قطاع الصحّة في تونس: تكريس لاستغلال الكادحين وإتاحة فرصة التسلّق الطبقيّ للطبّ العامّ


مصطفى القلعي
2012 / 2 / 2 - 23:38     

• الطبيب في المجتمع:
إنّ الوضع الذي يرصده هذا المقال يصف ما كان قائما منذ السنوات الأربع الأخيرات للنظام النوفمبريّ المخلوع إلى اليوم ما يزيد قليلا عن سنة بعد الثورة*. لماذا الحديث عن الطبّ العامّ؟ لأنّه طبّ قريب من المواطن، وأمره يعني الجماهير الكادحة. وطبيب الطبّ العامّ أو الحكيم باللهجة المشرقيّة هو أوّل المستفيدين من أمراض أبناء الشعب قبل أن يتداول عليهم المختصّون ومخابر التحليل ومراكز الأشعّة وغيرها. والتونسيّ لا فُضّ فوه حين يعبّر بعامّيته التي نادرا ما ألجأ إليها عن حرص الطبيب على مستحقّاته الماليّة، فيقول: "ياخذ بايو على بكري" ما ترجمته باللسان العربيّ الفصيح: "يحصل على نصيبه مبكّرا قبل الآخرين".
وإثارة هذا الموضوع تدخل في إطار إثارة المسألة الصحيّة والقضيّة العلاجيّة في المجتمع التونسيّ بعد الثورة. ولابدّ من الإشارة إلى أنّ القطاع الصحيّ قطاع شاسع. وهو قطاع مناضل نقابيّا. وماانفكّ أهله والقائمون عليه، لاسيما الإطار الطبّي وشبه الطبّي، يقدّمون أجلّ الخدمات وأسماها لشعبهم ولكلّ مريض طلب العلاج. بقي لابدّ، أيضا، من فتح الملفّات العالقة ومن إثارة القضايا المتّصلة بهذا القطاع لتحفيز أهله والجهات والهياكل المتدخّلة فيه للتطوير والتجديد ولتحسيس الرّأي العامّ بدقّة قضايا هذا القطاع ولإشراكه فيها.
الطبيب صورته مركّبة في مجتمعنا. فهو رمز لذلك الكائن القادر على إضحاك المتألّم بإزالة ألمه (غالبا)، وهو، في الآن نفسه، رمز للكائن المتبرجز الثريّ المرّفه الذي يعيش في فضاء مغلق لا يكاد ينفتح على بقيّة فئات المجتمع. فصديق الطبيب غالبا طبيب. وكذلك جليسه ونديمه وصهره وقرينه وما شئت. وهو الكائن الأنيق الهادئ المتّزن. وهو المحترم الذي تكون مخاطبته بصفة: دكتور. وهو لا يقبل بغيرها صفة. فلا يقال له مثلا يا سيّد فلان. وهو الذي لا يحسد على ثروته وإن كان يُغبط سرّا.
الطبيب هو صاحب إحدى الضيعات الكبيرة في القرى. وهو صاحب أحد المنازل الفاخرة. وهو الموزّعة عقّاراته هنا وهناك في أكثر من مكان. وهو صاحب إحدى السيّارات المرفّهة. وهو الصورة الأمثل للاقتداء عند الأولياء. وهو المجمِّع لأكبر قدر من المال بأقلّ نقطة عرق، بل الأسلم أنّه لا يتعرّق أثناء عمله. فهو لا يبيع شيئا ولا يشتري. وهو لا ينقل بضاعة قد تفسد من مكان إلى آخر. ولا يصيح عليها مناديا مشهرا. وهو لا الذي لا يتضرّر نقص دخله بِعيدٍ ولا بموسم ولا بمناسبة. وهو لا يخشى الأزمات الاقتصاديّة. بل يتضاعف مهما كانت الظروف. هو ببساطة ثابت في مكتبه الوثير المكيّف النظيف والمال يأتي إليه. فبعد 10 دقائق أو ما يزيد عنها بقليل يقبض مالا من زائره. والزّائر يدفع دون أن يناقش. فهو ينقد الطبيب الذي شفاه أجرته.. وهذا يسعده.
