الملك الموسوعة


محمد بودواهي
2012 / 1 / 5 - 08:22     

يعتبر يوبا الثاني شخصية أمازيغية متميزة بموسوعيتها الفكرية والثقافية ، وذات خبرة في مجال السياسة والتدبير الإداري ....

ولد يوبا الثاني في مملكة نوميديا، وهو ابن الملك يوبا الأول الذي قاوم الرومان مقاومة شرسة ووقف في وجه خصمين لدودين من أبناء تمازغا وهما: بوگود وبوكوس.

تمكن يوبا الثاني ومن بعده ابنه بطليموس من توحيد القبائل الموريتانية في إطار مملكة مورية واسعة الأطراف تنقسم إلى قسمين: موريطانيا القيصرية وعاصمتها شرشال وموريطانيا الطنجية وعاصمتها وليلي ... وأول ما قام به يوبا الثاني بمساعدة ابنه بطليموس الذي كان يتولى شؤون القيادة العسكرية هو العمل على توحيد القبائل الأمازيغية في المغرب، فتمدين مملكته حضاريا وثقافيا وعلميا، ثم تزيينها عمرانيا وهندسيا بالإستيتيقا(الجمالية) اليونانية والرومانية والقرطاجنية والأمازيغية في إطار وحدة تنصهر فيها جميع هذه الملامح الموروثة ...

وأنشأ يوبا الثاني في عاصمتيه" شرشال" و" وليلي" حكما ديمقراطيا نيابيا تمثيليا، إذ طالب بتكوين مجلس بلدي يتم انتخاب أعضائه من بين المواطنين الأحرار ، ويتولى كل مجلس تسيير أمور المدينة على غرار المدينة الرومانية. بالإضافة إلى الجانب الإداري ، فقد حقق عصر يوبا الثاني طفرة اقتصادية متنوعة وازدهارا تجاريا كبيرا ؛ لأنه شجع الزراعة والصناعة والتجارة . وأقام مشاريع صناعية كبرى في عدة مدن كصناعة الأصباغ الأرجوانية وتمليح السمك وصنع الكاروم (Garum) وهو مرق مصنوع من السمك يستعمل عوض التوابل لطهي الطعام ( يشبه كنورالسمك حاليا)، ويستعمل كذلك دواء في الاستشفاء من بعض الأمراض ....

اهتم يوبا الثاني بالجانب الثقافي والعلمي والفكري ، فأعد خزانة ضخمة جمع فيها أنواعا من الكتب والوثائق العلمية والتاريخية ، واستقطب نحو عاصمته كبار العلماء والأطباء من اليونان والرومان ، وأمر بجمع النباتات الطبية والأعشاب . وشارك في رحلات علمية استكشافية داخل جبال الأطلس و جزر كناريا الحالية . وجمع رحلاته العلمية وكشوفاته الطبيعية والجغرافية وأحاديثه عن المغرب وخاصة المجتمع الأمازيغي وعاداته ولغته وتقاليده في ثلاثة مجلدات ضخمة سميت " ليبيكا " Libyca . ومن أحسن ما تضمنته ليبيكا قصة "الأسد الحقود" التي مازالت تروى من قبل الجدات في عدة مناطق أمازيغية في المغرب باللغة الأمازيغية كما ورد في كتاب " لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين " للأستاد محمد شفيق ...

يقف الملك يوبـــــا الثانى فى مقدمة المثقفين السياسيين الأمازيغ . وهو يعتبر من كبار العلماء والمثقفين الأمازيغ إذ كان يمتاز بسعة العلم والاطلاع ، وكان كثير السفر والبحث والتجوال وموسوعى المعارف والفنون . وقد ألف كثيرا من الكتب والبحوث والمصنفات ولكنها لم تصل إلينا سليمة ، بل ثمة إشارات إليها فى كتب المؤرخين مبثوثة هنا وهناك...

وقد تمكن يوبا الثانى ومن بعده ابنه بطليموس من توحيد القبائل الأمازيغية فى إطار مملكة مورية ،

ويقول الباحث المغربى محمد شفيق عن يوبا الثانى بأنه كان يكتب "باليونانية فى التاريخ والجغرافيا والفلسفة والأدب وفقه اللغة المقارن، فتعجب من نبوغه " فلوتارخوس Plutarkhos " ومن كونه" أمازيغيا نوميديا ومن أكثر الأدباء ظرافة ورهافة حس نصب له الأثينيون تمثالا فى أحد مراكزهم الثقافية تقديرا لكفاءته الفكرية . وقد نقل عنه علماء العصر القديم ، وحسده معاصروه منهم ونفسوا عليه نبوغه ، بصفته أمازيغيا barbarus ، وكأن نفاستهم عليه تسربت إلى نفس المؤرخ الفرنسى Stéphane Gsell، إذ ما فتئ Gsell يحاول أن يغض من قيمة أعمال يوبا الفكرية ، فتبعه فى ذلك تلامذته من الأوروبيين الذين أرخوا للمغرب الكبير فى عهد الاستعمار الفرنسي ، كما تبعوه فى تحامل على أبيه يوبا الأول من أجل حرصه على سيادة مملكته. والدافع عند Gsell ومن تبعوه هو أنهم كانوا يعتبرون الفرنسيين ورثة للرومان فى أفريقية الشمالية ، ويرون أن "الأهالي" Les indigènes لا يمكن أن يكونوا إلا "أهالي" فى الماضى والحاضر على السواء ، بما أشربته الكلمة فى لغتهم إذاك من معانى الاحتقار".

