماً تاريخيا مادياً ومعنوياُ، هذا التراكم لا يذهب هدراً، بل هو ضمن محركات التاريخ ووقوده الذى يشارك فى صناعته.

هذه قواعد عامة تنطبق على كافة الثورات شرقاً وغرباً، وما نستشفه من تاريخ الثورات المصرية من نتائج، ليس حكراً على مصر، بل هى هى ذات القواعد تحكم وتتسلط وتتمظهر للعيان.

فالمُتمعن فى التاريخ المصرى الحديث، سيجد أربع ثورات أساسية، تنوعت أسبابها الظاهرة وواجهاتها المعلنة، إلا أنها جميعها ينتظمها خط واحد لم تحد أو تنحرف عنه [1] ، هدفاً حاكماً حدد طبيعة هذه الثورات الناقصة أو الفاشلة، سمها كيفما شئت.

هذا الهدف الحاكم ليس بالشئ الناشئ إعتباطاً، بل هو هدف أو بالأحرى ضرورة يفرضها التاريخ على مصر إذا أرادت العودة لصفحاته، فالعودة للتاريخ هى التى تفرض عليها إنجاز بضع مهمات تفرضها الضرورة التاريخية.

هذا الضرورة مرتبطة إتباطاً لا إنفصام فيه مع هدف، فلا ضرورة بلا هدف، هذا الهدف هو دولة وطنية ديموقراطية مُتحضرة، تنهض بالفرد كما الجماعة، بلا إنحراف ولا إفتئات على أى طرف.

من البداية يبدو الهدف عائماً غائماً، إلا أنه فى الحقيقة ليس كذلك، فما العيب إلا فيما إعتدناه من صيغ فضفاضة يلوكها مثقفى المقاهى، وكتاب الأعمدة، بلا ملل، بشكل جعلها أشبه بدين جديد.

الحقيقة هى أن الجماهير تعى المسألة بشكل أكثر بساطة ووضوحاً، بعيداً عن التعبيرات الفضفاضة، والدلالات الغائمة، فالحرية والإستقلال والمشاركة فى الحكم والعدالة والكرامة، كلها تعبيرات تلخص المطامح الشعبية التى لا جدال حولها، والتى إجتمعت عليها كافة القوى فى كل ثورات مصر، بما يعطى دلالة واضحة، هى أن جميع ثورات مصر قادها الشعب بتصوراته البسيطة – حتى وإن ركب الموجة بعضهم فيما بعد -، كذالك نجد إشارة آخرى أكثر وضوحاً وأهمية، هى ضعف جميع التيارات الفكرية والإيديولوجية، بشكل يعكس غيابها شعبياً، وعدم ثقة الشعب بأغلبها [2]، كذلك ضعف ثقافة الشعب وممارسته السياسية، بما يجعل ثوراته مجرد هبات، لا يبدو لها – ظاهرياً على الأقل – روافد أو إمتدادات.

هذه الروافد والإمتدادات الغائبة على السطح، نجد مسبباتها كامنة فى العمق، متجسدة فى ظروف متشابهة من التدخل الأجنبى والإفقار الإقتصادى والظلم الإجتماعى، بما شكل منطلقاً دائماً لكافة ثورات مصر .



النهضة الأولى : القضاء على الإقطاع العسكري
------------------------
بتوقيع معاهدة لندن بتاريخ 15 يوليو 1840م، بين النمسا وبريطانيا وبروسيا وروسيا من جانب والسلطنة العثمانية من جانب آخر، تكون قد انتهت حقبة كاملة من النهوض المصرى الذى إبتدأ بموجة المقاومة الشعبية للغزو الفرنسى بمصر، والتى إمتدت ما بين 1779م حتى 1805م، عندما قام المصريون بخلع خورشيد باشا، ليسقطوا الحكم التركى العثمانى لمصر، وإن بقت للخلافة قوتها المعنوية.

هذه الحقبة التى إبتدأت زمنياً بالحملات المتتابعة لغزو مصر فى ظل الحكم التركى المملوكى المتهاوى، وتاريخياً بالصدمة الحضارية التى إستشعرها المصريون بعد الغزو النابليونى، عندما رأوا الفاروق الحضارى المذهل بينهم وبين المستعمر الفرنسى، وفارق القوة فى شكله الأكثر فجاجة، ما بين السيوف الصدئة للمماليك المتحجرين [3]، ومدافع الفرنسيين وبنادقهم القوية.

هذا الشكل الفج لفارق القوة الذى إنتهى بهزيمة مخزية ومفجعة لمماليك الولاة، الذين تسلطوا على حكم البلاد بدعم الخليفة العثمانى، مُبعدين المصريين عن الجيش، ليبقى الشعب المصرى مستعبداً وذليلآ تحت حكم يستبد بمقدراته، وينهب خيراته، مستظلآ بمظلة الخلافة الإسلامية؛ فلا يملك المصريون له دفعاً.

فحكم تركى يتسربل بعباءة الإسلام [4]، ويتسلط على العباد بجيش يتكون من الأجانب ممن لا ولاء لهم للبلاد، كان بذاته عصياُ على السقوط بأيدى الشعب وحده، وهو ما يفسر إندماج موجة المقاومة للغزو الفرنسى بموجة الثورة على الحكم التركى المملوكى [5] .

فحكم له مثل هذه الصيغة الأقرب للفاشية، تنطبق عليه حكمة جرامشى القائلة بأنه "ليس هناك حتى الآن نظاماً فاشياً أطاحت به قوى داخلية" [6].

فكان الغزو الفرنسى بذاته أداة تحطيم الآلة العسكرية للنظام التركى المملوكى، التى أجهضت الثورات المصرية المتتابعة، كذا كان عامل تحفيز للمقاومة الشعبية التى إمتدت لتصبح ثورة كاملة تطرد الأجنبى وتسقط النظام الساقط الشرعية، ولتأتى بمحمد على حاكماً إرتضاه الشعب، معلناً أنه هو صاحب السيادة ومالك الحق فى إختيار حاكمه، مُمثلاً ذلك بإلباس السيد عمر مكرم لباس الولاية لمحمد على؛ لتصبح موافقة الخليفة العثمانى شيئاً نافلاً، وملحقاً بإرادة الشعب.

هذه الثورة التى شاركت بها كافة فئات الشعب قادها رجال الأزهر، الذين خرج شبابهم – شباب الجراية الفقراء – وقليل من كبارهم يدعون للثورة، ويحشدون الجماهير الشعبية ضد المستعمر، مُخالفين سياسة الملاينة التى إتبعها كبار رجال الأزهر فى التعامل مع المحتل الفرنسى، إعتقاداً منهم بإمكانية تخفيف الآثار الضارة للإحتلال، كذا إحتفاظاً بإمتيازاتهم.

هؤلاء المشايخ الكبار متناقضى المواقف المترددين، لم تكن مواقفهم شراً مطلقاً، فكثيراً ما تعاموا عن البيانات المُعادية للفرنسيين، كما رفضوا إفشاء أسماء زعماء الثورة المصرية، وكثيراً ما تلكأوا فى دعم نابليون، وإن لم تكن مواقفهم فى مُجملها على مستوى الحدث، أو على مستوى مسئولياتهم كزعماء دينيين.

هذه المواقف دفعوا ثمنها شعبياُ، فقد طالتهم الإنتقادات الشديدة من جماهير الشعب والتى وصلت للتهجم عليهم، وإيذائهم بدنياً، كرد على محاولاتهم المتكررة لإنهاء الثورتين، وكان منهم الشيوخ "البكرى والشرقاوى والسرسى".

وكان لهذا الهجوم الشعبى على كبار المشايخ مردوده من ناحيتين، أولاهما، تغير مواقف بعضهم ولو ظاهرياً تجنباً للسخط الشعبى، ثانيتهما، إقتناع القادة الفرنسيين وعلى رأسهم" كليبر"، بفشل سياية نابليون فى الإستعانة بمشايخ الأزهر للسيطرة على الشعب، فإستبين فقدان الإرستقراطية الأزهرية لدورها القيادى ومكانتها الدينية بالتحالف مع الغزاة.

فهذه الإرستقراطية الأزهرية أثبتت، أنه حقاً أن المواقف الطبقية عابرة للمؤسسات، فلم يخرج مشايخ الأزهر الكبار عن المواقف الطبقية الإرستقراطية المهادنة للمحتل الفرنسى، بينما قاد أواسط وصغار رجال الأزهر الثورة، بعد أن أطلقوها من داخل الأزهر، فقد كانت الثورة الأولى بعد فرض ضريبة عالية على العقارات، وفى رواية، كانت الشرارة الأولى للثورة التى إندلعت فى 21 أكتوبر 1798م، قد أطلقها شيخ صغير من مشايخ الأزهر، خرج من الجامع، ونادى فى المدينة بإجتماع من يؤمن بالله واليوم الآخر على الجامع الأزهر؛ لمغازاة الكفار .

هذه الإنطلاقة من الأزهر هى التى دفعت نابليون لإحتلال الجامع بعد كسر الثورة، كذا قراره بإعدام ستة من الشيوخ من أواسط علماء الأزهر، خلاف آخرين كانوا أعضاءاً فى مجلس الدفاع، الذى كان يقود الثورة، وكانوا بالمجمل ثمانين عضواً، أبرزهم الستة السالف ذكرهم، وهم:-

1. الشيخ أحمد الشرقاوى.
2. الشيخ عبد الوهاب الشبراوى.
3. الشيخ يوسف المصيلحى.
4. الشيخ إسماعيل البراوى.
5. الشيخ عبد القاسم.
6. الشيخ سليمان الجوسقى.

هذا التلاحم الأزهرى بالثورة، مع عجز الأرستقراطية الأزهرية عن كبح جماح الثورة، وحتى عن التوسط فيما بين الثوار والفرنسيين؛ هو ما دفع بالأخيرين لمحاولة إدماج فئات أخرى من الأرستقراطية للسيطرة على الشعب المصرى، فضموا للديوانين العمومى والخصوصى مُمثلين للتجار والأعيان وأصحاب الحرف والأقباط والجاليات الأجنبية، وذلك تحت قيادة كبار المشايخ.

ورغم الدور العظيم للأزهر فى قيادة الثورة، إلا أنه فيما يبدو قد ضعف بعد حملة الإعدامات التى طالت جناحه الثورى بعد ثورة القاهرة الأولى؛ ما أعجزه عن قيادة الثورة الثانية، فتصدى للقيادة هذه المرة، التجار مع قيادات صغيرة فى القرى وصغرى المدن من مجاورى ومشايخ الأزهر الصغار والمتوسطين.

أما عن وقود الثورة وقاعدتها الإجتماعية، فقد كان أساساً من التجار والحرفيين وصعاليك المدن والفلاحيين، وذلك تحت قيادة البرجوازية المدينية، المُتمثلة فى تجار يشاركون بعض كبار رجال مؤسسة الأزهر، التى تحولت بمواقفها من الرغبة فى العودة بمصر لظلال الخلافة الإسلامية، المتمثلة فى الحكم العثمانى، إلى الرغبة فى إسقاطه، وإعلاء شأن القومية المصرية .

فقد إحتدم الصراع بعد الجلاء الفرنسى، ما بين طوائف الجيش العثمانى والمماليك، والذى إنتهى بعد شد وجذب إلى عودة المماليك بقيادة عثمان البرديسى للحكم، بالشراكة مع محمد على قائد الجنود الألبان، وذلك تحت تبعية شكلية للخلافة العثمانية، وهو الوضع الذى لم يستقر طويلاً، فعادت الفوضى والضرائب المجحفة، وطالب الجنود برواتبهم المتأخرة؛ ليفرض البرديسى ضريبة جديدة على جميع الأهالى، كانت سبباً فى تفجير ثورة مارس 1804م .

