العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتي) - كريس هارمان


خليل كلفت
2021 / 12 / 23 - 22:15     

 العاصفة تهب
 (حول انهيار النموذج السوڤييتي)
 
 
تأليف: كريس هارمان
ترجمة: خليل كلفت
 
صدرت الطبعة الأولى عن دار النهر للنشر والتوزيع، القاهرة، 1995
  
هذه ترجمة لدراستين منشورتين في الفصلية اللندنية
 International Socialism, London, Britain
الأولى بعنوان The Storm Breaks, Issue 46, Spring 1990
  والثانية بعنوان From Trotsky to State Capitalism, Issue 47, Summer 1990


المحتويات
العاصفة تَهُبّ: حول انهيار النموذج السوڤييتي: بقلم: كريس هارمان ..........  
مقدمة للمترجم ............................................................    
أوَّلا: العاصفة تَهُبّ: حول انهيار النموذج السوڤييتي...........................  
1: مقدمة للمؤلف ...................................................  
2: الاتحاد السوڤييتي الأوهام المفقودة ...............................  
3: الاتحاد السوڤييتي: الأزمة في الاقتصاد ...........................  
4: الاتحاد السوڤييتي: المسألة القومية ................................  
5: الاتحاد السوڤييتي: الإحساس بالقلق ...............................  
6: السياسة العالمية: سلاح ذو حدَّيْن ................................   
7: أوروپا الشرقية: انهيار تراكمي ..................................   
8: إفلاس نظريتين .................................................   
9: الأرثوذكسية الجديدة .............................................   
10: رأسمالية الدولة.................................................   
11: رأسمالية الدولة كمرحلة في التطور الرأسمالي....................  
12: أصول رأسمالية الدولة في أوروپا الشرقية ........................  
13: تناقضات الرأسمالية .............................................  
14: أزمة رأسمالية الدولة ............................................  
15: "ما قبل-الأزمة" والپيريسترويكا ..................................  
16: التفتت الداخلي ..................................................  
17: لماذا تتجه الپيريسترويكا إلى الفشل ...............................  
18: المراوحة في نفس المكان في أوروپا الشرقية .....................  
19: الرأسمالية المتعددة الجنسيات والمعارضة الأوروپية الشرقية ........ 
20: احتمالات للتسعينيات .............................................  
21: بناء معارضات اشتراكية .......................................
ثانيًا: ملحق للمؤلف: من تروتسكي إلى رأسمالية الدولة بقلم: كريس هارمان .....
حول نظريات الطبيعة الاجتماعية لبلدان النموذج السوڤييتي: تذييل للمترجم .....
إشارات العاصفة تَهُبّ ......................................................
إشارات ملحق من تروتسكي إلى رأسمالية الدولة ...........................                


شكر وتقدير
 
لا يفوتني أنْ أشكر صديقي الأستاذ بشير السباعي الذي قرأ مخطوطة ترجمة الكتاب والملحق وأمدّني من علمه الغزير بأوضاع الاتحاد السوڤييتي وبلدان أوروپا الشرقية ومعرفته العميقة باللغة الروسية بمعلومات وملاحظات وتصحيحات.
                                            خليل كلفت
 
 
 
 
كريس هارمان
 
العاصفة تَهُبّ
 
حول انهيار النموذج السوڤييتى
 
 

