البيان رقم واحد!


سعد هجرس
2012 / 1 / 10 - 15:50     

أصبحت لدينا طبعة مصرية من هيئة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، حيث أعلن بعض الشباب السلفيين عن البدء في إجراءات إنشاء الهيئة المشار إليها، اعتمادًا علي «اختيار الأغلبية العظمي من الشعب المصري للإسلام ولحكم شريعة المولي عز وجل بعيدًا عن الليبرالية العفنة».
مع ملاحظة أن صفة «العفنة» المنسوبة لليبرالية هي ما ورد في نص «البيان رقم واحد» للهيئة المعنية.
وملاحظة ثانية هي أن البيان أكد أن أصحاب هذه «المبادرة» يستلهمون تجربة المملكة العربية السعودية بهذا الصدد.
وملاحظة ثالثة هي أن البيان ذاته أكد أن أصحابه «غير تابعين» لحزب النور تبعية مباشرة، إلا أننا نسير علي منهج الحزب لأنه الأقرب إلي «شريعة الله»، كما رحبوا بتسليم الهيئة إلي حزب النور «لإدارتها بعد تكوين كوادر الهيئة».
مع العلم بأن حزب النور نفي أي علاقة له بهذه الهيئة أو هؤلاء الشباب، مؤكدا أنها «محاولة لإثارة البلبلة حول الحزب قبل المرحلة الثالثة من الانتخابات البرلمانية.
وللتذكرة يلزم التنويه إلي أن هيئة بهذا الاسم قد ظهرت في المملكة العربية السعودية عام 1940، وقالت عند إنشائها إن مهامها هي «تطبيق الشريعة الإسلامية في الأسواق العامة وغير ذلك من الأماكن العامة والحيلولة دون وقوع المنكرات الشرعية والتي منها منع الممارسات التي تظهر عدم الاحترام للدين الإسلامي، ومنع أعمال السحر والشعوذة والدجل لأكل أموال الناس بالباطل».
وذكر تقرير آخر بتحديد أكثر، أن المهام «الميدانية» لهذه الهيئة هي حث الناس علي المسارعة إلي تلبية النداء والصلاة جماعة بالمسجد، والتأكد من غلق المحلات، ومغادرة الناس لها، وتوقف البيع والشراء أثناء إقامة الصلاة، وأمر الناس بالحكمة والحسني ودعوتهم إلي الخير والمساهمة في المحافظة علي الأخلاق والقيم الإسلامية والآداب العامة.
وفي 16/9/1400 هجرية (أي منذ ثلاثة وثلاثين عامًا تقريبًا)، صدر مرسوم ملكي من الملك خالد بن عبدالعزيز باعتماد نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعموما فإن الباحثين يطلقون علي هذه الهيئة اسم «الشرطة الدينية»، أو«رجال الحسبة».

***
هذه النبذة السريعة عن الخلفية السعودية لهذه الهيئة ربما تفيدنا في تفهم مغزي ظهور مثل هذه الدعوة في المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر من دولة الاستبداد إلي دولة مدنية حديثة.

ومفهوم ـ صراحة وضمنًا ـ أن الدولة المدنية الحديثة هي دولة القانون علي قاعدة المواطنة والمساواة بين المواطنين أمام القانون دون تمييز علي أساس الدين أو الجنس أو العرق أو اللون أو المكانة الاجتماعية أو الموقع الجغرافي وخلافه.
ومفهوم ـ صراحة وضمنًا ـ أن القانون يقوم علي رعايته وتطبيقه تطبيقًا نزيها «مؤسسات» مدنية حداثية مؤهلة مبنية علي أساس التخصص والكفاءة بصرف النظر عن الدين أو العرق أو الجنس وغير ذلك من الهويات الفرعية.
وبوضع هاتين الحقيقتين في الاعتبار يمكن فهم الاعتراضات، والتخوفات، من ظهور كيانات مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المصرية.
أول هذه التحفظات هو أن قيامها يعني الالتفاف حول أسس الدولة المدنية الحديثة، واستبدال القانون ـ بـ «الفتوي»، واستبدال «المدني» و«الدنيوي» بـ «الديني».
وليس «الديني» بشكل مطلق وإنما «الديني» من وجهة نظر الأفراد الذين يتبنون هذا التفسير، وهو تفسير يتضمن في الأغلب الأعم «وصاية» علي البلاد والعباد، خدمة لمصالح «دنيوية» معينة تحاول أن تسبغ عليه شرعية دينية.
أضف إلي ذلك التعبيرات المطاطة، وحمّالة الأوجه، للأدبيات التي تستند إليها مثل هذه الكيانات، علي النحو الذي يمكن أن نلحظه في مهام الهيئة السعودية المذكورة في الأسطر السابقة، مثل «الحيلولة دون وقوع المنكرات»، أو الممارسات التي تظهر عدم الاحترام للدين الإسلامي.
فمن الذي يحدد ذلك؟.. وبأي مرجعية؟!
هل هو الفرد المنضم إلي هذه الهيئة والذي يعتبر نفسه وصيًا علي الشعر بأسره، بما في ذلك المثقفون والأكاديميون والخبراء والعلماء؟!.
وإذا كان هذا النظام قائما في دولة مثل السعودية، لا يوجد فيها حاليا سوي مسلمين، باستثناء العاملين الأجانب فكيف يمكن أن يقوم ويطبق في بلد يوجد فيه ملايين المصريين الذين يعتنقون ديانات أخري غير الإسلام؟!.
وألا يعد ذلك مثالاً صارخًا للاهتمام المبالغ فيه بالقشور والمظاهر والفروع لصرف الانتباه عن الأمور الجدية في مجالات السياسة والاقتصاد. في بلد يرث تركة مثقلة من التبعية والتخلف والفقر والاستبداد.
ثم هل قام المصريون بثورة،ضحوا فيها بآلاف الشهداء والمصابين، من أجل استبدال الاستبداد السياسي بشكل آخر من الاستبداد الديني؟!.
***

.. وحسنا فعل حزب النور السلفي عندما تبرأ من هذه الدعوة التي تطعن الدولة المدنية الحديثة في الصميم.. وهو ما يجعلنا نأمل في أن يتوصل المصريون علي اختلاف مشاربهم الفكرية ومدارسهم السياسية إلي «توافق وطني» علي القواسم المشتركة لعقد اجتماعي جديد يكفل السلم الأهلي ويضمن العيش المشترك.. لكي تعود مصر ـ كما يقول أستاذنا رفاعة رافع الطهطاوي ـ محلاً للسعادة المشتركة مبنيًا علي المدرسة والمصنع.