وقد بدأها التجار بالإضراب عن دفع الضريبة، وساندهم الأزهر الشريف ومحمد على؛ لينهوا الحكم المملوكى نهائياً وليبدأوا فى الطموح لتولى قيادة البلاد بشكل كامل؛ ما جعلهم يصطدمون بالحكم التركى الذى حاول العودة للسيطرة على زمام الأمور، فكانت الثورة الجديدة التى فجرها إضراب الحرفيين إعتراضاً على رفع الضرائب والإتاوات، فقاموا بمسيرة للأزهر الشريف، الأمر الذى أجبر الوالى العثمانى على اللجوء للعلماء – المُستقلين- والقبول بحكمهم، كجزء من محاولاته لإستبعاد رجال الأزهر والتقليل من سطوتهم، ولينتهى الموقف بإلغاء الضرائب والإتاوات كما إشترط نقيب الأشراف السيد "عمر مكرم".

وعادت هذه الضرائب والإتاوات مرة أخرى، بعد إضراب آخر للجنود فى سبيل رواتبهم، لتنفجر الثورة مرة أخرى فى أول مايو 1805م، ليعود الناس للأزهر الذى أعلن الثورة، وأعلنوا – بعد إنقضاء مهلة أعطوها للوالى لإجلاء جنوده عن المدينة – أربعة مطالب عند دار المحكمة الكبرى، وهى :-

1. ألا تفرض بعد اليوم ضريبة إلا بعد إقرار العلماء وكبار الأعيان.
2. إجلاء الجنود عن القاهرة، وإنتقال حامية المدينة إلى الجيزة.
3. عدم السماح للجنود بدخول المدينة بسلاحهم.
4. عودة المواصلات ما بين القاهرة والوجه القبلى فوراً.

وكان أن رفض الوالى المطالب، وحاول إعتقال المشايخ، فأعلنوا فى اليوم التالى عزله، وولوا محمد على مكانه، مُعلنيين أن العرف وأحكام الشريعة الإسلامية تقضى بحق الشعوب فى عزل الولاة وتعيينهم، بحسب سلوكهم وتراوحه ما بين مسالك العدل والظلم.

ولم تلق هذه الخطوة الثورية قبولاً من المنافسين على حكم مصر، فلم يمضى شهرين حتى حاول المماليك العودة للحكم، وطلبوا دعم الأزهر، فتصدى لهم عمر مكرم، كذا حاول السلطان العثمانى عزل محمد على وإعادة المماليك، بل وأرسل أسطولاً لتنفيذ المهمة، التى فشلت مرة أخرى برفض الشيوخ ضمان المماليك للعودة للحكم، كما طلب السلطان؛ وهو ما أجبره على الإقرار بمحمد على حاكماُ لمصر.

ثم كانت محاولة الغزو البريطانى، التى تزعم مواجهتها السيد عمر مكرم، فدعا الناس للجهاد وحمل السلاح لدحر الحملة، وأخيراً دعموا محمد على ضد العسكر الذين حاولوا الإنقلاب عليه.

وكان لكل هذه الجهود في رفع محمد على لسدة الحكم، ودعمه ضد المناوئين دوراً كبيراً فى ازدياد النفوذ السياسي لمؤسسة الأزهر؛ بما جعلها مركزاً ثانياً لمنابذة محمد على فيما بعد، ومشاركته السلطة، التى رغب في الاستفراد بها، للقيام بمشاريعه في بناء الدولة العصرية، التى إستند في تكوينها إلى تحالفه مع طبقة التجار؛ ما جعله يعمل جاهداً على تحطيم السطوة السياسية لمؤسسة الأزهر [7] ، فوجه ضربته الأولى لنفوذها المادى والاقتصادى، والثانية لوحدتها مستغلاً المنافسات بين قياداتها؛ ليخرج الأزهر من معادلة السلطة في مصر، ويصبح مجرد معهد تعليمى، تابع للسلطة في أغلب الأحوال.

أما العدو التقليدى لمحمد على، المُتمثل في المماليك [8] ، فقد توجب عليه القضاء عليهم نهائياً، لما مثلوه من قوة رجعية فاسدة، تعمل باستمرار على استعادة نفوذها وامتيازاتها، مُشكلةً بؤرة من عدم الاستقرار والتهديد المستمر، ومركزاً من مراكز الثورة المضادة، المدعوم من قبل الخليفة العثمانى المتربص بمصر؛ رغبةًَ في استعادتها لسيطرته المباشرة.

وهكذا كانت مذبحة المماليك، أو مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811م، والتى قطعت دابر المماليك نهائياً، ما كان يمثل ضرورة تاريخية لحماية مصر من التآمر العثمانى المملوكى.

وهكذا استقرت السلطة الجديدة التى أتت بها الثورة المصرية؛ لتبدأ في بناء الدولة العصرية الجديدة، التى ثبتت استقلال مصر – الجزئى رغم ذلك – تجاه السلطان العثمانى، وليرتفع طموح محمد على فيما بعد ليصل لمحاولة القضاء على السلطة العثمانية، ونقل مركز الخلافة لمصر، وهو الأمر الذى أفشلته دول أوربا وعلى رأسها إنجلترا، التى حمت رجل أوربا المريض، وقضت على طموح محمد على، وعلى حق مصر في تحقيق نهضتها المنشودة، ولتفرض عليها معاهدة لندن سالفة الذكر، التى سجلت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، إنكمشت مصر فيها على نفسها، شأنها دائماً بفترات الضعف والخمول .

وقد رفض محمد في البداية الرضوخ لهذه المعاهدة، إعتماداً على صداقته لفرنسا، التى خذلته في النهاية؛ ليجد نفسه وحيداً فى مواجهة إنجلترا والدولة العثمانية، فانسحب من الشام والجزيرة العربية، قابلاً بشروط المعاهدة، التى سُويت كما يلى :

1. إعطاء محمد على حكم مصر وراثياً، ولأكبر أفراد أسرته.
2. إعتبار مصر ولاية عثمانية تسرى عليها القوانين العثمانية.
3. منع محمد على من بناء سفن حربية إلا بموافقة السلطان العثمانى.
4. تحديد حجم الجيش المصرى.
5. إلزام مصر بدفع إتاوات سنوية للسلطان العثمانى.
6. ضم السودان إلى مصر، وتقديم تقرير سنوى عنه للسلطان.

وهكذا إنتهت كافة مُنجزات محمد على وطموحاته على المستويين الإقليمى والقومى، بالتدخل الأوربى المُساند للعثمانيين ضد مصر، التى خافوا من توسعها وتصديها لقيادة الشرق، بما يمثل خطراً داهماً على مصالحهم في المنطقة، ومُخططاتهم المستقبلية، وقد تمثلت ثغرات محمد على في نقطتين أساسيتين، أودت بمشروعه وبالنهضة التى قادها، المُتمثلة في صناعة دولتية – قطاع عام – إحتكارية قوية، كونها بإرشادات السان سيمونيين، وأسطول حربى جبار كاد ينتصر – بمساندة الأسطول الجزائرى – على أساطيل أوربا، لولا بعض الأخطاء الاستراتيجية، وزراعة واسعة أنتجت القطن المصرى الذى مول اقتصاد مصر لسنوات طوال، نقول نقطتين أساسيتين أودتا بنهضة مصر التى صنعها محمد على، هما :-

1. إنفراد محمد بالسلطة واستبعاده للطبقة التى يفترض به الاستناد إليها للدفاع عن مشروعه النهضوى، بما أودى بهذا المشروع المرتهن بشخصه.
2. عدم إستنبات أو التعاون مع كتل أخرى في الإقليم لمواجهة السلطنة العثمانية والدول الأوربية – بإستثناء تعاونه مع الجزائر في المعركة البحرية الأخيرة ضد أساطيل إنجلترا - وإتباعه لذات الأساليب الإستبدادية التى لا تراعى حقوق الأقاليم الجديدة التى ضمها إليه؛ بما يمكنه من تكوين كتلة إقليمية قوية لمواجهة النفوذ الأجنبى.

وهذه الطريقة التى انتهت بها النهضة المصرية في عهد محمد هى ذاتها التى إنتهت بها ثورة يوليو 1952م، بعد أكثر من (130) سنة، عندما هُزمت مصر عسكرياً بدون حرب في نكسة 1967م، التى إكتملت فصولها بمعاهدة كامب ديفيد الثانية عام 1977م، بإعتبار معاهدة لندن 1840م، معاهدة كامب ديفيد الأولى؛ لتسير مصر بعد الثورتين في مسار مُتشابه، فمن عزلة إقليمية وقومية، إلى تخريب كامل لكافة المُنجزات التى حققتها الثورتان، إلى تبعية سياسية وإقتصادية للغرب، مرة لبريطانيا وأخرى لأمريكا.



الثورة العُرابية : الجيش الوطني والإقطاع الخائن
--------------------------
فبعد محمد على أتى خلفاؤه ليسيروا على الخطوط المرسومة غربياً، كاسحين في طريقهم كافة مُنجزات أبيهم، فقط حفاظاً على مُلكهم الموروث، فكان ما كان من عباس وسعيد وإسماعيل من سياسات إسراف وإقتراض سفيه من دول أوربا؛ ليسقطوا بمصر في فخ تبعية الديون – وهو ذات الفخ الذى سقطت فيه دول العالم الثالث بمجملها مرة أخرى بعد الاستقلال، وكأنما لا جديد تحت الشمس، ولا تاريخ تجب دراسته، ولا شيئاً منه يستحق التعلم!! – التى أثقلت كاهل الدولة بطبقاتها الكادحة والفقيرة من حرفيين وعمال وفلاحين، والتى قامت – لذلك – بدعم الجيش والإنضمام إليه – والذى كان يعانى المصريين به من تمييز للأجانب من شراكسة وأتراك [9] مقابل سلطات معدومة ورواتب ضئيلة، وذلك بحكم الإنتماءات العرقية لأسرة محمد على – في الثورة العرابية التى إنطلقت شرارتها بقيام وزير الجهادية الشركسى عثمان رفقى بعزل القائمقام أحمد عبد الغفار وتعيين قائد شركسى مكانه، وتنزيله للأميرلاى عبد العال حلمى قائد آلاى طرة إلى درجة معاون بديوان الجهادية، وتعيين تركي مكانه، الأمر الذى إستقر معه الضباط والجنود المصريين على ضرورة التصدى له، وسجله تعليق عرابى الشهير :

"هذه لقمة صلبة لا يقوى عثمان رفقى على هضمها"

وتقدم ورفيقاه الأميرلاى على فهمى قائد الحرس الملكى والأميرلاى عبد العال حلمى قائد آلاى طرة، بمذكرة لرئيس الوزراء رياض باشا، بطلب عزل عثمان رفقي، وتعيين وزير مصري محله، وهو الأمر الذى رفضه مجلس الوزراء، بل وقرر محاكمة الضباط الثلاثة، فقام بإحتجازهم بالخديعة؛ ما أثار الضباط المصريين، فتحركوا وحاصروا قصر النيل وحرروا عرابى وزملائه، ثم مضوا إلى قصر عابدين وأجبروا الخديوى توفيق على قبول مطالبهم، وتم تعيين محمود سامى البارودى وزيراً للجهادية، وكان ذلك اليوم هو ما عرف فيما بعد بمظاهرة عابدين الصغرى .

ولأنه ليس من عادة أى نظام حكم التسليم بإرادة الشعوب ولا الوطنيين، فقد دبر الخديوى وضباطه الشراكسة مؤامرة على رجال الجيش، وذلك بعد إستقالة البارودى، وهو الأمر الذى أدركه الضباط المصريون، فبدأوا ينظرون للموقف في شموليته، فوجدوا دسائساً حكومية ونفوذاً أجنبياً ومعاناةً شعبية، فقرروا القيام بإنقلاب، والدعوة لحكومة دستورية، ولضمان النجاح والدعم الشعبى، قاموا بدعوة الحزب الوطنى الحر – الذى ضاق رجاله بالإضطهاد الحكومى – والأعيان الذين أُُغفل وجودهم، والعلماء الذين لا يُبالى بآرائهم.

وكانت هذه هى مظاهرة عابدين الثانية أو الكبرى، حيث تحرك الجيش إلى عابدين بتاريخ 9/9/1881م، وكان هناك الكثير من جماهير الشعب عند القصر تراقب الموقف، وتقدم الغطاء السياسيى والدعم المعنوى الكبير للجيش الوطنى.

