اليسار والثورة


هشام غصيب
2012 / 2 / 15 - 09:42     

يجمع المراقبون على أن التنظيمات اليسارية في الوطن العربي لما تؤد دوراً محوريا في الثورة العربية الراهنة، لا من حيث المساهمة في اندلاعها ولا من حيث التأثير في مجراها وأحداثها.

صحيح أن مشاعر جل اليساريين العرب الجياشة انحازت بشكل جلي للثورة وشبابها. وصحيح أن العديد منهم انخرطوا وينخرطون في النضال الجماهيري، إلا أن التنظيمات اليسارية ظلت هامشية التأثير والفعل. كما إن الفكر الماركسي ما زال بعيداً عن وعي الشبان الذين أسقطوا الطغاة الفاسدين. كيف نفسر هذه المفارقة؟ ولماذا أعدها مفارقة في المقام الأول؟ بل، لماذا أعدها نوعاً من الفضيحة؟

إن المفارقة تكمن في طبيعة الفكر الماركسي. فالفكر الماركسي ثوري في جوهره. بل، يمكن القول إنه إما أن يكون ثورياً أو لا يكون البتة. فإذا أردت تعريفاً سريعاً للماركسية، قلت إنها مشروع ثوري مطلق الثورية يرتكز إلى فلسفة ثورية وعلم ثوري. إن الماركسية هي فلسفة الثورة وعلم الثورة. وقد ولدت من رحم الثورة والأوضاع الثورية، وبخاصة الثورة الفرنسية الكبرى وتراثها الثوري. بل إن مصادرها جميعاً مرتبطة بصورة أو بأخرى بثورات العصر الحديث. فالهيغلية هي التعبير الفلسفي الأبلغ عن الثورة الفرنسية الكبرى. والاقتصاد السياسي البريطاني هو التعبير الأبلغ عن وعي البرجوازية الصناعية الصاعدة والثورية. كما إن الفكر الاشتراكي والفكر المادي الفرنسيين كانا محركين ونتاجين للثورة الفرنسية الكبرى.

وعلينا ألا ننسى أن الماركسية هي في جوهرها نظرية الصراع الطبقي محركاً للتاريخ. ولما كانت الثورة الاجتماعية في جوهرها لحظة تجلي الصراع الطبقي، أي لحظة تفجر بركان الصراع الطبقي وظهوره على سطح الأحداث، باتت في جوهرها نظرية الثورة الاجتماعية. وقد كان كارل ماركس بالفعل أعظم دارس ومنظر للثورات والصراع الطبقي. إذ نشأ فكره من قلب الحراك الثوري من أجل الحراك الثوري. لذلك، لم يكن من قبيل المصادفة أن كتب ماركس وإنغلز “البيان الشيوعي” عشية اندلاع أعتى ثورات أوروبية في القرن التاسع عشر، ثورات 1848. كما لم يكن من قبيل المصادفة أن صاغ ماركس نظريته في الدولة السياسية في أعمال مثل ” الصراع الطبقي في فرنسا” و ” البيرومير الثامن عشر للوي بونابرت” على أساس تجربته الثورية وتجربة إنغلز الثورية في ثورات 1848. وعلينا ألا ننسى أن ماركس، عقب هزيمة ثورات 1848، انكب على دراسة الاقتصاد السياسي، ونقده لما ينوف على عقد من الزمان، ذلك الجهد الذي توج بكتاب “الرأسمال”، من أجل فهم الأسباب العميقة لإخفاق ثورات 1848، ومن أجل الكشف عن الإمكانات الحقيقية للثورة الكامنة في بنية الرأسمالية.

وعلينا ألا ننسى أيضاً أن التطوير الرئيسي للماركسية بعد موت ماركس وإنغلز جاء على يدي الثوري الأكبر في القرن العشرين، فلاديمر إليتش أوليانوف لينين، إذ عمق لينين القلب الثوري للماركسية في سياق مجابهته الضاربة لأولئك الذين كانوا يسعون إلى نزع فتيل الثورة من الماركسية، أي نزع القلب من الجسد. إذ طور لينين الماركسية لكي تتمكن من استيعاب راهنية الثورة البروليتارية في الربع الأول من القرن العشرين. فبنا نظرية الحزب الثوري الجماهيري، ونظرية الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي، وأداة تحقيقها، الكومنترن.

وهكذا نرى أن الماركسية والثورة صنوان لا يفترقان، وأن الثورة هي في القلب من الفكر الماركسي الأصيل. لذلك، يشعر المرء بالصدمة والفضيحة من الدور الهامشي للتنظيمات اليسارية الماركسية في الثورة العربية الراهنة، برغم تعاطف هذه التنظيمات الكبير مع الحراك الثوري، وبرغم انخراط أفراد يساريين بحماس فيه.

