مجزرة تثير ذكرى مجزرة


محمود جلبوط
2012 / 1 / 27 - 20:24     

بددت المجازر التي يرتكبها النظام اليوم في عموم سوريا , والتي ندرت في التاريخ البشري على مدار صراعات البشر , جهدا مضنيا كنت قد بذلته على مدار ثلاثيني السابقة للخروج من هذيان مزمن أصبت به بسبب تجربة شخصية من الاعتقال ألمت بي إثر توزيع ما يعرف "ببيان التجمع" استغرقت كل مرحلة شبابي , وذلك جراء ما شاهدت عند مطالعها في عالم النظام السفلي : أمن السرايا والأمن الجوي في مطار المزة وجديدة عرطوز والأركان إلى فرع التحقيق العسكري الذي جمعني مع رفيقي الشهيد أحمد المهدي ومحسن عسكر وفريد حداد الذي كان يقبع في المهجع المقابل لمهجعنا , إلى جانب الرفيقين حسام علوش وجفان من رابطة العمل الشيوعي , وذلك في مطلع ثمانينات القرن الماضي . بل إن ما شاهدته من عنف لا إنساني مارسه جلادي النظام بحق الآخرين كان يصيبني بالخجل أمام ما تعرضت له شخصيا ورفاقي من تعذيب على الرغم من قساوته (قد ميزني جلادو النظام عن رفاقي أثناء حفلات التعذيب بسبب تابعيتي الفلسطينية ببعض من الدواليب والشبح والفسخ والأكبال الزيادة)ولكن , والحق يقال , لا يمكن مقارنته لا من قريب ولا من بعيد بما مارسوه بحق من اتهموا على قائمة الإخوان معظمهم براء مما اتهموا به , كان جل ذنبهم فقط أنهم من الطرف الآخر المستباح دمه في ظل ماكينة النظام المفتوحة لتفتيت المجتمع إلى طوائف ومذاهب كما يفعل اليوم وما أشبه اليوم بالأمس.
فور نقلي إلى سجن القلعة للالتحاق برفاقي هناك حيث كانوا يشاركون رفاق ما يسمى بعث القيادة القومية(العراق) السكن ومن بينهم والد هيثم مناع إلى جانب ما تبقى من حركة الضباط الأحرار , بعد أن ألحقهم النظام بنا بحملة اعتقال شاملة للقضاء على الحزب بسبب انضمام الحزب في حينه إلى المجهود الشعبي في العصيان والتمرد , وذلك في شهر تشرين من عام 1980 على ما أذكر قبل أن ينضم إلينا فيما بعد معتقلي النقابات المهنية (شرفنا في حينه اللقاء مع المحامي عبد المجيد منجونة وهيثم المالح والمهندس غسان النجار ونبيل سالم وسليم خير بيك وأستاذي في المعهد الكهربائي علي محمد شقيق المخرج السينمائي أسامة محمد وغيرهم) , وبسبب توفر وسائل الكتابة هناك , حاولت جمع ذكريات ما شاهدت أثناء تنقلاتي بين الفروع الأمنية التي تداولتني في حينه قبل أن أنسى ما تجمع في رأسي من أسماء الذين استشهدوا تحت التعذيب وبين أيدينا والذين أعدموا بموجب أحكام عسكرية وميدانية بالمكان حيث نقيم , كما الذين أعيقوا بتقطيع أيديهم أو أصابعهم وشق صدورهم ورؤوسهم وقطع آذانهم وأنوفهم بالبلطات أو سمل وقلع عيونهم وبعض التفاصيل الأخرى , وقد نجحت في ضمها إلى دفتي دفتر متواضع على قصاصات من الورق , ولكن , وللأسف , ألقت فيما بعد عناصر المفرزة الأمنية المسؤولة عن حبسنا في سجن القلعة القبض عليه في إحدى حملات التفتيش التي اعتاد فرع الأمن السياسي تنظيمها من حين لآخر لاستفزازنا وإزعاجنا , ومن حسن حظي أن العنصر الذي ألقى القبض على الدفتر لم يستطع قراءة خطي فأودعه دون اهتمام لدى المساعد أبو طارق رئيس المفرزة كما أخبرني بنفسه فيما بعد , الذي أخفاه بدوره في درج مكتبه الشخصي لكي لا يسبب لي الأذى اعترافا لي بعرفان