وقدم عرابى مطالباً باسم الجيش والأمة، وكانت تتلخص في ثلاثة مطالب أساسية :-

1. إسقاط الوزارة المستبدة.
2. تشكيل مجلس النواب.
3. إبلاغ حجم الجيش للحجم المقرر له في الفرمانات.

وقد رفض توفيق هذه المطالب، ورد بمقولته الشهيرة :

"كل هذه المطالب لا حق لكم فيها، وما أنتم إلا عبيد إحساناتنا"

فما كان من عرابى إلا أن رد عليه بمقولته الأكثر شهرة :

"لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، فوالله الذى لا إله إلا هو، أننا لن نُورث ولن نُستعبد بعد اليوم"

وكان هذا الثبات من قبل عرابى، والجيش المدعوم من قبل الشعب، هو ما أجبر توفيق على الإنصياع لإرادة الجيش والشعب، فتكونت حكومة وطنية جديدة، برئاسة البارودى، وتولى أحمد عرابى فيها وزارة الجهادية، فحازت قبولاًَ شعبياً كبيراً.

وبدأت الحكومة الوطنية الجديدة في مواجهة التدخل الأجنبى المُتمثل في عدة صور، أهمها الإعتراض على حق مجلس النواب في مناقشة الميزانية، والإعتراض – بدعم الخديوى – على محاكمة الضباط الشراكسة الذين حاولوا الإنقلاب على الحكومة وإغتيال عُرابى، كذا الإعتراض على دعوة البارودى لإنعقاد مجلس النواب، دون الرجوع للخديوى صاحب الحق الدستورى .

وكانت نتيجة عدم الرضوخ للتدخلات الغربية، والإنجليزية منها بالخصوص، إرسال الأساطيل الحربية لشواطئ الإسكندرية، وبدأت انجلترا في الإستفزازات والإدعاءات عن التهديدات المصرية!! وعندما أعجزتها الحيل، دبرت بمعاونة محافظ الإسكندرية مذبحة الإسكندرية الشهيرة بمشاجرة المالطى والحمار .

فقد حدثت مشاجرة ما بين مالطى من رعايا إنجلترا – ثبت فيما بعد أنه أخ لخادم القنصل الإنجليزي – وحمار مصرى يُدعى السيد العجان حول أجرة حماره، فاستل الأول سكيناً وقتل به الأخير، وبدأ الأروام والمالطيين والقبارصة بمهاجمة المصريين، فحدثت معركة، سقط فيها 45 أجنبياً، وأكثر من ذلك من المصريين.

وإتخذ الانجليز من مذبحة الإسكندرية المُفتعلة ذريعة للهجوم على مصر، وشايعهم توفيق الذي كان قد ذهب للإسكندرية ليصبح في حمايتهم، بل وأصدر قراراً بعزل عرابى.

ولم يحفل الشعب بأمر توفيق، بل وإنعقدت جمعية عمومية من خمسمائة عضو، تقدمهم رجال الدين الإسلامى والمسيحى واليهودى، وأصدروا فتوى بمروق توفيق من الدين؛ لانحيازه إلى جانب المغتصب، كذا دعوا لإيقاف العمل بأوامر الخديوى، وبعدم قبول عزل عرابى.

وبدأت المعارك الحربية في الإسكندرية والإسماعيلية، وكانت معارك القصاصين والتل الكبير، حتى الهزيمة التى مكنت إنجلترا من إحتلال مصر لأكثر من سبعين عاماً.

وتتلخص أسباب الهزيمة العسكرية وفشل الثورة العُرابية بالتالى، فيما يلى :

1. خيانة الخديوى توفيق [10]، ومعه بعض الضباط والقادة العسكريين كعلى يوسف الشهير بخنفس باشا قائد حامية القاهرة، وبعض البدو الذين أطلعوا الإنجليز على مواقع الجيش المصرى .
2. إنقلاب الأرستقراطية التركية والمصرية وطبقة الأعيان على عُرابى [11]، بعدما تطور البرنامج الثورى ليمس إمتيازاتهم مُقترباً من الفلاحين المُستعبدين حينها [12].
3. عدم ردم قناة السويس كما أشار البعض على عرابى، لإنخداعه بوعود ديليسيبس بعدم السماح للإنجليز بالمرور من قناة السويس بإدعاء حياديتها، ثم سماحه لهم بالعبور.
4. إعلان الخليفة العثمانى بخيانة عُرابى، ما جعل البعض ينقلبون عليه إنخداعاً بخليفة المسلمين[13] ، الذي لم يكن أكثر من ألعوبة بأيدى الإنجليز .

وهكذا كانت نهاية الثورة التى فجرها الجيش بمعاونة ومساندة الشعب المصرى، ضد النفوذ الأجنبى والتسلط التركى على مقدرات البلاد والعباد، فتم وأدها على أيدى النظام الفاسد والخلافة العثمانية – مرة أخرى بعد محمد على - والأرستقراطية الإقطاعية، وثُلة من الخونة بالجيش، تعاونت جميعها مع الإنجليز ضد إستقلال الوطن وحرية الشعب.



ثورة يوليو : الجيش يعيد المحاولة ويطيح بالإقطاع العميل
--------------------------------
وبعد سبعين عاماً، كانت محاولة الجيش الثانية، والتى سارت على ذات الخطى التى سارت عليها الثورة العُرابية، بإستثناء أنها حركت قواها العسكرية بسرية وبمعزل عن الشعب، حتى إستطاعت عزل الملك فاروق بعد إنقلابها الناجح ليلة 23 يوليو 1952م، ويكفى دليلاً على مدى التشابه بين الثورتين وإستمرار المباذل التى قامت لأجلها الثورة العُرابية، أن أول منشور للضباط الأحرار كانت أهدافه الأساسية ثلاث، وهى : -

1. القضاء على الإستعمار الأجنبي وأعوانه من الخونة .
2. تكوين جيش وطنى قوى .
3. إيجاد حكم نيابى سليم .

فبالتمعن في الأهداف الثلاثة، نجدها - تقريباً – هى هى مطالب الثورة العرابية، والتى قدمها عُرابي لتوفيق يوم 9/9/1881م !

وقد تلقى الشعب المصرى حركة الجيش بالقبول والترحاب، إذ كان قد ضج من كم الفساد والظلم والإستبداد الذى عاشه في ظل النظام الساقط، الذى تجلى فساده في كافة المواطن والمواقع، حتى فيما يُعد قضايا قومية، كحرب فلسطين عام 1948م، عندما سُلح جيشنا المصرى بأسلحة فاسدة، تقتل جنودنا لا جنود العدو .

كما رحبت كثير من القوى السياسية بإنقلاب الجيش، وعلى رأسها حركات ساهمت بمفرداتها في الثورة، كما كانت على علم مُسبق بتنظيم الضباط الأحرار وإستعداده للإنقلاب، وكانت على أهبة الاستعداد لمساندته، ومنها "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطنى – حدتو"، والتى كان بعض أعضاءها أعضاءاً بتنظيم الضباط الأحرار كخالد محى الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش وغيرهم، كذك "جماعة الإخوان المسلمين"، التى كان لها أيضاً أعضاءاً بالتنظيم، منهم كمال الدين حسين وعبد المنعم عبد الرؤوف وغيرهم .

بينما رأت قوى آخرى، وخصوصاً من اليسار لمصرى، في إنقلاب الجيش، محاولة تم دعمها أميريكياً – ولا يعنى هذا بالضرورة العمالة، بل مجرد إلتقاء مصالح في لحظة زمنية ما – لقطع الطريق على الثورة الشعبية الكاملة، وذلك في إطار الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالى والشيوعى .

وقد نشأت الفكرة في عام 1938م في رؤوس كل من عبد الناصر وزكريا محى الدين وخالد محى الدين، وواصلوا جهودهم في صفوف ضباط الجيش ببطء وحذر لدعوة العناصر التى يتوسمون فيها الشجاعة والوطنية وكتمان السر، بغض النظر عن إتجاهاتهم السياسية والفكرية، وهو الأمر الذى حرص عليه جمال عبد الناصر، الذى أقام كثيراً من الروابط مع الإخوان المسلمين وحدتو، بل ويُقال بإنضمامه لكليهما في فترات مختلفة، إلا أنه رغم ذلك، حافظ على إستقلالية التنظيم، ولم يبال بتجانسه الإيديولوجى، وذلك تعجلاً لتقوية التنظيم والاستعداد للثورة .

وفي 25 مايو 1949م، إجتمع الضباط الأحرار، وحددوا فترة خمس سنوات ليمكن القيام بثورة تطيح بالنظام كله، فكانت خطتهم القيام بالثورة عام 1954م، إلا أن نجاح التنظيم في الجيش هو ما دفع الضباط لتقديم ميعاد الثورة، بعدما تبدت قوتهم في إنتخابات نادي الضباط، التى تمكنوا فيها من تحدى الملك وفرض إرادتهم مرتين، الأولى عندما لم يستجيبوا لقرار تأجيل الانتخابات الذى أصدره الملك الذى كان يتوجس منها شراً، والثانية عندما رفضوا تعيين حسين سرى عامر مندوباً عن سلاح الحدود .

وكرد فعل لهذا التحدى، قام الملك بحل مجلس إدارة النادى بتاريخ 15 يوليو 1952م، وهو ما حدا بالضباط الأحرار لتقديم ميعاد الثورة، بعدما وجدوا ظرفاً مناسباً – فعلى المستوى العام أُلغيت مُعاهدة 1936م وحدث حريق القاهرة وتفشى عدم الإستقرار السياسي، وعلى المستوى الخاص بالجيش كانت حالة الإحتقان الشديد ضد الملك - وألفوا من أنفسهم قوةً واستعداداً .

وبعدما نجح إنقلاب الضباط ، قاموا بإعلان البيان الأول، والذى تضمن أهداف الثورة الستة الشهيرة :-

1. القضاء على الإستعمار .
2. القضاء على الإقطاع .
3. القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم .
4. بناء حياة ديموقراطية سليمة .
5. بناء جيش وطنى قوي .
6. بناء عدالة اجتماعية .

وبعدها بدأت إنجازات السلطة الجديدة تتوالى، بما أكسبها الكثير من الشعبية والقبول، وكان منها ما يلى :-