مقدمة بقلم المترجم
بانهيار النموذج السوڤييتي في كل مكان (حيث يبدو أنّ انهياره في بقية بلدانه لم يعد سوى مسألة وقت) تكتمل دورة كبرى من دورات التاريخ الحديث تميزت بوجود هذا النموذج وبانقسام العالم، بالتالي، إلى غرب (رأسمالي) وشرق (سوڤييتي) وعالم ثالث (تابع للغرب أخفقت كافة محاولاته للفكاك من إسار هذه التبعية بالاستفادة من وضع دولي تميَّز بالتناقض والحرب الباردة بين المعسكرين: الغرب والشرق).
والصورة المستقبلية العامة التي يرسمها انهيار واختفاء هذا النموذج وتبنِّي بلدانه للنموذج الرأسمالي الغربي، هي صورة شمال اتحد بشرقه وغربه فتضاعفت قوته وتضاعف جبروته، وجنوب يتمثل في عالم ثالث متخلف تضاعف ضعفه وتضاعف انهيار مقاومته. إنها صورة تحتل صدارتها رأسمالية عالمية متحدة موحدة عاتية رمزها الموحي هو حلول ألمانيا الموحدة محل ألمانيا (الاتحادية) وألمانيا (الديمقراطية) المتنافستين السابقتين، ولا يخفى أنها صورة تحيط الثورات الاشتراكية، وحتى كل استقلال وطني، بإطار كئيب من الشروط غير المواتية. وكل ما يبدو في الأفق هو أنّ التحولات الجارية في بلدان النموذج السوڤييتي، وهي بلدان ذات مستويات متباينة في التطور، تبايُن كوبا والاتحاد السوڤييتي، ستضاعف ببعض هذه البلدان قوة الشمال وببعضها الآخر بؤس الجنوب.
التاريخ والأسطورة
بديهي بطبيعة الحال أنّ مفتاح فهم المغزى الحقيقي لهذه التحولات الجارية في بلدان الشرق، وبالتالي في كل العالم، يتمثل في فهم الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتي، هذا النموذج الاقتصادي والسياسي والأيديولوچي الذي ساد طوال العقود السابقة في بلدان ما كان يسمَّى بالمنظومة الاشتراكية العالمية في أعقاب ثورات أو نتيجة لزحف الجيش الأحمر.
غير أنّ الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتي ظلت، على مدى العقود التي عاش فيها هذا النموذج، عقدة مستعصية فلم ينعقد عليها أيُّ إجماع من أيِّ نوع، بل تمايزت وتبلورت ماركسيات متعددة متباينة انطلقت من الاختلافات حول هذه المسألة المحورية.
وهناك بوجه خاص الماركسية السوڤييتية التي رأت أنّ هذا النموذج يساوي الاشتراكية والتطبيق الخلاق للماركسية-اللينينية، ونقيضها المباشر، وهو الاتجاه الذي ينتمي إليه مؤلف هذا الكتاب، وهو اتجاه حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا بزعامة توني كليف Tony Cliff، الذي رأى منذ أواخر الأربعينيات، وليس الآن، أنّ هذا النموذج ليس سوى النموذج الشرقي لنفس الرأسمالية الواحدة، نموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية، كما رأى أنّ ثورة أكتوبر هُزمت، وأنّ "شيوعيتها" انهارت منذ أواخر العشرينيات من هذا القرن، وليس الآن.
وإذا صحت هذه النظرية الأخيرة فإنّ الموقف الراهن سيبدو أشبه بمشهد سوريالي: مآتم في كل مكان على ظهر الكرة الأرضية يقيمها -الآن- الشيوعيون للشيوعية التي انهارت منذ أكثر من ستين سنة، وأفراح في كل مكان على ظهر الكرة الأرضية يقيمها -الآن- أعداء الشيوعية لانهيار الشيوعية منذ أكثر من ستين سنة. ولسنا إزاء ذكرى حزينة أو سعيدة من أواخر العشرينيات، فالشيوعيون وأعداء الشيوعية على السواء يعتقدون أنّ الانهيار حدث أو يحدث الآن. ويعتقد الشيوعيون أنّ مؤامرة أعداء الشيوعية كانت عاملا حاسما وراء انهيار الشيوعية، رغم أنه لا مانع لديهم من الحديث عن "أخطاء وسلبيات" للتجربة، جعلت نجاح المؤامرة (الأمريكية بوجه خاص) ممكنا، أما أعداء الشيوعية فيهنئون أنفسهم مرتين، مرة لأنّ الشيوعية انهارت من الداخل لأنها ضد الطبيعة البشرية، ومرة أخرى لأنها انهارت تحت ضغطهم الطويل المظفر.
ولن يصدّق الشيوعيون أبدا أنّ شيوعيتهم كما تحققت في الواقع والتاريخ لم تكن سوى رأسمالية دولة بيروقراطية، كما أنّ أعداء الشيوعية لن يصدقوا إلا أنّ الشيوعية تعني في الواقع البيروقراطية والامتيازات والاستبداد والشمولية حيث لا يمكن الزعم أنّ هذه الشرور "الشيوعية" اختفت منذ أكثر من ستين سنة فهي، بالأحرى، استفحلت وتفاقمت ولم تأخذ في التداعي والانهيار إلا الآن.
وبعيدا عن مآتم الشيوعيين من الطراز السوڤييتي وأفراح أعداء الشيوعية من كل طراز، ينبغي أنْ نلاحظ أنّ هذا المشهد السوريالي ليس سوى المشهد الأخير من ملحمة سوريالية عاشتها البشرية قاطبة طوال عقود طويلة: ينقلب الحلم الشيوعي إلى كابوس يراه الشيوعيون في منامهم ويقظتهم، خاصة خارج بلدان النموذج، أسطورة وردية أو الفردوس تحقق على الأرض، ولهذا يراه الرأسماليون في كل مكان كابوسا ينبغي التخلص منه، وفي الحالين تتمثل الصياغة العقلانية لهذا الحلم الكابوس في فكرة أنّ النموذج السوڤييتي هو نموذج الاشتراكية، وتغدو هذه الفكرة أسطورة تستحوذ على عقل وسلوك العالم بأسره، بشعوبه وحكوماته. ولا جدال في أنّ هذه الأسطورة ليست الأسطورة الوحيدة التي سيطرت على الشعوب أو الحكومات في القرن العشرين، ويكفي أنّ نتذكر أساطير أخرى بدت للشعوب أو الحكومات سُبُل خلاص في فترة أو أخرى، في كل أو بعض مناطق العالم كالفاشية أو تصفية الاستعمار أو التنمية. على أنّ هذه الأسطورة تبدو لي أشد هذه الأساطير شمولا، وأطولها أمدا، وأكثرها خصوبة، أيْ قدرة على توليد أساطير جديدة نعيش كثيرا منها الآن، فهي جديرة بالتالي بدراسات ريادية معمقة لفهم الإطار الثقافي، العقلي والأسطوري، الذي تعيش البشرية في سياقه الآن.
ولكيْ نفهم عددا من تلك الأساطير المتولدة عن الأسطورة الأصلية، مثل الأسطورة القائلة بأنّ هذه النهاية للشيوعية أو نهاية هذه الشيوعية هي النهاية لكل شيوعية وبأنها بالتالي نهاية التاريخ، أو الأسطورة القائلة بأنّ انهيار النموذج السوڤييتي انقلاب في اتجاه مجرى التاريخ الحديث، أو غيرهما من الأساطير، سيكون من الملائم أنْ نبتعد، وإنْ قليلا، عن الأساطير لنركز، وإنْ بسرعة، على الطبيعة الاجتماعية لهذا النموذج والتي يمثل فهمها كما سبق القول المفتاح الحقيقي لفهم مغزى وأبعاد ونتائج انهيار هذا النموذج.
الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتي
يتوقف، إذن، مغزى وجود أو اختفاء هذا النموذج على حقيقة طبيعته؛ فهل كان ذلك النموذج اشتراكيا (كما زعم الخط السوڤييتي)، أم انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية في عهد ستالين (كما زعم تروتسكي Leon Trotsky) وكذلك في عهود خلفائه (كما زعمت الأممية الرابعة)، أم جماعيا بيروقراطيا أيْ مجتمعا بعد رأسمالي لكنْ استغلاليا (كما زعم شاختمان Max Schachtman) أم رأسمالية دولة بيروقراطية (كما زعم توني كليف)، أم اشتراكيا في عهد ستالين انقلب رأسماليا وإمپرياليا اشتراكيا في عهود خلفائه فيما يتعلق بالاتحاد السوڤييتي (كما زعمت الماوية)، أم اشتراكيا في عهد ستالين ثم مهددا بعودة الرأسمالية من خلال التحريفية أو المراجعة (كما كان يؤكد الخط الماوي قبل المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي الصيني الذي تحدث عن الإمپريالية الاشتراكية في 1969، ويجدر بالذكر أنّ كاتب هذه السطور ظل منذ أواخر الستينيات وطوال السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات من أنصار هذا "الطريق الثالث" الذي كان له حظ من الانتشار في الهند ومصر، والذي لا يعدو أنْ يكون مرحلة من مراحل الفكر الماوي، الذي تتمثل نقطة ضعفه الرئيسية فيما يتعلق بهذه المسألة في نظره إلى عهد ستالين على أنه عهد اشتراكي، وكان من المنطقي أنْ أتخلى خلال الثمانينيات عن هذا الموقف غير المتماسك وأنْ أنتقل إلى الفكرة القائلة بأنّ النموذج السوڤييتي ليس سوى رأسمالية دولة، وإذا كانت هذه الفكرة مشتركة لدى اتجاهات وشخصيات عديدة فإنه يبدو لي أنها تصل إلى أقصى تماسكها لدى  اتجاه "توني كليف" وحزب العمال الاشتراكي البريطاني، وهو اتجاه أتفق معه في هذه الفكرة بالذات، في حين أتحفظ على، أو أختلف مع، بل حتى أجهل جهلا مباشرا، في كثير من الأحوال، كثيرا من أفكاره وتوجهاته ونظرياته الأخرى) -أم ماذا؟
وليس من الوارد بطبيعة الحال، في سياق مثل هذا التناول الموجز، أنْ أحاول مناقشة هذه النظريات والمذاهب، فلا مناص إذن من أنْ أكتفي بإشارات سريعة يمكن الارتكاز عليها، بعيدا عن أيّ عرض منهجي منتظم، إلى طبيعة وخصائص النموذج السوڤييتي.
فكيف أمكن أنْ تتحول ثورة أكتوبر إلى رأسمالية دولة، وأنْ ينقلب الحلم إلى كابوس؟
وبطبيعة الحال، لم يكن المجتمع الذي أعقب ثورة أكتوبر في روسيا مجتمعا اشتراكيا. وإذا كان من المنطقي أنّ المجتمع التالى حتى لثورة اشتراكية لا جدال في طبيعتها، حتى في بلد رأسمالي غاية في التطور، لن ينقلب إلى مجتمع اشتراكي في غمضة عين، فإنّ المجتمع التالي لثورة أكتوبر لم يكن انتقاليا وحسب، بل كان كذلك مطبوعا بطابع تخلف روسيا القيصرية، وبالتالي بطابع خصائص ثورة أكتوبر وعدد من الأوضاع والظروف العالمية والمحلية البالغة التأثير.
وكان على ذلك المجتمع الانتقالي أنْ يتصدى لمهامه الجبارة، الدفاعية والهجومية، الحربية والمدنية، الاقتصادية والسياسية، الديمقراطية والاشتراكية، في سياق شروط وأوضاع وظروف موضوعية وذاتية وثيقة الصلة بخصائص كل من روسيا القيصرية وثورة أكتوبر والحركة الشيوعية العالمية في ذلك الحين.
فرغم التطور السريع العاصف للرأسمالية في روسيا القيصرية في العقود السابقة لثورة أكتوبر، ورثت الثورة والمجتمع الانتقالي التخلف الاقتصادي الذي ضاعفه الدمار الناتج عن الحرب العالمية الأولى وحرب التدخل من جانب 14 دولة والحرب الأهلية. وكان كل هذا التخلف الاقتصادي وثيق الارتباط بطبيعة الحال بالطابع غير الحديث للتركيب الطبقي والديموجرافي. وهكذا كانت روسيا بلد القنانة والفلاحين ولم تكن بلد الپروليتاريا التي كانت ضئيلة الحجم بالمعنى المطلق والنسبي. ولم يكن من شأن هذه القاعدة الاجتماعية الضيقة للثورة أنْ تؤمِّن هذه الأخيرة اجتماعيًّا وكان التحالف الثوري بين العمال والفلاحين تحالف جماهير متأخرة ثقافيّا وسياسيّا.
وفي سياق هذا التخلف الاقتصادي والاجتماعي للبلاد والتأخر الثقافي والسياسي للجماهير، أيْ قوى الثورة، جاءت ثورة أكتوبر ليس كثورة اشتراكية بلا نعوت أخرى، بل كثورة تنبع خصائصها وطبيعتها من كافة الشروط الموضوعية (المحلية والعالمية) والذاتية (الخاصة بقوى الثورة وقيادتها).
والحقيقة أنّ ثورة أكتوبر لا يمكن أنْ تكون مجرد موضوع للبحث الأكاديمي، بل ينبغي النظر إليها أولا ثم إلى الثورات التالية باعتبار الدروس المستفادة من فشلها في الحساب الأخير دروس نجاح ثورات المستقبل. إنّ ثورة أكتوبر ليست مجرد تاريخ للبحث الأكاديمي وليست بالأخص تاريخا مقدسا قال فيه كرادلة البلشڤية كلمتهم الأخيرة. إنها، على العكس من ذلك، بحث مفتوح ما دامت قضيتها قضية مستقبل وليست رمز حنين إلى ماض أسطوري.
ولم تكن ثورة أكتوبر ثورة أقوى حلقات السلسلة بل ثورة أضعف حلقات السلسلة. ولم تكن الأزمة التي فجرتها أزمة اكتمال نمو مجتمع جديد (الاشتراكية) في رحم مجتمع قديم (الرأسمالية). ذلك أنّ المجتمع القديم ذاته (الرأسمالية) كان لا يزال جديدا لم يكتمل نضجه في رحم مجتمع أقدم (الإقطاع). كما أنها لم تكن تعبيرا عن النمو الطبيعي لنضال أضداد التكوين البنيوي للمجتمع القديم بل كانت تلك الأزمة ترجع بصفة مباشرة إلى تأثير الحرب العالمية الأولى حيث خلفت الجيوش الألمانية في سياقها فراغا هائلا في روسيا عن طريق تدميرها اقتصاديا وعسكريا، فتفاقمت بالتالي أوضاع وأزمات جماهيرها إلى حدّ يستحيل معه العيش على المنوال نفسه. وكان ذلك التدافع المفزع من جانب طبقات المجتمع كافة ومن جانب قواه السياسية كافة لملء أو استغلال ذلك الفراغ هو المجرى الفعلي للثورة والثورة المضادة في روسيا.
لسنا إذن إزاء اكتمال نضج مجتمع برچوازي من ناحية واكتمال نضج النضال من أجل انتصار الثورة الاشتراكية من ناحية أخرى. بل إنّ طبيعة الثورة ذاتها لم تحسم إلا في معمعان معارك الثورة (أبريل 1917). ولهذا فإنّ مدى عمق الطابع الاشتراكي لثورة أكتوبر يغدو موضع شك، ويغدو من الواجب بحث هذه المسألة، بعيدا عن الخطب الرنانة، من أجل ثورات المستقبل.
على أنّ ثورة أكتوبر التي كانت تنتقم منها أوحال التخلف اقتصاديا واجتماعيا، كانت تعاني كذلك من ظرف عالمي غير موات. فالأزمة الحادة التي دفعت إلى الثورات في أوروپا في أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت مرتبطة بدورها بتلك الحرب. وكانت رغم نضج التكوين الاجتماعي-الاقتصادي الرأسمالي في الغرب تعبيرا عن تأثير الحرب وليس عن نضج وعمق النضال الپروليتاري في سبيل انتصار الثورة الاشتراكية على مدى العقود السابقة لتلك الحرب. ولهذا فإنّ الأزمة لم تكن أزمة ثورية شاملة ولم تكن بالأخص أزمة ثورة اشتراكية. ذلك أنّ هذه الأزمة الأخيرة كانت تفترض من جانب نضج نمو التكوين الرأسمالي (الشرط الموضوعي الحاسم للثورة الاشتراكية) ومن الجانب الآخر نضج نمو النضال الاشتراكي (الشرط الثاني الحاسم للثورة الاشتراكية). وهذه هي الثورة الاشتراكية التي توقعها ماركس في بداية الأمر: في قلاع الرأسمالية. غير أنّ التاريخ كان يدّخر لكامل تاريخ الحركة الشيوعية العالمية مفاجأة غير متوقعة ولم تتضح أبعادها إلا على المدى الطويل: نضج التكوين الرأسمالي بوصفه عقبة في سبيل نضج النضال الشيوعي طالما كانت الرأسمالية تمتلك ديناميات وآليات تجعلها قادرة على حفز واستيعاب ثورات تقنية جديدة من ناحية وعلى السيطرة الإمپريالية على العالم وعلى مقدراته الاقتصادية من ناحية أخرى، وعلى احتواء النضالات والأزمات وعرقلة نموها بالقدر المطلوب لثورات اشتراكية وخلق واستغلال الأرستقراطية العمالية والشوڤينية من ناحية ثالثة، كنتيجة للناحيتين الأولى والثانية. إنّ الشرط الموضوعي لا يسير هنا يدا في يدٍ مع شرط ذاتي مناظر، فالتناظر ذاته غير وارد، حيث يستبعد الشرط الموضوعي الشرط الثاني في مرحلة طويلة من التاريخ لا تزال مستمرة إلى الآن بصورة عامة، وإنْ كانت مقدمات نهايتها تتراكم باطراد خلال العقود الأخيرة. والحقيقة أنّ البلاشڤة كانوا يعلمون أنّ ثورة أكتوبر (وقبلها ثورة 1905) ثورة في أضعف حلقات السلسلة، وليست ثورة في أقوى حلقات السلسلة، في قلاع الرأسمالية، كما تنبأ ماركس. ولكنهم كانوا يؤمنون مع ذلك بنبوءة ماركس بدليل أنّ أملهم الوحيد في الانتصار الكامل للثورة في روسيا كان يتمثل في ثورة الپروليتاريا الأوروپية، في قلاع الرأسمالية. ولَئِنْ كانت نبوءة ماركس صحيحة فإنّ توقع تحققها الوشيك أو القريب كان يعني عدم إدراكه، وعدم إدراك لينين والبلاشڤة، لحقيقة أنّ الشرط الموضوعي للثورة في الرأسمالية المتطورة يستبعد الشرط الذاتي طوال مرحلة تاريخية طويلة تتميز بأنّ تناقضات الرأسمالية لم تنمُ بعد إلى الحد الذي يفتح الباب أمام تكامل وليس تعارض الشرط الموضوعي والذاتي للثورة.
ورغم أنني أطلت في هذه النقطة فقد يكون من المفيد أنْ أضيف أنّ ماركس ذاته لم يستبعد الثورة الاشتراكية في بلدان متأخرة رأسماليا، وكان رأيه عن روسيا بالذات أنها يمكن أنْ تنتقل من المشاعة الريفية إلى الاشتراكية دون أنْ تمرّ حتما بكل مراحل الرأسمالية التي كانت قد بدأت تنمو في روسيا بالفعل، بشرط أنْ تمتلك إنجازات الرأسمالية مع تفادي ويلاتها. ومن الجلي أنّ هذا الشرط الذي يعتبر بمثابة قانون عن تخطي المراحل لا يمكن أنْ يتحقق إلا بافتراض عملية ثورية عالمية أممية تشمل بلدانا متأخرة أو متخلفة وأخرى متطورة للغاية (أو على الأقل بلدين أحدهما متأخر والآخر متطور) حيث تقدم البلدان المتطورة العون المنهجي الشامل للبلدان المتخلفة في مجال التحديث الجذري لقواها الإنتاجية ولأسلوب حياتها. وهنا تتضح نقطة بالغة الأهمية فيما يتعلق بقضية طبيعة الثورة فهذه الطبيعة لا تتحدد بشكل إرادي داخل حدود بلد واحد مهما كان متخلفا فهي بالأحرى قضية أممية، بمعنى أنّ بلدا متخلفا يمكن أنْ يسير في طريق ثورة اشتراكية تتجاوز شروطها الداخلية بشرط أنْ تكون هذه العملية ضمن عملية أوسع تشمل بلدا متطورا أو بلدانا متطورة بافتراض الإخاء الأممي والتعاون الأممي بلا حدود. والواقع أنّ هذا الشرط بالذات كان ينقص ثورة أكتوبر التي انتظرت سُدًى وبلا جدوًى نجدة الثورة الپروليتارية الأوروپية، وبدلا من النجدة الأممية سيكون هناك التطويق الإمپريالي وبناء الاشتراكية في بلد واحد، كعقيدة أو فضيلة وليس كمجرد واقع أو اضطرار أو ضرورة.
وهكذا كان على ثورة أكتوبر أنْ تعاني محليا من التخلف الروسي؛ الذي كان من شأنه أنْ يقود إلى نشوء أزمة ثورية بتأثير حرب عالمية أو غير عالمية أو بدون حرب على الإطلاق، لكنْ دون أنْ يتأخر هذا التخلف عن فرض شروطه كافة، وأنْ تعاني أمميا من التقدم الأوروپي الذي كان من شأنه أنْ يَحُول دون نشوء أزمة ثورية عميقة وشاملة، وأنْ يساعد على استيعابها حربيا ومدنيا إذا نشأت مراحل منها بتأثير الحرب. وهكذا كانت الأزمة الثورية المحلية والعالمية بالتأثير المباشر للحرب غير أنه لم يكن بوسع مآثر الحرب أنْ تتجاوز خلق أو تعميق الأزمة، لا إلى إنقاذ الثورة الروسية من تخلف الأوضاع الروسية الأصلية، وبالتالي الحكم على الثورة بطبيعة محددة مهما كانت التصورات البلشڤية الذاتية عنها (ما دامت هذه الثورة معزولة ومحاصرة)، ولا إلى نجدتها بثورة اشتراكية أوروپية اتضح فيما بعد أنْ توقُّعها وعقد الآمال عليها لم يكن لهما مبرر حقيقي.
على أنّ هناك شرطا ذاتيا قد يبدو أكثر رهافة؛ غير أنه حاسم مع ذلك في المسار الفعلي لتطور الثورة، وكان هذا الشرط الذاتي غائبا. فرغم أنّ البناء الاشتراكي ينطوي على جدل الموضوعي والذاتي الذي لا يمكن التنبؤ سلفا بتفاصيله، إلا أنّ برنامج البناء الاشتراكي بخطوطه العريضة لكنْ الحاسمة ينبغي أنْ يكون موجودا ومستوعبا ومهضوما سلفا على أوسع نطاق من جانب قيادة وطليعة وجماهير الثورة، وإلا فكيف يمكننا أنْ نتصور قيام ديمقراطية مباشرة تمارس الجماهير من خلالها مهام الحكم وتخطيط الاقتصاد ممارسة فعلية، وليس في الكتابات الإنشائية والخطب الطنانة قبل أو بعد الثورة، وكان تعليق البرنامج الذي تضمَّنه كتاب الدولة والثورة للينين رمز وعنوان هذا الغياب لبرنامج البناء الاشتراكي.
