مسؤوليّة اليسار في تاريخ تونس المعاصر


مصطفى القلعي
2012 / 2 / 8 - 23:18     

1. اليسار والاختزال اللاتاريخيّ:
ثمّة ملاحظة أجمع عليها المتابعون للواقع السياسيّ والثقافيّ لليسار في تونس تتمثّل في غياب الفعل النقديّ عند اليسار التونسيّ غيابا تامّا. وقد تحوّلت هذه الملاحظة إلى هاجس يؤرّق اليسار التونسيّ كلّه. فليس من المريح أن يغيب الفعل النقديّ عن الممارسة اليساريّة في تونس. والجميع يعلم أنّ العامل الجامع بين المنتمين لأيّ جناح من الأجنحة السياسيّة اليساريّة في تونس هو جامع إيديولوجيّ بالأساس. لكنّه سرعان ما تحوّل بينهم إلى رابط دوغمائيّ وثوقيّ نتيجة غياب الشرط النقديّ الذي يعدّ الأساس الأهمّ للفكر الماركسيّ الذي يفترض أن يكون المرجعيّة المركزيّة لتيّارات اليسار على اختلافاتها البراكسيسيّة.
وإنّ العجب والاندهاش ليصيباننا ونحن نرى اليسار التونسيّ مستمرّا على النهج نفسه رغم التحوّلات العاصفة التي شهدها المجتمع التونسيّ منذ مطلع سنة 2011. أليس من الغريب أن يسير اليسار دائما دون أن يلتفت إلى الوراء قليلا، ودون أن يتشوّف الآتي؟ إنّه لا يرى إلاّ ما بين قدميه فيما هو يتوهّم أنه يتقدّم. فهو يبدي هوسا عجيبا بالممارسة السياسيّة؛ السياسة باعتبارها تكتيكات ومناورات ومصالح ومكاسب وتحالفات خفيّة وعلنيّة غايتها في النهاية الوصول إلى الحكم.
لم يقف اليسار التونسيّ وقفة تأمّل. لم يلملم جراحه. لم يستدع كلّ مناضليه في الدّاخل وفي الخارج ممّن شرّدهم ونفاهم النظام النوفمبريّ المخلوع. لم يتناد اليسار إلى الحوار والنقاش بين أطيافه. بل إنّه أصرّ على خلافاته التي ورث أغلبها من الحياة الطلابيّة في مختلف الأجزاء الجامعيّة منذ سبعينيّات القرن الماضي. نرصد هذه الحال ونحن نراقب الدعوات الفاترة التي يتبادلها زعماء اليسار السياسيّ لتكوين جبهات سياسيّة استعدادا لخوض المحطّات الانتخابيّة القادمة. وهي دعوات أثبتت تشرذم اليسار السياسيّ التونسيّ وعجزه عن تكوين جبهة يساريّة تتجاوز الخلافات المنهجيّة والشخصيّة والزعاماتيّة القائمة بين مختلف تيّاراته. وقد تأكّد هذا التشرذم بعد أن رأينا بعض التيّارات اليساريّة(1) تدخل في أقطاب "ديمقراطيّة حداثيّة" بانوراميّة، فيما اختار بعضها الآخر أن يظلّ فريدا وحيدا(2)، ولا ندري إن كان ذلك تأنّيا مرحليّا أم هو خيار استراتيجيّ.
منذ انتصار الثورة الشعبيّة التونسيّة في خلع النظام النوفمبريّ الفاشي وفي طرد الجنرال الحاكم وعائلته وأصهاره الفاسدين من المشهد، لفتتنا أمور كثيرة. من أهمّها مرور اليسار السياسيّ التونسيّ مباشرة إلى أبواب وزارة الداخليّة يدقّها فرقا فِرقًا فرادى طلبا للإذن في ممارسة السياسة الميدانيّة العلنيّة الشرعيّة بعد أن أفنى عقودا في العمل السريّ. أمّا مشاكله وانقساماته وخلافاته فعالقة مؤجّلة، بل مهملة متروكة.
كما استطرف كلّ المتابعين للمشهد السياسيّ التونسيّ تراكض السياسيّين اليساريّين جميعا إلى استديوهات التلفزات والإذاعات وبلاطوهاتها يكتشفون بريقها وكواليسها وماكياجها ذاهلين مذهولين، متأنّقين بربطات أعناق ملوّنة زاهية، متحدّثين عن "متطلّبات المرحلة" مأخوذين بالصورة اليسوعيّة المسيحيّة التي ترسم للرموز منهم في هذا الإعلام المصاب باللوثة النوفمبريّة المزمنة.. شفاه الله.