1. 26 يوليو 1952م – طرد الملك بعد تنازله عن العرش بناءاً على إرادة الشعب .
2. 30 يوليو 1952م – إلغاء الرتب والألقاب .
3. 1 أغسطس 1952م – إلغاء البوليس السياسي والقسم المخصوص بوزارة الداخلية، وفروعه في الأقاليم والمحافظات لإعادة الثقة بين الشعب والحكومة .
4. 4 أغسطس 1952م – صدور قانون تطهير الإدارة الحكومية وقانون الكسب غير المشروع .
5. 8 سبتمبر 1952م – صدور قانون الإصلاح الزراعي .
6. 10 سبتمبر 1952م – إنشاء صناديق الإدخار والتأمين لموظفي الحكومة .
7. 3 أكتوبر 1952م – صدور مرسوم بإنشاء المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي .
8. 16 أكتوبر 1952م – صدور قانون بالعفو الشامل عن جميع الجرائم السياسية التى وقعت قبل الثورة .
9. 17 يونيو 1953م – إصدار معاهدة الدفاع العربي المشترك .
10. 18 يونيو 1953م – إلغاء النظام الملكي، وإنهاء حكم أسرة محمد على وإعلان الجمهورية .
11. 8 نوفمبر 1953م – مصادرة أموال وممتلكات أسرة محمد على، ورد أموال أحمد عرابي لأسرته .
12. 12 فبراير 1954م – صدور بعض القرارات الهادفة لحماية المنتجات الوطنية .
13. 15 إبريل 1954م – حرمان الوزراء السابقين من رجال العهد البائد ممن تولوا الوزارة من 6 فبراير 1942م إلى 23 يوليو 1952م من حقوقهم السياسية .
14. 19 أكتور 1954م – توقيع إتفاقية الجلاء .
15. 11 مايو 1955م – مشروع التأمين والإدخار للعمال .
16. 5 يونيو 1955م – الدول العربية تؤيد إنذار مصر لإسرائيل بالحرب، إذا كررت الإعتداء على منطقة غزة، وتعلن أنها ستقف صفاً واحداً إذا إعتدت إسرائيل على أي دولة عربية .
17. 27 سبتمبر 1955م – كسر إحتكار السلاح، بقبول عرض سوفييتي تشيكي .
18. 18 أكتوبر 1955م – عقد حلف عسكري دفاعي مع سوريا .
19. 10 نوفمبر 1955م – إنذار إنجلترا وأمريكا بعد إعلانهما الإمتناع عن تزويد مصر بالسلاح وتقديمه لإسرائيل، بأن مصر تستطيع الحصول على السلاح من الكتلة الشرقية، وأن كل رصاصة تحصل عليها إسرائيل هى بمثابة موت شخص عربى .
20. 10 فبراير 1956م – إتفاق مع روسيا لإنشاء معمل ذرى .
21. 29 يوليو 1956م – تأميم قناة السويس .
وبهذا القرار الأخير كان التدشين الحقيقى لثورة يوليو كثورة وطنية كبرى وضعت نفسها في مصاف كبرى الثورات العالمية الماضية قدماً في سبيل التحرر الوطنى، ما وضع مصر في مركز وقيادة هذه الحركة التحررية، خاصةً مع دعم مصر لكافة حركات التحرر الوطنى، وإنضمامها لحركة عدم الانحياز، وكسرها لإحتكار السلاح .
22. 15 يناير 1957م – صدور ثلاثة قوانين لتحرير الإقتصاد الوطني من السيطرة الأجنبية .
23. 19 يناير 1957م – أبلغت مصر دول العالم بوجوب دفع رسوم المرور بالقناة مُقدماً .
24. 22 فبراير 1958م – إعلان الوحدة المصرية السورية .
25. 27 إبريل 1958م – قرر مجلس جامعة الدول العربية تخصيص ميزانية سنوية ثابتة لمعونة شعب الجزائر وتأييد الحركات التحررية في العالم العربى .
26. 16 يوليو 1958م – جمال عبد الناصر ينذر بأن أى إعتداء على العراق هو إعتداء على الجمهورية العربية المتحدة .
27. 4 سبتمبر 1958م – إفتتح عبد الناصر مصانع الذخيرة الثقيلة.
28. 10 ديسمبر 1958م – صدور قانون التأمينات والتعويض عن إصابات العمل .
29. 19 ديسمبر 1958م – تقرر البدء الفورى في بناء السد العالى .
30. بناء قاعدة صناعية كبيرة وقوية وتكوين أسس الاستقلال الإقتصادي .

وقائمة أخرى طويلة من المنجزات الأكبر والأقل أهمية، والتى يدور بشأن بعضها جدل، وكثير من هذه الإنجازات لازلنا نستند له حتى يومنا هذا، إلآ أن الصورة لم تكن كلها وردية، فربما نجحت الثورة في القضاء على الإستعمار، والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، وسارت خطوات جادة على طريق العدالة الإجتماعية، إلا أنها حطمت جيشها القوى الذى بنته سنيناً، بدون قتال في نكسة 67، كما لم تُقم، وهو الأهم والأخطر، أي نوع من الديموقراطية أو المُشاركة الشعبية، بل وقضت على ما سبق وحققته ثورة عرابى وثورة 1919، من تقدم في هذا المجال؛ ما جعل مصر قطعة من العجين تشكلها يدى الرئيس مُطلق السلطات كيف شاءت، فلم يترك عبد الناصر المغدور لمصر مؤسسات وحياة نيابية تحمي مكتسبات الثورة في مواجهة أعداء الشعب والثورة المُضادة، حيث أُستبعد الشعب، وأصبح بغير تمثيل؛ لتصبح كل السلطة بأيدى المؤسسة العسكرية، التى يتحكم رئيسها بالبلاد والعباد، وهو ما سهل مهمة السادات، الذى أتى من عباءة الثورة ذاتها ليقود الثورة المضادة، مُكرساًَ لمنظومة ما زالت تحكمنا حتى اليوم، عادت من خلالها سيطرة رأس المال، مع الإرتداد عن العدالة الاجتماعية، والعمل على تضييق نطاق – إن لم يمكن إلغاء – مجانية التعليم، والتدنية – المُتعمدة – لمستوى التعليم، وقتل البحث العلمى، ونشر الأصولية والتطرف الدينى، وأخيراً وأولاً، قبل كل هذا، وكأساس لهذا كله، عودة التبعية للخارج، في شكل جديد، وكأنه لا جلاء قد حدث ولا استقلال قد تم !

وهكذا أدى عدم الإستناد للشعب، وإشراكه في السلطة إلى ضياع الثورة ونجاح الثورة المضادة، وذلك نتيجة للإعتماد على مؤسسة وحيدة لحماية الثورة، بعيداً عن الشعب القاصر! بما أدى في النهاية للقضاء على الثورة من داخل هذه المؤسسة نفسها، ويمكن إيجاز أسباب فشل الثورة – والتى يذكرنا بعضها بالثورة العُرابية – فيما يلى : -

1. البيروقراطية العسكرية الفاسدة، حيث إستندت الثورة للمؤسسات العسكرية والأمنية لحماية الثورة، فكانت هذه المؤسسات نفسها – بفسادها وإنعدام كفاءتها - هى من اغتال الثورة، وبقيت جاثمة على أنفاسنا حتى اليوم، ملتزمةً بمُخططات الغرب، فارضةً نفسها كحاكم يسود حياتنا بديكتاتورية بغيضة، وقد إعترف عبد الناصر نفسه بدورها التخريبي في الثورة، عندما قال بعد النكسة [14] مقولته الشهيرة :
"لقد كانت البيروقراطية العسكرية رأس السمكة التى إصطادتنا منها سنارة الإمبريالية"
2. إختراق الثورة بالعملاء والخونة من داخل المؤسسة العسكرية .
3. عودة نفوذ رجال الأعمال (من إقطاعيين قدامى وقطط سمان أسمنهم الإنفتاح الإستهلاكى الساداتي وكلاب نهاشة أنتجها الإصلاح الإقتصادى المُباركى القائم على الخصخصة) بشكل خفي في البداية ثم مُعلن، بالتواطؤ مع ومن داخل المؤسسة العسكرية .
4. الرجعية العربية، مُمثلةً في الملكيات الخائفة من الوحدة العربية، وعلى رأسها ملكية آل سعود.

وهكذا أثبتت ثورة يوليو بعد الثورة العرابية أن أى محاولة لتغيير فوقى دون قاعدة شعبية، هى محاولة فاشلة عاجلاًَ أو آجلاً، وإذا كانت الثورة العرابية، التى فشلت عاجلاً، قد جلبت على مصر الإحتلال البريطانى – ولا أقصد بالطبع المعنى الوضيع الذى يتبناه البعض ضد عرابى الزعيم الوطنى العظيم الذى نرفض أى تشكيك في وطنيته ونزاهته – لأخطاء إستراتيجية عدة، يعنينا منها بالأساس عدم مشاركة الشعب، بتسليحه – في حدود الممكن – لخوض حرب تحرر شعبي طويلة، بدلاً من الإستسلام الغبي والمخجل، نقول إذا كانت هذه نتيجة الثورة العُرابية التى فشلت عاجلاً، فإن ثورة يوليو – على كل ما حققت من إنجازات ومن نجاح وقتى - التى فشلت آجلاً – أو بالأحرى أُغتيلت -؛ قد جلبت على مصر التبعية الإقتصادية فالسياسية، مع تسلط العسكريتاريا على كافة أشكال الحياة في مصر؛ كنتيجة لعدم مشاركة الشعب السلطة والممارسة السياسية، بإقامة نظام ديموقراطى يكفل حق المشاركة الفاعلة سياسياً، وذلك عبر نشر وتوسيع حريات القول والتنظيم، وتحييد المؤسسات العسكرية والأمنية، وتحجيمها في دورها الأساس كمؤسسات حامية وضامنة لأمن الوطن والمواطن، لا الأنظمة والسلطات .

وهكذا لم تجلب لنا قيادة المؤسسة العسكرية للتغيير في مصر – رغم ثقتنا بسلامة النية وصفاء الطوية لدى أغلب مفرداتها وإقرارنا بإنجازاتها – إلا الضياع، هذه المؤسسة التى حاولت البرجوازية الصغيرة من خلالها النهضة مرتين، واستأثرت بالسلطة عساها تنجح، إلا أنها قد إنتهت بالفشل في المرتين؛ نظراً لطبيعتها المتذبذبة طبقياً، والتى تنتهى في صف البرجوازية العُليا بالتعفن في السلطة، ومُجارحة الفساد الشامل لمراكمة الثروات .

ولا نظنه مما يخفى على اللبيب، ما نجده من تشابه بين الثورتين، العُرابية ويوليو، من إندلاع الثورات التى يقودها الجيش بمجرد تكون جيل واحد من المصريين داخل الجيوش غير المُمصرة، التى تبنتها أسرة محمد على، عملاً بحكمته التى قالها لإبنه الأصغر محمد سعيد :

"يجب أن يكون معلوماً يا بُنى، أن ترقية العربي إلى رتبة يوزباشى سوف تكون خطراً على أسرتنا، ولو بعد مئة عام".

وهو ما تحقق فعلياً مرتين في بحر جيل واحد كل مرة، وليس مئة عام كما قال محمد على، فقد كان أحمد عُرابي في أول دفعة من دفعات المصريين بالجيش المصرى، عندما أمر محمد سعيد – خلافاً لنصيحة أبيه – بدخول أولاد مشايخ البلاد وأقاربهم العسكرية، كما كان عبد الناصر – بكارت توصية - في أول دفعة قُبلت من المصريين في الكلية الحربية بعد معاهدة 1936م، وإتجاه النية لزيادة عدد ضباط الجيش المصرى بغض النظر عن طبقاتهم الإجتماعية أو ثرواتهم، وهو الذى كان قد رُفض قبلها بعام واحد، في كشف الهيئة لأنه حفيد فلاح وإبن موظف بسيط لا يملك شيئاً ولا يملك واسطة، علاوةً على إشتراكه في مظاهرات 1935م .

هذا التشابه بين الثورتين –رغم مآخذنا على مسالك العسكريين الذين تسببوا بفشلهما – يعكس لنا مدى وطنية برجوازيتنا الصغيرة، التى لا تواتيها فرصة لتحرير وطنها وتتركها، وإن كانت تفشل كل مرة عاجلاً أو آجلاً؛ لطبيعتها المتذبذبة، وتحولها بمجرد التمكن من السلطة .

ولا غرابة في تحول كثير ممن نشأوا في ظل هذه الطبقة إلى برجوازيين أكثر قحة وضعة من إقطاعيي الزمن الغابر .

فالبرجوازية الصغيرة كشريحة طبقية هى أساساً ضمن الإحتياطى الطبقي البرجوازي في الظروف الرأسمالية الإعتيادية، ولا يمثل خروجها على المنظومة الرأسمالية سوى إستثناءاً، نجده في الدول المحيطية بالنظام الرأسمالى – رأسمالية الهامش الشهيرة بالعالم الثالث – حيث ترزح تحت الإستغلال الإمبريالى جنباً إلى جنب مع البروليتاريا والفلاحين؛ ما يشحنها بشحنات الثورية، التى ما تلبث أن تنطفئ بمجرد تذوق سكاكر السلطة لفترة معقولة، فيتحول أبناء المستورين لقياصرة، أشد فتكاً من القياصرة بالولادة !!

أما القطاع الآخر من البرجوازية الصغيرة، الذي لم يجد نصيبه داخل المؤسسة العسكرية، وأوصدت دونه المؤسسات الأخرى، بعدما أُحيطت بأسوار عالية [15] بقرار من البرجوازية الجديدة الناشئة بتزاوج سلالات الإقطاعيين القدامى والناهضين من البرجوازية الصغيرة في زمن الثورة وانكسارها، نقول هذا القطاع الطريد إستأنف مسيرته في التمرد، مُنقسماً ما بين الإندماج فكرياً مع العمال والفلاحين طََمحاً في ثورة شعبية كاملة تحقق التحرر الوطنى والمُشاركة الشعبية والإشتراكية الإقتصادية، وما بين ناكصين عن الزمن إلى مُدونات الزمن الغابر ويوتوبياته؛ علهم يجدون فيها عزاءهم؛ لإصلاح الحاضر وصنع المستقبل بما صلح به الماضى، جارين معهم جماهيراً واسعة، وكأنما لا الأرض تدور، ولا الزمن يمور !!