وهكذا وُلدَ المجتمع الانتقالي التالي لثورة أكتوبر محاصرا من كل جانب، وكان عليه أنْ يتصدى للقيام بمهامه الجبارة وأنْ يخوض معاركه الطاحنة، ببطولة الشعب وبحكمة القيادة، لكنْ أيضا مثقلا بقدر هائل من نقاط الضعف والشروط الموضوعية والذاتية غير المواتية.
والواقع أنْ ذلك المجتمع الانتقالي كان لا يملك ترف الشروع في تحقيق التحول الاشتراكي المستهدف بالشروع على الفور في تطوير القوى المنتجة ورفع مستوى معيشة الجماهير العاملة بصورة مطردة ومتوازنة، بل كان عليه، بدلا من البناء، أنْ يخوض الحرب سنوات (مع الاكتفاء بتدابير شيوعية الحرب)، وكان عليه أنْ ينطلق في تطوير الاقتصاد والقوى المنتجة (بعد انتصار الثورة في الحرب الأهلية) ليس فقط من مستوى تخلُّف سنة 1913 أو 1914 (أيْ مستوى ما قبل بداية الحرب) بل مضافا إليه دمار ست أو سبع سنوات من الحروب المتنوعة المتواصلة.
على أنّ الحرب الأهلية الطاحنة على مدى سنوات لم تدمر الاقتصاد وحسب، بل أنهكت الثورة والمجتمع الانتقالي بوجه عام ودمرت وأفنت الطبقة العاملة وبالأخص ومن باب أولى طليعتها البلشڤية. وكان هذا يعني أنّ يغرق الحزب البلشڤي في بحار من الجماهير غير الپروليتارية وغير المسيَّسة وغير المندمجة مع الفكر الثوري، وكان كل هذا يعني بالتالي أنّ الاشتراكية المعلنة والمستهدفة ستُبْنَى بدون اشتراكيين، بدون ماركسيين، وإنْ تضخم الحزب باعتباره حزب السلطة.
وإذا كان الطموح الهائل الكامن في ذلك المجتمع (التطور العاصف للرأسمالية في روسيا قبل الثورة) وبالأخص في البرنامج البلشڤي إلى تطوير جذري للقوى المنتجة قد تلقَّى دفعة كبيرة من مجرد الإطاحة بالطبقات المالكة القديمة لكيْ ينفتح له الباب أمام تطور جبار عاصف، فإنّ انطلاق هذا التطور من عقاله في ظل كل ذلك التخلف الاقتصادي والتقني والثقافي، كان ينطوي على مشروع يعوض عن التخلف بأساليب التراكم البدائي ("الاشتراكي") الوحشية التي لا حاجة إليها بطبيعة الحال عندما تكون نقطة انطلاق التحول الاشتراكي رأسمالية متطورة.
وتفشل الثورة في إقامة مؤسسات صحيحة للديمقراطية المباشرة للطبقة العاملة وجماهير العاملين، وينشأ نظام الحزب الواحد، وتفقد السوڤييتات والنقابات ديناميتها بصورة تدريجية فتنحط وتتدهور.
ورغم تحوُّل الماركسية إلى مذهب للدولة، في التعليم والإعلام والدعاية والحزب والعمل السياسي والجماهيري والأبحاث والعلوم والآداب والفنون، فإن هؤلاء الأنصار الجدد لدين الدولة لن يعوّضوا عن دمار المناضلين البلاشڤة في الحروب حتى قبل التصفيات الستالينية، وبصورة تدريجية يتبلور مشهد عملية بناء جبارة لكن بلا شيوعيين حقيقيين، وبلا مؤسسات عمالية ديمقراطية من أيّ نوع.
ورغم المذهب القائل بأن الاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا من صُنْع الجماهير، تصبح الاشتراكية وكل شيء آخر من اقتصاد أو تخطيط أو سياسة أو تنفيذ أو رقابة من صُنْع (ووظائف) بيروقراطية وأجهزة الدولة التي أصبح الحزب والسوڤييت والنقابة في عداد أجهزتها من الناحية الفعلية.
ويندفع المجتمع السوڤييتي في تحقيق مشروع بناء مجتمع حديث يمتلك قوى منتجة متطورة على حساب استهلاك الجماهير العاملة، وبقيادة وسلطة وامتيازات البيروقراطية وبالاعتماد على الأجهزة والأساليب الپوليسية مع دور الحزب والسوڤييتات والنقابات في القمع الأيديولوچي والسيطرة على الجماهير، ومثل هذا المشروع لا يمكن إلا أن يكون مشروعا رأسماليا مهما كان نوعيا (رأسمالية الدولة البيروقراطية) ومهما استند على ملكية الدولة أو التخطيط أو الماركسية-اللينينية.
وإذا كان صعود الستالينية في أواخر العشرينيات حركة كبرى من التراكم البدائي ("الاشتراكي")، والعصف ببقايا الديمقراطية في كافة المؤسسات، وإرساء أسس النظام الشمولي، وصعود البيروقراطية إلى مركز طبقة حاكمة في طور التكوين، فإن المجرى العام لثورة أكتوبر وللمجتمع الانتقالي المبكر، بكافة شروطه الموضوعية والذاتية غير المواتية، سهّل مهمة العصف بثورة أكتوبر باسمها وتبلوُر النموذج السوڤييتي الذي تم فيما بعد تصديره واستيراده، والذي تمثلت خصائصه الرئيسية في اقتصاد الدولة ملكية وإنتاجا وتوزيعا وتخطيطا وسلطة بيروقراطية الدولة، التي اتخذت أشكالا ديكتاتورية پوليسية لا مثيل لها في التاريخ الحديث، والعلاقات الاستغلالية البيروقراطية، والماركسية-اللينينية التي تسبِّح بحمد النظام الاشتراكي المزعوم القائم ولا تجرؤ على نقده، والأممية اللفظية في السياسة الخارجية التي قامت في واقع الأمر على المصالح السياسية والاقتصادية الإستراتيچية.
إن النموذج السوڤييتي الذي لا يمكننا هنا أن نتابع كافة نواحي نشأته ورسوخه ومراحله، وناهيك بتصديره واستيراده وغرسه في بيئات أخرى ليس سوى رأسمالية دولة شمولية.
الانهيار ومغزاه
من الجلي أن هذا النموذج ينطوي في داخله على جرثومة انهياره الأكيدة، ليس الانهيار الذي ينتظر كل "نموذج" رأسمالي وحسب، بل الانهيار المرتبط بخصوصيته النوعية، بوصفه رأسمالية دولة شاملة تحظر الاستثمار الرأسمالي الخاص.
ولعل من أبرز نقاط ضعف نظرية رأسمالية الدولة في روسيا عند توني كليف وكريس هارمان Chris Harman وغيرهما من قادة حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا، هذا العجز العقائدي عن استشراف هذا الانهيار. وأعتقد أن هذا العجز ينبع من الإحجام عن تحليل تناقضات رأسمالية الدولة حتى النهاية، وكأن إثبات أن الاشتراكية المزعومة في بلدان النموذج السوڤييتي لم تكن في واقع الأمر سوى رأسمالية دولة، يقتضي التعامي عن تناقضاها وأزماتها وعن المسار المحتمل لتطور تلك التناقضات والأزمات!  
والواقع أن كل أو تقريبا كل محاولات تفسير انهيار النموذج السوڤييتي تركز على فكرة "ردّة" رأسمالية راهنة (الخط السوڤييتي، الأممية الرابعة، الجماعية البيروقراطية) أو قريبة العهد أيْ بعد ستالين والمؤتمر العشرين (الخط الماوي وكذلك "الطريق الثالث" المشار إليه سابقا بالتبعية). ولكن هذه النظريات جميعا تواجه مآزق نظرية بالغة الصعوبة، فكيف يمكن تصديق حدوث ردة رأسمالية عن اشتراكية عالية التطور (الخط السوڤييتي) أو حتى اشتراكية عهد ستالين (الخط الصيني) أو عن اقتصاد انتقالي يُفترض فيه نمو الجديد الاشتراكي على حساب القديم الرأسمالي على مدى عقود طويلة (ماندل والأممية الرابعة) أو عن تكوين اجتماعي-اقتصادي بعد-رأسمالي جديد (شاختمان ونظرية الجماعية البيروقراطية)؟
أما نظرية رأسمالية الدولة (توني كليف) فلا مكان فيها للحديث عن ردّة رأسمالية راهنة مع الپيريسترويكا أو قريبة العهد مع المؤتمر العشرين. والردة الوحيدة الواردة عند هذا الاتجاه هي الردة الرأسمالية البيروقراطية الستالينية في أواخر العشرينيات عن ثورة أكتوبر وعن المجتمع الانتقالي الذي ازدوجت فيه بقايا التكوينات الموروثة عن روسيا القيصرية ومحاولات البناء الاشتراكي الأولى خلال قرابة العقد بعد الثورة. وإذا كانت هناك ردة راهنة فهي في نظر هذا الاتجاه ردة عن شكل للرأسمالية (رأسمالية الدولة) إلى شكل آخر للرأسمالية الواحدة نفسها (الرأسمالية عبْر القومية). وإذا كان هذا الاتجاه يقدم بالفعل نظرية متسقة مع الطبيعة الرأسمالية البيروقراطية للنموذج السوڤييتي، ويقدم بالتالي تفسيرا عاما سليما لمغزى التحولات الراهنة باعتبارها حركة، ليس إلى الأمام وليس إلى الوراء، بل في نفس المكان من حيث التكوين الاجتماعي-الاقتصادي الرأسمالي الواحد المستمر، فإن مسألة ما إذا كان تفسيره للأبعاد الهائلة والمفاجئة التي اتخذها انهيار النموذج السوڤييتي مقنعا وكافيا تظل مفتوحة للجدال.
لقد عاشت رأسمالية الدولة الشمولية، رغم تناقضاتها وأزماتها، عقودا طويلة. وفي هذا الزمن الطويل نسبيا أمكن لرأسمالية الدولة أن تعطي أروع ثمارها التي تتمثل في تطوير القوى المنتجة بمعدلات نمو لا تفوقها سوى معدلات نمو الياپان، فحققت في عقود معدودة ما احتاجت الرأسمالية في الغرب لتحقيقه إلى مئات السنين. وفي هذا الزمن الطويل نسبيا أمكن لتناقضات وأزمات رأسمالية الدولة أن تتفاقم وتستفحل وتنضج لتعطي بدورها أروع ثمارها التي تمثلت في كسر إطار الشمولية، وفتح الأبواب والنوافذ أمام نضال الجماهير العاملة في سبيل حرياتها وحقوقها ومستويات معيشتها ونقاباتها وأحزابها وثوراتها.
فهل هناك ما يدعو للعجب في أن تعيش رأسمالية الدولة الشمولية، رغم تناقضها وأزماتها، كل هذا الزمن الطويل؟
والواقع أن التناقض الجوهري الذي ينطوي عليه هذا التكوين الاقتصادي-السياسي الشمولي، والذي يحتاج إلى زمن طويل لإنضاج تفاعلاته المؤدية إلى تفتيت وتفجير هذا التكوين الذي يتغلب عليه مع ذلك لزمن طويل بفضل العوامل البنيوية والظرفية المؤدية إلى تأكيد وإطالة أمد دور الدولة، فالبيروقراطية الرأسمالية لا يمكن إلا أن تطمح إلى التحول إلى طبقة رأسمالية عادية تفتح أمامها أبواب الاستثمار الخاص مهما كان حجم ووزن اقتصاد الدولة والاستبداد الشمولي. وهذا عامل تفتيت لهذا التكوين على المدى البعيد. وليس صحيحا أن البيروقراطية العليا لا يمكن أن تنتحر بالتخلي عن امتيازاتها الهائلة، فهي لا تتخلَّى عنها في الحقيقة إلا لتضيف إليها، أو لتكسب بدلا منها، كافة مزايا التحول إلى طبقة مالكة وحاكمة بلا قيود دولوية. كما أن الجماهير العاملة المستغلة والمضطهدة أكثر مما في أيّ بلد رأسمالي ليبرالي لا تملك كطبقة أو طبقات سوى الثورة ضد الإفقار والاضطهاد في ظل الحكم الشمولي. وهذا عامل تفتيت آخر لهذه الرأسمالية الشمولية، لكنْ على المدى الطويل أيضا.
فما هي عوامل التماسك البنيوية والظرفية التي تتغلب، ولزمن طويل، على عوامل تفتيت هذا التكوين الشمولي؟
هناك، أولا، ذلك المشروع الهائل لتطوير القوى المنتجة والذي كان المزيد من إنجازاته وقفزاته بالمجتمع يؤكد دور ملكية وتخطيط وبيروقراطية وأشكال حكم الدولة. وطالما ظلت دينامية ذلك المشروع مستمرة وأهدافه الإستراتيچية غير متحققة بصورة كاملة، كان ذلك المشروع مفخرة الدولة الشمولية ومحور عملها وأساس تماسكها. وتتمثل مصالح البيروقراطية كطبقة، أو بالأحرى كطبقة في دور التكوين، في نجاح هذا المشروع، ويجري تغليب المصالح الإستراتيچية للبيروقراطية في الاستحواذ على اقتصاد متطور بالغ التعقيد والحداثة على مصالحها المؤقتة المتمثلة في مزايا التحول السريع إلى طبقة رأسمالية تستثمر وتستخدم العمل المأجور في مشروعات خاصة.
على أن هذا المشروع التحديثي العملاق لم يكن محور وجود ونجاح ومستقبل البيروقراطية وحدها؛ بل كان كذلك محور واقع وأساطير حياة الجماهير العاملة التي كانت واقعة في إسار أوهام وعوده، والتي كان الحكام يخشون غضبها ومقاومتها لأيّ "ردّة" عن دور الدولة التي كانت تعمل على قدم وساق على تحقيقه. كما أن الشرعية التي اغتصبتها البيروقراطية، شرعية ثورة أكتوبر وديكتاتورية الپروليتاريا، كانت تكرس ملكية الدولة وتخطيط الاقتصاد والأيديولوچية الماركسية-اللينينية التبريرية الملفقة، ولم يكن التحدي المباشر لتلك الشرعية مأمون العواقب. وهكذا كانت تلك الشرعية بدورها من عوامل تأكيد وتأبيد دور رأسمالية الدولة الشمولية.
على أن الوضع الدولي، بثوابته ومتغيراته، كان لا يتأخر عن استفزاز وتحدي النموذج السوڤييتي بأسباب متزايدة لاستمرار وتماسك دور الدولة.
ومنذ البداية، كما سبق أنْ رأينا، كان الغرب الرأسمالي الإمپريالي يتحدى ثورة أكتوبر، بعيدا عن آمال أو أوهام وأساطير نجدة الثورة الپروليتارية العالمية، بشروط الصلح مع ألمانيا، وبالتدخل الأجنبي المسلح، ثم بالتطويق الرأسمالي العالمي بعد ذلك. وكان على الدولة الجديدة ليس فقط أنْ تطور القوى المنتجة بسرعة مذهلة بل أن تطور كذلك وبالسرعة نفسها قوى الدمار دفاعا عن النفس. ولم تتأخر الفاشية الهتلرية عن الهجوم. وكان من المنطقي أن تؤكد الحرب العالمية الثانية، بالدمار المفزع الذي حلّ بالاتحاد السوڤييتي، دور رأسمالية الدولة من خلال ضرورات إعادة التعمير واستئناف مشروع التحديث العملاق والتحول إلى قوة عسكرية من الطراز الأول، دفاعا عن النفس أمام أخطار مفزعة تأكدت بصعود وتفوق وعدوانية إمپريالية الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك دفاعًا عن الإمپراطورية السوڤييتية، وكذلك للتنافس العالمي على مناطق النفوذ. وأخذت تحديات سباق التسلح والحرب الباردة والثورات العلمية والتقنية في الغرب تؤكد وتطيل أمد دور رأسمالية الدولة.
على أن هذه المجابهات والحروب الساخنة والباردة وأعباء الدفاع وأعباء الدولة العظمى وأعباء امتلاك وتطوير ترسانة أسلحة تعادل الترسانة الأمريكية بالاستناد إلى اقتصاد لا يتجاوز نصف الاقتصاد الأمريكي، كان لابد أنْ تنتهي تراكميا إلى إنهاك الاتحاد السوڤييتي وإلى تفاقم تناقضاته واستفحال أزماته.
وفي عصر لم يعد ممكنا فيه حكم الشعب السوڤييتي بالحديد والنار ومعسكرات العمل، خاصة في ظل تراجع الاقتصاد ومستويات المعيشة، وفي عالم يتميز بأنه صار قرية إعلامية واحدة بإغراءات حقائق وأساطير مستويات المعيشة في الغرب، كان لا مناص من بروز تناقض بعينه. ذلك أن الاقتصاد المنظم على الأساس الجماعي يدخل في تناقض صارخ مع مجتمع تسوده القيم الفردية بعيدا عن ادعاءات القيم الجماعية والشيوعية. وفي غياب المبادرة الجماعية (كتلك التي سادت أيام القيم والمبادرات الجماعية الشيوعية التي أطلقتها ثورة أكتوبر) والتي لا تنسجم إلا مع المبدأ الجماعي حقا، شكلا ومحتوى، في تنظيم الاقتصاد ومع سيادة القيم الجماعية والشيوعية، وفي غياب المبدأ الفردي في تنظيم الاقتصاد والذي من شأنه أن يصيب الطبقات المالكة بحُمَّى التراكم الخاص، وأنْ يقدم الأساس لرقابة فعالة على عملية العمل، وكذلك في غياب الإكراه الشمولي الصارم الذي يمكنه أنْ يملأ الفجوة بين ضرورات التراكم الجماعي البيروقراطي (الرأسمالي بالطبع) من ناحية، وغياب الحوافز والمصالح الفردية والخاصة لدى طبقات المجتمع كافة من الناحية الأخرى، غدا من المستحيل تفادي ترهل المجتمع وتدني الأداء الاقتصادي وانهيار كل مسئولية إزاء اقتصاد وموارد البلاد أو الدولة وفقدان الاتجاه العام (وكابوس القطار المندفع بأقصى سرعة بلا سائق كما رآه جورباتشوڤ Gorbachev في يقظته)، فلا مناص إذن من أن يجدّ البحث عن الاتجاه الصحيح والأداء الاقتصادي الفعال وسبل تفادي التخلف النهائي عن الغرب وتردّي وانهيار وانفجار الوضع برمته. وإذا كانت المبادرة قد جاءت في الاتحاد السوڤييتي من أعلى (من جورباتشوڤ والپيريسترويكا والجلاسنوست) فهي لم تأت إلا في مناخ يتميز بالانفجارات المتكررة في بلدان "المنظومة" وبعد سنوات من احتدام الصراعات الحاسمة في پولندا )التضامن وليخ ڤاونسا)، ولم تكتسب مبادرة جورباتشوڤ ديناميتها المدمرة والمحررة إلا من عوامل التفتيت الاقتصادي والقومي والأيديولوچي التي كانت تختفي تحت السطح الجرانيتي اللامع، فإذا بنا أمام معارك إعادة هيكلة الاقتصاد في اتجاه الجمع بين الأشكال المتنوعة للملكية الرأسمالية، والصراعات الطاحنة بين القوميات بعد عقود طويلة من الحل اللينيني المزعوم في بلدان المنظومة، والتنصل من الاشتراكية والشيوعية والماركسية واللينينية وثورة أكتوبر والثورات اللاحقة وكل ثورة بعد عقود طويلة من الرفع المنافق عاليا لتلك الرايات الزائفة.  
على أن انهيار النموذج السوڤييتي لا يعني انهيار بلدانه كبلدان أو شعوب أو اقتصادات. وإذا ركزنا على روسيا، يمكن القول إن إنجازاتها في مجال تحديث وتطوير قواها المنتجة (البشرية والمادية والعلمية والتقنية) تؤهلها للتغلب على الأزمة التي رافقت انهيار النموذج وللخروج منها قوة اقتصادية ضخمة (وبالأخص قادرة على اللحاق بالغرب والتنافس معه على قدم المساواة)، تتبوأ مكانتها في صدارة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب إلى جانب الولايات المتحدة وأوروپا الموحدة والياپان، أيْ كعضو أصيل في نادي الشمال الرأسمالي المتقدم.
وإذا كانت المصائر النظرية العامة لبلدان النموذج لا تخرج عن: أ: استمرار النموذج السوڤييتي، ب: الثورة الليبرالية، ج: الثورة الاشتراكية، فإن الانهيار الراهن للنموذج، وعلى أوسع نطاق، يدعو إلى التساؤل عن احتمالات المصائر الفعلية وهل من الوارد بينها إحياء هذا النموذج من جديد بعد هدوء العاصفة.
لقد رأينا كيف كان مشروع تحديث القوى المنتجة هو القوة الدينامية الدافعة، قبل وبعد وإلى جانب الدوافع الأيديولوچية والظرفية، وراء قيام واستمرار ورسوخ النموذج السوڤييتي في مسقط رأسه بالذات. فما هي تناقضات هذا الارتباط بين المشروع والنموذج؟ وما هي علاقة هذه التناقضات بمصائر اقتصادات ونظم بلدان النموذج؟