• الطبّ العامّ والكنام: طريق الإثراء:
سأقدّم قراءتين لمشروع الكنام: الأولى تقنيّة والثانية نقديّة طبقيّة.
- القراءة التقنيّة: تاريخ غرّة جويلية لسنتي 2007 و 2008 تاريخ لا يمكن أن ينسى أطبّاء الطبّ العامّ أفضاله عليهم. فالغرّة ذكرى سعيدة مباركة على أطبّاء الطبّ العامّ. بها يحتفلون. وبها، يتباركون. فبفضلها خرجوا من التهميش ومن الدّرجة الثانية التي حشروا فيها قياسا إلى أطبّاء الاختصاص الذين كانوا لا يحترمونهم ولا يعيرون تقاريرهم ورسائلهم الطبيّة بالاً. الغرّة نقلت الطبّ العامّ من الهامش إلى المركز.. من الظلّ إلى الصدارة.. من الطبقة الوسطى إلى الطبقة الميسورة المرفّهة.
تنفيذا لمخطّطات النظام النوفمبريّ المخلوع في بيع القطاع العامّ لرأس المال، شرع الكنام** في غرّة جويلية 2007 في التكفّل بمصاريف الخدمات الصحيّة المسداة في المجالات الطبيّة لدى القطاع الخاصّ إلى جانب قائمة محدّدة في العمليّات الجراحيّة. أمّا في المرحلة الثانية التي انطلقت منذ غرّة جويلية 2008، فقد تمّ الانفتاح الكليّ على القطاع الخاصّ في مجال العيادات الخارجيّة سواء تعلّقت بأمراض ثقيلة أو مزمنة أو عاديّة وفق الصيغ الثلاث: المنظومة العلاجيّة العموميّة، المنظومة العلاجيّة الخاصّة، نظام استرجاع المصاريف.. ولا مفرّ. ويأتي السّقف الذي يعاقب المريض إذا جاءه المرض!! يعني إذا مرض المكفول أكثر من الممكن لا تغطّي الكنام نفقات علاجه. فعليك أن تجد صيغة للاتّفاق مع المرض أو أن تدفع للطبيب والصيدليّ اللذين ينتظرانك.
- القراءة النقديّة الطبقيّة:
كان الطبّ العامّ يعدّ درجة ثانية في القطاع الصحيّ ماديّا ومعرفيّا وفي مستوى الهرميّة الطبيّة مقارنة بأطبّاء الاختصاص سواء في المستشفيات العموميّة أو في المصحّات الخاصّة. كان أطبّاء الطبّ العامّ أقلّ ثراء من أطبّاء طبّ الاختصاص. بل إنّ أطبّاء الطبّ العامّ كانوا أقلّ شأنا وأقلّ حظوة واحتراما في قطاعهم وفي المجتمع. والسّبب ماليّ متّصل بحجم الثّروة أساسا. ولا أدري ما الذي دعا الكنام إلى العمل على تعديل قيمة الرّبح بين أطبّاء الطبّ العامّ وأطبّاء الاختصاص؛ أهو ذاتيّ أم موضوعيّ؟ والسؤال هو: بماذا قابل أطبّاء الطبّ العامّ هذا السّخاء؟
بفضل مشروع الكنام ذي الغرّة المذكور، استفاد أطبّاء الطبّ العامّ من إثنتين من منظومات الكنام الثلاث: منظومة استرجاع المصاريف والمنظومة العلاجيّة الخاصّة (طبيب العائلة أو منظومة الثلث المدفوع)؛ والثانية هي الملعب الجديد للطبّ العامّ الذي مكّنه من التسلّق الطبقيّ بفضل ارتفاع نسبة عوائده من الأرباح التي كانت تذهب إلى جيوب أطبّاء الاختصاص من أموال الجماهير الباحثة عن الصحّة وقد أنهكها الاستغلال الرأسماليّ. فالطبيب يضمن زبائن قارّين من أصحاب الأمراض المزمنة ذوي الأدوية القارّة. فهؤلاء في أغلب الأحيان يكونون من كبار السنّ فلا يتنقّلون إلى عيادة الطبيب وإنّما أحد أفراد العائلة يفعل والطبيب يقدّم له الوصفة ويملأ الفاتورة غيابيّا طبعا.