ولأن النكوص [16] أسهل من الثورة، فقد كان للفريق الأخير الغلبة شعبياً، خاصةً وقد دعمته السلطة – خفيةً – لتغييب شعبها، والسيطرة عليه، بتركه مريضاً بأحلام عودة الزمن المستحيلة، أسيراً للحلول السحرية، بعيداً عن منطق التاريخ وحلوله الثورية، التى تكفل تغيير الحياة حقاً بقلبها رأساً على عقب .



ثورة 1919 : موجة 1917 [17] الثورية والبرجوازية الجبانة
-----------------------------------
وهى نفس البرجوازية الصغيرة التى خرجت على حزب الوفد، بعد إنسداد أُفق ثورة 1919م، وتكشف قيادة البرجوازية الكبيرة والمتوسطة المُمثلة بقيادة الوفد عن وهم وزيف كبير، فانشقت قياداته بأحزاب كثيرة، تعكس مدى التفكك والإهتراء الذى أصاب قيادته، التى سبق وركبت ثورة لم تصنعها[18]، بل ركبتها ثم كبحت جماحها حفاظاً على مصالحها [19] وعجزاً عن مجابهة المُحتل مُجابةً حقيقية .

هذه البرجوازية الكبيرة التى ترجع أصولها لطبقةٍ من كبار المُلاك الزراعيين - الذين لا نُخاطر أو نُجازف علمياً - بوصفهم بالإقطاعيين، حتى وإن إعتدنا تسميتهم كذلك، ممن إعتادوا الإعتياش على فوائض محاصيلهم الزراعية المُتمثلة غالباً بالقطن، أو من الإيجارات المُحصلة عن أراضٍ نادراً ما يرونها .

هؤلاء المُلاك الزراعيين كانوا مرتبطين بحكم النشأة والصيرورة والمصالح بتقسيم العمل المفروض دولياً على مصر، ما ربط مصالحهم القريبة ببريطانيا كمستهلك أول للقطن المصـرى .

وإذا كان التطور الإوربى قد أنجز برجوازيته بعيداً عن الإقطاعية التقليدية، وفي مواجهتها، بما عارض مصالح الطبقتين ببعضهما، فقاد تلك البرجوازية للثورة في النهاية، والقضاء الجذرى على النظام الإقطاعى، لبناء مجتمعها الجديد الذى يتناسب ومصالحها، ويستوعب مطامحها، فإن الوضع في مصر كان وضعاً شاذاً وشديد الغرابة، إذ نشأت البرجوازية المصرية من رحم طبقة الملاك الزراعيين – الذين يلعبون لدينا دور الإقطاعيين في أوربا – بما جعل الثورة البرجوازية التى تقوم بتحرير العلاقات الإنتاجية وترسي دعائم المجتمع الجديد بطابعه البرجوازى المتوائم وضرورات التحديث الإنتاجى والإقتصادي والإجتماعي والسياسي والثقافي، ضرباً من المحال، إذ لم يكن الرأسمالى تابعاً أو نابعاً من المالك الزراعى وحسب، بل إن كثيراً من الفوائض الصناعية والتجارية كانت تعود لتصب في منابع المالك الزراعى، بما يقويه وينميه، بدلاً من أن يسحب من أرضيته ليضعفه، كما يفترض في أى تطور طبيعي لبرجوازية ناهضة !!

هذه البرجوازية أخذت دفعة قوية بالحرب العالمية الأولى التى إضطرت إنجلترا للسماح ببعض النشاط للصناعة المصرية - لتوفر من خلالها دعماً لوجيستياً لمجهودها الحربى – فرفعت يدها الثقيلة عنها؛ ما نمى قطاعاً صناعياً وبرجوازية صناعية، تسعى بالضرورة لحيازة سوقها الخاص، الذى يكفل لها النمو والتوسع، وهو ما دفعها في طريق السعي للإستقلال الوطنى، الذى يعنى أول ما يعنى - برجوازياً – إستقلالها بسوقها الوطني، الأمر الذى تجلى في ظهور قيادات إقتصادية تسعى لإستقلال الإقتصاد المصرى، كان على رأسها طلعت حرب، الذى سعى لإنشاء بنك مصر، وما تبعه من شركات، معانياً في سبيل ذلك الأمرين من كثير من المُلاك الزراعيين وكثير من الرأسماليين الذين لم يكن يعنيهم ذلك الإستقلال في شئ !!

إتحدت هذه الطبقة مع الشرائح الوسطى والصغرى من التجار، والبرجوازية الصغيرة والفلاحين، ممن ضجوا من الظلم والإستغلال الإستعماري البريطانى؛ للمطالبة بالإستقلال بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولى؛ آملين بوفاء الإنجليز بوعودهم، رداً لجميل تعاون مصر معهم بالمال والرجال في المجهود الحربى .

فلم تكد الحرب العالمية الأولى تنته، حتى بادر جمع بقيادة سعد زغلول بتكوين وفد للدفاع عن قضية مصر، وقاموا بجمع توقيعات من كافة المدن والقرى والنجوع، لإثبات صفتهم التمثيلية والنيابية عن الشعب المصرى، للمشاركة في مؤتمر الصلح في باريس، والمطالبة بحق مصر في الاستقلال، فما كان من إنجلترا إلا إعتقال سعد زغلول وبعض رفاقه، ونفيهم إلى جزيرة مالطة؛ ما آثار الغضب الشعبى، فإنفجرت الثورة في كافة أنحاء مصر، بإشعال الطلاب لشرارتها بتظاهراتهم التى إتسعت وإمتدت خلال يومين من جامعة القاهرة إلى الأزهر، وأخيراً كافة المدن والقرى، وأضرب عمال الترام مطالبين بزيادة الأجور وتخفيض عدد ساعات العمل، وتبعه إضراب لعمال السكك الحديدية، بل وقاموا بإتلاف محولات حركة القطارات، وقطعوا خطوط السكك الحديدية، ومثلهم فعل الفلاحون، ثم أضرب سائقو التاكسي وعمال البريد والكهرباء والجمارك والمطابع والفنارات والورش الحكومية، ثم تطور الموقف لحفر الخنادق إستعداداً لمواجهة القوات البريطانية والشرطة المصرية، كما قاموا بالإعتداء على المحلات الأجنبية وممتلكات الأجانب ومركبات الترام، وهاجموا أقسام الشرطة واستولوا على الأسلحة منها .

وقد واجهت القوات البريطانية ومعها الشرطة المصرية – التى أثبتت بفعل أغلب رجالها أنها مجرد كلب ذليل لكل حاكم[20] - هذه الأعمال بوحشية شديدة [21]، فقررت محاكم عسكرية، وأحرقت قرى ونهبت ممتلكات الفلاحين، ويُذكر أنه في يوم واحد قتلت أكثر من أربعمائة من البدو، فلم توفر من أساليب العنف شيئاً، بما في ذلك إغتصاب النساء .

وفي النهاية فشلت إنجلترا في إخماد الثورة، فعزلت الحاكم البريطاني، وأفرجت عن سعد زغلول ورفاقه، وسمحت لهم بحضور مؤتمر الصلح بباريس لعرض قضية إستقلال مصر، الأمر الذى لم يؤت ثماره المرجوة، مُثبتاً مدى النفاق الغربي، وكذب الأفاق ويلسون صاحب المبادئ الأربعة عشر، الذى أعلن اعترافه بالحماية البريطانية على مصر .

ولما خابت آمال المصريين في المفاوضات والمؤتمرات، عادوا للثورة مرة أخرى، وقاطعوا البضائع البريطانية، ما دفع بريطانيا لنفى سعد زغلول مرة أخرى، إلى جزيرة سيشل في المحيط الهندي هذه المرة؛ ما أجج الأمور أكثر، وأجبر بريطانيا في النهاية على التسليم ببعض المطالب، فكان ما يلى :

1. إلغاء الحماية البريطانية عن مصر، وإعلانها دولة مُستقلة، بتصريح 28 فبراير 1922م .
2. صدور دستور 1923م، كأول دستور مصرى .
3. تشكيل وزارة وطنية برئاسة سعد زغلول .

ورغم هذا الإقرار بإستقلال مصر، فقد إحتفظت إنجلترا بقواتها عند قناة السويس، حتى تم ترحيلها نهائياً عام 1956م .

وهكذا بدأت مرحلة جديدة، عرفت مصر فيها درجة محدودة من الحرية، التى تم إغتيالها أغلب الأوقات، بحكومات الأقليات المدعومة من القصر، والمندوب السامى البريطاني، وبمشاركة البوليس السياسى – أمن الدولة حالياً -، فلم يحكم الوفد حزب الأغلبية، سوى سبعة أعوام ونصف، نصفها تقريباً بإجبار الإحتلال البريطاني للملك، الذى كان قد غير وجهته أثناء الحرب العالمية الثانية تجاه ألمانيا النازية .

ورغم أن الثورة بالمُجمل لم تحقق هدفها الأساس، وهو الإستقلال الوطنى الكامل، والحقيقى غير المنقوص، كذا لم تظفر مصر بديموقراطية حقيقية كاملة، وهو أمر طبيعى، إذ لا تنفصل قضية الديموقراطية عن قضية الإستقلال الوطني، فلا يمكن أن تتحق ديموقراطية حقيقية مع وجود قوات أجنبية ومندوب سام على أرض الوطن، مع ملك لا يردعه رادع، يستخدم بوليس سياسى إجرامي لقتل وتعذيب معارضيه، وأحزاب أقليات مدعومة بقاعدة إجتماعية قوية من إقطاع مُستأثر بأغلب الدخل القومى، فيحصل نصف بالمئة من الشعب على نصف الدخل القومى السنوى، نقول بالرغم من هذا كله، فقد حققت ثورة 19 مُمثلةً فى حكومات الوفد بعض الإنجازات وفقا لإمكاناتها، وما سمحت به ظروفها وطبيعة البنية الطبقية لقاعدة الوفد الإجتماعية، خاصةً على المستويات القيادية، ومن هذه الإنجازات : -

1. قانون رفع السخرة وإلغاءها عام 1928م [22].
2. قانون إنشاء بنك التسليف الزراعي عام 1930م .
3. قانون مجانية التعليم الإبتدائي والثانوي والفني عام 1950م .
4. قانون حرية الصحافة والمطبوعات عام 1936م .
5. قانون تمصير البنوك وإلزامها بتشغيل نسبة معينة من المصريين عام 1936م .
6. قانون إلغاء الإمتيازات الأجنبية عام 1937م .
7. قانون تمصير الدين المصري وإلغاء صندوق الدين عام 1942م.
8. قانون إلغاء الضرائب على صغار الملاك، وفرض ضريبة تصاعدية على الملكيات الكبيرة عام 1942م .
9. قانون عدم جواز الحجز على المرتبات عام 1951م .
10. قانون إستقلال القضاء عام 1934م .
11. إصدار بروتوكول الجامعة العربية عام 1944م .
12. قانون تنظيم هيئات البوليس عام 1944م .
13. قانون إنشاء الجمعيات التعاونية عام 1944م .
14. قانون منع زراعة الحشيش عام 1944م .
15. قانون كادر العمال عام 1944م .
16. قانون تقرير سياسة الحياد في الصراع الدائر بين القوى الكبرى عام 1950م .
17. قانون تشجيع المقاومة المسلحة لقوات الإحتلال بمنطقة القناة وحمايتها ومدها بالأسلحة والذخيرة عام 1951م .
18. قانون تمصير البنك الأهلي عام 1950م .