وقد رأينا أن مشروع التحديث كان يؤكد دوما دور نموذج رأسمالية الدولة. غير أن ضرورات السير بمشروع التحديث إلى نهايته المنطقية، إلى اللحاق الأكيد بالغرب، أخذت تتناقض مع استفحال تناقضات وأزمات النموذج وترهل النظام وتدهور الأداء الاقتصادي، مؤذنة بضرورة إرسال النموذج إلى متحف التاريخ بعد أن وصل بالتحديث إلى مستوى يسهل تحقيق قفزات كبرى انطلاقا منه بشرط التحرر من البيروقراطية الشمولية التي انقلبت إلى عائق كئيب. والحقيقة أن معدلات النمو المتفوقة لهذا النموذج لا تعكس التفوق الاشتراكي على الرأسمالية فهذا ليس واردا بالنسبة لهذا النموذج، الرأسمالي بدوره. بل إن مقارنة هذه المعدلات مع المعدلات الرأسمالية الغربية المتواضعة مقارنة مضللة وخادعة يجري الإلحاح عليها لتكريس أسطورة التفوق السوڤييتي الاشتراكي المزعوم. فالرأسمالية الغربية التي شبعت تحديثا للقوى المنتجة ليست بحاجة إلى مثل هذه المعدلات في النمو ولا تنوي الدخول في سباق عليها مع أحد. والواقع أن نظامها الاجتماعي-الاقتصادي القائم على مبدأ الربح، وليس على التنمية الشاملة لمقدرات ومستويات معيشة الجماهير، يستبعد النمو بمثل هذه المعدلات التي تعني في نهاية المطاف أزمة فيض الإنتاج، نتيجة لأزمة نقص الطلب "الفعال"، بل أصبحت المهمة الاقتصادية الأولى لهذا النظام تتمثل في كبح نمو القوى المنتجة ومواد الاستهلاك وليس في إطلاقه، اللهم إلا في حدود ومجالات بعينها، الأمر الذي يعني أن الرأسمالية الغربية المتطورة دخلت مرحلة الركود المزمن الذي لا فكاك منه. أما معدلات النمو الياپانية التي تتفوق على المعدلات السوڤييتية ذاتها فتدل بصورة قاطعة على أن تفوق المعدلات لا يرجع إلى تفوق رأسمالي أو تفوق اشتراكي بل يرجع على العكس من ذلك إلى ضرورات ملء فجوة التخلف الروسي والياپاني عن الغرب، وينطبق الشيء نفسه على معدلات نمو الرأسمالية في روسيا القيصرية في العقود السابقة للثورة. وإنما يكمن المغزى الحقيقي لكل مقارنة في مدى ملء فجوة التخلف، في مدى اللحاق بالغرب. وفي حين تتخلف روسيا الاشتراكية المزعومة عن الغرب تخلفا مفزعا من حيث إنتاجية العمل، تتجه الياپان إلى تفوق حاسم، وإنْ كانت الياپان بدورها لا يمكنها بطبيعة الحال أنْ تفلت من النتائج الكئيبة لنمو تناقضات الرأسمالية على المدى الطويل.
وبديهي أن بلدان النموذج متفاوتة من حيث التحديث ومنها بلدان لم ترتبط بالنموذج إلا عبر الارتباط بالاتحاد السوڤييتي السابق أو بروسيا ضمن هذا الأخير، بمعنى تبنِّي أسوأ ما في النموذج (الحكم الشمولي) دون تحديث، اعتمادا على ما سماه السوڤييت ذات يوم بالتقسيم الدولي الاشتراكي للعمل، فليس أمام هذه البلدان سوى اللحاق بالعالم الثالث.
وإذا ركزنا على أكثر هذه البلدان تحديثا، لم يعد واردا استمرار أو إحياء النموذج، ليس فقط لأن الوصول بالتحديث إلى مستوى التنافس مع الغرب على قدم المساواة أصبح يشترط التخلص من هذا النموذج، بل كذلك لأن تحول البيروقراطية إلى طبقة رأسمالية يشترط الشيء نفسه.
والحقيقة أن البيروقراطية مصابة في الصميم بتناقض جوهري بين المبدأ الفردي والخاص والعائلي كمثل أعلى للعلاقات الاستغلالية والمجتمع الاستغلالي من ناحية والتنظيم الجماعي لاقتصاد الدولة من الناحية الأخرى. ولا يمكن لهذه البيروقراطية أن تصبح طبقة رأسمالية، ولا حتى طبقة رأسمالية بيروقراطية، بالمعنى الصحيح للعبارة، إلا عندما تكون العملية الرأسمالية سلسلة واحدة من الحلقات المتماسكة والمتوازنة بحيث لا تطغى المصلحة الجماعية للطبقة في التراكم الرأسمالي البيروقراطي الدولوي، بل توجد إلى جانبها مصالح التراكم الرأسمالي الفردي والخاص، التي لا ينبغي أبدا التقليل من شأنها والتي لا يمكن تأمينها على الإطلاق من خلال رأسمالية الدولة الشمولية التي يمكن لمنطقها دائما وكلما اقتضى الأمر أنْ يعصف بموظفيها "المماليك" مهما كانوا كبارا أو قططا سمانا أو نخبة بيروقراطية عليا. إن البيروقراطي الفرد مدفوع دوما إلى تأمين سيادته للمجتمع من خلال إحلال أسس المبدأ الطبقي الفردي (الملكية الرأسمالية الخاصة وهي المحيط الطبيعي لازدهاره) محل المبدأ الطبقي الجماعي (ملكية وتخطيط الدولة وينطوي هذا المبدأ دوما على إمكانيات العصف بالبيروقراطي الفرد)، على أن هذا المبدأ الفردي ليس أبدا مصلحة فردية منعزلة أو مصلحة أفراد منعزلين بل مصلحة طبقية جماعية لأفراد الطبقة الذين لا يمكن تأمين فرديتهم إلا بجماعيتهم كطبقة ولا يمكن تأمين تماسك جماعيتهم إلا بالحفاظ على مصالحهم الطبقية كأفراد.
وكانت الثورة الليبرالية الراهنة التي هي محتوى أزمة وانهيار واختفاء النموذج السوڤييتي هي الحل السعيد لتناقض هذا النموذج مع المزيد من سير هذه البلدان بالتحديث إلى الأمام وكذلك لتناقضه مع مصالح البيروقراطية في التحول إلى طبقة رأسمالية كاملة الأهلية. على أن الليبرالية الاقتصادية لن تفترض بالضرورة وفي كافة الأحوال ليبرالية في السياسة والحكم فلا جدال إذن في أن التحولات الجارية تكتنفها مخاوف تحوُّل بعض هذه البلدان إلى بلدان فاشية باقتصاد رأسمالي خاص لتتجه حسب تكوينها الاجتماعي-الاقتصادي الحقيقي إلى الانضمام إلى العالم الثالث أو البقاء في ذيل قائمة بلدان الشمال الرأسمالي.
ولم يكن من الوارد، بطبيعة الحال، أن تندلع ثورات اشتراكية بدلا من هذه الثورات الليبرالية، ذلك أن أحد مجالات نجاح النموذج السوڤييتي كان يتمثل في كافة بلدانه في تصفية الحياة السياسية وتفريغ الأشكال الحزبية والسوڤييتية والنقابية من محتواها، باستثناء محتواها التفريغي ذاته، على أن فك الارتباط بين هذه الدول من جانب والشيوعية من جانب آخر حدث تاريخي بكل معنى الكلمة، وهو يصدم غير أنه يحرّر وبالتالي يدفع إلى الاتجاه الصحيح، اتجاه ثورات اشتراكية من طراز جديد.
والواقع أن التعبئات الجماهيرية الضخمة التي تدشن بها الجماهير العاملة في هذه البلدان انتقالها من معاناة مزمنة إلى معاناة حادة مفزعة إنما هي تعبئات الثورات الجماهيرية الليبرالية، فلا مجال إذن لأوهام انقلابها فجأة إلى مقدمات ثورات اشتراكية.
نحو عالم بلا أساطير
يتبين من الصفحات السابقة، في ضوء حقيقة أن النموذج السوڤييتي لم يكن من حيث طبيعته الاجتماعية سوى رأسمالية دولة بيروقراطية، أن المغزى الحقيقي لانهيار واختفاء هذا النموذج من بلدانه ومن العالم يتمثل في اختفاء وتلاشي تناقض رئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية، بالنتيجة المنطقية الجوهرية التالية: استعادة وحدة الرأسمالية العالمية لنكون إزاء شمال رأسمالي واحد موحَّد بشرقه وغربه، في مواجهة شعوب الشمال من ناحية وشعوب الجنوب التابع (العالم الثالث) من ناحية أخرى.
وبديهي أن مغزى وجود أو اختفاء هذا التناقض لا يختلف في جوهره وليس في أبعاده بالضرورة، عن مغزى وجود أو اختفاء كل تناقض رئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية. إنه ليس أكثر لكنه ليس أقل من ذلك أيضا.
ومن الجلي بطبيعة الحال أن التناقض الرئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية قد يقود إلى أزمات مدمرة كالحرب العالمية الأولى أو الثانية؛ وكانت كل منهما انفجارا لتناقض رئيسي في صفوف الرأسمالية العالمية، بين مصالح الرأسماليات الإمپريالية الجديدة المحرومة من المستعمرات، خاصة ألمانيا في كل من الحربين العالميتين، وبين مصالح بقية الرأسماليات الإمپريالية التي كانت قد أكملت اقتسام العالم من قبل، خاصة إنجلترا وفرنسا وروسيا (فيما يسمَّى بالاستعمار الداخلي).
على أن استعادة الوحدة في صفوف الرأسمالية العالمية، حربًا أو سلمًا، لا تعني بالضرورة أن الوحدة صارت أبدية أو أنها غير قابلة للفقدان نتيجة لإعادة تكوين التناقض من جديد بين نفس المصالح الرأسمالية التي تناقضت من قبل (ألمانيا والحربان العالميتان) أو بين مصالح رأسمالية أخرى تتناقض حول محاور أخرى متوقعة أو مفاجئة (مثل نشوء النموذج السوڤييتي).
وتتجلَّى خطورة المرحلة التي يتجه إليها العالم الآن عندما ندرك حق الإدراك أن الرأسمالية الإمپريالية العالمية حبلى بالكوارث في الأحوال كافة، في أحوال وجود أو احتدام أو انفجار تناقضات كبرى في صفوفها، لكن أيضا في أحوال اختفاء هذه التناقضات الكبرى واستعادة الوحدة.
ورغم الكوارث التي يمكن للتناقضات الكبرى أن تقود إليها العالم، وقد كانت الشعوب وقودًا لحربين عالميتيْن مدمرتين تفصل بين نهاية الأولى وبداية الثانية قرابة عشرين سنة وحسب، يمكن القول بوجه عام إن هناك إمكانية لاستغلال الثغرات التي قد تفتحها تلك التناقضات لصالح الشعوب.
أما فترات اختفاء التناقضات الكبرى، واستعادة الوحدة، فلا يمكن إلا أن تكون وبالا على الشعوب، خاصة في البلدان التابعة.
وإذا كان اختفاء النموذج السوڤييتي ينذر بكوارث تنطوي عليها قدرات استعادة الوحدة الرأسمالية العالمية، فإن وجود هذا النموذج (في نشوئه وانتشاره ونموه واستقراره وانهياره ذاته) كان دائما في بؤرة الكوارث التي تقود إليها فترات احتدام التناقضات الكبرى في صفوف الرأسمالية. وكان نشوء هذا النموذج وثيق الصلة بالتأثير المباشر لتلك التناقضات وكذلك باستغلال الثغرات التي تفتحها. وإذا كان نشوء هذه الأنظمة مرتبطا مباشرة باستغلال الثغرات (الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر، الحرب العالمية الثانية وأوروپا الشرقية والصين وكوريا وڤيتنام) فإن الوجود المستقر للنموذج كتناقض في صفوف الرأسمالية العالمية قد تداخل مع تناقض الفاشية مع بقية الرأسمالية الاستعمارية (هجوم هتلر على الاتحاد السوڤييتي) واستقل بكوارثه التي اتخذت صورة الحرب الباردة والحروب الساخنة بالوكالة تنافسًا على مناطق النفوذ ولم تتخذ هذا الشكل "الرحيم" من الكوارث إلا بفضل تطور القدرة العسكرية السوڤييتية التي كان يمكن على الأرجح لولاها أن يتعرض الاتحاد السوڤييتي للهجوم النووي الذي يبدو أن خططه كانت جاهزة. 
صحيح أن تطورات ومعارك التناقض مع النموذج السوڤييتي، والاتحاد السوڤييتي بالذات، كانت متداخلة مع حركات التحرر الوطني الرامية إلى الاستقلال عن الاستعمار الغربي بالاستناد إلى تأييد وعون الاتحاد السوڤييتي (ومعسكره) استغلالا لتناقضه مع الغرب، وصحيح أن الغرب كان يمارس هذا التناقض من خلال الحرب الباردة والحروب المباشرة (كوريا وڤييتنام) وبالوكالة، أيْ بالوسائل العسكرية التي لا يبررها سلوك عدواني من جانب الاتحاد السوڤييتي ومعسكره، وذلك لاعتقاده (الغرب) أن المعسكر السوڤييتي معسكر شيوعي، وليس منافسا رأسماليا مثل الفاشية الألمانية أو الإيطالية أو الياپانية في الحرب العالمية الثانية. غير أنه صحيح أيضا أنه، رغم الدور الاستثنائي الهائل لسوء التفاهم والأسطورة، كانت هناك ممارسة على النطاق العالمي لتنافس إستراتيچي قائم على المصالح، وليس على أيّ سوء تفاهم، من جانب الاتحاد السوڤييتي بالذات.  
وصحيح أيضا أن الغرب لم يهادن الاتحاد السوڤييتي (وبقية بلدان النموذج) قط، بل ناصبه العداء وطوّقه وحاصره وهاجمه عسكريّا (الحرب العالمية الثانية بالذات) وتآمر ضده ووضع الخطط النووية لتدميره وشن ضده حربًا دعائية عالمية استمرت عدة عقود، وصحيح أن هذا الغرب هو الذي فرض، بخطه العدواني، واعتقادا منه أنه يحارب الشيوعية الدولية، على الاتحاد السوڤييتي المسار الذي سلكه (تطوير القدرة العسكرية التقليدية والنووية، تأييد ومساعدة حركات التحرر الوطني الرامية إلى الاستقلال عن الغرب، الاندفاع في هجوم دعائي معاكس على النطاق العالمي بدوره). غير أنه صحيح أيضا أن سوء التفاهم الغربي وبالتالي سلوكه العدواني المتطرف وحربه الصليبية ضد الاتحاد السوڤييتي والشيوعية السوڤييتية وواقع أن الغرب هو الذي "اخترع" الاتحاد السوڤييتي بالخصائص التي أجبره على اكتسابها بدلا من أنْ تبقى التناقضات السوڤييتية مع بقية الرأسمالية العالمية في حدود أقل حدة بما لا يقاس، صحيح أن كل هذه الأشياء لا تغيّر واقع أن تناقضا كبيرا تم خلقه وتعهُّده بالرعاية والعناية والتطوير والحرب الصليبية المتعددة الوسائل والمراحل، بالخسائر التاريخية الفادحة التي جلبها هذا الصراع غير المبرر على الغرب والشرق في آن معا.
وإذا كان كلامي هذا يصدمني، أنا نفسي، قبل أن يصدم غيري، لأنني تربيت كغيري على فكرة أن الطبقات الحاكمة تحدد سلوكها بما يتفق ويتطابق وينسجم مع مصالحها الإستراتيچية، فقد فاتني كما فات غيري أن نتعلم أن الطبقات الحاكمة قد يفوتها إدراك مصالحها الإستراتيچية فتنخرط في سلوك مدمر لمصالحها وربما أيضا لبقائها أصلا. وليتذكر القارئ الحرب العالمية الثانية، وليتأمل ما يلي: كيف حدث لعدد من الدول الرأسمالية العالية التطور، بزعامة ألمانيا بالذات، أنْ أصابها الغرور بقوتها الاقتصادية والحربية المتفوقة فعلا، فحسمت أنّ مصالحها تقتضي خوض الحرب مع الدول الأوروپية الاستعمارية الكبرى (ومع الاتحاد السوڤييتي)، وفي غضون سنوات معدودة من الحرب دمرت تلك الدول والطبقات الرأسمالية العالم لكنْ أيضا نفسها، ففقدت استقلالها الذي لم تستعدْه كاملا إلى يومنا هذا (ألمانيا والياپان). والحقيقة أن سوء التفاهم الذي جعل تلك الدول الرأسمالية المتطورة الفاشية، عاجزة عن إدراك مصالحها ووسائل ومراحل تحقيقها وعلى ذلك النحو المدمر ليس بلا سوابق في التاريخ ولم يكن سوء التفاهم المدمر الوحيد في التاريخ المعاصر.
ومن ناحية أخرى، يؤدي اختفاء النموذج السوڤييتي، وبالتالي اختفاء انقسام العالم إلى شرق وغرب، إلى نتائج يتوقف على فهمها واستيعابها تصوّر المستقبل القريب والبعيد للعالم بصورة موضوعية، كما هو في الواقع، بلا أساطير، وبالتالي التعامل معه بهذه الصفة. على أن الوحدة المستعادة في صفوف الرأسمالية العالمية ليست مستقرة بعد، فالعالم الآن في فترة من السيولة والتفاعلات وإعادات الترتيب لاستيعاب الوحدة المستعادة مع تفادي انشقاقات من شأنها التطور في اتجاه تناقضات كبرى جديدة تقود بدورها إلى كوارث جديدة.
ومن المنطقي بطبيعة الحال أن نتوقع فترة غير قصيرة من "توابع الزلزال السوڤييتي". ويزيد من حدة الزلزال وتوابعه واقع أن اختفاء النموذج لم يتخذ شكلا هادئا يحلّ فيه خيار أو نموذج محل خيار أو نموذج آخر، بل شكل الأزمة والزلزال والعاصفة والانهيار بما يؤدي إلى فترة من الأوقات الصعبة وفقدان التوازن لدى بلدان النموذج، على أنه كان لا مناص، في كافة الأحوال، من السيولة والتفاعلات وإعادات الترتيب لأن التخلي المدوِّي عن الشيوعية من جانب بلدان النموذج جعل الغرب يفقد فجأة عدوه اللدود؛ فسقطت فجأة بالتالي أساطيره عن هذا العدو الشيوعي المزعوم، وبالأخص أسطورته عن التهديد أو الخطر أو الغزو السوڤييتي، هذه الأشياء التي كانت ترغم قوى رأسمالية كبرى على الاحتماء بالمظلة الأمريكية. وسوف يعني المزيد من استقرار التطورات السوڤييتية والاطمئنان إلى هذا الاستقرار إعادات ترتيب في أوضاع وتحالفات وسياسات القوى الرأسمالية الكبرى.
وإذا كانت التوازنات التي ظلت قائمة إلى عهد قريب قد فقدت استقرارها نتيجة للحركة الفجائية التي أصابت بعض عناصرها، أيْ نتيجة للانقلاب في العلاقات مع بلدان النموذج السوڤييتي من ناحية ونتيجة لغيابها النسبي المفاجئ عن الحلبة الدولية لفترة من ناحية أخرى فإن التنبؤ بالصورة المستقبلية الدقيقة التي ستستقر عليها العلاقات والتحالفات والتناقضات بين القوى الرأسمالية الكبرى يغدو بالغ الصعوبة. فمتى يحلّ عالم متعدد الأقطاب الرأسمالية محل هذه الفترة المؤقتة من العالم الأحادي القطب كما يقال الآن؟ وما هي هذه الأقطاب وما وزن كل قطب منها في ضوء تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية مع بقاء قوتها العسكرية، وتداعي الاقتصاد الروسي مع بقاء القوة العسكرية الروسية، والقوة الاقتصادية الهائلة دون قوة عسكرية لكل من الياپان وألمانيا الموحدة أو أوروپا معاهدة ماستريخت الموحدة؟ وكيف سيتعامل هذا العالم مع أزمات واضطرابات وهجرات ومجاعات وكوارث وحروب العالم الثالث، بالإضافة إلى مغامرات قواه الإقليمية الطموحة التي تنفتح شهيتها مع التطورات الجديدة؟
والأسئلة التي من هذا القبيل لا نهاية لها من الناحية العملية، غير أن تحليلنا لمغزى وجود أو اختفاء النموذج السوڤييتي لا يضعنا إزاء اختفاء عامل ثوري أو اشتراكي فعال في التوازن العالمي، بل إزاء استمرار القوى الرأسمالية الكبرى نفسها التي ظلت سائدة في العقود السابقة على الحلبة الدولية بما في ذلك روسيا، التي كانت حقيقتها الرأسمالية تختفي تحت الاسم الاشتراكي للاتحاد السوڤييتي السابق.
وإذا كان من الجلي أن عوامل انشقاقات وتناقضات جديدة في صفوف هذه القوى ليست معدومة ("الحروب" التجارية الأمريكية مع الياپان وأوروپا الغربية) فإن عوامل وحدتها ليست معدومة أيضا (علاج جراحات الانشقاق المنتهي، الأخطار الإيكولوچية، اضطرابات العالم الثالث، إلخ.).
وبعيدًا عن محاولات التنبؤ وسط أجواء غائمة؛ يجمل بنا أن نلتفت إلى بعض خصائص عالم جرد الانهيار صراعاته من أسطورة الاشتراكية السوڤييتية وحررها من كثير من التناقضات الأسطورية والأساطير المتناقضة المتولدة عن تلك الأسطورة.
وبوجه خاص فإن انهيار هذا النموذج لا يقود إلى انقلاب في اتجاه مجرى التاريخ المعاصر، اللهم إلا من وجهة نظر مَنْ يزعم أنه كان نموذجا اشتراكيا (الخط السوڤييتي) أو انتقاليا (ماندل). والواقع أن تأكيد أن اتجاه مجرى التاريخ المعاصر لم ينقلب لا يقدم عزاءً لأحد. ذلك أن القوى الرأسمالية الكبرى نفسها التي كانت تسوده طوال العقود السابقة ستظل تسوده في المستقبل المنظور. مع إضافة ذات نتائج متمايزة ومتعارضة: إن اختفاء النموذج السوڤييتي يسهم في خلق ظروف موضوعية غير مواتية لأنه عامل وحدة داخل صفوف الرأسمالية العالمية، لكنه يسهم أيضا في خلق ظروف ذاتية مواتية لأنه يفك الارتباط بين الماركسية وبين قوى غريبة عليها ظلت تشوّهها وتضطهد الجماهير باسمها وتضلل الشيوعيين في كل مكان في العالم بنظريات تدَّعي تطويرها استنادا إليها.
فهل ما زال العالم، رغم تقلباته وانقلاباته وتكشُّف حقائقه، في عصر الإمپريالية والثورة الپروليتارية؟