ما الخطب؟

هناك جدل (ديالكتيك) غريب يحكم تاريخ اليسار في النصف الثاني من القرن العشرين. فهذا التاريخ هو خليط مربك من الإحياء والتراجع. فالعديد من أحزاب اليسار الشيوعي تراجعت وتكلست في تلك الفترة. لكن تلك الفترة شهدت أيضاً صعوداً وإحياء للماركسية الثورية وبروزاً لماركسية ثورية جديدة في العديد من بقاع الأرض، وبخاصة في أميركا اللاتينية، التي اتخذت فيها الماركسية الثورية شكل حركة جماهيرية ثورية مستقلة نسبياً عن الحركة الشيوعية التقليدية، ولصيقة بالجماهير الشعبية ومنظماتها. أما في الوطن العربي فقد اتخذت طابعاً فكرياً عميقاً، لكنها أخفقت في التحول إلى تيار سياسي جماهيري فعال. وقد شهدنا نهوضاً عارماً في الفكر الماركسي واليساري الثوري العربي في سبعينيات القرن العشرين تحديداً (منيف الرزاز، غالب هلسا، سمير أمين، أحمد صادق سعد، مهدي عامل، حسين مروة، ياسين الحافظ، إلياس مرقص، صادق جلال العظم، طيب تيزيني، وغيرهم). لكن هذا الفكر النابض لم يترك أثراً كبيراً في التنظيمات اليسارية العربية ولا في صفوف الجماهير الشعبية.

لذلك، فعند انهيار الاتحاد السوفييتي وما صاحبه من تراجع مريع للحركة الشيوعية العالمية والأحزاب الشيوعية، ظلت الماركسية الثورية حية نابضة في أميركا اللاتينية، بل وتنامت وتطورت، برغم الانهيار السوفييتي والتراجع الشيوعي، حتى أضحت قوة جارفة في العقد الأخير. وأفلحت في إعطاء الديموقراطية الليبرالية مضموناً ثورياً واجتماعياً جلياً، وبخاصة في فنزويلا وبيرو. أما في الوطن العربي، فإن إخفاق الماركسية الثورية شبه المستقلة في التجذر والتحول إلى حركة ماركسية ثورية جماهيرية منظمة جعل من انهيار الاتحاد السوفييتي شبه انهيار للشيوعية العربية. وكانت من نتائج ذلك لبرلة الأحزاب الشيوعية العربية، أي استكمال تحولها إلى أحزاب ليبرالية تسعى إلى الانخراط في اللعبة السياسية البرجوازية. وأعدت نفسها في خمس القرن الأخير لا من أجل الثورة (كما سبق أن فعل الحزب الباشفي)، وإنما من أجل انتخابات برلمانية ونقابية وبلدية ضيقة ومحدودة ضمن إطار هيمنة البرجوازية.

لقد مالت البرجوازيات العربية الرثة، وبضغط أميركي وغربي، إلى تخصيص ملعب صغير ضمن إطار هيمنتها من أجل إلهاء قوى المعارضة باللعب العقيم فيه. وارتضت جل هذه القوى، بما في ذلك قوى اليسار العربي المدجن والملبرل ، أن تؤدي هذا الدور الشكلي التجميلي. وبدا وكأن أقصى ما كانت تطمح إليه هذه القوى هو توسيع الملعب السياسي قليلاً والحد من تغول السلطة البرجوازية على حيزه الصغير. وبدا أيضاً وكأن هذه القوى صدقت كذبة الإعلام الإمبريالي المهيمن المتمثلة في سلسلة من النهايات: نهاية الثورات، نهاية التاريخ، العولمة، نهاية أزمات الرأسمالية، نهاية الآيديولوجيا، نهاية الإمبريالية. صدقتها فعلياً، وإن نفاها بعضها لفظياً. وهيأت هذه القوى نفسها لرأسمالية مؤبدة عمادها السوق غير المقيدة وما يسمى اللعبة الديموقراطية (وهي ليست أكثر من لعبة في الوطن العربي). ونست هذه القوى أو تناست تبصرات ماركس وإنغلز ولينين بصدد الرأسمالية والإمبريالية والثورة الاجتماعية والديموقراطية الليبرالية وطبيعة الدولة الرأسمالية، والنقد الحارق الذي وجهه كلاسيكيو الماركسية إلى فكر الرأسمالية وواقعها.

لكن الواقع الموضوعي يظل أقوى من كل وهم آيديولوجي. لقد أغرقتنا الدعاية الرأسمالية بأفكارها الفجة في خمس القرن الأخير. وحفرت رؤوسنا حفراً حتى النخاع بتفاهاتها الفكرية. ووقعت الأغلبية ضحية لهذه الهجمة الفجة فكرياً الطاغية مادياً. ولم ينج من أثرها سوى حفنة صغيرة من المفكرين المتسلحين بوعي ماركسي نقدي أصيل. لكن الواقع التاريخي لا يرحم. وقلب هذا الواقع هو الحراك الجماهيري. فالجماهير الشعبية الكادحة على تماس مباشر مع هذا الواقع المرير. وهي لا تأبه بالأفكار الوهمية، كما يفعل المثقفون، حين يلسعها هذا الواقع بقسوته الحارقة. عند ذاك، تضرب عرض الحائط بكل هذه الخزعبلات الآيديولوجية وتتحرك، ولو عفوياً. وهذا بالضبط ما فعلته الجماهير العربية منذ نهاية 2010 في تونس ومصر واليمن والمغرب والبحرين وعمان والأردن والعراق وغيرها.