ما نرغب في تسجيله بإلحاح، في هذه الآونة الفارقة من تاريخ تونس المعاصر، هو أنّ اليسار التونسيّ اختزل وجوده كلّه في الجانب السياسيّ الميدانيّ الجماهيريّ. وفي المقابل، أغفل الجانبين الثقافيّ والنقديّ إغفالا تامّا. ولا نستطيع أن نجزم بالداعي إلى إهمال الفعلين الثقافيّ والنقديّ من قبل اليسار السياسيّ التونسيّ؛ هل كان ذلك نتيجة ﻟ "شروط المرحلة" كما يحبّ أن يعبّر اليسار السياسيّ؟ أم نتيجة لخيارات استراتيجيّة تُقدِّم الميدان على الفكر؟ أم نتيجة لرؤية نفعيّة براغماتيّة آنيّة تستعجل الصراع الاجتماعيّ ضدّ قوى الردّة والصراع السياسيّ ضدّ السّلطة بعيدا عن السجال الفكريّ؟ أم نتيجة رؤية مغلقة لا تاريخيّة ترى أنّ الفكر الماركسيّ خارج عن الشرط الإنسانيّ وأنّه فكر قد اكتمل ولا مجال لإثرائه ومراجعة مسلّماته في ضوء المتغيّرات الكونيّة، وعلى اليسار التونسيّ حينها أن يلغي ألتوسير وديريدا ودولوز وريكور ولوكاتش وكلّ المجدّدين الماركسيّين؟ أم نتيجة عجز عن المساهمة في التأسيس الماركسيّ بفعل قصور معرفيّ ومنهجيّ واختيار الاكتفاء برفع الشعارات المدويّة الرّاجمة المفرغة من كلّ علاقة جدليّة بالواقع، اللهمّ إلاّ سلطة حاملها لاسيما إن كان من الخطباء شأن زعماء اليسار السياسيّ التونسيّ؟
2. اليسار السياسيّ التونسيّ والحضن النقابيّ:
لابدّ من الإشارة إلى أنّ اليسار التونسيّ، والحزب الشيوعيّ أساسا، نشأ في المجتمع التونسيّ منذ العشرينيّات. ونما في رحم الحركة النقابيّة إبّان الاستعمار الفرنسيّ مع الزعيمين محمد علي الحامّي وفرحات حشّاد خاصّة. غير أنّ اليسار استقرّ نشاطه في الساحة النقابيّة وحدها تقريبا. ولم يغادرها. وإنّما تشاركها مع غيره من الأطياف والتيّارات. وهي ساحة رحبة سمحة قادرة على ضمّ الجميع باعتبار طبيعة الصراع فيها. فهو صراع مطلبيّ مهنيّ ضدّ كلّ أشكال الاستغلال والاستلاب التي يمكن أن تصدر عن أرباب الأعمال المشغّلين سواء أكانت الدولة أم القطاع الخاصّ. ولم يكن أبدا صراعا إديولوجيّا في الظاهر على الأقلّ. لكنّ طبيعة الصراع النقابيّ هذه لم تخل من حالات التوظيف السياسيّ، كما سنرى لاحقا. ثمّ نما اليسار بعد الاستقلال لاسيما في الجامعة التونسيّة بفعل المدّ اليساريّ الذي عرفه العالم في نهاية الستينيّات وعلى امتداد السبعينيّات بعد أحداث ماي 1968 بفرنسا. ومنها انتشر في كلّ أنحاء الوطن بتفاوت طبعا.
كما لابدّ من الإشارة إلى أنّ خيارات النظام البورقيبيّ كانت تلتقي في أحيان كثيرة مع الأطروحات اليساريّة لاسيما فيما يتّصل بمسألتي الحداثة والعلمانيّة رغم تفضيله للخيار الليبراليّ اجتماعيّا والرأسماليّ اقتصاديّا مع سيطرة الدولة على القطاع العامّ وعلى مواردها وثرواتها الرئيسيّة.
غير أنّ هذا التقاطع صار لافتا حين قبل بورقيبة تبنّي النموذج الاشتراكيّ خيارا اقتصاديّا للدولة متجسّدا في تجربة التعاضد في نهاية الستينيّات. كما أضاف بورقيبة مصطلح "الاشتراكيّ" إلى اسم حزبه الدستوريّ. لقد كانت لبورقيبة حساسيّة خاصّة من الإسلام السياسيّ بحكم مشروعه العلمانيّ وتكوينه الفرنكفونيّ. وهو ما جعله أميل إلى اليسار. فبورقيبة هو الذي كان ميّالا إلى اليسار وليس اليسار من كان ميّالا إلى بورقيبة.
وقد انتهت الفترة البورقيبيّة بمشهد سياسيّ ملتبس بعد ظهور الإسلام السياسيّ ومزاحمته اليسار في الساحة الجامعيّة منذ مطلع الثمانينيّات. ولعلّ لنظام بورقيبة يد في نشأة الإسلام الطلابيّ في هذه الفترة لاسيما إذا وضعنا في الاعتبار الصراع العاتي الذي كان قائما بين اليساريّين والدستوريّين على خلفيّة مؤتمر قربة الطلابيّ الثامن عشر لسنة 1970. فيبدو أنّ من مخطّطات حزب الدستور لإضعاف اليسار وتشتيت جهوده النضاليّة، ملء الساحة الطلابيّة بالمناوئين لليسار من اليمينيّين. فالساحة الطلابيّة كانت مقسّمة بين اليمينيّين من دستوريّين وأطياف قوميّة وبين اليساريّين. لكن بدا للسلطة أنّ هذه القوى اليمينيّة لم تكن قادرة على دحر اليسار عن قيادة النضال الطلابيّ. لذلك، عمدت السلطة إلى مساعدة الإسلاميّين على التشكّل. وغضّت الطرف عنهم. وهي في ذلك تحاول قطع الطريق على الهياكل النقابيّة المؤقّتة التي كانت تناضل من أجل عقد المؤتمر الثامن عشر الخارق للعادة.
ومع ذلك، لم يكن النظام البورقيبيّ التونسيّ يرى اليسار خطرا على المجتمع والدولة المدنيّة. ولذلك لم يقع اضطهاد اليساريّين بسبب أفكارهم أو ولائهم للإيديولوجيّات اليساريّة. فيما كان تعامل السلطة مع الإسلاميّين، فيما بعد، مختلفا منذ نهاية الثمانينيّات، إذ عُدّوا خطرا كبيرا على السّلم المدنيّ وعلى المكتسبات الحداثيّة في المجتمع التونسيّ. ولذلك تمّ التعامل معهم بقسوة وشدّة وعنف. وهذا ما قرّب الجنرال بن علي من بورقيبة لاسيما بعد إبعاد محمد مزالي، الوزير الأوّل السّابق لبن علي، ورجل الدّولة القويّ في نظام بورقيبة، عن المشهد السياسيّ ولجوئه إلى الخارج. فقد يكون الإسلاميّون ورقة سياسيّة لعبها بن علي الذي كان المسؤول الأمنيّ الأوّل في البلد الموعود بالحكم لتخويف بورقيبة في آخر أيّامه ولتخوين أعوانه الأقوياء لاسيما محمد مزالي ولمراودة الغرب المذعور من الأرثوذوكسية الإسلاميّة بعبارة محمد أركون.
