الكاتب -الجاد جداً- .. جلال عامر


سعد هجرس
2012 / 2 / 15 - 17:14     

"اشتمنى بأمى ولا تقل عنى كاتباً ساخراً".. هذه العبارة اللامعة ليست من عندياتنا وإنما هى واحدة من فيض التجليات العبقرية والأقوال الحكيمة للكاتب الكبير جلال عامر.
وعلى الأرجح أن وراء هذا الطلب صورة نمطية شائعة عن الكاتب الذى يستخدم أسلوبه فى الكتابة بأنه "ابن نكتة" أو شخص ينتمى إلى تلك القبيلة التى تحمل لقب "الظرفاء" وتتفنن فى الركض وراء غواية "الإفيهات" و"المقالب" .. وغير ذلك من لزوميات "الفرفشة" و"جلسات الأنس".
وعلى الأرجح أيضا أن وراءها – أكثر من ذلك – رفض لتقسيم الكتابة إلى "ساخرة" وكتابة "جادة". فالكتابة هى الكتابة، وهى فى كل الأحوال جادة، بل بالغة الجدية وكل كلمة فيها تحتضن "المسئولية" كـ "أمانة" و"رسالة". والكلمات التى لا تتوافر فيها هذه الشروط لا تستحق وضعها فى خانة "الكتابة" وإنما هى مجرد "ثرثرة" أو "تسلية" أو كلام فارغ أو ما يطلق عليه إخواننا السودانيين اسم "كلام ساكت".
وكل كلمة صاغها قلم جلال عامر تنتمى إلى ذلك الشىء الرائع والجميل الذى يستحق لقب "الكتابة"، بما تعنيه من إبداع وصدق وشجاعة ونزاهة ومعاناة سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون.
وهذا – باختصار – هو سر وصول جلال عامر إلى قلوب الغالبية الساحقة، والمسحوقة، من المصريين، خاصة وأن موقفه من الكتابة هو نفس موقفه من الحياة عموماً، سواء فى السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة، فهو شخص لا يعانى من ازدواج الشخصية- مثل كثيرين يعيشون ازدواجية مذهلة بين القول والفعل.
ومظاهرة الحزن التى اجتاحت مصر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب حداداً على هذا الكاتب والإنسان الاستثنائى، إنما هى مجرد مؤشر على الحب الذى يكنه المصريون له. وهذه أكبر جائزة لجلال عامر ولكل الكتاب المحترمين.
صحيح أنها جائزة تأخرت كثيراً.. فهذا الرجل الذى يشبه النحلة التى لا تكف عن التنقل بين الورود والأزهار لاستخلاص رحيقها من أجل أن تقدمه لنا عسلاً مصفى.. يكتب منذ ربع قرن.. لكنه لم ينعم بالانتشار الواسع إلا منذ سنوات معدودات، فقد بدأ الكتابة – كما هو معروف – فى جريدة "التجمع" وهى جريدة مظلومة ومحدودة الإمكانيات ومحدود التوزيع، وكان المسئولون عن إصدارها يبذلون تسعة أعشار جهدهم فى محاولة مستحيلة لاستمرارها على قيد الحياة.
وكم من مرة اتصل بى النائب البرلمانى المناضل أبو العز الحريرى لمحاولة البحث عن مخرج يؤجل تحرير شهادة وفاة هذه الجريدة الشجاعة التى كانت غالبا تقف على يسار حزب التجمع.
وكان رأيي ان الكتابات المدهشة لهذا الكاتب الذى لم نسمع به من قبل، جلال عامر، كفيلة وحدها بإنقاذ الجريدة التى كانت النافذة الوحيدة التى يطل علينا منها فى ذلك الحين.
لكن الجريدة توقفت للأسف الشديد، ولم يتوقف قلم جلال عامر المثابر والعنيد والذى يحمل فى قلبه كل هموم المصريين وهموم البشرية جمعاء.
ومرت السنين دون أن ألتقى به.. إلى ان اندلعت شرارة ثورة 25 يناير .. وقام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بدعوة عدد من القيادات الصحفية.
فى هذا اللقاء تقابلت مع جلال عامر وجها لوجه للمرة الأولى والأخيرة، ولأننى أعرف أنه ضابط سابق فى القوات المسلحة، شارك فى حرب أكتوبر وتحرير "القنطرة شرق" ضمن أبطال الفرقة 18 بقيادة فؤاد عزيز غالى، فقد خشيت أن انتماءه للمؤسسة العسكرية يمكن أن يؤثر على موضوعيته فى الحوار مع المجلس العسكرى.
لكن ما إن تم إعطاء الكلمة لأحد القيادات الصحفية "المزمنة" المقربة لسنوات من حسنى مبارك ونظامه حتى وجدنا جلال عامر يسبقنا جميعا فى المقاطعة وتسجيل احتجاجه على دعوة "الفلول" قائلا أنه كان يتوقع أن يكون الاجتماع حصرياً للكتاب والصحفيين المؤيدين للثورة والداعيين لها والحريصين عليها.. وقال كلمته بغضب .. وانصرف .. هكذا بكل بساطة وصدق.
***
شخص له كل هذه السجايا أقوى من الموت.
ولعل أفضل من عبر عن ذلك هو الموسيقار عمر خيرت بقوله "جلال لم يمت.. بل ذهب ليطمئن على الشهداء بعد أن نسيناهم".