انتفضت هذه الجماهير وأطاحت بأسر فاسدة متسلطة، وهي ماضية، وإن ببطء، في مسيرتها الثورية. لكن هناك حدوداً لمسيرتها الثورية شبه العفوية. إذا أرادت الثورة العربية الاستمرار وتحقيق أهدافها التاريخية، فعلى الجماهير الثورية أن تنظم صفوفها وذاتها. لكن فعل التنظيم هذا ينطوي على إفرازها قيادات ثورية تعبر عنها وعن طموحاتها وتعزز منظماتها الثورية وتوحد صفوفها وتخطط وترسم برامجها وتنظم فعلها الثوري. أي، على الجماهير الثورية أن تنظم نفسها سلطة بديلة للسلطة القائمة.

إنه لمن المؤسف حقاً أن اليسار العربي لم يهيئ نفسه من أجل أداء دور في الثورة العربية، أي لم يسع في خمس القرن الأخير إلى تحويل نفسه إلى أداة ثورية، ولم يهيئ نفسه لأداء دور قيادي في الثورة العربية، لأن الحدث نفسه، حدث الثورة، أقصي من فضاء فكره وممارسته، وحل محله مفهومات برجوازية عقيمة لا تضيء قلب الواقع التاريخي، وإنما تجمله وتزوره وتخفيه. ففوجئ اليسار العربي بهذه الثورات كما فوجئت الإمبريالية والبرجوازية العربية الرثة. فوقف متفرجاً ومتعاطفاً ومهللاً لهذه الثورات من دون أن يضيف شيئاً يذكر إليها. وفي حين أفاقت الإمبريالية وحلفاؤها في المنطقة من صدمتها، وبدأت تخطط لاحتواء الثورة تمهيداً لتوجيهها وتصفيتها، ظل اليسار العربي في أغلبه مشلولاً لا يدري ماذا يفعل بأدواته وأفكاره الليبرالية العقيمة. لم يساهم في صنعها ويقف عاجزاً أمامها، لأنه لم يخطط البتة في خمس القرن الأخير لها وللحظتها.

ويبدو لي أن الخلل الأكبر في مسيرة اليسار عموماً، واليسار العربي خصوصاً، في خمس القرن الأخير تمثل في التخلي الفعلي عن اللينينية، أي الماركسية الثورية، فكراً ومنهجاً. إذ صدق اليسار العربي تحديداً كذبة انتهاء اللينينية بانهيار الاتحاد السوفييتي. فجوهر اللينينية تمثل في التحضير للثورة العالمية عموماً، والثورة الروسية خصوصاً. إذ تميز لينين عن أقرانه جميعاً بجدية سعيه إلى التحضير للثورة القادمة. فبنى فكر الثورة وتنظيمها. لذلك كان حزبه البلشفي العظيم مستعداً تماماً لقيادة الثورة وتوجيهها عندما شبت في بتروغراد عام 1917.

أما يسارنا، فقد تخلى عن إرثه اللينيني في اللحظة الخاطئة، مستعيضاً عنها بفكر ليبرالي فج عفا عليه الزمان، وسبق أن أوسعه ماركس نقداً موجعاً.



إن الثورة لفي حاجة إلى فكر ثوري. وأعظم فكر ثوري في التاريخ الحديث هو فكر لينين، فكر الماركسية الثورية. كما إن أعظم تجسيد تنظيمي حقيقي لهذا الفكر كان الحزب البلشفي بقيادة لينين. وعلى اليسار العربي أن يعود إلى ذلك التراث المنسي من أجل تملكه والانطلاق منه. نحن لا نقول إن عليه أن يحاكيه أو يقلده في ظروف تختلف عن الظروف التي أنتجته. كلا! فالمحاكاة أو التقليد مرفوض وغير ثوري في صميمه. لكن على اليسار أن يتمثل اللحظة اللينينية ويستعيدها ويتملكها وينطلق منها، مطوراً إياها أداة في فهم الثورة العربية الراهنة والتأثير في قلبها. عليه أن يستعيد روح الماركسية الثورية فكرياً وتنظيمياً وتطهير فضائه الفكري من أدران الليبرالية لكي يرى الواقع الثوري في حركيته وصيرورته ويدرك كيف يتعامل معه ثورياً وكيف يسعى لقيادة قواه الحية.

لقد استقال اليسار منذ أكثر من عقدين من دوره التاريخي. وعليه أن يستأنف مسيرته من جديد بالماركسية الثورية، باللينينية، قاعدة لفكره وممارسته. فالوضع أخطر بكثير من أن يترك لغيره.