3. اليسار السياسيّ والمحنة النوفمبريّة:
إنّ الموقف الذي غلب على التونسيّين بعد انقلاب بن علي على تونس سنة 1987، هو موقف الاستبشار. ولم يكن استبشارا بحلول بن علي بقدرما كان تهليلا لزوال بورقيبة. فقد طغى الملل على أنفس التونسيّين. وانتاب الرّوتين الحياة السياسيّة التونسيّة. ومأتى ذلك اتّسام المشهد السياسيّ بالثبات بل بالجمود لاسيما بعد أن غلبت الزعيمَ بورقيبة نفسُه فهانت عليه فانتصب رئيسا مدى الحياة مدفوعا بشعور غامر بالعظمة مأتاه تضخّم صورته عنده بفعل سلوك المحاباة والمجاملة والتملّق والمديح والبندرة الذي كان يسلكه أعوانه ووزراؤه وحاشيته ومدّاحوه وحتى خصومه. فحوّلوا صورته عنده من كائن عابر مائت إلى صنم جامد هشّ آيل للتهشيم والتكسير بعد أن كان يمكن أن يكون رمزا خالدا مقيما في القلوب والأفئدة لا يموت، ولا يدركه البِلى.
ولم يكن التونسيّون يرون صورة رئيسهم كما يراها هو نفسه. فقد كانوا يرونه شيخا مرتعش اليد عاجزا عن الحركة والكلام. وكانوا يتساررون: كيف لهذا الشيخ أن يحكمنا وأن يسيّر دواليب الدولة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة الآنيّة العاجلة منها والاستشرافيّة؟ لقد تسرّب القلق إلى التونسيّين؛ قلق على حاضرهم وعلى مستقبل أبنائهم في ظلّ حكم الشيخ الصنم. لقد استشرى الفساد. والتبست المقاييس والمراجع والثوابت. وترنّح الاقتصاد. وتراكمت المشاكل. وملأ اللصوص جيوبهم، واستقلّوا الطائرات.
لذلك، هلّل التونسيّون للتغيير السياسيّ الذي طرأ على بلدهم. وقبلوا الرئيس الجديد قبولا سريعا دون أن يكلّفوا أنفسهم مؤونة السؤال: هل جاء بن علي باجتهاده أم جيء به بأجندات غير وطنيّة؟ لم يشكّكوا في دوافع الانقلاب. ولم يفكّروا في المنقلِب ولا في تاريخه ولا في نواياه. بل لقد أثنى الكثير على فتوّته وصلابة عوده ورشاقة مشيته وخصلات شعره المسدلة على صدغيه. لقد كانوا يرونه ولا يصدّقون أنّهم لن يروا مجدّدا اليدين المرتعشتين والحمل على الأكتاف والسباحة على الظهر في سواحل المنستير. وقد بدوا على عجل مسرعين لتجاوز المرحلة البورقيبيّة مدفوعين بطموح جارف نحو غد يتمنّون أن يكون أفضل.
اليسار التونسيّ كان هنا، في هذه المنطقة أعني؛ منطقة الهرولة لطيّ صفحة بورقيبة والتطلّع لأداء دور في بناء "تونس التغيير" بعد أن أفحمهم بيان 7 نوفمبر وأوهمهم بأنّ الجميع سواء في الحقوق والواجبات وبألاّ رئاسة مدى الحياة. خدعهم بن علي بالبيان. فانقادوا إلى الخديعة بيسر حتى إنّ بن علي نفسه لم يصدّق سهولة انخداعهم.
لقد فهم بن علي أنّ منافسيه السياسيّين مرنون ليّنون طيّعون، وأنّهم يتعاملون بالنيّة والوعد، وأنّهم ليسوا محترفين سياسيّين على اختلاف إيديولوجيّاتهم رغم محاولاتهم الجاهدة اليوم لإثبات عكس ذلك. لقد كانوا يدخلون إلى أجمة الأسد دخول شتربة، دون مخالب ولا أنياب ولا حتى قوائم سريعة للركض. يكفي أنّهم لم يبادروا إلى الفعل السياسيّ. بل اكتفوا بانتظار مبادرات بن علي نحوهم وأكفّهم متوثّبة للتصفيق الملتهب. غير أنّهم لم يتفطّنوا إلى أنّه كان قد قرّر أن يكنسهم وغيرهم من المختلفين عنه ومعه من المشهد السياسيّ التونسيّ.
ولم يطل الانتظار طويلا فجاء الميثاق الوطنيّ الذي ينظّم منطوقه الحياة السياسيّة ويضمن الديمقراطيّة وحقّ المشاركة للجميع. هكذا رآه رموز المعارضة التونسيّة من إسلاميّين ويسار(3) وليبراليّين وقوميّين وغيرهم. الجميع دُعِيوا فجاءوا مهرولين وأمضوا.. أمضوا على تسليم مفاتيح الوطن لقرصان متلصّص عميل لأعداء الأمّة.. أمضوا وعادوا مهرولين إلى زواياهم وحاناتهم يتبادلون التهاني والإعجاب بصدق حاكم قرطاج الجديد.. عادوا حالمين بالهبات والتسميات.
وكان اليسار هنا. لقد أمضى، فعلا أو ضمنا بالصمت، مع من أمضوا على الرهن دون ضمان ولا مقابل. لقد أمَّن اليسار بن علي على الوطن وأمِن إليه رغم أنّ اليساريّين كانوا يردّدون فيما بينهم بأنّه متورّط في دماء شهداء الحركة الطلابيّة من أبناء اليسار النقابيّ الطلابيّ على غرار الشهيد الفاضل ساسي وأبناء اليسار العمّالي على غرار الشهيد نبيل بركاتي.