أعتقد أن الإجابة بالإيجاب، ولكنْ... بشرط فهْم موضوعي، ثوري حقا، بعيدا عن النزعة الإرادية الثوروية، فهْم لا يعتبر الثورات "الاشتراكية" طوال القرن العشرين ثورات پروليتارية كاملة الأهلية، يعني إخفاقها وفشلها في نهاية المطاف أن تشخيص طبيعة العصر كان خاطئا، بل ينطلق من الحدود الحقيقية لاشتراكية تلك الثورات، والشروط الموضوعية والذاتية التي تقتضيها الثورة الاشتراكية القابلة للحياة. وإذا كانت پروليتاريا البلدان الرأسمالية المتقدمة قادرة، بعد إغناء وتطوير ماركسيتها باستخلاص دروس التجارب المريرة، على إحياء واستئناف النضال الاشتراكي الثوري الأممي فإن قضية الثورة الاشتراكية والاستقلال الوطني في البلدان التابعة (العالم الثالث) تغدو بالضرورة قضية واحدة في إطار ثورة اشتراكية أممية، حيث يستحيل على بلد أو أكثر من بلدان العالم الثالث القيام بالثورة الاشتراكية وتأمين البناء الاشتراكي إلا في إطار الثورة الاشتراكية الأممية التي تشتمل على بلد أو أكثر من البلدان الرأسمالية المتطورة؛ لأن ثورات العالم الثالث عاجزة عن حماية نفسها ضد الحرب الصليبية التي ستشنها الرأسمالية العالمية الموحدة ضدها، بحكم بداهة ضعفها وتخلفها، كما أن ثوراتها عاجزة عن تحديث قواها المنتجة بلا عون بلا حدود من جانب بلدان اشتراكية متطورة.
والحقيقة أن الوضع الذي يجد الجنوب (العالم الثالث) فيه نفسه الآن، بعد عقود من محاولات الفكاك من التبعية أو تحسين شروطها باستغلال التناقضات بين المعسكرين، برهان ساطع على أن التناقض والصراع بين المعسكرين لم يكن في الواقع سوى تناقض وصراع بين كتلتين رأسماليتين. وكانت الآفاق التي يفتحها ذلك التناقض أمام شعوب العالم الثالث آفاقا كاذبة، فالحقيقة التي تتضح الآن، بعد فوات الأوان، هي أنها لم تفتح أمام أيّ بلد أو شعب أو أمة في العالم الثالث إمكانات لانتشار الثورة الاشتراكية والبناء الاشتراكي، ولم تساعد في أفضل الأحوال إلا في انتشار النموذج السوڤييتي نفسه في طبعاته الأكثر تخلفا والأكثر بعدا عن تحديث حقيقي (استنادا إلى تقسيم العمل الدولي "الاشتراكي" المزعوم). وفي نهاية المطاف، تم إعلان رأسماليات الدول الديكتاتورية ذات الأيديولوچيات القومية والمعادية لأية ماركسية، بما في ذلك الماركسية السوڤييتية، بشرط التعاون والصداقة مع الاتحاد السوڤييتي نظما اشتراكية أو ذات توجُّه اشتراكي، وكانت النتائج كارثية في كل مكان.
والجنوب الآن هو مكان التخلف وزمانه ورمزه، وقد وصلت التبعية الاستعمارية بالجنوب، بعد فترات من المحاولات المخفقة للتحرّر منها، إلى نقطة مفزعة. وصل الجنوب إلى نقطة الانهيار. ولا يتمثل هذا الانهيار في مجرد التأبيد النهائي، في المدى المنظور، للتبعية بعد إخفاق حركة التحرر الوطني وتراجع آفاق الثورة الاشتراكية أو حتى أوهامها الجميلة، بل هو الانهيار المباشر. فبعد أن وصل الجنوب إلى أقصى تطور ممكن في إطار التبعية ما بعد الكولونيالية، بدأ اليوم، بل أمس، الهبوط على الجانب الآخر من التل، في اتجاه المجاعات والحروب والحروب الأهلية والمغامرات والفوضى والهجرات، وربما لن تهدأ عواصف العالم الثالث قبل انخفاض جذري في سكانه يعيد توازن السكان والموارد في ظل نظم اجتماعية-اقتصادية متخلفة، ربما لتهدأ المالتوسية في قبرها.
ولم يستطع الشرق الأحمر، ولم يكن من شأنه ولم تكن قضيته، أن ينقذ الجنوب. أما الغرب (الشمال) فهو الذي قاد ويقود الجنوب إلى هذا المصير. و قد عجز الجنوب عن الإفلات منه لأنه لم يمتلك ولا يمتلك دينامية ذاتية منقذة.
على أن عجز العالم الثالث عن إنقاذ النفس، اعتمادا على النفس أو بعون من آخرين، لم يكن فقط عجزا عن تحقيق تحول اشتراكي، أيْ التحول إلى نظم اشتراكية حقيقية بعيدا عن ديكتاتوريات الاشتراكية القومية الفاشلة، بل كان كذلك عجزا عن التحول الرأسمالي، أيْ التحول إلى بلدان رأسمالية حقيقية ذات بنية اجتماعية اقتصادية حديثة.
وتنبع استحالة التحول الاشتراكي في العالم الثالث من واقع أن العالم كان ولا يزال خاليا من الشرط الجوهري لهذا التطور وهو وجود نظام اشتراكي عالمي أممي متطور أو عملية ثورية اشتراكية عالمية أممية. أما استحالة التحول الرأسمالي، فهي نابعة من واقع أن إنجازات الرأسمالية العالمية تسيطر عليها الرأسماليات الإمپريالية المتطورة وتسيطر بها على العالم الثالث ولا تسمح له بالوصول الحُرّ إلى الإنجازات، أيْ بالتحول إلى رأسمالية عالية التطور، حرة ومستقلة، تنافسها على قدم المساواة.
وهكذا فإن بلدان العالم الثالث لن تتحول إلى بلدان رأسمالية بالمعنى الصحيح إلا كاستثناءات سعيدة تثبت القاعدة. أما النظرية المناقضة، نظرية "نهاية العالم الثالث" عن طريق تحوله إلى رأسمالية كالنمور أو التنانين الآسيوية (نايچيل هاريس Nigel Harris) فتبدو نظرية خيالية إذا أدركنا حق الإدراك واقع سيطرة الشمال (الغرب) على العالم مستخدما إنجازاته التاريخية التي لا يريد أبدا الاكتفاء بتوزيعها هدايا على العالم الثالث، وكذلك العجز الكامن في البنية الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية للتبعية.
ومُحاصرا بين هاتين الاستحالتين، ليس أمام العالم الثالث (ومعه بطبيعة الحال عالمنا العربي ومصر) سوى التدهور والمزيد من التدهور. وفي سياق هذا التدهور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والروحي، تنفتح أبواب الجحيم ليس فقط أمام المجاعات والحروب الطاحنة (الأهلية والخارجية) بل كذلك أمام تجارب كارثية لا نهاية لها ترتدي أشكال الأصالة والأصولية والسلفية والحكم الديني (وليس الإسلامي وحسب) ولن يكون هذا الحكم الديني، أيا كان الدين الذي يُقام باسمه، سوى لفترات قصيرة، ولن يكون إنجازه الفعلي سوى المجازر التي ستقام لأية قوى مستنيرة أو علمانية أو ديمقراطية أو شيوعية أو لمعتنقي أديان أخرى، سماوية أو وثنية، ولن يكون كل هذا بعيدا عن مخططات الشمال أو تدخلاته أو مصالحه.
ومع انقسام العالم بصورة نقية واضحة، إلى شمال وجنوب، إمپريالية وتبعية، غنًى وفقر، واستحالة إنقاذ العالم الثالث من داخله من خطر نهاية أخرى مناقضة تماما لنهاية نايچيل هاريس التي أشرنا إليها منذ قليل، يبدو أن أيّ تفكير في مخرج للجنوب لابد أن يتجه إلى العلاقة شمال-جنوب.
غير أن هذه العلاقة ليست علاقة تعاون متكافئ لتنقذ أو تساعد في إنقاذ الجنوب، بل إن العلاقة إمپريالية-تبعية بين الشمال والجنوب لا تؤدي إلا إلى المزيد من تدهور الجنوب، حيث يزداد الغني غنًى والفقير فقرا، ولهذا الترابط (الاستغلال) تأثيره المباشر المتواصل على هذا التدهور.
ولا شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن الشمال سيحرك ساكنا. صحيح أنه لا يمكن استبعاد دموع التماسيح ولا إرسال أعداد من طائرات المساعدة الإنسانية إلى مناطق المجاعات والهجرات والحروب الطاحنة، غير أن من غير الوارد على الإطلاق أن يهرع الغرب (الشمال) إلى إنقاذ العالم الثالث كما هرع منذ عهد قريب إلى تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ولن تكون أعمال كحرب الخليج الأمريكية واردة بعد استنزاف ونضوب خامات العالم الثالث والتي سيفقد هذا الأخير بدونها نصف وربما كل أهميته للغرب، حيث إن ثورته السكانية سوف تحطم، في غياب الخامات، كل أساس اقتصادي لتبادله التجاري مع الغرب أو لاستضافته لرساميله، ولن يأتي الشمال في هذه الحالة إلا لاغتصاب أراض تخلو من سكانها في الجنوب[*].
فهل هناك مخرج من نهاية العالم الثالث بالمعنى المناقض لمعنى نايچيل هاريس من خلال أزمة للشمال يستغلها الجنوب أو تكون لفائدته؟
من التفاؤل الساذج، بطبيعة الحال، تصوُّر ثورة اشتراكية وشيكة أو قريبة في أوروپا أو الغرب أو الشمال، فهذه الثورة مرتبطة بصورة حاسمة بردّ اعتبار الماركسية وإغنائها بدروس التجارب القاسية وتطوير مفاهيمها عن الحزب والثورة والبناء الاشتراكي واندماجها في حركات وثورات جماهيرية فعلية من طراز لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث (ثورات أقوى لا أضعف حلقات السلسلة، ثورات جماهيرية عميقة لا ثورات أقليات اجتماعية أو سياسية، ثورات ضرورة لا ثورات مصادفة، ثورات قاعدة لا ثورات استثناء، إلخ.).
وفي الوقت الذي لا تزال مثل هذه الثورات بعيدة، وعلى الأقل غير منظورة، بدأ بالفعل منحدر تدهور الجنوب، فهذه الثورات لا تملك إذن منع أو عرقلة هذا التدهور، رغم أنه لا ينبغي استبعاد دور قد تقوم به شعوب الشمال وطبقته العاملة وحركته الشيوعية في مجال عرقلة تدهور العالم الثالث، بافتراض وعيها بكارثته وتعاطفها معه. على أنه لا ينبغي، من جهة أخرى، المبالغة في هذا الدور الذي يستحيل أن يتجاوز في المدى المنظور قدرات هذه الشعوب إلى حدّ إجبار حكومات الشمال على منع تدهور العالم الثالث أو حتى منع أن يتخذ هذا التدهور تلك الأبعاد الكارثية المتوقعة.
وهناك افتراض لا ينبغي استبعاده تماما. إنه الزلزال الغربي. أيْ الفوضى الشاملة الناتجة عن الأزمة البنيوية الإستراتيچية للغرب، بالذات ضمن الشمال الرأسمالي، أو هذا الأخير -بشرقه الذي يعيش الآن فوضى انهياره، بأزماته الاقتصادية الطاحنة، وحروبه الأهلية، وتشريده للشعوب، وبغربه الذي لا يزال متماسكا، ربما في ظاهر الأمر وحسب.
فما هو مبرر افتراض زلزال غربي؟ وما عسي أن تكون طبيعته أو خصائصه؟ وكيف يمكنه أن يؤثر في مصائر الجنوب؟
هل ينبغي افتراض الزلزال الغربي لأن عالما رابعا نما وينمو داخل ذلك العالم الأول رغم بريق سطحه، ولأنه ليس هناك ما يمنع أن تتفاقم أزماته فتنفجر (لوس أنجلوس)؟ أم ينبغي افتراضه لأن انهيار الشرق الرأسمالي (بلدان النموذج السوڤييتي) يمكن أن يهزّ العالم كله بما فيه الغرب الرأسمالي، فيما يتحرك لاستيعاب الزلزال الشرقي وتوابعه؟ هل يتدخل وعي الشعوب الغربية، مهما كان بعيدا عن الوعي العلمي أو الشيوعي، بأن النظام الغربي يقيّد النمو الممكن لحياة هذه الشعوب، مكبّلا نمو القوى المنتجة، عاجزا عن التطبيق الإنتاجي الشامل للثورات العلمية التقنية، سالبا العلوم البحتة والتطبيقية إمكانات أيّ تطور جذري عن طريق فصلها من الناحية الجوهرية عن الإنتاج، تاركا في أجواء مدن الغرب وأريافه التي لم تعد أريافا الانطباع العام المرعب بأن النظام الغربي يهدر كافة الإمكانات التي يقدمها العصر لتقدم السوپرمان الغربي ذاته -وليس قطيع المتخلفين المنتكسين في عوالم أخرى بعيدة- بحيث تغدو كل خطوة علمية تفتح آفاقا جبارة أمام الإنسانية السبب المباشر لخطوات أخرى إلى الوراء في الحياة الفعلية، وباختصار: فاقدا بركوده المزمن المبرِّر لاستمرار أيّ نظام اجتماعى-اقتصادي (حيث يمثل هذا الركود المزمن بالذات ذروة التناقض بين طابع القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، تلك القوى والعلاقات التي تظل قبل ذلك متوافقة رغم التناقض)؟ ثم: كيف يمكن لفوضى الزلزال الغربي أن تؤثر في مصائر العالم الثالث؟ برفض الحداثة؟ بالعودة إلى الأصالة؟ باستغلال أزمة الغرب وتراخي قبضته على إنجازاته التاريخية بما يسمح بالتحول إلى الرأسمالية بالمعنى الذي يبشر به نايچل هاريس؟ وكيف يكون ذلك؟ وهل من المحتمل أن يضرب الزلزال الغربي ضربته قبل أن يغرق العالم الثالث تماما في نهايته بمعنى انهياره ودماره؟
ويالها من أسئلة تردّ على أسئلة!!!...
خرافة نهاية التاريخ
رغم أنّ انفصال النظرية (الماركسية) عن تطبيقها المزعوم في بلدان النموذج السوڤييتي يمكن التوصل إليه بكل سهولة من أبسط مقارنة بين مبادئ تلك النظرية وأسس تلك الممارسة أيْ تطبيقها المزعوم، تنطلق وسائل الإعلام الغربية وكذلك أجهزة إعلام الحكام الجدد في بلدان النموذج السوڤييتي سابقا من ادِّعاء أن النموذج السوڤييتي ليس من الناحية الجوهرية سوى الثمرة التاريخية الطبيعية للتطبيق الدقيق والأمين والصارم إلى حدّ الجمود العقائدي للنظرية الماركسية، وبقفزة واحدة يصل الفكر الغربي البرچوازي وتوابعه في العالم الثالث إلى فكرة مؤداها أن انهيار النموذج السوڤييتي يساوي انهيار النموذج النظري الماركسي واللينيني لبناء الاشتراكية والشيوعية، ولا تمثل نظرية نهاية التاريخ سوى صياغة مكثفة لهذه القفزة الواحدة السريعة المتسرعة.  
وبطبيعة الحال، لن تعني نهاية التاريخ شيئا إنْ لم تكن تعني نهاية الصراع التاريخي بين التكوينيْن الاجتماعيين-الاقتصاديين الأساسيين في التاريخ الحديث والمعاصر أيْ الرأسمالية والاشتراكية.
ومن الجلي أن نموذج الصراع التاريخي كما تفهمه نظرية نهاية التاريخ يتمثل في الصراع بين الرأسمالية والنموذج السوڤييتي. وقد بدا طوال عقود أن النموذج المذكور يمثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية. وإذا كان "ما بدا" هو الحقيقة المطلقة، إذا كان النموذج السوڤييتي يساوي التجسيد الواقعي أو الثمرة الطبيعية للتطبيق الأرثوذكسي للنموذج النظري الماركسي لبناء الاشتراكية أو الشيوعية، فلا مناص من التسليم بأن نهاية التاريخ قد حلت بالفعل. وهذا أمر بديهي في نظر فوكوياما الذي لا شك عنده في هذا التطابق الجوهري بين النظرية الماركسية والتطبيق السوڤييتي.
ومن المفارقات أن الخط السوڤييتي الموسكوڤي، الذي يسلم بهذا التطابق الجوهري بين النظرية الماركسية-اللينينية والتطبيق "الخلاق" في بلدان "المنظومة" الاشتراكية، جدير بأن يقود إلى الاعتقاد بأن نهاية التاريخ حلت بالفعل لكن أنصاره يتشبثون بحل السهولة المتمثل في الحديث الخادع عن "أخطاء وسلبيات" التطبيق بما يُبَرِّئ النظرية من مسئولية ما حدث، والتفاؤل التاريخي العميق بنجاح آخر لتطبيق هذه النظرية، ربما كما هي دون تطوير، مع تفادي "أخطاء وسلبيات" الماضي في التطبيق الخلاق في المستقبل.
على أنه لم يعد من المقبول أن نواصل تجاهلنا لماركسيات متعارضة مع الماركسية السوڤييتية ظلت تنظر إلى النموذج السوڤييتي على أنه لا يمثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية. فليس من الوارد إذن أنْ ينظر الماركسيون الحقيقيون إلى الصراع بين الشرق والغرب، بين الرأسمالية والنموذج السوڤييتي، بين الرأسمالية والاشتراكية كما تحققت في الواقع، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتي، بين حلف الأطلنطي وحلف وارسو، على أنه كان صراعا ينتهي التاريخ بنهايته، فهذا الصراع لم يكن بين التكوينين الاجتماعيين-الاقتصاديين المتصارعين تاريخيا في العصر الحديث: الرأسمالية والاشتراكية.
ولا يعني هذا إنكار أن صراعًا تاريخيّا دار ويدور منذ قرابة قرن ونصف قرن بين "التكوينيْن"، لا يعني إنكار الحركة الشيوعية أو حركة الطبقة العاملة أو حركات التحرر الوطني الشعبية، لكنه يعني أن هذا الصراع التاريخي لم يكن يتمثل في صراع النموذج السوڤييتي وبلدانه ضد الغرب وحلفائه، بل إن كل انتصار للنموذج السوڤييتي في أيّ بلد (قيام النظام الستاليني في روسيا على سبيل المثال) كان يعني بالتحديد هزيمة الاشتراكية والشيوعية والماركسية لصالح طبقة استغلالية جديدة صاعدة ترفع مع ذلك رايات الطبقة العاملة والثورة والاشتراكية والشيوعية والماركسية-اللينينية. وإذا كانت الثورات "الاشتراكية" وكافة محاولات السنوات الأولى لبناء الاشتراكية تجسد ذروة الصراع بين "التكوينيْن" فإن تبنِّي النموذج السوڤييتي أو تطور الأحداث بحيث تؤدي إلى قيام هذا النموذج كان يعني الجَزْر والانحسار والهزيمة. والحقيقة أن النضالات والثورات والمحاولات التي تنتمي إلى الصراع بين "التكوينيْن" لم تتجسد في مجتمعات اشتراكية بل فقط في مجتمعات انتقالية في الفترات الأولى التالية للثورات سرعان ما كان يجري تصفيتها في كل مكان، تلك التصفية التي تجسدت في التبلور النظري والعملي للنموذج السوڤييتي الستاليني في الاتحاد السوڤييتي ثم في تطبيقه من الناحية الجوهرية، حتى رغم الصراعات الفكرية الصاخبة في بعض الأحوال، في التجارب اللاحقة. ورغم ما ظلّ يبدو على السطح عقودًا طويلة، لم يتخذ الصراع بين "التكوينيْن" صورة صراع بين معسكرين، اشتراكي ورأسمالي، بل قام في واقع الأمر معسكران، شرقي وغربي، ينتميان إلى تكوين اجتماعى-اقتصادي واحد هو التكوين الرأسمالي واحتدمت بينهما تناقضات المصلحة وسوء التفاهم، كما سبق أن رأينا.
وإذا كان الصراع بين "التكوينيْن" لم يتخذ شكل الصراع بين بلدان رأسمالية وبلدان اشتراكية، وإذا كان هذا يعني أن هذا الصراع التاريخي فشلت فيه الاشتراكية والشيوعية والماركسية، رغم نجاحاتها ونضالاتها وثوراتها، في تأسيس مجتمع اشتراكي، فليس هناك بالمقابل ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الصراع التاريخي قد انتهى. والقول بأن هذا الصراع سوف يتواصل في المستقبل كما ظل قائمًا في الماضي، لا يساوي أكثر من القول بأن المجتمع الرأسمالي ينطوي بحكم طبيعته الطبقية الاستغلالية على ضرورة نضال الطبقة العاملة، ليس فقط دفاعيا في إطار المجتمع الرأسمالي ذاته بل هجوميّا في سبيل انتصار الثورة الاشتراكية لبناء الاشتراكية والشيوعية. كما أن الإخفاقات والهزائم المتكررة للماركسية والنضال الشيوعي لا تعني أن هذا الفشل الطويل يساوي العجز الدائم في المستقبل أيضا عن تطوير النظرية باستيعاب الدروس؛ بما يقود إلى قيام أحزاب وحركات وثورات شيوعية من طراز جديد بما ينقل الصراع التاريخي بين "التكوينيْن" إلى مستوى تاريخي أعلى.
فقط عند استنتاج مثل هذا العجز المستقبلي الدائم، أو عند ادّعاء أن المجتمعات التي انهارت كانت اشتراكية أو شيوعية، يمكن الحديث، دون تأنيب ضمير، عن نهاية التاريخ، لكنْ لا المجتمعات التي انهارت كانت اشتراكية ولا من الملائم الحديث عن عجز مستديم. إن مجرد الإيمان بوجود المجتمع الرأسمالي، بخصائصه التي أصبحت مفهومة بفضل النقد الماركسي لهذا المجتمع، يساوي الإيمان بأن الصراع قائم وإنْ كان في بداياته، رغم التاريخ الطويل من النضالات والثورات والحركات والنجاحات والإنجازات والانحسارات والإخفاقات والهزائم والانهيارات، وبأنه سيتطور بالضرورة، لأن من خصائص المجتمع الرأسمالي أنه ينطوي في داخله على طبقتين أساسيتين متعارضتين تعارضًا جوهريّا.
وعندما يحقق النضال ضد المجتمع الرأسمالي نقيضه أيْ المجتمع الاشتراكي، سيكون من الممكن الحديث عن أن الصراع التاريخي بين "التكوينيْن" تحقق فانتهي بذلك. ويمكن لِمَنْ يحلو له أن يتحدث عن نهاية التاريخ بوصفها التحقق الفعلي للتاريخ. كما يمكن لمن شاء أن يعتبر نهاية التاريخ بداية التاريخ الحقيقي للإنسان باعتبار أن ما سُمِّيَ دائما بالتاريخ ليس في الحقيقة سوى ما قبل تاريخ الإنسان (كارل ماركس).
 