وغيرها من إنجازات أخرى أكبر أو أقل أهمية، لم تستطع أن تحرك تغييراً جذرياً في المجتمع المصرى، بحكم تحرك الوفد ضمن منظومة أكبر منه، هو جزء منها، لم يحاول الإنقلاب عليها، لإفتقاره للقوة من جهة، بعد أن سحبت القوى السياسية الجديدة، كالإخوان والشيوعيين، وباقة الأحزاب المُنشقة عنه، من رصيده الشعبى، ولأنه محكوم بحكم قيادته (الباشواتى) بالمصالح الغالبة للمنظومة ذاتها من جهة أخرى .

وهو الأمر الذى وصل لأقصاه في السنوات الأخيرة للحكم الملكى، مُتجلياً بوصول فؤاد سراج الدين وأشياعه لقيادة الوفد؛ ليزداد الحزب إنفصالاً عن جماهير الشعب، بعد أن عملت عوامل التبلور والطرد الطبيعية بداخله لتحوله لحزب متجانس للبرجوازية الكبيرة، وهو الأمر الذى كان غالباً على الحزب وعلى خياراته وقياداته منذ اليوم الأول، وقد تجلى بأوضح صوره، في محاربة سعد زغلول لأول حزب إشتراكى في مصر، مُتجاوزاً بحذاءه كافة إدعاءاته الديموقراطية، وتجلى مرة ثانية في رفضه الرد على رسالة لينين المؤيدة للثورة المصرية، وهو الذى كان في حاجة لأى دعم !!

لهذا لا عجب في تحول الوفد لمجرد أُحفورة سياسية – في ظل التحولات الهيكلية التى أصابت البرجوازية المصرية – تصلح للمتاحف وكتب التاريخ، أكثر مما تصلح لأي شئ آخر، بحيث أصبحت عودته للحياة السياسية [23] أمراً مُثيراً للسخرية والتندر، أكثر منه شيئاً يمكن التعاطى معه بجدية .



إنتفاضة 25 يناير : الشعب يعود إلى الصورة
-----------------------
واليوم لا يمكن الحديث عن الوفد وحده كأُحفورة سياسية، بل عديدة هى الأحزاب السياسية التى ستجد نفسها قريباً على ذات الطريق، خاصةً تلك التى ربطت نفسها بالمنظومة السياسية التى كونها أنور السادات، والتى لا تختلف كثيراً في مضمونها عن صيغة سوريا المُتمثلة في حزب قائد وأحزاب تابعة مرتبطة !!

فهى تعددية وهمية، تؤكد وهميتها نشأتها ذاتها، فمن إتحاد اشتراكي نظمته الحكومة، إلى منابر، إلى أحزاب خرجت من رحمه، نعم كونتها شخصيات، كثير منها نزيه ولا غبار عليه، إلا أنها قد تم إختراقها أمنياً – وربما منذ اليوم الأول - لتصبح مجرد أفرع للحزب الوطني الديموقراطي القائد!!

هذه الأحزاب التى لم تعد تُقنع أحداً، هى من قامت بإحتواء أي معارضة حقيقية للنظام المُباركى على مدى ثلاثين سنة مضت، بل وأحياناً قامت بتسليمها لأمن النظام، قصداً أو عفواً، لا فرق !!

ولم تكن بالظاهرة الغريبة أن تنشق كثير من هذه الأحزاب لتخرج من رحمها أحزاب أخرى بذات الإيديولوجيات، ولكن كقوى مُعارضة حقيقية، وأشهر هذه التجارب، تجربة حزب الكرامة المُنشق عن الحزب العربى الناصرى .

ولما لم تُجد هذه التجارب ذات الطابع النخبوى والإيديولوجى الضيق في مواجهة النظام الحاكم، كان أن نشأت الحركات الإحتجاجية الرافضة، ذات الطابع الواسع، التي انضوت تحت لواءها كافة القوى السياسية بكافة ألوانها، خصوصاً تلك التى وجدت أرضية مشتركة للعمل السياسى، في الدعوة لنظام ديموقراطى، يكفل الحرية وتداول السلطة، بعيداً عن برامجها الأشمل وإيديولوجياتها، وحتى صراعاتها القديمة، فتكونت حركات كالحركة المصرية للتغيير "كفاية"، وبعدها الجمعية الوطنية للتغيير، وحركات أخرى أقل أهمية .

وقد تمكنت هذه الحركات من تحريك المياه الراكدة في السياسة المصرية، خاصةً بعد أن بدأت توجه نقدها المباشر لرئيس السلطة، وإن كانت قد عجزت عن إنجاز تغيير حقيقي يطال البنية السياسية في مصر، فضلاً عن مجابهة النظام الحاكم بشكل يؤثر عليه تأثيراً حقيقياً، ناهيك عن إرداءه قتيلاً !!

ولم يكن هذا بالغريب، فرغم التغيير الهيكلى الذى حققته، إلا أنه قد بقت في العمق ذات الأمراض السياسية القديمة، فالصراعات التافهة، والإنقسامات المُستمرة نخرت بنيتها، بما أعجزها عن إنجاز تحرك حقيقى يُقنع الجماهير ويشعرها بالمصداقية، فيجذبها للنزول للشارع .

كما أنه على المستوى الإجتماعى الأعمق، لم يكن أي من القوى السياسية الموجودة في مصر يعبر عن طبقاتها بشرائحها المختلفة، فالبنية الإقتصادية التابعة والريعية المُفككة في مصر، لا يمكن أن تنتج مُجتمعاً مُتجانساً وسليماً من الوجهة الطبقية، إذ أن بنية إقتصادية مُختلة، تنتج حتماً بنية إجتماعية أكثر اختلالاً .

ما يجعل أحزاباً مُستوردة، أو مُستنبتة صناعياً أو مُغيبة ومُحتفرة تاريخياً، بعيدة وغائبة تماماً عن تمثيل هذا المشهد المُعقد، يعيش أغلبها على ذكريات الماضى، مُقتاتاً على خطاب عفى عليه الزمن !!

والحق أن الكثير كُتب ويُكتب وسيُكتب عن إنتفاضة 25 يناير الأخيرة، فمن مُتحدث عن ثورة على سياسات الإفقار والتهميش، إلى مُتحدث عن ثورة على كامب ديفيد ومُستتبعاتها، إلى خائض مُبتذل في الحديث عن التوق للحرية والديموقراطية...إلخ .

ولا يمكن بحال استبعاد أياً مما سبق من الصورة، التى تتسع واقعياً لهذا كله، إذ أن كافة هذه الظواهر المُستثيرة للغضب والإحتجاج، ومن ثم الثورة موجود، وقائم على رؤوسنا، جاثم فوق صدورنا، إلا أن المشكلة الحقيقية هى في التوصيف الدقيق لأصل هذا كله، أي بإختصار القاعدة الإجتماعية للنظام، وطبيعته العامة التى ترعى حياتنا بشكلها الراهن .

فلم يكن الإنقلاب الساداتي في 15 مايو، مجرد صراع في كواليس السلطة بين مجموعة أفراد يتنازعون السلطة داخل ذات المنظومة والرؤية، بل كان في حقيقته ثورة مُضادة مدعومة داخلياً وخارجياً لحرف مسيرة كاملة عن طريقها، والدفع بها نحو وجهة جديدة، تتسق وتتلائم ومصالح الفئات والجهات الداعمة لتلك الثورة المضادة .

فأنور السادات، المُعجب بالنازى في شبابه، والمُرتزق من رواتب المخابرات السعودية، والمهزوم نفسياً أمام البريق الأمريكى الزائف، لم يكن ليمضى بمصر على ذات الوجهة التى قادها نحوها عبد الناصر، المُرتبط بتراب الأرض وعرق الكادحين وكبرياء الوطنيين .

جاء السادات – وبدعم من آل سعود والملكيات العربية الرجعية – لـُيلحق مصر بالفلك الأمريكي، وينهى المسيرة الإشتراكية، والتصنيعية عموماً، مُنظماً لإنفتاح إستهلاكي أغرق البلاد والعباد في مستنقعات التبعية والريعية والإحتكارية والإستهلاكية، مُستتبعةً بتوابعها الطبيعية من فقر وإستبداد وجهل وأصولية ومرض وظلم اجتماعى ...إلخ ، بعد أن كانت مصر على طريق إرتقاء مراقي الدول الصناعية وصفوف العالم الثانى على الأقل .

هذا الإنفتاح الذى أنهى كافة إنجازات الثورة، وأعاد مصر لحالة التبعية مرة أخرى، بفتح الأسواق، والتضييق على القطاع العام لتدميره ثم خصخصته فيما بعد؛ لتتضائل معدلات نمو القطاعات الصناعية والزراعية، لحساب القطاعات التجارية والخدمية، التى يهواها قطاعنا الخاص .

وهو ما تظهره إحصاءات تبين لنا مدى الإختلال الذى أصاب هيكل الإقتصاد المصرى، الذى تقلص فيه نصيب قطاعات الزراعة والصناعة في الناتج المحلي الإجمالي لحساب القطاعات الخدمية، كالسياحة والنقل والتخزين والإتصالات والعقارات، بحيث بلغ نصيب الأخيرة منه لعام 2005/2006 حوالى (56 %) .

وهو ما جعل الإقتصاد المصرى إقتصاداً ريعياً، بحكم طبيعة القطاع الخدمي غير الإنتاجي، فلا غرو أن زادت نسبة الموارد الريعية في الموازنة المصرية، فالسياحة والبترول وقناة السويس وتحويلات العاملين بالخارج، هى المصادر الأساسية للدخل القومي، ومعها المعونات الأجنبية وفى مقدمتها الأمريكية [24]؛ بما جعل مصر خاضعة لتذبذبات السوق الدولية وسياسات الدول الأجنبية – وتهديداتها [25] ومشاكلها [26]- المؤثرة على هاته المصادر، فاستكمل إرتهان الإقتصاد المصري – فوق تبعيته الطبيعية الناتجة عن نشاط طبقة الكومبرادور المرتبطة بالإقتصاد الغربي – بالإقتصادات الدولية، وعزز من ناحية أخرى من سطوة السلطة المُستبدة التى لم تعد بحاجة ماسة للضرائب[27] لتمويل أجهزتها الأمنية التى تمارس من خلالها إستبدادها بالوطن والمواطن !!

فلا غرابة إذن أن يغيب المواطن عن ذهن النظام الحاكم الذى لم يعد معنياً سوى برضاء سيده الأمريكى، داعمه الحقيقى فى مواجهة شعبه الذى أصبح عبئاً عليه .

هذا النظام بحكم بنيته ذاتها، وجد قاعدته الإجتماعية في تلك الشرائح الإجتماعية المُعتاشة على ذات نمط وجوده، والمرتبطة بذات سيده، كذا القادرة على تمويله داخلياً في مواجهة باقى المجتمع، فكان ذلك التزاوج الباطل والفج، ما بين السلطة والثروة، الذى تجاوز الحدود الطبيعية لشكل الدولة الطبقى؛ ليتحول النظام الحاكم فى مصر، وفي ظل تحطم كافة البُنى الاجتماعية، ودمار كافة القوى الوطنية، من أوليجاركية عسكرية [28] إلى كليبتوكراسية [29] مُكتملة المعالم، حيث تحكم عصابة تعمل على النهب المُنظم لموارد الدولة .

هذه العصابة تتكون من بيروقراطية فاسدة وكومبرادور عملاء للغرب، إجتمعت فيما سمى بـ "الحزب الوطني الديموقراطي"، الذى أسسه عراب العصابة أنور السادات على مبادئ اللاوطنية واللاديموقراطية !!

هذه العصابة لم توفر طبقة في مصر إلا واستنزفتها، وإن إختلفت وطأة وضراوة الإستنزاف كلما إرتفعنا بدرجات السلم الطبقي، حيث تزداد قوة الطبقة المعنية من جهة، كذا تصبح أقرب للسلطة، بما يجعلها حليفاً مُفترضاً يتوجب إكتسابه من جهة أخرى .

فلا غرابة أن شملت إنتفاضة 25 يناير الأخيرة كافة فئات الشعب المصرى، وفي مركزها شباب الطبقة الوسطى، التى أُستبعدت في عهد مبارك جزئياً وكلياً من مواقع التأثير في السياسة والإقتصاد، مُخليةً مواقعها للسادة الجدد، المُتمثلين في رجال الأعمال عموماً، والمُرتبطين منهم بعصابة الحكم خصوصاً.