وكان اليساريّون يردّدون بأنّ بن علي كان، بنفسه، يقود حملات الاعتقال في صفوف الحركة الطلابيّة. كما كان، بنفسه، يتولّى المهمّات القذرة كمحاصرة الكليّات والأجزاء الجامعيّة الثائرة ومداهمتها. ولا أحد أبناء هذا الشعب نسي أنّ بن علي كان السوط الذي سلّطه بورقيبة على الشعب التونسيّ إبّان انتفاضة الخبز سنة 1984. كما كشفت وثائق قصره في سيدي الظريف أنّه ضالع في التآمر على أمن الدولة في أحداث قفصة سنة 1980، وفي القصف الصهيونيّ لمدينة حمّام الشطّ مقام الفلسطينيّين وفي اغتيال أبي جهاد. كما كشفت نفس الوثائق أنّه كان عميلا للموساد.
ألمْ يكن أجدر باليسار، والحالة هذه، أن يطالب بكشف وجوه المجرمين وبتحقيق العدالة قبل الانخراط في العهد الجديد الذي بشّر به بن علي؟ وكان ذلك يمكن أن يكون عربون حسن نيّة ومشروع مصالحة وطنيّة بين اليسار وبين الجماهير الشعبيّة والنخب الثقافيّة والتيّارات السياسيّة المختلفة. أليس في قبول اليسار بالميثاق الوطنيّ والوثوق بالمشروع النوفمبريّ التفاف من اليسار نفسه على نفسه؟ لقد وثق اليسار بمن شيمته الغدر، وقد كان اليسار نفسه مَن يروّج ذلك في الساحة السياسيّة سرّا وجهرا. ومع ذلك أمضى. ومنح صكّ الغفران لمن يداه مصبوغتان بدماء المناضلين من أبناء اليسار.
فأيّ مسؤوليّة لليسار في تاريخ تونس المعاصر؟ وهل يجب على اليسار أن يعتذر عن أدائه السياسيّ الضعيف باعتبار أنّه كان يمارس السياسة بالنيّة واليُمن؟ لقد كان اليسار يفاخر بالعقلانيّة. ويجاهر بالعداء لإغراق العامّة في الخرافة واليمن والتطيّر. على أنّه كان يمارس، على مستوى الفعل السياسيّ، ما كان يجاهر بانتقاده وتهجينه.
لقد جاء اليسار من إيديولوجيّات تقوم على الفكر الماديّ المستند أساسا إلى عمليّتي النقد والتجاوز. لكنّه ترك هذه المقوّمات الإيديولوجيّة الأساسيّة. واكتفى بالمقولات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الاشتراكيّة اللينينيّة وحتى الستالينيّة يردّدها دون أن يمارسها في الغالب. فحوّلها إلى شعارات سرعان ما فقدت فاعليّتها بفعل الاجترار والتكرار كشعار "دكتاتوريّة البروليتاريا" و"العدالة الاجتماعيّة" و"العدل في توزيع الثروة" و"حماية الفلاّحين والعمّال" وغيرها.
أمّا الفعل النقديّ فغاب تماما أو كاد عن اليسار التونسيّ بفعل التنافر القائم بين اليسار السياسيّ واليسار النقديّ بوجهيه الأكاديميّ والثقافيّ. واستبدل اليسار السياسيّ الفعل النقديّ المفقود بمفاهيم "الميثاق الوطنيّ" و"متطلّبات المرحلة" و"الشروط الموضوعيّة" و"المصالحة الوطنيّة" وغيرها من الشعارات السفسطائيّة والمفاهيم المعوّمة المتنصّلة من المسؤوليّة التاريخيّة والتي كان أغلبها من منتجات ثقافة النظام الرسميّة. وهذه المفاهيم هي مفاهيم مضلّلة متوّهة ملتبسة في ذهن اليسار نفسه لأنّه يحاول أن يقنع نفسه بجدواها، وبأنّها مستجيبة ﻟ "خصوصيّات النموذج التونسيّ" لا للأمميّة الاشتراكيّة.
إنّ هذه المفاهيم نفسها هي التي شرّع بها اليسار لنفسه التغاضي عن سجلّ بن علي القمعيّ قبل 1987 بزمن، وتزكيته رئيسا جديدا لتونس والكفّ عن ملاحقته قضائيّا وعن مطالبته بالعدالة. فكيف يقبل اليسار التنازل عن دماء شهدائه؟(4) لقد سار اليسار مع الجميع وهو يدّعي النخبويّة وامتلاك القدرة على الاختلاف!! وقبِل أن يتخلّى عن خصوصيّته النقديّة وأن يفرغ يَسارِيّته من جوهرها وأن يتقاطع كثيرا مع الإيديولوجيّات الدوغمائيّة رفيقته في الإمضاء على الميثاق. لقد كفّ اليسار عن ممارسة الفعل النقديّ. فاستبدل، بعد 1987، صفته النقديّة بالدوغمائيّة وإن اختلف المقام؛ دوغمائيّة شركاء الميثاق في المسجد ودوغمائيّة اليسار في الحانات لا يكلّ منها ولا ينطفئ فيه العطش إليها.
استحوذ القرصان على الكنز بمفرده في الوقت الذي شرع فيه في توزيع الحصص من السجون والمنافي والطرد والاغتيال والملاحقة على شركاء الأمس في الميثاق. من هذه اللحظة، بدأ تاريخ امّحاء اليسار من المشهد السياسيّ التونسيّ وتلاشيه أمام انكشاف وجه بن علي الحقيقيّ للجميع؛ وجه الدكتاتور السادي الدمويّ النّهم للثروة المستعدّ حتى لكنس التونسيّين جميعهم من تونس. وكان اليسار ضحيّة نفسه أوّلا وضحيّة مكر المشروع النوفمبريّ ومكائده ثانيا.
4. اليسار السياسيّ وحركة التفتّت التاريخيّ القاصمة:
وجد اليسار السياسيّ التونسيّ نفسه بعد انقلاب بن علي على تونس ضعيفا مفكّكا. وانكفأ اليساريّون على أنفسهم يلعقون جراحهم ويتحاسبون ويتبادلون التّهم. ووجد اليساريّون أنفسهم في حالة عطالة سياسيّة. فضاقت بهم الحانات والمقاهي منذ مطلع السنوات التسعين. وبدأت محنة يساريّة جديدة في الظهور هي محنة التفتّت أشلاء والانقسام أجزاء ممّا زاد من هوان اليسار. وكان بن علي يراقب ويبتسم ونابه الذهبيّ يلمع. فلا أفضل له من هذا الواقع الجديد الذي تردّى فيه اليسار.