 
 
 
 
 
 
كريس هارمان
 
العاصفة تهب
(حول انهيار النموذج السوڤييتي)
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
1
مقدمة
 
منذ 17-1918 -عندما انهارت ثلاث إمپراطوريات عظمى تحت عبء أربعة أعوام من الحرب الشاملة- لم نشهد اضطرابا سياسيا كهذا الذي وقع شرقي الألپ في النصف عام الأخير. لقد انهارت الأُطُر السياسية ذات الحزب الواحد والتي كانت تسود في پولندا والمجر وتشيكوسلوڤاكيا وألمانيا الشرقية وبلغاريا ورومانيا على مدى قرابة 45 عاما تحت ضغط الأزمة الاقتصادية والسخط الشعبي. في الوقت ذاته لا يمكن لأحد أن ينظر إلى الجار العملاق لهذه البلدان، أيْ الاتحاد السوڤييتي، دون أن يتساءل عما إذا كان بمستطاعه إلا ينهار بدوره. والواقع أن الحزب الحاكم يغدو على نحو متزايد مشلولا في مواجهة الأزمة الاقتصادية، ونقص السلع الأساسية، والحركات الانفصالية الجماهيرية في صفوف الأقليات القومية، وأضخم إضرابات للعمال منذ العشرينيات.
والحقيقة أن تلك الأحداث تتحدَّى تقريبا كل التحليلات السياسية المستقرّة في الشرق والغرب على السواء، وكان على إستراتيچيِّيي الحرب الباردة، ودعاة المواجهة مع "النزعة الشمولية"، والمعجبين الغربيين منذ عهد بعيد "بالثلث الاشتراكي من العالم"، والمتملّقين الأحدث عهدا ﻟ "جوربي" أن يواجهوا جميعا الاختفاء المفاجئ لأطُرهم المرجعية الراسخة.
كان الوضع مربكا لليمين الغربي: لقد تعيّن عليهم فجأة أن يبرروا الصواريخ في أوروپا والموجّهة نحو بلدان يصرّ زعماؤهما على أنهم لم يعودوا "اشتراكيين". لكنهم كانوا قادرين على التعامل مع هذا الموقف. فهم يزعمون أن الاضطراب في الدول الشرقية يثبت كم كانوا على حق دائما عندما كانوا يلحوّن على عجز "الاشتراكية" عن أن تشقّ طريقها وعلى التفوق الملازم لرأسمالية "السوق الحرة" ويقوم المستشارون الأكاديميون لحكومة الولايات المتحدة بتأليف الكتب حول "نهاية التاريخ"، بينما تعلن الصحافة الشعبية "نهاية الشيوعية". حتى أولئك المعلقون الذين يخشون أن يتسم الوضع الجديد في أوروپا الشرقية بالديمقراطية الليبرالية أقلّ مما يمكنه أن يتسم بالمنازعات القومية المريرة والغوغائية الشعبوية وذلك الطراز من النزعة السلطوية اليمينية الذي ساد في أعوام ما بين الحربين لا يرون أيّ مستقبل لأولئك الذين يتحدثون بلغة اشتراكية. وتغدو أزمة الدول الشرقية "أزمة الاشتراكية" و"أزمة الماركسية".
من المؤسف أن الغالبية الساحقة من اليسار عاجزة عن مواجهة هذا التحدّي. ذلك أنهم يطابقون بين الدول الشرقية والاشتراكية، ويشيرون إليها على أنها "اشتراكية" أو "بعد-رأسمالية" أو "دول عمالية مشوّهة" أو "متدهورة" أو -مؤخرا جدا- على أنها "الاشتراكية القائمة في الواقع الفعلي" (بما يتضمن أن أيّ فكرة أخرى عن الاشتراكية هي فكرة خيالية طوباوية بصورة ميئوس منها). لكن الجماهير في الدول الشرقية رفضت الآن الأحزاب التي تجسّد هذه "الاشتراكية" في حين أنّ زعماء الأحزاب الحاكمة القديمة يحاولون الآن أنْ يبرهنوا أن الرأسمالية وحدها تسمح بالنمو الاقتصادي الكامل. كان تعليق كريستا لُوفت Christa Luft الوزيرة الشيوعية لاقتصاد ألمانيا الشرقية، في يناير 1990، نموذجيا. قالت إن ألمانيا الشرقية مستعدة الآن لأنْ تبدأ "الانتقال إلى اقتصاد سوق فعّال"، وتخلت عن تشديدها السابق على "اكتشاف طريق وسط بين الرأسمالية والتخطيط المركزي". ولم تشر إطلاقا إلى اقتصاد السوق الاشتراكي[1].
وأعلن بوريس يلتسين Boris Yeltsin عضو المكتب السياسي السوڤييتي السابق:
عندما انضممت إلى الحزب كنت أؤمن دون شكّ بالمعتقدات الأيديولوچية. كنت أعتقد أن الشيوعية هي الطريق الوحيد. الآن أشعر أن كل هذه "المذاهب" لا تهمّ... وأنا أؤيد الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والأرض. هناك حاجة إلى نموذج جديد -ربما بتأثيرات اشتراكية- يمكنه أن يجسّد المظاهر الإيجابية للاشتراكية لكنْ يمكنه أيضا أنْ يتسع لمنجزات الديمقراطية الغربية. وقد شهدتُ هذه المنجزات بنفسي عندما زرت الولايات المتحدة في الخريف الماضي[2].
يقف اليسار الغربي الرسمي عاجزا أمام الانقلاب المفاجئ في الاتجاه حيث تبدو الاشتراكية في واقع التجربة وكأنها مرحلة انتقالية في التطوّر من الرأسمالية إلى الرأسمالية! كان هذا هو الحال بكل جلاء مع الأوروشيوعيين الغربيين. ففي إيطاليا يُعلن أكبر حزب شيوعي غربي أنه سيغيِّر اسمه. وفي بريطانيا أجاب المؤرخ إريك هوبسباوم Eric Hobsbawm، الذي لا يزال عضوا في الحزب الشيوعي، بنعم على صحفي أجرى معه حديثا عندما سأله عما إذا كانت "كافة مناطق الشيوعية العالمية" قد دخلت في "طريق مسدود"[3]. ويستنتج رئيس تحرير مجلة الحزب البريطاني الماركسية اليوم Marxism Today، أن الشيوعية قد ماتت. أما الأشخاص الذين كانوا لا يزالون يدافعون، منذ اثني عشر عاما فقط، عن قمع ثورة 1956 في المجر فلا يمكن تمييزهم الآن في موقفهم السياسي من الجناح اليميني للاشتراكية الديمقراطية.
الأوروشيوعيون ليسوا وحدهم الذين قذفت بهم الأحداث في هذا الاضطراب. هناك أيضا أولئك الذين حاولوا أن يقاوموا اندفاعاتهم نحو اليمين. فالحزب اليوناني، وهو أحد الأحزاب الشيوعية الموالية للسوڤييت الأقوى نفوذا، لحق في غضون سنتين بنفس المسار الذي احتاج الحزب الإيطالي إلى ثلاثين عاما لاستكماله: تبنَّى "الاقتصاد المختلط" وانضمّ إلى حكومة ائتلافية ملتزمة "بالتقشف"، والسوق الأوروپية المشتركة، وحلف الأطلنطي. وفي بريطانيا نجد برت راميلسون Bert Ramelson، المنظِّم العمالي السابق للحزب الشيوعي وأداة تنكيله بالنقاد اليساريّين الجُدُد للستالينية من أمثال إي پي تومسون E. P. Thompson وچون ساڤيل John Saville في 1956، يعلن الآن[4]، ما يلي: "لا أعتقد أن لينين ساعد الحركة الاشتراكية مطلقا بآرائه عن الحزب النخبوي وقبل كل شيء المركزية الديمقراطية"[5]. ويخبرنا رئيس تحرير مورننج ستار Morning Star "المتشدّدة" أن "الاقتصاد المختلط الذي توجد فيه ملكية خاصة ومشاريع رأسمالية ليس رأسماليا بالضرورة"[6].
هناك كثير من الاشتراكيين الذين يريدون أن يقاوموا مثل هذه الاستنتاجات. وهم ينظرون إلى "الرأسمالية القائمة فعلا" ولا يعتقدون أن بإمكان الملكية الخاصة، والاقتصاد "المختلط"، والسوق أن تقدم مستقبلا للبشرية. لكنهم نظروا إلى الكتلة الشرقية دائما على أنها البديل الشامل للرأسمالية، على أنها معسكرهم "في الحرب الطبقية على المستوى العالمي"، ولا يمكنهم أن ينكروا أنها تنهار الآن. وهم ينتهون إلى أعمق تشاؤم، خائفين مما يشير إليه محرّرو نيو لفت ريفيو New Left Review على أنه "ميول استعادة للرأسمالية في الشرق"[7].
هناك طريقة وحيدة لتفادي مثل هذا التفكير المتشائم. وتتمثل هذه الطريقة في أنْ نستخدم الماركسية لنقوم بتحليل شامل لما كان يجري في الدول التي اعتادت أن تدّعي أنها ماركسية. تحليل كهذا فقط يمكنه أن يجعل اليسار على المستوى العالمي قادرا على أن يُعيد توجيه نفسه وعلى أن يبقى. وبذلك يمكن لهذه الطريقة أن تبرّر الماركسية كمنهج للتحليل. وكانت هذه المجلة [الاشتراكية الأممية] مرتبطة دائما بنظرية عن المجتمعات الشرقية بوصفها رأسمالية دولة بيروقراطية[8]. هذه النظرية لم تحقق لنا قط شعبية بين اليسار، لأنها كانت تصطدم بالرأي البديهي الذي يكرسه "الإدراك العام" ومؤدّاه أن هذه المجتمعات جسَّدت أسلوب إنتاج متميزا جوهريا عن أسلوب الإنتاج القائم في الغرب. لكن هذه النظرية يمكنها وحدها أن تستوعب معنى الأحداث التي جرت في الأشهر القليلة الأخيرة، والتي تظل محيِّرة تماما بدونها، مع الإشارة إلى خيارات المستقبل أمام الطبقات الحاكمة في العالم وأمام أولئك الملتزمين منا بالنضال ضدّها، في آن معا.