هذا الطابع غير الطبقي لهذه الانتفاضة، وإن كان عنصر قوة، من حيث كونه يجمع كافة فئات الشعب، إلا أنه أيضاً نقطة ضعف نتيجة لتصدر الطبقة الوسطى المُتذبذبة والمُترددة للمشهد [30]، والتى لا تستطيع قيادة ثورة للنهاية، وهو ما يجعلنا لا نأمل من خلف هذه الثورة أكثر من مجرد تحسين المناخ السياسى، بما ييسر الطريق لممارسة ديموقراطية أوسع وتداول سلمى محدود للسلطة، وهذا طبعاً إن صدق الجيش وعوده !!

فالجماهير الشعبية لم تستعد بعد – حقيقةً وحتى الآن – لثورتها الكبرى، كما أن حزبها الطليعي غير موجود؛ كنتيجة طبيعية لضعف التيار الإشتراكي، وتشتت قواه، كذا عدم مواتاة الظرف الدولي .



خاتمــة
----
تُشكل كافة ثورات مصر في المائتي عاماً الأخيرة موجات مُتتابعة في مجرى ثورى واحد، يهدف للتحرر الوطنى الكامل غير المنقوص، من أى تبعية أجنبية مباشرة أو غير مباشرة، والحرية الشعبية الكاملة التى تدك كافة معاقل الظلم والإستعباد، والحكم العادل الصالح المعبر عن كافة جماهير الشعب .

وهى مسيرة طويلة إقتربت من أهدافها حيناً وابتعدت عنها أحاييناً كثيرة، ولكنها جميعها صنعت تراكماً ساعد في الإقتراب من مثلها الثورى شيئاً فشيئاً، مهما بدا على السطح من تراجع ...

ولا زالت المسيرة مستمرة ...



* * *


المراجع

1. عجائب الآثار في التراجم والأخبار – عبد الرحمن الجبرتى
2. سوسيولوجيا الفكر الإسلامى – دكتور محمود اسماعيل
3. مثقفون وعسكر – صلاح عيسى
4. الكارثة التى تهددنا – صلاح عيسى
5. البرجوازية المصرية ولعبة الطرد من الحلبة – صلاح عيسى
6. تاريخ الحركة الشيوعية المصرية – دكتور رفعت السعيد
7. التجربة الثورية بين المثال والواقع – دكتور نديم البيطار
8. كراسات السجن – أنطونيو جرامشى
9. الثورة العرابية فى الميزان – حسن حافظ
10. حكاية ثورة 1919 – عماد أبو غازى
11. ثورة الحرية..عرض وتحليل لفلسفة ثورة 23 يوليو 1952 – عبد القادر البندارى و نجيب إلياس برسوم
12. ذات (رواية) – صنع الله ابراهيم
13. مصادر متنوعة على شبكة الإنترنت



=====================================

[1] ورغم وحدة هذه الثورات بما جعلها مجرد حلقات في ثورة واحدة بحسب تعليق الأستاذ صلاح عيسى، إلا أنه يرصد لنا ظاهرة غريبة هى أن "الحلقات المتتالية من محاولات البرجوازية العربية لتحقيق ثورتها قد نظرت بعين المقت والكراهية لما سبقها من حلقات، فهونت من شأنها، أو لوثت تاريخها، أو أخضعته لحملات دعاية مركزة ومكثفة، تبغى اقتلاعه"، وفي البرجوازية المصرية كمثال نجد أن "ما قاله مصطفى كامل عن عرابى لا يختلف كثيراً عن ذلك الذى قاله سعد زغلول عن محمد فريد، وفي مذكرات محمد فريد بعض ضيق بمصطفى كامل نفسه، وبعض ميل لتلويثه، أو على الأقل عدم الدفاع عنه، وفيما بعد قال الوفديون في مصطفى كامل كلاماً تتواضع أمامه مقولات مالك في الخمر، ثم قبضوا نفس الثمن البرجوازى من خلفائهم، فجاءت ثورة يوليو المصرية، لترد الثمن للوفديين، فمحت بالهجوم والدعاية كل إنجازات فترة ما بين الثورتين (1919 - 1952)، حتى سعد زغلول نفسه وصفه الميثاق بأنه مجرد انتهازى ركب موجة الثورة"، ثم أنبرى متعجباًَ ممن"يدهشون أو يذهلون لما تفعله البرجوازية المصرية الآن تجاه ذكرى عبد الناصر، أمجد وأعظم أبناء البرجوازية العربية"، وهو ما أرجعه إلى "أسلوب خاص في الصراع السياسى بين أجنحة البرجوازية العربية".

[2] وهى عدم ثقة في محلها؛ لأسباب لا تتعلق بالجوانب الفكرية لهذه التيارات – رغم قصوراتها عن مقاربة الواقع مقاربة جدية – بقدر ما تتعلق بمدى نقاء ممثليها.

[3] من طرائف ما يذكر بهذا الصدد لامبالاة المماليك بالتهديدات الخارجية بحجة أنه "إذا جاءت جميع الإفرنج لا يقفون في مقابلتهم، وأنهم يدوسونهم بخيولهم" (!!).

[4] وكم وُظف الإسلام في خدمة السلطان، يدخل في هذا الباب أصوليوه وسلفيوه وصوفيوه، وبحق الأخيرين يورد الخبرتى في عجائبه نادرة "مولد السيد على البكرى المدفون بجامع الشرايبى بالأزبكية بالقرب من الرويعى،.....، وقد تقدم ذكر بعض خبر هذا السيد على، وأنه كان رجلاً من الُبله، وكان يمشى في الأسواق عرياناً مكشوف الرأس والسوأتين غالباً، وله أخ صاحب دهاء ومكر لا يلتئم به واستمر على ذلك مدة سنين، ثم بدا لأخيه فيه أمر لما رأى من ميل الناس لأخيه، وإعتقادهم فيه، كما هى عادة مصر في أمثاله، فحجر عليه ومنعه من الخروج من البيت وألبسه ثياباً، وأظهر للناس أنه أُذن له بذلك، وأنه تولى القبطانية ونحو ذلك، فأقبلت الرجال والنساء على زيارته والتبرك به وسماع ألفاظه والإنصاب إلى تخليطاته وتأوليها بما في نفوسهم، وطفق أخوه المذكور يرغبهم ويبث لهم من كراماته، وأنه يطلع على خطرات القلوب والمغيبات، وينطق بما في النفوس، فانهمكوا على التردد إليه، وقلد بعضهم بعضاً، وأقبلوا عليه بالهدايا والنذور والإمدادات الواسعة من كل شئ، وخصوصاً من نساء الأكابر، وراج حال أخيه واتسعت أمواله ونفذت سلعته، وصادت شبكته، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة حتى صار مثل البو العظيم، فلم يزل على ذلك إلى أن مات ....، فدفنوه بمعرفة أخيه في قطعة حُجر عليها من هذا المسجد من غير مبالاة ولا مانع، وعمل عليه مقصورة ومقاماً وواظب عنده بالمقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين، بذكر كراماته وأوصافه في قصائدهم ومدحهم ونحو ذلك، ويتواجدون ويتصارخون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به، ويضعون في أعبابهم وجيوبهم...إلخ".

[5] حسبما يفسر الدكتور محمود اسماعيل طبيعة العصر، فإنه بصفة عامة نجد أن الصراع بين شرائح الطبقة الحاكمة من أرستقراطية إقطاعية عسكرية كانت أكثر أهمية من صراعاتها كطبقة ضد طبقتى البرجوازية والعوام، اللتان عجزتا عن قيادة صراع ناجح ضد هذه الطبقة، فالبرجوازية كانت بتكوين هش يُعجزها عن الحركة، فضلاً عن إرتباط مصالح الشريحة الأساسية منها من كبار التجار بالسلطة القائمة، ما جعلها برجوازية مُساندة للسلطة ضد العوام، ولا يقدح في هذا تمرداتها الصغيرة في الحلقات الأضعف من تلك السلطة العسكرية، والتى لم ترتق لمحاولة استبدال السلطة القائمة.

وبصفة عامة "إرتهنت الغلبة - في التحليل الأخير - بقدرة هذه الأنظمة على تكريس الثروات النهبية في الداخل والتوسعية في الخارج وتوظيفها في تدجيج حكمها بالعسكر الجديد الوافد".

لمزيد من التفاصيل راجع "سوسيولوجيا الفكر الإسلامى – طور الانهيار (1) – الخلفية السوسيو - تاريخية" – دكتور محمود اسماعيل.

[6] العراق الصدامى آخر النماذج.

[7] فقد كانت تشكل بصورة من الصور جزءاً من إحتياطى السلطنة العثمانية، بحكم روابطها الدينية مع الخلافة، خلاف كونها قوة مستقلة، تلعب دوراً إيجابي نعم، ولكنها تفتقد الرؤية بخصوص المستقبل، بما يجعل مشاركتها السلطة معوقاً للحركة، فهى مُفيدة خارج السلطة، وبعيداً عنها فقط.

[8] والذين كانوا يمثلون ركيزة الإقطاع العسكرى فى مصر، الذى كان يعوق أى إمكانية لنمو برجوازى من أى نوع، فبقيت البرجوازية التجارية المُحجمة في سوق ضيق تسيطر عليه السلطة المملوكية التركية الإقطاعية ذات الطابع العسكرى.

[9] من الطريف أن يكون هذا أحد مداخل مصطفى كامل لإنتقاد أحمد عرابى والثورة العرابية، فرغم ما كان من تمييز عرقى واضح، كان يعتبر "أنه لا يمكن إعتبار الجراكسة الذين قضوا في مصر حياتهم وإستوطنوا البلاد وتناسلوا فيها، أجانب عنها، بل هم مصريون، لا فرق بينهم وبين سلالة الفراعنة القدماء"، بل إنه ليتعامى عن تسلطهم الكامل على كافة ثروات مصر فيقول بأنهم"نفر من الجراكسة لم يملكوا فى البلاد إلا وظائف معدودة (!!)"، وهو أمر يمكن فهمه فقط فى ضوء علاقة مصطفى كامل الاعتمادية مع الخديوى والباب التركى العالى، حتى أنه كان يصف الخائن توفيق بـ "عزيز مصر"، كما لم يتقوه بكلمة واحدة ضد الباب العالى، رغم إقراره بخطأ – فقط خطأ ؟!!- بيان عصيان عرابى الصادر عن الخليفة.

[10] وتكشف وقائع الثورة عن مدى سذاجة عرابى ومثاليته التى أبت عليه الاستجابة لمقترحات رفاقه بقتل توفيق، حيث رفض قتله لعدم وجود حكم شرعى!!، وعندما أفتى رجال الدين بجواز قتله، ظل على رفضه الساذج، حتى وصفه صديقه الإنجليزى المُتعاطف مع الحق المصرى بفقرة دالة، هذا نصها : "لو كان عرابى حاكماً قوياً بحق..لو كان يحسن إختيار الناس وإنتهاز الفرص، وباختصار لو كان عرابى رجلاً عملياً، ولم يكن رجلاً حالماً، لكان إستطاع أن يكسب الجولة الدبلوماسية ضد أعدائه المخادعين، كان يحتم عليه أن يبطش بأعدائه الذين دبروا فتنة الإسكندرية، لقد كان صاحب السلطة الحقيقية فى مصر، لكنه لم يدع أعدءه يشعرون مطلقاً بثقل هذه السلطة، ولو فعل ذلك ثم إستدار إلى السلطان والأوربيين مُوجهاً إليهم كلمات قاسية لتغير مصير الثورة، لكن لسوء حظ الحرية التى كان عُرابى يدافع عنها، أن هذا الزعيم لم يكن رجلاً شديد الوطأة، وإنما كان رجلاً حالماً، يتمسك بمبادئ إنسانية مجردة"

[11] وهو ما أوجزه الدكتور رفعت السعيد بأولى صفحات كتابه عن تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر بقوله "دخل الإنجليز مصر على بساط من خيانة الإقطاع للثورة العُرابية، والحقيقة هى أن إرتماء الإقطاع بهذه الصورة السافرة في أحضان القوات الإنجليزية الغازية كان خير دليل على النضج الطبقى لهذه الفئة، فقد أدركت على الفور أن الخطر الحقيقى الذى يهددها هو ثورة الفلاحين الذين يقودهم عرابى، وأن أى عدو لهذه الثورة أياً كانت أهدافه هو بالضرورة صديق".