من "العامل التونسيّ" إلى "الشعلة" إلى "حزب العمّال الشيوعيّ" إلى "حركة الوطنيّين الديمقراطيّين" إلى "حزب العمل الوطنيّ الديمقراطيّ" إلى "حزب اليسار الاشتراكيّ" إلى "حركة التجديد" إلى ما سيفرّخ بعد الثورة من حركات وأحزاب يساريّة أخرى، إلى حال من الهزال والضعف والتشرذم في الساحة السياسيّة الوطنيّة تثير الشفقة والعطف بين الرفاق والسخرية والاستهزاء بين الخصوم والشماتة بين الأعداء.
لقد أثبت تاريخ تونس المعاصر أنّ حالة التشظّي والتفتّت التي آل إليها واقع اليسار التونسيّ بعد 1987 لم تكن دليل تنوّع وثراء. وإنّما كانت علامة على الخلاف والقطيعة وضيق الصدور والإغراق في الجدل الإيديولوجيّ، الماركسيّ اللينينيّ والماويّ والتروتسكيّ، اللاّمنهجيّ واللاّمعرفيّ واللاّتاريخيّ الدالّ على حركة ارتداد وانكماش لا على إثراء نظريّ ولا إيديولوجيّ.
والدليل على ذلك أنّ هذا الجدل لم يخدم الشعب التونسيّ. ولم يساهم في البناء الحضاريّ الحداثيّ الوطنيّ الذي توقّف الفعل المؤثّر فيه منذ لحظات خيرالدين باشا ومحمد بيرم الخامس وحسن حسني عبد الوهاب والشابي والحدّاد والمسعدي ومحجوب بن ميلاد والشيخين بن عاشور؛ الطاهر والفاضل، وبورقيبة، ليستمرّ مع مفكّرين أحرار من خارج اليسار السياسيّ على غرار عبد الوهاب بوحديبة وهشام جعيّط وأبي يعرب المرزوقي والطاهر لبيب وعبد الوهاب المؤدّب وغيرهم. أمّا اليسار السياسيّ فلا دور أساسيّ له في المكتسبات الحداثيّة للشعب التونسيّ، ولا دور له في تدعيمها نظرا لأخطائه الاستراتيجيّة التاريخيّة التي أشرنا إليها فيما سبق، ولافتقاره لهياكل فكريّة تسنده وتنجز مهمّة التنظير له.
لقد نجح الحكم النوفمبريّ في تفتيت اليسار وفي سلبه أحلامَه في المشاركة السياسيّة. لقد غدر به بكلّ بساطة. ووجد اليسار نفسه في عنق الزجاجة، إذ عليه أن يبرّر اختياراته ومواقفه وممارساته وسقطاته في أحضان بن علي لروّاده ومريديه ومناضليه، من جهة، وعليه أن يبحث عن مخابئ محصّنة عن أيادي أجهزة بن علي البوليسيّة والمخابراتيّة داخل الوطن وخارجه استعدادا للأيّام السوداء القادمة، من جهة ثانية.
بعد سنوات العسل الثلاث الأولى من حكم بن علي، جاءت أعوام التضييق. فتجفّفت قواعد اليسار. ووقع رموزه بين خيارات ثلاثة: الإغواء النوفمبريّ فالاستقطاب، أو التحييد والانقطاع عن الممارسة السياسيّة وعن الانتماء للعائلة اليساريّة والاكتفاء باليوميّ المعاشيّ، أو الإقصاء والطرد والمحاصرة والسجن والنفي. ورضي اليسار بالمكانة الصغيرة المقسومة له القاضية بانحشاره في زاوية مظلمة في ساحة الوطن الخلفيّة.
5. اليسار السياسيّ ضحيّة المؤامرة النوفمبريّة التجمعيّة الإعلاميّة:
لقد خسر اليسار التونسيّ الساحة السياسيّة التي استولى عليها بن علي بالكامل. وحده في المشهد كان الجنرال متربّعا. لا صورة إلاّ صورته في الشاشات والساحات والميادين والخمّارات والدكاكين والمواخير. ولا صوت إلاّ صوته في الإذاعات. ولا حديث إلاّ عن حكمته وتبصّره في المنتديات والأكاديميّات والمؤتمرات والمجالس وحتى في بعض الأحزاب لاسيما المصنّفة منها في خانة الموالاة على غرار حزب الخضر للتقدّم والحزب الاجتماعيّ التحرريّ وحزب الوحدة الشعبيّة وحركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين. ولا لون إلاّ لونه في الرّايات والقناطر والجسور والطرقات والبنايات والكشكولات والقبّعات وشمسيّات الحجيج. والبروباغندا النوفمبريّة والتجمعيّة في أوج عتيّها وصلفها كانت، إلى العماء تقود بن علي وإلى الخراب تقود الوطن. والبقيّة شعبا ونخبا ويسارا إلى الظلّ أُركِنوا.
وطوبى لإعلام بن علي في الداخل الذي غدر بنا وبتونس وباليسار فقدّمَنا، نحن التونسيّين، طبقا شهيّا له.. طوبى ﻟ "الإعلان" و"الحدث" و"لكلّ الناس" و"الصريح" و"التونسيّ" و"الحريّة" و"الصحافة" و"تونس7" وغيرها الناطقات بالعربيّة وبغيرها، إضافة إلى وكالة الاتّصال الخارجيّ الشهيرة وأصوات أعوان النوفمبريّة من أبناء اليسار أنفسهم على غرار برهان بسيّس والصحبي سمارة وسمير العبيدي ومن مؤلّفي "الثورة الهادئة" من أساتذة الفلسفة والقانون ومن الكتّاب والمثقّفين. هؤلاء جميعا جيّشهم جهاز بن علي لإبعاد اليسار وإعلاء بن علي بعد أن أجزل لهم العطايا والهبات.