2
الاتحاد السوڤييتي: الأوهام المفقودة
 
أصبح من المألوف الآن أنْ يؤرَّخ لبدايات التغيير في الاتحاد السوڤييتي بصعود جورباتشوڤ إلى السلطة منذ 1985. ولم يكن لجورباتشوڤ ذاته أيّ سمعة خاصة كمصلح. وحسب تعبير المنشقّ الروسي المنفي چوريس مدڤيديڤZhores Medvedev ، لم يكن جورباتشوڤ "لا ليبراليا ولا مصلحا جريئا"[9]. والواقع أنه يدين بصعوده إلى القمة لرعاية أندروپوڤ Andropov، السكرتير العام السابق -لكن الذي كان لفترة طويلة رئيس كي جي بي (المخابرات السوڤييتية) والذي كان متورطا مباشرة في قمع ثورة 1956 في المجر[10].
في غضون سنة واحدة من مجيئه إلى السلطة كان جورباتشوڤ يدفع بإلحاح في اتجاه نهج بالغ الاختلاف عن النهج الذي كان متبعا في العقدين السابقين. وفي المؤتمر السابع والعشرين للحزب في 1986 أطلق شعاريْ پيريسترويكا -إعادة البناء [أو إعادة الهيكلة]- وجلاسنوست [العلانية]، وشنّ حملة من أجل هذه التغييرات في جلسة كاملة هامة للجنة المركزية للحزب في يناير 1987 وبالدعوة إلى انعقاد أوّل كونفرنس خاصّ للحزب الحاكم طوال قرابة نصف قرن في يونيو 1988. وقد مهّد ذلك للانتخابات التي خيضت دون تزييف في ربيع 1989.
ومع وعد جورباتشوڤ "بثورة سلمية" سمح للصحفيين، لأول مرة منذ منتصف العشرينيات، بأن يكشفوا الحياة في الاتحاد السوڤييتي كما يعيشها الناس فعلا. ظهرت تقارير عن الفساد الواسع الانتشار، وسيطرة المافيا، وحجم الفقر والبغاء، وتدهور الخدمة الصحية، والتلوّث المفزع، والمشكلات البيئية الهائلة -ومع حلول صيف 1988: عن الامتيازات الضخمة لقمة البيروقراطية. وبين الكتّاب الذين بدأوا في نشر مقالات في صحف قومية وإقليمية هناك أشخاص كانوا قد سُجنوا بوصفهم "منشقّين" في عهد بريچنيف، في حين توقّف اعتقال أولئك الذين كانوا ينشرون مطبوعات ساميزدات [النشر المستقلّ]. وتحادث جورباتشوڤ نفسه تليفونيا مع أندريه ساخاروڤ Andrei Sakharov، العالم الطبيعي المنشق الذي كان منفيا إلى جوركي، ودعاه إلى العودة إلى موسكو.
امتدّ "الانفتاح" إلى الحياة الثقافية. وبدأت الروايات الممنوعة في الظهور مطبوعة والرسوم الممنوعة في الحلول محلّ فظاعات الواقعية الاشتراكية في معارض الفن. أما مجموعات "الروك" التي عبرّت أغانيها عن غضب غير موجَّه لكنْ مرير إزاء النظام فكانت تدعوها أقسام من منظمة الشباب الرسمية، الكومسمول، إلى الظهور في الحفلات الموسيقية. وأوقف الاقتصاديون 60 سنة من الأكاذيب حول الأداء الاقتصادي وبدأ المؤرخون يكشفون، ببطء في البداية، الحقائق عن عهد ستالين، وحظي فيلم عن محاكمات موسكو كان قد تمّ حظره في يناير 1988 بعرض تليڤزيوني تم الترويج له على نطاق واسع بعد ذلك بأربعة أشهر. ومع حلول نهاية السنة "رُدّ اعتبار" كل عضو من أعضاء الحزب قام ستالين بتصفيته في الثلاثينيات. بل كانت هناك خلال 1989 مقالات قليلة تشيد بالدور التاريخي لتروتسكي. لقد بدا الأمر وكأن الأيديولوچية التي حاولت أنْ تخنق عقول الناس على مدى ستة عقود من الزمان قد انهارت بين عشية وضحاها.
والواقع أن استجابة كلّ مَنْ كتب عن الاتحاد السوڤييتي خلال الأعوام الثلاثة الأولى لجورباتشوڤ تمثّلت في النظر إليه على أنه الرجل الذي يواصل بكل عزم تغييرات عظيمة وتقدّمية. كان هذا يصحّ على اليسار تماما كما يصح على اليمين. وفي نظر الحزب الشيوعي البريطاني في ذلك الوقت، كان الرجل الذي سيردّ إلى الاشتراكية طابعها الشعبي. وقال كتاب مقالات من الماركسية اليوم، نشر في 1989، إنه إلى جانب ألكسندر ياكوڤليڤ Alexander Yakovlev وإدوارد شڤاردنادزه Eduard Shevardnadze جزء من "اتجاه ديمقراطي أكثر إخلاصا" في القيادة الروسية، "توّاق إلى حفز وتشجيع المبادرة الشعبية والالتزام الفردي..." مع "تشديد خاص... على القبول بدلا من الإكراه، على خلق كتلة فعّالة من القوى الاجتماعية الضرورية للتغلّب على جمود المؤسسات والمقاومة البيروقراطية (مقاربة تدين بالكثير للماركسي الإيطالي أنطونيو جرامشي Antonio Gramsci)"...[11]القبول بدلاً من الإكراه، على خلق كتلة فعّالة من القوى الاجتماعية الضرورية للتغلّب على جمود المؤسسات والمقاومة البيرو. وفي نظر طارق على Tariq Ali، ترقى تغييرات جورباتشوڤ إلى مستوى بداية "ثورة سياسية" من شأنها أن تمنح "المشروع الاشتراكي... دفعة هائلة"[12].
كان التأييد القاطع لجورباتشوڤ واسع الانتشار أيضا بين أولئك الذين يتخذون موقفا نقديا إزاء النظام القديم داخل الاتحاد السوڤييتي ذاته. كثير من المنظمات غير الرسمية التي ظهرت سمَّتْ نفسها نوادي "من أجل الپبيريسترويكا". وقامت جماعة الاشتراكيين اليسارييّن الملتفّين حول بوريس كاجارليتسكي Boris Kagarlitsky (الذي سُجن في عهد بريچنيڤ) في موسكو بعقد كونفرنس عنوانه "المبادرات الاشتراكية من أجل الپيريسترويكا"[13]. ويقول ألكسندر فيدوروڤسكي Alexander Fedorovsky -وهو سجين سياسي سابق آخر يحرّر في الوقت الراهن جريدة تتبع الجبهة الشعبية في موسكو- أنه "في ذلك الوقت كنّا جميعا مؤيدين لجورباتشوڤ"[14].
لم يكن هناك في ذلك الوقت سوى أشخاص قليلين للغاية مستعدّين -كما فعلنا في هذه المجلة- أنْ يحاولوا إثبات أن اليسار لا ينبغي أنْ يضع ثقته في جورباتشوڤ. لكن التحرّر من الأوهام كان قادما دون إبطاء. قلّما انتقد جورباتشوڤ أولئك الذين "خرّبوا" الپيريسترويكا والجلاسنوست دون أن يهاجم أيضا أولئك الذين سعوا إلى دفعهما "أسرع مما ينبغي". وحتى منذ خريف 1987 تبرّأ من بوريس يلتسين، الذي كان آنذاك رئيس المنظمة الحزبية في موسكو، لمحاولته المضيّ أسرع مما ينبغي وأحلّ محلّه شخصية أكثر محافظة؛ زايكوف Zaikov. وكان من المتوقع لخطاب رئيسي بمناسبة ذكرى ثورة 1917 أن يدفع نحو تغيرات أسرع لكنه بدلا من ذلك وازن بعناية بين أولئك الذين أرادوا حركة أسرع وأولئك الذين أرادوا حركة أقل سرعة. فقط بعد ذلك بخمسة أشهر عندما رتّب أعضاء في المكتب السياسي معارضون لأيّ جلاسنوست أن تنشر جريدة سوڤييتسكايا راسييا مقالا يدّعي أن الأمور مضت إلى أبعد مما ينبغي، اختار جورباتشوڤ المزيد من الجلاسنوست خلال الإعداد السريع لكونفرنس حزبي خاص في يونيو 1988. وانتهز المثقفون الذين يتخذون مواقف نقدية هذه الفرصة لتوجيه أسئلة لم توجَّه من قبل عن المجتمع السوڤييتي والتاريخ السوڤييتي. وفي مواقع كثيرة جرت أولى مظاهرات علنية ومشروعة على مدى ستين سنة، تُطالب بأن يكون المندوبون إلى الكونفرنس الحزبي مؤيدين للپيريسترويكا والجلاسنوست وجورباتشوڤ.
ولكنْ في الكونفرنس: تحالف جورباتشوڤ مع الشخصية المحافظة المعروفة جيدا، ليجاتشيڤ Legachev، ردّا على النقد الذي وجّهه يلتسين. وعندما اشتكى ميخائيل أولانوڤMikhail Ulanov ، رئيس نقابة العاملين بالمسرح التي تكوّنت مؤخرا، من أن الصحافة خارج موسكو مازالت تحت سيطرة المفوّضين الحزبيين المحليين، قاطعه "السيد جورباتشوڤ، الذي كان جالسا بالخلف. وأشار إلى أن الصحف المحلية ربما تكون قد تفادت على الأقل التجاوز الذي رآه أحيانا في صحافة موسكو"[15].
احتفظت مقترحات جورباتشوڤ ذاته بشأن "انتخابات حرة" إلى مؤتمر جديد للنواب بثلث المواقع للمرشحين من جانب المنظمات الرسمية (أيْ التي يسيطر عليها الحزب) كما اشترطت تدبيرا للتصفية في اجتماعات مندوبي الدوائر الانتخابية للتخلّص من المرشحين غير المرغوب فيهم. وفي الشهور التالية وقّع مرسوما يجيز للشرطة أن تعتقل أولئك الذين يشتركون في مظاهرات "غير مصرّح بها" ولم يعترض عندما بذل رجال الجهاز الحزبي المحليون قصارى جهدهم للحصول على مرشحيهم من خلال اجتماعات الدوائر الانتخابية.
في الجلسة الأولى للمؤتمر كان بإمكان النواب -وعمدوا فعلا إلى- أنْ يعبرّوا عن شكواهم إزاء أيّ شيء في الواقع: امتيازات بيروقراطية الحزب، النقص المفزع في السلع الاستهلاكية، جيوب الفقر الضخمة في البلاد، الميراث الرهيب لستالين، سلوك المخابرات السوڤييتية، استخدام قوات خاصة في چورچيا، إساءة معاملة الأقليات القومية، المراسيم التي تقيّد الحق في التظاهر وانتقاد الحكومة، وحتى قرارات جورباتشوڤ ذاته.
لكن كافة الإجراءات كانت مرتَّبة بعناية لمنع هذه الشكاوي من أن تُوجَّه في قنوات صُنْع القرار الديمقراطي بأيّ حال. كان اجتماع للجنة المركزية للحزب الحاكم قبل المؤتمر قد أصدر قرارا بأن يصوّت 70 في المائة من المندوبين الذين كانوا أعضاء في الحزب لجورباتشوڤ ليتم انتخابه كرئيس بلا منازع. وأصرّ جورباتشوڤ آنذاك على أنه وحده يملك حق اختيار نائب الرئيس وتعيين أشخاص لمناصب حكومية رئيسية أخرى. أما القوائم الانتخابية الخاصة بالپرلمان المصغرّ، المتفرّغ، مجلس السوڤييت الأعلى، فقد تم إعدادها بحيث يمكن إنكار أيّ اختيار على الإطلاق على كثير من المرشحين.
عندما برزت مسائل خلافية في المؤتمر أحيلت إلى لجان كان عليها أن ترفع تقاريرها إلى مجلس السوڤييت الأعلى، بدلا من تصويت المؤتمر عليها. هذا ما حدث بشأن مذبحة چورچيا، وفصْل اثنين من المدّعين العامّين ادّعيا تفشِّي الفساد في قمة الحزب ذاتها، ومسألة شرعية معاهدة ستالين-هتلر التي دمجت جمهوريات البلطيق في الاتحاد السوڤييتي.
سمح جورباتشوڤ -الذي كان يترأس الجلسات أو يجلس وراء رئيس الجلسة مباشرة والذي كان يُقاطع وقائع المؤتمر متى شاء- للمندوبين الراديكاليين بالكلام، لكنه مرّر بعد ذلك القرارات التي تلقّت تأييدا حماسيا من الأغلبية المحافظة. ولم يُبْدِ جورباتشوڤ ذاته أيّ اهتمام عندما تمّ إسكات ساخاروڤ بالصياح بسبب خطاب يشجب أعمالا وحشية ارتكبتها القوات السوڤييتية في أفغانستان أو عندما دافع الچنرال روديانوڤ Rodianov عن الهجوم الوحشي الذي شنّته قوات وزارة الداخلية المسلّحة بآلات حادّة على المتظاهرين في تبليسي.
أما أولئك الراديكاليون الذين كانوا مؤيدين تماما لجورباتشوڤ قبل سنة فقد أضحوا عنيفين في هجومهم المتكرّر عليه. واشتكى يوري أفاناسييڤ Yuri Afanasyev، المؤرخ، في المؤتمر نفسه:
... لقد قمنا بتشكيل مجلس سوڤييت أعلى من الطراز الستالينى-البريچنيڤي... والأغلبية التي تشكلت... في هذا المؤتمر أمس اعترضت سبيل كافة قرارات المؤتمر التي يتوقعها الشعب منا... وأنت يا ميخائيل سرجييڤيتش [جورباتشوڤ] إمّا أنك تُصغي بانتباه إلى هذه الأغلبية أو أنك تؤثر فيها بمهارة... دعونا لا ننسى للحظة مَنْ الذي بعث بنا إلى هنا، إلى هذا المؤتمر[16].
خارج صالة المؤتمر كانت المواقف الراديكالية أكثر مرارة أيضا وأظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة ضخمة جدا من الشعب قد أصيبت بخيبة أمل إزاء المؤتمر، وكانت هناك يوميا تقريبا لقاءات في ستاد لوچنيكي. ويقول تقرير أذاعه راديو ليتوانيا:
قدّر أحد الخطباء عدد المشاركين ﺒ 150000-150000 يقفون فوق مثلّث مُسفلت ضخم... نظم اللقاء جمعية الذكرى* والجبهة الشعبية بموسكو... كان مجرّد ذكر اسم بوريس يلتسين يجعل الحشد الجماهيري يصرخ ويصيح. وألهب حضور الأكاديمي ساخاروڤ الجماهير...[17].
انتزع ڤيتالي بوناماروڤ Vitaly Ponamrov من الجبهة الشعبية بموسكو استحسانا هائلا في اجتماع حاشد عندما أعلن: "نحن لا نثق مطلقا في جورباتشوڤ. لقد خسر جورباتشوڤ نفوذه لدى الشعب"[18].
كان التحرر من الأوهام بين الإنتچلنسيا الراديكالية عميقا جدا في الواقع مع نهاية السنة عندما شهدوا جورباتشوڤ يحاول أن يفصل من الخدمة رئيس تحرير الجريدة الأسرع نموا في البلاد "أرجومنتي إي فاكتي" Argumenty i facty[19]، ويوقف عمل الميكروفونات وَسْط خطاب كان يلقيه ساخاروڤ في الجلسة الثانية لمؤتمر النواب. وكان آخر عمل سياسي قام به ساخاروڤ قبل وفاته هو إصدار نداء للقيام بإضراب احتجاجا على القيود الموضوعة على المقرطة. وقد هللت وسائل الإعلام الغربية كثيرا لقرار اللجنة المركزية في فبراير 1990 بالتسليم بوجود أحزاب أخرى؛ ولم يكن بإمكانه أن يوقف عملية التحرّر من الأوهام داخل الاتحاد السوڤييتي. وكما سلّم مراسل صحفي غربي: "اشتكت مجموعات غير رسمية من أن الإصلاحات تتّسم بجُبْن وطالبت بأن تعرف لماذا لم يجر فصل المحافظين"[20]يكروفونات وَسْط خطاب كان يلقيه ساخاروف في الجلسة الثانية لمؤتمر النواب. علن: ت السوفييتية في أفغانستان أو عندما د.


3
الاتحاد السوڤييتي: الأزمة في الاقتصاد
 
لم يكن نموّ السخط ضدّ جورباتشوڤ محصورا في صفوف الإنتلچنسيا الراديكالية وحدها كان هناك مزاج متعاظم من التحرّر من الأوهام بين غالبية الشعب. كان هذا واضحا فعلا في انتخابات ربيع 1989 عندما هزم يلتسين المرشح الرسمي للحزب في موسكو وهُزم مرشحو الحزب في مدن مثل لينينجراد وكييڤ. وقد تمثل العامل الحاسم، دون شك، في الوضع الاقتصادي، الذي بدا لأغلب الناس أنه يزداد سوءا بدلا من أن يتحسّن مع الپيريسترويكا.
قال مستشار جورباتشوڤ، آبيل أجانبيچيان Abel Aganbegyan، في أوائل 1989:
يبدو أن غالبية الأسر السوڤييتية لم تشعر بعد بتغيُّرٍ إلى الأفضل... والواقع أن إمداد السوق الاستهلاكية بالسلع بدأ "فجأة" في التدهور بحدّة وعلى نحو ملحوظ أمام أعيننا في النصف الثاني من 1987 وبوجه خاص في 1988[21].
وفي اجتماع للجنة المركزية للحزب الحاكم في أوائل الصيف ذهب خطيب بعد آخر إلى المنصة ليحذِّروا من الاستياء الشعبي المتنامي. قال بوبوڤيكوڤ Bobovikov، القائد الحزبي من ڤلاديمير أن "العمال يقولون في الاجتماعات باستياء: أيّ طراز من النظام هذا الذي عندنا، إذا كنا لا نملك ما نغسل به؟". وتحدّث كولبين Kolbin، القائد الحزبي من كازاخستان، عن "إحساسه بخطر"..."أنْ يكون الناس مستثارين وممرورين، منجذبين نحو المظاهرات، واللقاءات الحاشدة، والإضرابات" في بعض أنحاء الاتحاد السوڤييتي وقد مضى كل متحدّث تقريبا ليشكو من أنّ وسائل الإعلام تركز فقط على "الملامح السلبية" للموقف، ومن أنّ "المجموعات غير الرسمية" و"المنظمات المعادية للسوڤييت" مثل الاتحاد الديمقراطي غدت تكسب تأييدا متعاظما في صفوف الشبّان[22].
تم اجتماع اللجنة المركزية بينما كانت موجة من الإضرابات تجتاح مناجم الفحم في البلاد. من ڤوركوتا والكوزباس في سيبيريا إلى الدونباس في أوكرانيا على بعد آلاف الأميال. ولم يتمّ وضع حدّ للإضرابات في نهاية الأمر إلا عندما التقى ريچكوڤ Ryzhkov، رئيس الوزراء، بلجان الإضراب في موسكو ووافق على منحهم مطالبهم الاقتصادية المباشرة. وكنتيجة للإضرابات، مرّر جورباتشوڤ قانونا ضد الإضراب من خلال مجلس السوڤييت الأعلى، مؤكدا: "بدأنا فعلا نفقد السيطرة على الاقتصاد... وإذا انفجر الوضع خارجا عن السيطرة في مكان ما، فلا بدّ من أن نمسكه بيدنا بحزم لنؤمّن الأداء الطبيعي للاقتصاد القومي..."[23]. واعترف ريچكوڤ: "الموقف في الاقتصاد وبوجه خاص في الرًُّبْع الثالث انعطف انعطافة حادة إلى الأسوأ. وفي سپتمبر حدث هبوط خطير في النشاط الاقتصادي"[24].
وفي محاولة مستميتة لاستعادة السيطرة على الموقف أعلن ريچكوڤ سلسلة من تدابير الطوارئ أمام مؤتمر النواب في ديسمبر -تلك التدابير التي تخلّصت على نحو فعّال من الابتعاد عن اقتصاد الأوامر الممركز الذي كان يُفترض أنْ يكون محور الپيريسترويكا[25]. وكان يلتسين قادرا على أنْ يُعبّر عن التشكك الشعبي الواسع الانتشار عندما أخبر المؤتمر:
الشعب يفقد ثقته بينما نحن نردد على نحو متواصل أن الپيريسترويكا شملت الجميع، وأنها تتعمّق وتتّسع... هذه في الواقع هي المحاولة الخامسة لإصلاح اقتصاد البلاد خلال ثلاثة عقود. تذكرّوا إصلاحات 1956، 1966، 1979، 1983. إلام قادت هذه الإصلاحات؟ إن محاولتنا الخامسة لم تؤدّ بنا إلى شيء على مدى خمس سنوات إلى الآن[26].


