قانون المجال الجاذبي النيوتني


هشام غصيب
2012 / 1 / 18 - 09:11     

في المقالة السابقة، بينا كيف طوّر فيزيائيو القرن التاسع عشر طريقة جديدة للنظر إلى القوى المؤثرة عن بعد، وهي الطريقة المجالية. إذ تصوروا الجاذبية مثلاً على أنها أثر أو مجال متصل يمتد في المكان ويختزن في باطنه الزخم والطاقة بصورة متصلة وممتدة. ويتحدد هذا المجال بدلالة اقتران واحد للمكان، وهو ما يسمى الجهد الجاذبي. ولا تتفاعل الجسيْمات جاذبيا معاً بصورة مباشرة، وإنما عبر المجال الجاذبي. وهذا يعني أنها تتفاعل موضعيا مع المجال الجاذبي، بحيث تميل إلى التحرك من مواضع الجهد العالي إلى مواضع الجهد المنخفض، وبحيث يساوي تسارع الجسيم في موضع ما معدل تناقص الجهد الجاذبي عند هذا الموضع في اتجاه أكبر تناقص. وقد طور الفيزيائي الإنجليزي مايكل فرادي والفيزيائي السكتلندي جيمس كلارك ماكسويل هذا التصور وطبقاه على الظاهرات الكهرمغناطيسية، الأمر الذي قاد إلى تحديد المجال الكهرمغناطيسي بدلالة أربعة اقترانات (جهود كهرمغناطيسية) للمكان والزمان تترابط معاً هندسيا كما تترابط معاً مركبات المتجهات الرباعية. وفي الخمس الأول من القرن العشرين، بين آينشتاين أننا نحتاج إلى عشرة جهود، وليس إلى جهد واحد، لتحديد المجال الجاذبي.



ولنعد أدراجنا إلى مطلع القرن التاسع عشر ولنرَ كيف حدد الفيزيائيان الفرنسيان لابلاس وبواسان المعادلات التفاضلية التي تحكم الجهد الجاذبي على أساس نظرية نيوتن في الحركة والجاذبية. لنبحث في العلاقة ما بين المجال الجاذبي ومصدره، أي العلاقة ما بين الجهد الجاذبي وكثافة المادة التي تولّد المجال الجاذبي. ولعل أبسط طريقة توصلنا إلى تحديد هذه العلاقة وفهمها هي الطريقة التي اتبعها مايكل فرادي في فهم المجال الكهرمغناطيسي ودراسته.



تصور فرادي المجال الكهربائي مثلاً على صورة عروق أو أنابيب تملأ المكان، وتنبع من الشحنات الموجبة لتصب في الشحنات السالبة، وتسري فيها القوة الكهربائية لكل وحدة شحنة. وإذا تدبرنا سطحاً صغيراً تمر فيه هذه العروق بصورة متعامدة، أي بحيث تكون متعامدة معه، مثلث كثافتها، أي عددها مقسوماً على مساحة السطح الصغير، مقدار القوة الكهربائية المؤثرة لكل وحدة شحنة، ومثل اتجاه العروق اتجاه هذه القوة. ويقودنا ذلك إلى مفهوم الدفق الكهربائي، وهو عدد العروق المجالية التي تمر عموديا في سطح ما. وقد تبين بالتحليل الرياضي أن الدفق الكهربائي على أي سطح مغلق (سطح كرة مثلاً) يتناسب طرديا مع إجمالي الشحنة الكهربائية التي يحتويها السطح. وهو ما أخذ يعرف ببرهانة غاوس. فإذا حسبنا مقدار الدفق الكهربائي لكل وحدة حجم عند موضع مكاني، وجدنا أنه يتناسب طرديا مع كثافة الشحنة الكهربائية عند هذا الموضع. وهذا يعني رياضيا أن مجموع معدلات تغير مركبات القوة لكل وحدة شحنة مع الأبعاد المكانية التي تنتمي إليها يتناسب طرديا مع كثافة الشحنة الكهربائية عند هذا الموضع.

ويمكن تطبيق هذه الطريقة على المجال الجاذبي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا توجد شحنتان في هذه الحال، وإنما شحنة سالبة واحدة، هي الكتلة. وعليه، فإن العروق المجالية تصب جميعاً في الكتل. إذ ليس هناك كتل تنبع منها عروق المجال على غرار الشحنات الكهربائية الموجبة. فالكتل الموجودة جميعاً تشكل مصبات للعروق المجالية، وليس هناك كتل تشكل منابع لهذه العروق. لذلك، فليس هناك كتل تتنافر معاً جاذبيا، على غرار الشحنات الكهربائية المماثلة لبعضها. فالكتل تجذب بعضها دوماً.


وفي هذه الحال، وباتباع طريقة فرادي، نحصل على علاقة مماثلة بين الجاذبية لكل وحدة كتلة وبين الكثافة الموضوعية للمادة. إذ نجد أن مجموع معدلات تغير مركبات قوة الجاذبية لكل وحدة كتلة مع الأبعاد المكانية التي تنتمي إليها يتناسب طرديا مع الكثافة الموضعية للمادة. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن قوة الجاذبية لكل وحدة كتلة تساوي معدل تناقص الجهد الجاذبي في اتجاه أقصى تناقص، حصلنا على علاقة رياضية بين الجهد الجاذبي والكثافة الموضعية للمادة. ونعبر عن هذه العلاقة رياضيا بالقول إن مجموع المشتقات الثانية للجهد الجاذبي بالنسبة إلى الأبعاد المكانية الثلاثة يتناسب طرديا مع الكثافة الموضعية للمادة. وتعرف هذه المعادلة بمعادلة بواسان. وإذا كانت الكثافة الموضعية تساوي صفراً، تعرف المعادلة بمعادلة لابلاس. وتعد معادلة بواسان الصيغة المجالية المتطورة لقانون نيوتن في الجاذبية. إذ إنها تقوم على أساس مفهوم المجال الجاذبي والتفاعل الجاذبي الموضعي، في حين أن قانون نيوتن في الجاذبية يقوم على أساس مفهوم الفعل عن بعد بين الجسيْمات المادية. لذلك، فإن آينشتاين اتخذ معادلة بواسان، وليس قانون نيوتن في الجاذبية، أساساً لنظريته الهندسية في الجاذبية، كما سنبين لاحقاً.