الجميع شركاء في المؤامرة التي حاكتها الطغمة النوفمبريّة لتونس ولشعبها ولنخبها وليسارها. فلقد كان هذا الإعلام تتنافس قنواته ووسائله في إعداد الوطن مائدةً شهيّةً لبن علي. وكان التونسيّون يدفعون المقابل. يا إلهي.. ما هذا الرّعب؛ شعب يُؤكَل ثمّ يدفع ثمن أَكلته لآكله!! والفضل كلّه لإعلام الدّاخل المظفّر ولبعض إعلام الخارج المأجور.
6. انحسار اليسار سياسيّا والانكفاء إلى الساحة النقابيّة من جديد:
ماذا بقي لليسار بعد أن كنسه بن علي من الساحتين السياسيّة والإعلاميّة، وكنس نفسه من الساحة الثقافيّة؟ لم يبق أمامه إلاّ الساحة النقابيّة يعود إليها من مطلع التسعينيّات ملاذا وساحة لمقاومة بن علي ونظامه وحزبه الدستوريّ المتغوّل. ولابدّ أن نسجّل حالة التنمّر التي كان عليها اليسار في خوض كلّ المؤتمرات النقابيّة. لقد نشأت بين المنتمين لكلّ تيّار من تيّارات اليسار، أثناء الممارسة النقابيّة، ولاءات دوغمائيّة قائمة على أساس الولاء الشخصيّ لرموز اليسار المعروفين لا على أساس إيديولوجيّ فكريّ. ولم تنشئ هذه التيّارات اليساريّة قواعد مبنيّة على الإلمام بالفلسفة الماركسيّة ولا بقراءاتها التاريخيّة اللينينيّة أو التروتسكيّة أو الماويّة أو الألتوسيريّة. ولذلك لم تخل الممارسة النقابيّة لليسار من هنات ومآخذ أثّرت في الكثير من الأحيان على الأداء النقابيّ فيما يتّصل بالدفاع الميدانيّ عن مصالح الشغّالين. فممارسة اليسار النقابيّة لم تكن دائما نضاليّة. وإنّما خضعت أحيانا كثيرة لتجاذبات وحسابات وتكتيكات سياسيّة.
لقد كان القطاع العامّ في تونس قويّا وضخما من حيث الإمكانيّات وعدد العمّال والموظّفين. وكان عدد الطلاّب الجامعيّين يزداد بنسب عالية كلّ سنة بفعل تدخّل النظام النوفمبريّ بتعليمات من رئيسه في نتائج الامتحانات الوطنيّة، لاسيما البكالوريا، لتضخيمها واستعمالها وسيلة لمساومة الغرب والجهات المانحة بحثا عن الهبات والمساعدات والقروض الماليّة. ونظرا لتضخّم عدد الطلاّب الجامعيّين ولتراكم الأجزاء الجامعيّة في كلّ أنحاء البلد، رصّ اليسار التونسيّ صفوف مناضليه للانخراط في الصراع النقابيّ بنوعيه المهنيّ والطلابيّ. فهو يعلم تمام العلم أنّه قادر على إيلام النظام النوفمبريّ وعلى تسديد ضربات موجعة له من خلال النضال النقابيّ رغم أنّ المقابل كان باهظا في أحيان كثيرة. بل إنّ اليسار يمكن أن يستثمر نضال النقابيّين ورقة ضغط سياسيّة يلوّح بها ويحرّكها متى رغب في تحريك طلب سياسيّ مّا.
غير أنّ النظام النوفمبريّ كان أيضا يعي حجم هذه الساحة النقابيّة. وكان يعلم أيضا أنّها ساحة غير موالية وخارجة عن سيطرته رغم استراتيجيّاته الطويلة في استمالة الهياكل النقابيّة العليا وفي إغوائها. لذلك خطّط للتفريط في القطاع العامّ لرأس المال الوطنيّ والأجنبيّ مبرّرا ذلك بالالتزام بمحتوى اتّفاقيّات الشراكة المبرمة مع الجهات الدوليّة كالاتّحاد الأوروبيّ وبنوك التمويل الدوليّة. وإمعانا في التمويه سمّى النظام النوفمبريّ هذا التفريط استثمارا وجلبا للعملة الصعبة تشرف عليها لجنة عليا سمّاها اللجنة العليا للاستثمار التي ظلّ يشرف عليها الوزير الأوّل محمد الغنوشي طيلة الإحدى عشرة سنة الأخيرة قبل أن يخلع الشعب التونسيّ بن علي وعائلته في انتظار الانتهاء من خلع نظامه.
ولإنجاح مشروعه في التفريط في القطاع العامّ وظّف النظام نخبة عالية من أهل الاقتصاد والقانون والإعلام والسياسة. وقد كشفت لجنة تقصّي الحقائق حول الرّشوة والفساد أنّ ملفّات تصفية القطاع العامّ وملفّات الاستثمار كانت بين يدي بن علي نفسه في غرفة نومه مخبّأة لا يستأمن عليها أحدا.
ولهذا كان الصراع النقابيّ متعدّد الوجوه؛ الوجه الأوّل الحفاظ على القطاع العامّ، والوجه الثاني التصدّي لمشاريع التصفية، والوجه الثالث توجيه النضال النقابيّ وجهة سياسيّة. فالوجهان الأوّل والثاني وطنيّان. والوجه الثالث سياسيّ؛ وطنيّ أحيانا ومصلحيّ أحيانا أخرى.