هذا ما فعلته الكنام بالضبط: مال الكادحين كان يدفع بسخاء لأطبّاء الاختصاص والمصحّات الخاصّة، بعد إفقار المستشفيات من التجهيزات والإطار المختصّ والاحترام وحسن المعاملة، فاقتطعت منه نصيبا ومنحته لأطبّاء الطبّ العامّ. بمعنى آخر ما قامت به هو تعديل للثروة بين الأطبّاء. أمّا الكادحون فدافعون لهذا أو لذاك. يعني أنّه تكريس لتلك العلاقة الماديّة المريضة بين الطبيب والمريض.. تكريس للطبقيّة المقيتة .. مراكمة لثروة الأطبّاء وإيغال في تفقير الكادحين.
وطبيب الطبّ العامّ يثري من الفقراء والكادحين بممارسة استراتيجيا لا تخلو من انتهازيّة وزيف ورغبة عاتية في الاستغلال تتمثّل في الانتصاب بينهم في أحيائهم الفقيرة ذات الأولويّة ومجاملتهم وحتى مشاركتهم بعض شؤونهم والتنقّل بينهم بسيّارة شعبيّة، في حين يكون مقرّ سكناه في الأحياء الرّاقية أين يعيش حياة مرفّهة سياحيّة ويتنقّل في سيّارة فاخرة بعد أن يملأ محفظته وحساباته البنكيّة يوميّا وأسبوعيّا من أموالهم.
فما هي آليّات الرّقابة التي وضعتها الكنام لمراقبة أطبّاء الطبّ العامّ؟ كيف تضمن الكنام حقّ المكفول؟ كيف تتجرّأ الكنام على أن تطلب من المكفول أن يدفع لها ما دفعته عنه للطبيب بدعوى تجاوز السّقف؟ مائتا دينار سقف التغطية.. تصوّروا في بلد يساوي فيه كيلوغرام اللحم 20 دينارا (15 دولارا تقريبا) وعلبة المضادّ الحيويّ 40 دينارا (30 دولارا) وقارورة شراب السّيرو 8 دنانير وأجرة طبيب العائلة بين 20 و25 دينارا..؟ الكادحون تآمرت عليهم الديكتاوريّة النوفمبريّة. وتراخى اتّحاد الشغل في الدّفاع عنهم. ومرّرت الكنام مشروعها خِدْمة للأطبّاء خَدَمة السّلطة. فلا ننسى أنّ بن علي استولى على السّلطة بمؤامرة نفّذها الأطبّاء. وكم امتلأت، وليس بالعهد من قدم، شعب التجمّع الدستوريّ وخلاياه ولجانه بالأطبّاء!
لقد حصل الطبّ العامّ على نصيبه ونصيب غيره في الثروة فهل أدّى دوره في التدرّب والتكوين والرّسكلة أسوة ببقيّة القطاعات؟ هل رأيتم يوما طبيبا عامّا يتلقّى تكوينا؟ هل سمعتم ببرنامج تكوين أعدّته وزارة الصحّة للطبّ العامّ؟ هل الطبّ العامّ مواكب للتطوّر في ميدانه؟ أليس من حقّ المريض أن يراقب طبيبه؟ ألا يحقّ له في مراقبة تكوينه وترقّيه ومتابعته المعرفيّة بما أنّه يراكم ثروته؟ كيف يضمن المريض أنّ الطبيب لا يغشّه؟
أيّتها الكنام الغرّاء.. أيّتها الكنام..
أمّا أنتم أيّها الكادحون فلكم ما لكم.
------------------------------------------
*مطلع فبراير 2012 تاريخ كتابة هذا المقال.
**الكنام: اختصار للصندوق الوطنيّ للتأمين على المرض:(caisse nationale d’assurance maladie)