[12] فقد رفض خطيبهم في خطابه عند مناقشة برناج الحزب الوطنى أى فكرة عن المساواة مع الفلاحين، كما بدأوا في الإنسحاب والهروب مع أول فرصة إلى الإسكندرية حيث كان يقطن الخديوى – مشكلاً مركزاً للرجعية، وبما أثبت صحة رأى القائلين بضرورة إعتقاله أو قتله- في حماية الإنجليز، خاصةً بعد إنتفاض الفلاحين لإسترداد الأراضى من الإقطاعيين الأتراك، كما يؤكد لنا بلنت على إتجاهات عرابى بقوله "كان عُرابى ينادي بالمساواة بين الطبقات وبإحترام الفلاح باعتباره العنصر الرئيسى في القومية المصرية، وكان إيمان عُرابى بالفلاح هو الشئ الأساسى الذى يميزه عن باقى المُنادين بالإصلاح في عصره، إن حركة عرابى هى في جوهرها حركة قومية وشعبية".

[13] كان الأمر فى مُجمله نتيجة كارثية لثقة المصريين الزائدة في الخلافة العثمانية ذاتها، المُوظفة منذ البداية في خدمة المصالح التركية على حساب المصالح المصرية، وفي الوقت الذى "جماعات من العساكر المسلمين بالعصى والسيوف تطوف بالشوارع والطرقات صارخةً (النصر للسلطان وعرابى)" وفقاً لشهادة المسيو دومريكر قنصل النمسا بالإسكندرية، نجد السلطان العثمانى يصدر بياناً طويلاً تقول مقدمته "بإرادة سيدنا ومولانا السلطان المعظم أمير المؤمنين خليفتنا الأعظم إشعاراً لجميع المسلمين بأن الأفعال التى أجراها عرابى وأعوانه ورفقاؤه فى مصر مخالفة لإرادة الدولة العلية السلطانية ومغايرة لصالح المسلمين، وبناءاً على ذلك، تقرر أن عرابى وأعوانه عصاة بغاة، وبهذه الصفة تجرى معاملتهم"، رغم ما بين مواقف الإثنين من تناقض، ما بين مناهض للإحتلال، وخليفة ألعوبة بأيدى الإنجليز يصدر البيانات التى يرغبونها، وحسب مصالحه معهم.

[14] وقد كان لدى عبد الناصر فرصة ذهبية لتصفية كافة الأجنحة الفاسدة في كامل نظامه السياسي والعسكري بعد النكسة، وهو الأمر الذى أعجز كافة المحللين عن تفسيره، حتى فسره البعض بالوفاء والإخلاص والحرص على سلمية الثورة ولونها الأبيض، وهو أمر لو صح، فألا سحقاً لهذا الوفاء، ولتلك السلمية، ولذلك البياض!!

[15] فوصل الحال بعواهر برجوازيتنا أن يتماهوا بالإقطاعيين المُندثرين؛ ليضعوا نصوصاً قانونية من نوع "غير لائق إجتماعياً" في أواخر القرن العشرين، وليس عبد الحميد شتا خريج الإقتصاد والعلوم السياسية، المرفوض من السلك الدبلوماسى، رغم تفوقه، عنا ببعيد، ومثله كثيرين في مواقع أخرى، وهو ما يأتى في ذات السياق الذى يبارزنا فيه توافه المُمثلين والكتاب بمبدأهم العظيم بقبول أى عمل – مهما كان في ذلك من إهدار للتكوين التأهيلى- وقبلهم جوقة المسئولين، الذين تأتى على رأسهم وزيرة الإعدادية – لاثمة الأيادى- التى تطالب شباب الكليات النظرية بالعمل كحراس أمن! فأبناء العواهر بعد أن إحتكروا كافة أشكال السلطة والثروة، يتعازمون علينا لنقبل بالفتات المتساقط من أفواههم النجسة .

[16] يسجل لنا الأستاذ صلاح عيسى بالإحصاءات المُوثقة كماً هائلاً من الظواهر الدالة، فقد تزايد الإنضمام للطرق الصوفية بصورة مُلفتة، وفى سنة 1970 إرتفع معدل إستهلاك المُهدئات والمُنبهات بحيث أصبح يمثل 3% من جملة الإستهلاك الدوائي، وقبلها زاد إستهلاك المنبهات ما بين عامي 1968و1969 بنسبة 150%، وإرتفع عدد مرضى الأمراض النفسية والعصبية والعقلية من 50 ألف عام 1966 إلى 140 ألف عام 1970، وزادت الجنايات بنسبة 8% من عام 1966 إلى عام 1968، بينما كان معدلها الطبيعي قبل النكسة 2% فقط، بل إنه كان قد بدأ اتجاه ملحوظ للإنخفاض في أعداد الجرائم، كما لُوحظ – في العام التالى للنكسة مباشرةً - تزايداً درامياً في جرائم العدوان عموماً، سواءاً كان عدواناً تجاه السلطة أو تجاه الغير أو حتى النفس، فزادت جنايات تعطيل المواصلات ووسائل النقل العام بنسبة 300%، والسرقات بنسبة 99%، والخطف بنسبة 102%، والقتل بنسبة 33%، والضرب المُفضى إلى الموت بنسبة 32%، وهتك العرض والاغتصاب بنسبة 29%،....إلخ – راجع دراسة "الهجرة إلى منافى الصمت" بكتاب مثقفون وعسكر للأستاذ صلاح عيسى .

[17] المقصود هو الموجة الثورية التى إجتاحت العالم بعد الحرب العالمية الأولى في ظل تضعضع المنظومة الاستعمارية وفقدانها الإتزان، والتى بدأت بثورة 1917 البُلشفية فى روسيا.

[18] بدأت إضرابات الطلبة منذ 1906م، وتعززت بإضرابات العمال وغيرهم، واستمرت في التوسع والتطور إلى إعتصامات فمصادمات مع الشرطة، حتى الوصول لتكوين تنظيمات إرهابية سرية مارست الإغتيالات السياسية بحق الخونة من المصريين المتعاونين مع الاحتلال، فطالت بطرس غالى باشا بنجاح عام 1910، ووصلت للخديوى عباس حلمى الثانى مرتين دون نجاح .

[19] فقد ارتعبت قيادة الوفد من المدى الثورى الذى وصلته الثورة بإضرابات الطلبة والعمال، وسجلت لنا صياحها بصوت عبد العزيز فهمى متوجهاً للمتظاهرين "إنكم تلعبون بالنار..دعونا نعمل فى هدوء، ولا تزيدوا غضب الإنجليز".

[20] وهذا الأغلب – فبالشرطة ككل مكان آخر رجال من أشرف أبناء الوطن - هو ما يقودنا للقول بوجود أزمة هيكلية – يتوجب دراستها والتعامل معها لحلها جذرياً - يمنظومة الشرطة المصرية عموماً، ومنهجية تكوينها، بحيث لا يبقى لدى أغلب رجال الشرطة في مصر ولاءاً للوطن أو للشعب، بل للسلطة والمكاسب (المماليكية) التافهة .

[21] ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى تجابه فيها الشرطة مواطنيها المصريين بهذه الوحشية، فقد سبق وقامت وحدها بمذبحة العباسية إبان إضرابات عمال الترام عام 1911م، فتكتب جريدة اللواء "أحدث البوليس مجزرة في العمال، وداس الشعب فى ساحات المدينة بسنابك خيله، وأوسعه ضرباً وإغراقاً بالدماء وعامل الجمهور معاملة السيد لعبيده، وداس على القوانين، فلا نعلم لما نسكت نحن ونقف عند الحدود التى لا تقف عندها الحكومة والبوليس والشركة،...، هم يدوسون النظام وينتهكون حرمة القوانين ويعاملون الشعب معاملة العبيد، فلا نعلم نحن لماذا لا ندوس – ولو مرة وعلى الورق – على ذلك الظلم الفاضح والهمجية، ولذلك نقول للعمال إنهم يخيفونكم ويرهبونكم ويريدون التهويل عليكم لظنهم أنكم من طينة غير طينة العمال في أوربا، وأنهم إذا عاملوكم بالشدة جبنتم وخضعتم، وتستمر الشركة في حلب البقرة الحلوب، والبوليس يمسك رأسها تسهيلاً لحلبها"، ويرسل أهالى دمنهور برقية تقول "العدل يندب حظه وملاك الرحمة ينتحر على ربوة الهرم من إجراءات البوليس إزاء عمال الترام"، ومثلها من طنطا تقول "نطلب من ناظر الداخلية أن يعين بوليساً جديداً لمراقبة البوليس في أعماله، فقد أصبح الناس فى مصر بحاجة إلى الحماية.. وإلا اضطروا للدفاع عن أنفسهم"، وثالثة بتوقيع فلاح تقول "إن الشعب أصبح يكره البوليس لهذه الأفاعيل بعد أن كان يظن أن البوليس حماية له" - تاريخ الحركة الشيوعية فى مصر – د.رفعت السعيد

[22] وهو الأمر الذى سبق وسعت إليه حكومة عرابى إبان الثورة العرابية!! عندما ألغت السخرة ومنعت إستخدام الكرباج .

[23] التى بدأها بالمُشاركة في الثورة الساداتية المُضادة على ثورة يوليو الناصرية، ضارباً عُرض الحائط بكافة مُنجزاتها التى نقلت مصر من حال إلى حال، دون أدنى إهتمام بالصالح العام، بل فقط بدوافع الإنتقام والتشفي الناتجة عن مصالح ذاتية ضيقة؛ ليُسجل على نفسه أحقر أدواره، مُنهياً تاريخه كحزب، كان يوماً ما حزباً ثورياً يضع مصالح مصر فوق كل إعتبار، عندما كان يتزعمه النحاس باشا مثلاً، الذى لا تعدو مواقفه الوطنية الرائعة أن تكون آثراً لإستشعاره أعباء زعامته وواجباتها، أكثر منها نتاجاً لإيديولوجيا الوفد.

[24] وهى جزء من عملية ربط بعض قطاعات البرجوازية الكبيرة فى مصر بأمريكا بخلاف إرتباطات السلطة السياسية نفسها، وبينما أكد الكاتب يوجين بلاك أن "برامج المعونات الخارجية الأمريكية توفر أسواقاً هامة للمنتجات الأمريكية وتيسر إيجاد أسواق جديدة للشركات الأمريكية"، وما يؤكده الخبراء الإقتصاديون من أن "المعونة الأمريكية ليست غير قروض للشركات المصرية كى تشتري بها منتجات أمريكية"، وهذا بالطبع علاوةً على الامتيازات السياسية والعسكرية العديدة، كـ "السفن النووية الأمريكية التى تمر بقناة السويس منذ عام 1984 بقرار سياسى من الحكومة المصرية رغم معارضة الخبراء"، نقول رغم هذا كله، نجد المخلوع مبارك يشكر الولايات المتحدة ويؤكد أن مساعداتها ليست مُغرضة وأنها لا تأخذ شيئاً مقابلها !!

[25] وهو ما سبق وفعلته قطر – التى بالكاد يتجاوز عدد سكانها المليون ونصف - مثلاً عندما هددت مصر بترحيل العاملين المصريين بها !!

[26] وهو ما ظهر مع تطور الوضع الأخير في ليبيا وعودة كثير من المصريين وما يحمله ذلك من مشاكل اقتصادية .

[27] فقد أصبحت الضرائب ضرورية فقط لتمويل الإحتياجات التى تدخل ضمن الرفاهية والتبذير كالدعم الاجتماعى من منظور الحكومة الليبرالية التابعة التى ترى الأمن السياسى أولويتها الأولى !!

[28] حكم فريق ضيق من قيادات سياسية أوعسكرية أو مالية .

[29] حكم اللصوصية .

[30] يبقى تعويلنا على عناد الشباب لاستكمال أهداف الثورة !!