جميل قدمته له عبر خدمات في معالجة أولاده صحيا عن طريق زوجتي السابقة كممرضة في مشفى الأطفال ومعارفي في مشفى المواساة في حينه أو الأسدي في المزة , وللحقيقة فقد كان عنصرا أمنيا لم تتعرض إنسانيته للخراب بعد . فيما بعد , استدعاني المساعد أبو طارق إلى مكتبه , وحين مثولي بين يديه أخرج دفتري من درجه وعرضه علي معاتبا : ما هذا يا محمود؟! هل تدرك أنه لو وصل هذا الدفتر بما يحوي من معلومات إلى يدي رئيس الفرع (كان في حينه العميد أمين العلي الذي قيل لنا فيما بعد أنه قد توفي في المرحاض وهو يقضي حاجته ولا أدري صحة ذلك) ستنقل بموجبه على الفور إلى سجن تدمر . ثم بعد فترة من الصمت متبادلة باشر بحرق صفحاته أمامي وأنا أتحسر على جهدي الذي بذلت . بعد تخرجي من السجن حاولت لملمة ما تبقى من ذاكرتي مرة أخرى , وبعد أن أكملتها باشرت بالسعي لنشرها ولكن أهلي منعوني خوفا من بطش النظام , ثم بعد ذلك ضاع جهدي مرة أخرى في خضم الخلاف الأسري الذي عم حياتي العائلية والذي أسفر في نهاية المطاف إلى انفصالي عن عائلتي وفقدي أي أثر لمسودة الكتاب.
ولكني لم أصب بالقنوط ولم يعرف اليأس طريقا إلى عزيمتي , كررت محاولتي عندما حط بي الرحيل أخيرا أرض المنفى لاستجماع ما قد تبقى من تلك الذاكرة السجنية , وباشرت في كتابتها على حلقات متوالية ومتقطعة لعدم قدرتي على احتمال شجون ما تثير كتابتها دفعة واحدة ولصعوبة استجرار ما تحويه من شحنة ألم بشري فظيع , ورحت أنشرها على حلقات تحت عنوان من ذاكرة معتقل سابق بعد أن تكرمت أسرة الحوار المتمدن بالموافقة على نشرها إثر اتصال بيننا رغم ركاكتها كبداية لي في مستهل محاولتي الأولى في الكتابة .
تصادف وصولي بالذاكرة إلى الرقم عشرين بتتويج جهودي بلم شمل أولادي إلي في منفاي الأوربي بالنجاح بعد لأي وجهد مضني كلفني مالا وقلقا وغما كثيرين ليتم لي أخيرا لم لحمي كما يقولون بالبلدي . لم يخطر ببالي حينها أبدا أن ما سيأتي من قهر سيزكم ذاكرتي كاملة ويضع حدا لنزف ذاكراتها السجنية السابقة , فقد أسقط في يدي أن اكتشفت أن ما أسرده في ذاكراتي يزعج ابنتي وخاصة بعد تناولي "رئيسها" الحالي بالسوء خلال إحدى نقاشاتنا مما سبب لي بادئ الأمر صدمة عاطفية وشخصية معقدة أودت بي إلى مضاعفات مرضية كان من الجميل تجاوز تعقيداتها بنجاح مما دفعني إلى الإقلاع عن سردي الذاكري فأغلقتها ب"الذاكرة الأخيرة"إكراما لابنتي .
ولكني أدركت بعد لأي وطول انتظار أن ردحا من الزمن لا بأس به قد فاتني سمح لما نجح به النظام من تفتيت اجتماعي طائفي بتحويل بناتي إلى "محبكجية" بشار ونظام "إصلاحاته" ولا أدري إن كان للأم دور في ذلك نكاية بي وعقابا لي , ويا له من سوء عقاب , جريرة انفصالي عنها وعنهم بعد أن كنا قد أمضينا معا وسوية سنوات لا بأس بها من عمرنا في مقارعة نظام قد استهلك أجمل فترة فيها , لم نبتأس أبدا بل كانت نشوة النضال المشترك تعمنا من رأسينا حتى أخمص أقدامنا , لما لا , وقد أخذنا على عاتقنا تغيير بؤس العالم وفقره واضطهاده إلى فسيح الحرية والاشتراكية , نسير معا يدا بيد , حبيب وحبيبة , زوج وزوجة , قبل أن يهدم النظام وهج فرحنا ويقهرنا , فهل ينتقم شباب اليوم لنا وينجحوا في تحقيق حلمهم وحلمنا , نرجو هذا .