السّاحة الطلابيّة كانت أيضا مسرحا للصراع بين اليسار وبين السلطة. فقد عملت أجهزة النظام على ترهيب الطلبة المناضلين بفبركة القضايا الجنائيّة والجناحيّة لهم. وهو ما يؤول بهم إلى السجون وإلى الحرمان من حقّ التعلّم بفعل الطرد من الجامعات. وهو ما يضطرّهم إلى أحد خيارات أربعة؛ مواصلة النضال والاستعداد لمزيد التضحية، أو قبول الحكم الجائر والرضا بالتشرّد والبطالة مصيرا، أو السفر خارج الحدود بحثا عن آفاق أفضل، أو التجاوب مع مغازلات السلطة.
وممّا يلفت الانتباه هنا، أنّ الخلاف الإيديولوجيّ الناشئ بين أطياف اليسار قد انتقل معه من الساحة السياسيّة إلى الساحة النقابيّة. ولا نستطيع ألاّ نسجّل ذلك. بمعنى أنّ كتل اليسار انتقلت كما هي باختلافاتها وانقساماتها وحتى عدائها لبعضها بعضا إلى العمل النقابيّ. فلا حالَ وحّد اليسار. ولا وضْعَ لطّف من خلافاته. ولا عدوَّ دعاه إلى التوحّد. ولا ساحةَ بدّدت انقساماته. فهل اليسار التونسيّ انقساميّ بطبعه؟ هل هو واحد متعدّد أم متعدّد في غير وحدة؟
إنّ حالة الانقسام والتفتّت هذه أضعفت أداء اليسار نقابيّا كما كانت قد أضعفته سياسيّا سابقا ولا تزال تفعل اليوم. لقد جعلته، إلى جانب الضعف، هشّا سهل الاختراق في المحطّات الانتخابيّة النقابيّة كمؤتمر المركزيّة النقابيّة ومؤتمرات النقابات المهنيّة العامّة ومؤتمرات الاتّحادات الجهويّة والمحليّة ومؤتمرات النقابات الأساسيّة. وبسبب هذا الضعف والانقسام لم يتمكّن اليسار من السيطرة على الساحة النقابيّة. بل لقد تمكّنت تيّارات أخرى، لاسيما التيّارات القوميّة بمختلف أصنافها، من حيازة مواقع لها في الهياكل النقابيّة في مستوياتها جميعا.
لقد كان النظام النوفمبريّ المخلوع مطّلعا على خلفيّات الساحة النقابيّة بفضل أجهزته المخابراتيّة والبوليسيّة والإداريّة. غير أنّه من التاريخيّ أن نسجّل عجز ذراعه السياسيّ أي حزب التجمّع الدستوريّ، رغم محاولاته المتكرّرة، عن التسلّل إلى العمل النقابيّ في أغلب القطاعات لاسيما في نقابات البريد والصحّة والعدليّة وخاصّة التعليم بمختلف قطاعاته. غير أنّ حزب التجمّع الدستوريّ المتلاشي في التاريخ كان قد تمكّن من النفاذ إلى العمل الجمعيّاتيّ، بل والسيطرة على أغلب مجالاته باستثناء جمعيّة القضاة والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئة المحامين وجمعيّة النساء الديمقراطيّات.
بعد تفجّر ثورة يناير/ جانفي 2011، التحق اليسار بالساحة السياسيّة من جديد. فهل ترك اليسار الساحة النقابيّة نهائيّا، وتنازل أخيرا عن العمل النقابيّ لأهله النقابيّين؟ أم هل سيحتفظ بمكانته القويّة فيها انتظارا لما ستؤول إليه المرحلة القادمة؟ كما تجدر الإشارة إلى أنّ اليسار عاد من جديد إلى الساحة السياسيّة الوطنيّة في تونس بخلافاته وانقساماته نفسها التي سبق الحديث عنها.
7. اليسار واللحظة الفارقة:
سأصوغ تحليليّ لهذا العنصر صياغة استفهاميّة في شكل حشد من الأسئلة تتطارح ملحاحة في الذهن. لماذا اختُزل اليسار التونسيّ في اليسار السياسيّ؟ هل يمكن فصل الإيديولوجيا عن السياسة تماما كما يفصل الدين عن السياسة؟ هل يمكن الحديث عن لائكيّة إيديولوجيّة؟ هل يمكن تطوير مفهوم اللائكيّة ليصبح دالاّ على فصل كلّ الوثوقيّات والدوغمائيّات عن السياسة كما نادى بذلك أركون؟
لماذا حصر اليسار حديثه وتدخّلاته فيما يتدخّل فيه الجميع؛ نعني في مسائل التنمية الجهويّة والبطالة والصحّة والعمل؟ أين مشاريع اليسار التربويّة والتعليميّة والإيكولوجيّة؟ أين بدائله الفكريّة والثقافيّة؟ أين مشاريعه الاستراتيجيّة والاستشرافيّة؟ كيف سيتعامل، من خلال خلفيّاته ومراجعه الإيدويولوجيّة، مع معطيات المرحلة عاجلا وآجلا؟ ما موقف اليسار من القضايا العالميّة الرّاهنة لاسيما قضيّة العولمة والشراكات الاقتصاديّة والمشاريع الوحدويّة والتكتّلات الإقليميّة والقاريّة والعلاقات الجيوسياسيّة العالميّة والإرهاب والرأسماليّة العالميّة؟
هل يرى اليسار السياسيّ نفسه جاهزا للحكم؟ هل له اطّلاع على آليّات تسيير دواليب الدّولة؟ هل هو ملمّ بأجهزة الدولة وبمؤسّساتها؟ ألَه اطّلاع على خصوصيّات العمل الديبلوماسيّ وأفانينه؟ هل ألمّ بأدبيّات السلطة؟ هل فكّر اليسار في إقامة دورات تدريب وتكوين سياسيّ لكوادره؟ هل خطّط اليسار لإنشاء أكاديميّات سياسيّة في المدى القريب؟ لماذا اكتفى اليسار بالاجتماعات العامّة المروّجة للشعارات والخطب الحماسيّة؟ هل من أولويّات اليسار تشكيل الرّأي العامّ أم تعبئة الرّأي العامّ؟ هل يعوّل اليسار على الوعي القائم للرّأي العامّ أم يرى أنّه من الضروريّ إعادة تأسيسه بعد عقود التغييب والتجييش للتصفيق والتغييب الفعليّ عن صناعة الشّأن العامّ؟