وإذا انتقلنا إلى مؤلفات يوبا الثانى فهى كثيرة لا يمكن عدها أو حصرها، ومنها: "تاريخ بلاد العرب" الذى وضعه لتعليم يوليوس قيصر إمبراطور الرومان، و"آثار آشور" وقد كتبه بعد أن رأى بلاد الأشوريين واستمتع بحضارتهم وثقافة بلاد الهلال الخصيب ، كما كتب عن "آثار الرومان القديمة" ، و"تاريخ المسارح " الذى تحدث فيه عن الرقص وآلاته الموسيقية ومخترعى هذه الفنون ، وكتب " تاريخ الرسم والرسامين" ، وكتاب "منابع النيل" بله عن كتاب "النحو" و"النبات"...... والكثير غير دلك

ويظهر لنا هذا الكم الهائل من الكتب أن يوبا الثانى كان من المثقفين الأمازيغيين الكبار الذين اعتمدت عليهم الإمبراطورية الرومانية فى التكوين والتأطير والتدريس وجمع المادة المعرفية المتنوعة التى تتمثل فى الجغرافيا والحفريات واللغويات والفنون والتاريخ والطبيعيات... وكانت ليوبا الثانى مكانة كبيرة فى المجتمع الرومانى مادام قد حظى بتدريس يوليوس قيصر الرومانى وسهر على تثقيفه وتعليمه . وبالإضافة إلى ذلك ، فقد كان يوبا الثانى يهتم بتجميل الحواضر وتزيينها على غرار الحواضر الرومانية تقليدا بفن عمارتها وهندسة مبانيها وجمال مدنها كما يقول المؤرخون "خاصة عاصمتيه ، مما يعكس ذوقه ومدى الرخاء الذى شهدته مملكته ....

وعلى الرغم من الازدهار الحضاري الذي عاشته تمازغا في عهد يوبا الثاني ، فقد كانت هناك ثورات أمازيغية تطالب بالاستقلال والتحرر من قبضة الرومان ؛ مما
جعل بعض المؤرخين يعتبرون الأمازيغيين "مفطورين على قلة الولاء"، ولكنهم في الحقيقة مفطورون على الحرية والاستقلال والتخلص من الاستعمار الأجنبي
المستغل . وعلى الرغم من ذلك ، فقد خدم يوبا الثانى الثقافة الأمازيغية حتى أصبح نموذجا يحتذى به فى البحث الجغرافى ومجال الاستكشاف الطبيعى والتنقيب
الميداني.

إن مايمكن إثباته في حق يوبا الثاني أنه ملك أمازيغي مثقف خدم شعبه على جميع المستويات والأصعدة، وحقق لموريطانيا القيصرية والطنجية عهدا من الازدهار والرخاء لمدة نصف قرن من الحكم تحت المراقبة الرومانية بشكل مباشر أو غير مباشر.
وإذا كانت المقاومة الأمازيغية في شمال أفريقيا ذات ملامح عسكرية واجتماعية ودينية ، فإن يوبا الثاني استطاع أن ينهج أسلوب المقاومة الثقافية التي أظهرت الأمازيغيين في مستوى لائق ومحترم، وجعلتهم شعبا متحضرا متمدنا يضاهي الشعوب المتجاورة كالشعبين: اليوناني والروماني في مجال الآداب والفنون والعلوم والمعارف الفكرية، بل قد يتفوق عليهما في الشهامة والأنفة وخوض الحروب حبا في الحرية والتضحية من أجل الاستقلال والتخلص من المستعمر الدخيل وعدم الاعتداء على الآخرين.
وعلى الرغم من بعض السلبيات التي كانت تشوه صورة يوبا الثاني وبالخصوص تحالفه الأعمى مع الرومان ضد إخوانه الأمازيغيين، إلا أنه الملك الأمازيغي المثقف الوحيد الذي كانت له شخصية متميزة وغريبة تتسم بالموسوعية والانفتاح والتسامح وكثرة الإنتاج والتراكم الثقافي ، وبالتالي، فقد خدم يوبا الثاني الثقافة الأمازيغية حتى أصبح نموذجا يحتذى به في البحث الجغرافي ومجال الاستكشاف الطبيعي والتنقيب الميداني، وصار علما أمازيغيا بارزا يضرب يه المثل في المدن الرومانية واليونانية وخاصة في أثينا عاصمة الفلسفة والفنون والآداب والعلوم.

و سيتعرض يوبا الثاني للاغتيال في أواخر حياته بعد أن عاش نصف قرن في كنف الرومان. ومن ثم، سيكون المغرب بعد وفاة يوبا الثاني تابعا للحكم الروماني
مباشرة. وسيدخل الأمازيغيون المغاربة في مقاومة شرسة ضد القوات اللاتينية ستنتهي بطرد الرومان وحلول الوندال والبيزنطيين....