الترحيل القسرى ل -النهضة- من مصر... إلى القرون الوسطى


سعد هجرس
2012 / 2 / 15 - 17:10     

نفاخر دائما – وعن حق- بأن الأيام الثمانى عشر المجيدة الأولى من أيام ملحمة الثورة المصرية أثبتت أن المعدن الوطنى المصرى معدن نفيس، وكانت أحد شواهد ذلك أن تلك الأيام التى "تبخر" فيها جهاز شرطة حبيب العادلى لم يحدث فيها نزاع طائفى واحد، ولم تتعرض فيها كنيسة أو جامع لواحد من تلك الحوادث السخيفة والمشبوهة التى تعودنا على اندلاعها بين وقت وآخر فى ظل قوة القبضة الأمنية القمعية.
ولم تختفى الفتنة فقط بل حلت محلها صور بديعة ورائعة للإخاء الحقيقي – وليس المصطنع – بين المصريين مسلمين ومسيحيين، وأذهلنا العالم بمشاهد صلاة المسلمين فى ميدان التحرير تحت حراسة إخوانهم الأقباط وعناق الترانيم المسيحية مع التواشيح الإسلامية تحت قصف القنابل المسيلة للدموع والرصاص الحى والمطاطى لجحافل الأمن المركزى.
وكانت هذه المشاهد المبهرة أحد ثمار ثورتنا العظيمة التى رفعت شعارات الدفاع عن الكرامة الإنسانية والحريات العامة والخاصة جنبا إلى جنب مع شعارات الدفاع عن العدالة الاجتماعية فى إطار دولة "مدنية" على قاعدة المواطنة التى ترفض التمييز بين المصريين بسبب الدين أو الأصل أو الفصل أو العرق أو اللون أو المكانة الاجتماعية.
وحتى عندما سارت الأمور فى طريق مختلف سقطت ثماره فى حجر فصائل الإسلام السياسى، إخوانا وسلفيين وجهاديين، سارعت بعض رموز هذا التيار إلى طمأنة المصريين بأنها لن تفتئت على مدنية الدولة، بينما الرموز الأخرى التى لا تخفى عزمها على إقامة دولة إسلامية فى مصر، على أساس الشريعة، لجأت إلى التأكيد على فكرة محددة خلاصتها أن الشريعة الإسلامية كفيلة بالحفاظ على حقوق غير المسلمين، فهؤلاء "لهم مالنا وعليهم ما علينا".
وبالتالى لا خوف على حقوق الأقباط فى ظل حكم الإسلاميين.
****
كل هذه التطمينات الكلامية تبخرت على أرض الواقع، مرة فى أطفيح حيث تم هدم كنيسة لأول مرة فى التاريخ الاسلامى، ومرة فى قنا حيث تم قطع أذن أحد المواطنين الأقباط على يد أشخاص ينتحلون لأنفسهم مرجعية إسلامية، ومرة فى إمبابة حيث تم إضرام النيران فى كنيسة وتخريب منشات وممتلكات لمواطنين أقباط بسبب فتاة قبطية أحبت شاباً مسلماً، ومرة فى ماسبيرو حيث تم دهس عشرات المتظاهرين الأقباط بالمدرعات.. وأخيرا – وهذه هى المفارقة – فى قرية تحمل إسم "النهضة". ففى هذه القرية حدث ما يخالف النهضة بكل معانيها حيث تفجر فصل جديد من فصول الفتنة الطائفية بسبب مغامرة عاطفية – أيضا – بين شاب مسيحي وفتاة مسلمة. لكن الجديد هذه المرة هو طريقة "العلاج" – فبعد الحرق والتخريب والسلب والنهب للممتلكات تم اللجوء إلى "محكمة عرفية".. وكأننا عدنا قرونا إلى الوراء حيث لا قانون ولا محاكم حديثة. والأعجب أن هذه "المحكمة العرفية " أصدرت "حكماً" اغرب من الخيال هو التهجير القسرى لثمانى عائلات مسيحية من القرية وإجبارها على بيع ممتلكاتها وبيوتها ومغادرة القرية بذريعة اتقاء الفتنة". والأكثر غرابة أن السلطات الرسمية – بما فى ذلك قيادات محافظة الإسكندرية – وافقت على هذه الإجراءات التى تنتمى إلى القرون الوسطى. والمحزن أكثر وأكثر أنه حينما تقدم النائب البرلمانى الدكتور عماد جاد إلى رئيس مجلس الشعب، الدكتور محمد سعد الكتاتنى، بطلب إلقاء بيان برلماني عاجل حول هذه الواقعة الخطيرة، لم يهتم رئيس المجلس بطلب النائب الذى هدد بالاستقالة.
ومرت ساعات ثقيلة لم يتحرك فيها المجلس لوضع حد لهذه المهزلة التى تحمل من الخطورة أكثر من أبعادها المحلية المتعلقة بقرية النهضة والأسر المسيحية الثمانية.
إلى أن انعقدت لجنة حقوق الإنسان برئاسة النائب محمد أنور السادات التى أصدرت بيانا جيداً يضع كثيراً من النقاط على الحروف.
****
والموضوع خطير بالفعل ويمثل تهديداً للسلم الاهلى والعيش المشترك والاندماج الوطنى. وهو بهذا المعنى يتطلب تحركاً جاداً ليس لمعالجة مشكلة "التطهير الدينى" التى يواجهها عدد يزيد أو يقل من إخواننا الأقباط، وإنما لوقف هذا المسلسل الدموى الذى لا تتوقف حلقاته، والتصدى لجذور المشكلة الأعمق والأشمل وليس التعامل مع أعراضها السطحية فقط.
ولعل إخواننا أعضاء حزب الحرية والعدالة الإخواني وحزب النور السلفى وغيرها من فصائل تيار الإسلام السياسي – الذين أصبحوا يشكلون أكثرية مجلس الشعب – أن يدركوا أن مصداقيتهم على المحك، وأن القضية أخطر من التعامل معها بطريقة النظام السابق. سواء بتبويس اللحى أو كنس الخلافات تحت السجادة.
فلا بديل عن أن يكون هذا الوطن محلاً للسعادة المشتركة يقوم على مبدأ المواطنة وعلى مساواة المواطنين أمام القانون.
وهذا هو ألف باء الدولة الحديثة التى لا مكان فيها لمحاكم عرفية وأحكام شاذة تجعل الإنسان غريبا فى بلده.