لماذا لا يعيد اليسار طرح مسألة الليبراليّة للنقاش؟ أليس من مشمولاته أن يحاول أن يبيّن أنّ تخندق الليبراليّة في صفّ خدم الرأسماليّة والامبرياليّة والصهيونيّة ليس إلاّ مرحلة عابرة وخيارا مرحليّا ضيّقا لا يلغي قيمتها الاجتماعيّة والتاريخيّة التي لابدّ من استردادها؟ كيف يتنازل اليسار التونسيّ، أسوة باليسار العالميّ، بمثل هذا اليسر عن مفاهيم ثوريّة إنسانيّة كمفهوم الليبراليّة لخصومه الطبقيّين والإيديولوجيّين؟
ما هي خيارات اليسار التي سيعمل على تفعيلها والدفاع عنها؟ لماذا يقاد اليسار فينقاد بسلاسة ويسر؟ لماذا لا يتحوّل اليسار من منقاد إلى قائد صانع لإشكاليّاته وحواراته؟ أين مكابحك يا يسار؟ وأين كفاءاتك وإمكانيّاتك؟
ماذا يسمّي اليسار السياسيّ اليساريّين والشيوعيّين المنتشرين في كلّ القطاعات بعيدا عن السياسة؟ هل يراهم يسارا أم لا؟ هل يهتمّ هؤلاء اليساريّون غير المسيّسين بالشأن السياسيّ؟ هل سيمنحون أصواتهم للأحزاب اليساريّة؟ هل يؤمن اليسار غير المسيّس باليسار السياسيّ؟ هل سيخرج اليسار الأكاديميّ من برجه العاجيّ ليشارك في الحياة العامّة؟ هل يرى اليسار الأكاديميّ والثقافيّ اليسارَ السياسيّ ممثّلا له؟ كيف ينظر كلّ منهما إلى الآخر؟
هل يطرح اليسار السياسيّ هذه الأسئلة؟ هل بحث عن صنوه غير المسيّس؟ هل تحاور معه؟ هل استماله؟ هل استعدّ اليسار لمقاومة الرّثاثة الإبداعيّة والبؤس الفكريّ الغالبين على المشهدين الثقافيّ والسياسيّ في تونس بفعل تعرّضهما للعدوان الدستوريّ النوفمبريّ الطويل؟ هل يسير اليسار السياسيّ منذ تفجّر الثورة التونسيّة في الاتّجاه الصحيح أم يحتاج إلى تصحيح المسار قبل أن يتوه في السراب؟
هل يمكنك أيّها اليسار التونسيّ أن تحلم بإبداع درب يساريّ جديد؟ هل أنت واع بهذه الفرصة التاريخيّة التي منحك إيّاها الشعب التونسيّ لتنفض عنك الدوغمائيّات الإيديولوجيّة النّائمة ولتنتج قراءة تاريخيّة للماركسيّة متجادلة مع واقعها وثقافتها في ضوء المتغيّرات الثوريّة التي تهزّ المجتمعات العربيّة في مطلع الألفيّة الثالثة؟

--------------------------------------------------------------------
(1) على غرار حركة الوطنيّين الديمقراطيّين والحزب الاشتراكيّ اليساريّ وحزب العمل الوطنيّ الديمقراطيّ التي انخرطت جميعها ضمن المجموعة التي تطلق على نفسها "القطب الديمقراطيّ الحداثيّ" الذي يضمّ تيّارات يساريّة وقوميّة وليبراليّة ووسطيّة بعضها معروف وبعضها ناشئ، وهو قطب دعت إلى تشكيله حركة التجديد اليساريّة، وريثة الحزب الشيوعيّ التونسيّ والتي كانت مؤشّرا لها زمن بن علي. غير أنّ هذه الأطراف اليساريّة تراجع أغلبها عن تحالفه المذكور. ولازالت تتخبّط بحثا عن سبل الخلاص.
(2) نقصد حزب العمّال الشيوعيّ التونسيّ أساسا.
(3) باستثناء حزب العمّال الشيوعيّ التونسيّ الذي رفض الإمضاء على الميثاق الوطنيّ، وهذا ثابت تاريخيّا.
(4) لم نسمع إلى حدّ الآن عن أنّ أيّ حزب من الأحزاب اليساريّة قد رفع قضيّة ضدّ بن علي عن جرائم القتل التي ارتكبها في حقّ مناضلي اليسار وشهدائه، ولم يصل إلى علمنا أنّ أيّ طرف من أطراف اليسار يعمل على طلب فتح تحقيق في ذلك. لماذا؟ أللتبرير القديم نفسه؛ "شروط المرحلة"، وهي الآن تقتضي الاستعداد للبناء الجديد وتناسي تنظيف القديم؟ هل قدر اليسار أن يظلّ تاريخه تاريخ الكُوى المظلمة؟ لماذا لا يكشف اليسار تاريخه؟ لماذا لا يعدّ أجندة لذلك؟ لماذا لا يقتصّ من أعدائه التاريخيّين؟ هل في هذا الموقف إصرار على تبرئة بن علي من جرائم ما قبل 1987؟ جرائم بن علي تعود إلى اللحظة التي استلم فيها إدارة الأمن، أي قبل انقلابه على تونس بسنوات. فأين اليسار من فكرتي القصاص والعدالة؟ لعلّه من المثير للغرابة أن نسجّل أنّ رموز اليسار السياسيّ الذين لم يطالبوا بالعدالة للضحايا من أبناء اليسار وشهدائه نراهم لا يتركون مناسبة تمرّ دون التذكير بضرورة توفير الحقّ في المحاكمة العادلة لرموز النظام النوفمبريّ المخلوع!! ما كلّ هذا الإيثار!! ما كلّ هذه الأصالة!!