4
الاتحاد السوڤييتي: المسألة القومية
 
كان هناك عامل أخير شكَّل أساس التحرّر المتنامي من الأوهام إزاء جورباتشوڤ: عجزه عن التعامل مع السخط الجماهيري، الذي تنامَى عندما ازدادت الأزمة الاقتصادية سوءًا.
كانت إضرابات عمال المناجم في صيف وخريف 1989 تعبيرا عن هذا السخط -لكنْ خلال الجانب الأكبر من 1988، 1989 ألقى انفجار قومي بين الجماعات الإثنية غير الرسمية والتي تشكِّل نصف سكان الاتحاد السوڤييتي بظلاله على التعبيرات المباشرة عن النضال الطبقي. كان جورباتشوڤ غافلا عن إمكانات مثل هذه النزعة القومية عندما بدأ الپيريسترويكا. وقد كتب بعبارات تتّقد حماسا في صيف 1987:
ضد خلفية الصراع القومي، الذي لم يستثن حتى بلدان العالم الأكثر تقدما، يمثل الاتحاد السوڤييتي نموذجا فريدا حقا في تاريخ الحضارة الإنسانية. وقد لعبت الأمة الروسية دورا بارزا في حلّ مسألة القوميات[27].
أولئك اليساريون على المستوى العالمي الذين هلَّلوا لجورباتشوڤ أمكنهم أن يكونوا قصار النظر مثله تماما[28]. لكنّ بذور السخط القومي كانت ماثلة وملموسة منذ عهد بعيد لأولئك المستعدّين، أيديولوچيًّا، للبحث عنها[29].
واستمر العمَى العام عن المسألة القومية حتى بعد أن تمّ إرسال القوات إلى آلما آتا في أواخر 1986 للتعامل مع الاحتجاجات القومية حول فصل الزعيم المحلي للحزب الكازاخي، كوناييف Kunaev، وإحلال روسي، كولبين، محلّه. وسلم المعلقون في الشرق والغرب بالادعاءات الرسمية القائلة بأن المتظاهرين كانوا مخدّرين بالمخدرات التي قدّمها الزعيم المفصول[30].
ثم في فبراير 1988 اكتسحت يريڤان، عاصمة أرمينيا، فجأة، أضخم المظاهرات التي شوهدت في أيّ مكان في الاتحاد السوڤييتي منذ 1927. كانت المظاهرات حول مطالبة سكان إقليم مجاور من أقاليم جمهورية آذربيچان، ناجورنو كاراباخ، بتوحيده مع جمهورية أرمينيا. قليل من الناس خارج ذلك الإقليم سمعوا قبل ذلك اسم كاراباخ، وهو إقليم جبلي فقير يقطنه 180000 ألف نسمة فقط: على سبيل المثال، لم يذكر هذا الإقليم سوى مرة واحدة في نيويورك تايمز خلال نصف قرن[31]. لكنْ كُتب له أن يُلقي بظله على السياسة القومية على مدى السنتين التاليتين.
حمل المتظاهرون الأوائل صور جورباتشوڤ وأنشدوا بشعارات مثل "كاراباخ امتحان للپيريسترويكا". تحدّث جورباتشوڤ ساعة ونصف في التليڤزيون الأرميني، وهرع أعضاء في المكتب السياسي إلى أرمينيا وآذربيچان من موسكو، وتدفقت حمولة 29 طائرة من القوات وتم نشرها في يريڤان. لكن المظاهرات استمرت عدة أيام إلى أنْ وافق جورباتشوڤ على مفاوضات لم يسبق لها مثيل مع ممثلين منتخبين في لقاء جماهيري ضخم.
في نفس الوقت، كان هناك اندلاع مفاجئ -وغير مفسَّر- للشغب الطائفي في سُومجايت، الميناء الصناعي الآذربيچاني على بحر قزوين بالقرب من باكو. شرعت الحشود الآذريرية فيما كان، في واقع الأمر، مذبحة للسكان الأرمن، فقتلوا 31 على الأقل[32]. وتمثل ردّ فعل السلطات في موسكو في إلقاء القبض على قلّة من المشاغبين الآذيريين وتقديمهم إلى المحاكمة، لكنه تمثل أيضا في تدفق القوات إلى كل من أرمينيا وإقليم كاراباخ وفي اعتقال زعماء اللجان التي سبق أنْ قادت التحريض القومي هناك. وادّعى مقال في الپراڤدا أن المظاهرات سيطر عليها "المحترفون والمغامرون السياسيون، من بينهم أولئك الذين اقترحوا تحويل أرمينيا إلى جمهورية ليست طرفا في الاتحاد"[33].
لقد ضُرب مثل يُحتذَى كان لابدّ من تكراره مرة بعد مرة. ففي مارس كانت هناك مظاهرات وإضرابات عامة في أرمينيا وإقليم كاراباخ. وفي يوليو كانت هناك إضرابات أخرى بعد أن أطلقت القوات النار على أحد أفراد مفرزة إضراب في مطار يريڤان فأردته قتيلا.
وفقا للسكان، خرجت القوات السوڤييتية إلى الشوارع يوم الأحد بينما كانت طائرات الهليكوبتر تحوم فوق المدينة. وذكرت التقارير أن تعزيزات ثقيلة من القوات تدفقت طوال الليل...[34].
في الصحافة الروسية، "أدانت كافة المقالات العديدة التي كانت تحلّل نداء مجلس الرئاسة المضربين الأرمن... ووُصف اﻟ 11 عضوا في لجنة إقليم كاراباخ بأنهم "مغامرون" ولا مسؤولون"[35].
لكنّ سپتمبر شهد مع ذلك مزيدا من الإضرابات في كل من إقليم كاراباخ وأرمينيا، رغم واقع أن المدن الرئيسية كانت تحت الاحتلال العسكري، وبدأ الأرمن يسلّحون أنفسهم ويتحدثون بازدراء عن طائرات الهليكوپتر الخاصة بالجيش الروسي على أنها "طيور الخطاف الخاصة بالپيريسترويكا"[36]. وعلى نحو منذر بالسوء، وقعت النزاعات الطائفية الأولى بين الأرمن والآذيريين في إقليم كاراباخ ومنطقة أجدام الآذربيچانية المجاورة، وبدأ الأرمن يفرُّون من المناطق الآذيرية والآذيريون من المناطق الأرمنية. وبحلول نهاية نوڤمبر كان هناك أكثر من مائة ألف لاجئ على الجانبين وكانت هناك إضرابات عامة ومظاهرات في كل من العاصمة الآذربيچانية، باكو، والعاصمة الأرمينية، يريڤان. وكانت الدبابات تقوم بالدوريات في شوارع كلتا المدينتين.
هدأ العنف الطائفي وكذلك الإضرابات والمظاهرات الجماهيرية مؤقتا مع زلزال أرمينيا في ديسمبر 1988. لكن قادة الاتحاد السوڤييتي لم يُبدوا سوى نفس العجز عن تقديم حلّ كما حدث على مدى الشهور التسعة السابقة. بدلا من ذلك استغل جورباتشوڤ زيارة قام بها إلى منطقة الزلزال في شجب لجنة إقليم كاراباخ الأرمينية في التليڤزيون الموجّه إلى كل أنحاء البلاد، وكان يضرب منضدة بقبضة يده بينما كان يفعل ذلك. وبينما اعتقلت القوات أعضاء اللجنة[37]، فهمت الصحافة الروسية الرسالة، وادّعت أن: "قادة إقليم ‘كاراباخ‘ يعملون بهمة -في حين أن مختلف المشعوذين الفاسدين والآباء الروحيين للمافيا المحلية يستأثرون بالثمار"[38].
في نهاية الأمر، فرض جورباتشوڤ في أوائل 1989 الحكم المباشر من موسكو على إقليم كاراباخ، كطريقة لتفادي الوقوف إلى جانب أيٍّ من أرمينيا أو آذربيچان. لكن ذلك لم يحلّ أيّ مشكلة من المشكلات. وفي الصيف والخريف نجحت منظمة آذيرية جماهيرية غير رسمية، الجبهة الشعبية الآذربيچانية، في تنظيم إضرابات أوقفت النقل بالسكك الحديدية على الحدود الأرمينية. كذلك لم تَحُلّ إعادة جورباتشوڤ إقليم كاراباخ إلى الحكم الآذربيچاني أيّ مشكلات أيضا. وبحلول يناير 1990 كان هناك ما يشبه حربا أهلية على الحدود بينما حملت المنظمات غير الرسمية على الجانبين السلاح كما وقعت مذابح متكرّرة للأرمن في باكو.
أرسل جورباتشوڤ عشرات الآلاف من القوات الثقيلة التسليح تساندها الدبابات إلى آذربيچان -لكن ليس لإنهاء المذبحة، التي كان أغلب سكان باكو من الأرمن قد هربوا منها في ذلك الحين قبل أن تفرض القوات حالة حصار على المدينة بوقت طويل. وأوضح جورباتشوڤ في التليڤزيون أنه خرج ليوقف محاولات إعلان استقلال الجمهورية عن الاتحاد السوڤييتي وهدم المواقع الحدودية التي تفصل آذربيچان السوڤييتية عن آذربيچان الإيرانية (ما يشير إليه السكان المحليون على أنه "سور آذربيچان").
كان قرارا لم يجلب له أيّ ثناء من أيّ شخص أو جماعة. فالعناصر المحافظة داخل البيروقراطية السوڤييتية، والتي تعارض أيّ تنازلات للأقليات القومية، لم يكن بإمكانها إلا أن تسأل لماذا لم يتحرك بصرامة أكثر وفي وقت مبكر أكثر لكيْ يسحق الانشقاق. وأشار الراديكاليون إلى أنه لم يحرّك القوات عندما كانت المذابح في ذروتها، بل فقط عندما بدأ الآذيريون يتحدثون عن الانفصال عن الاتحاد.
لم تكن النزاعات في أرمينيا وآذربيچان سوى أولى حركات قومية عديدة تُسَبِّب لجورباتشوڤ مشكلات. وقد شهد صيف 1988 الظهور المفاجئ لحركات في جمهوريات البلطيق الثلاث التي ألحقها ستالين بعد معاهدة ستالين-هتلر في سنة 1939 -لاتڤيا، إستونيا، ليتوانيا. وقامت سلسلة من المظاهرات الضخمة عندما وجد الناس أنفسهم قادرين للمرة الأولى، على أن يناقشوا بصراحة الدمج الإجباري لدولهم التي كانت مستقلة من قبل في الاتحاد السوڤييتي والترحيل اللاحق لعشرات الآلاف من الناس إلى سيبيريا. قام الناس بتكوين "حركات من أجل إعادة البناء" -التي سرعان ما عُرفت بوصفها جبهات شعبية- وجذبت لقاءاتُها الجماهيرية الحاشدة مئات الآلاف من الناس إلى الخروج إلى شوارع كل مدينة رئيسية في المنطقة. في البداية اعتقد جورباتشوڤ أن بإمكانه أن يحتوي بسهولة هذه الحركات. وأحلّ محلَّ القادة الحزبيين الموجودين آنذاك في هذه الجمهوريات مرشحيه هو، وهم عادة قوميون محليون أنجزوا أعمالا ناجحة في جهاز عموم الاتحاد، وحثهم على أن يضعوا أنفسهم في صدارة الحركة في سبيل الهوية القومية والتغيير. وفي أكتوبر 1988 ظهرت قيادات الحزب الشيوعي الجديدة في المؤتمرات التأسيسية للجبهات الشعبية، وقرأوا تصريحات تأييد لأهدافها، بموافقة جورباتشوڤ شخصيا[39].
لكنّ جورباتشوڤ كان، كما كان الحال في القوقاز، عاجزا عن إدراك الدينامية التي تقف وراء الحركات القومية. كان الإحساس بالضيم لدى السكان المحليين الليتوانيين، والإستونيين، واللاتڤيين، كبيرا إلى حدّ أن الجبهات الشعبية مرّت بتحوّل جذري كان من الصعب على القيادات الحزبية المحلية أن تجاريه. وقد فرضت عليهم محاولاتهم أنْ يفعلوا ذلك التسليم عمليا بالحرية الكاملة للتحريض وللصحافة. ومع بداية 1988 كانت محطات الإذاعة المحلية تذيع انتقادات صريحة للحكم السوڤييتي وكانت المنظمات شبه المحظورة في بقية أنحاء الاتحاد السوڤييتي، مثل الاتحاد الديمقراطي أو الجبهة الشعبية لبيلوروسيا، قادرة على الالتقاء علنا في جمهوريات البلطيق. لكن الأحزاب الشيوعية المحلية وجدت نفسها مع ذلك تفقد التأييد لصالح الجبهات الشعبية، التي فازت بأغلب المقاعد المحلية في انتخابات نواب المؤتمر في مارس 1989. أما أعضاء الحزب الذين تمّ إدخالهم في الجبهة الشعبية بهدف محاولة السيطرة عليها فقد انتهَى بهم الأمر إلى أن يتجاهلوا التوجيهات الحزبية تجاهلا كاملا وأن ينظروا إلى أنفسهم في المقام الأول على أنهم أعضاء في الجبهة. واشتكى جورباتشوڤ فيما بعد:
كانت قيادة الحزب الشيوعي في ليتوانيا -اللجنة المركزية- تفتقر إلى العزيمة والقوة الكافيتين لأن تكون في موقف الهجوم... وازداد الشلل التنظيمي والسياسي بعد انتخابات مارس. وفي أبريل 1989 اتخذت سايوديس [الجبهة الشعبية الليتوانية] قرارا بشأن استقلال الحزب الشيوعي في ليتوانيا [عن موسكو]... وبدأت عملية تفتُّت أقسام من الحزب الشيوعي إلى الحركات والمنظمات التي تتسم بمظهر قومي تكتسب قوة. وسقط الانضباط الحزبي بحدًة...[40].
مع نهاية 1989 كانت الجبهات الشعبية في الجمهوريات الثلاث ملتزمة علنا بالاستقلال التام عن الاتحاد السوڤييتي، وكانت تجبر قيادات الأحزاب الشيوعية المحلية على التحرّك في نفس الاتجاه. علاوة على ذلك، كان إقرار شرعية حركات البلطيق حافزا للشعور في أماكن أخرى في الاتحاد السوڤييتي. شعر المنشقون بالأمان فرفعوا مطالب كان من شأنها منذ زمن ليس بالطويل أن تعود عليهم بأحكام بالسجن، في حين اعتقد مسؤولو الجمهورية المحلية أن التاكتيك الصحيح يتمثل في الالتفاف حول مثل هذه المطالب بحيث يمكن الاحتفاظ بالتأييد الشعبي.
وسرعان ما توطدت حركات قومية تضارع في قوتها تلك التي في دول البلطيق في چورچيا ومولداڤيا، وكذلك في أرمينيا وآذربيچان، بحلول منتصف 1989. كما أن التحريض القومي كان يلقى صدًى قويا في بيلوروسيا وأوكرانيا الغربية، حتى وإنْ كان تأثيره لم يكتسح كل شيء أمامه. في نفس الوقت، كانت أعداد لا حصر لها من الحركات القومية الأخرى تنشأ -في صفوف الأوزبك، والطاچيك، والكازاخيين، والأتراك المسكيتيّين، والأبخازيين، وكثير من التجمعات الأخرى.
أظهرت الحركات الجديدة نوعين من الدينامية. الأولى والأكثر تهديدا للبيروقراطية المركزية في موسكو، والتي يقودها جورباتشوڤ، كانت في اتجاه الانفصال. وكانت الثانية في اتجاه نزاعات طائفية مريرة فيما بين هذه الحركات.
وعندما لعبت بيروقراطيّات الجمهوريات المحلية الورقة القومية، وبوجه خاصّ ورقة اللغة، لتعزيز شعبيتها ومكانتها، كانت العناصر المحافظة في البيروقراطية الروسية قادرة على أن تبنِّي "حركات اختراق" معارضة للتغيير تربط المديرين والعمال الناطقين بالروسية ربطا وثيقا وفي إستونيا ومولداڤيا نجحت هذه الحركات في 1989 في تحقيق عمل إضرابي حول الشعارات القومية الروسية. وساعد هذا بدوره العناصر المحافظة داخل الجزء المركزي الناطق بالروسية من الاتحاد السوڤييتي في إلهاب التحريض القومي الروسي، الذي يتغذَّى على أفكار شوڤينية غُرست في النفوس بعمق. كانت القيصرية والستالينية كلاهما تلقّنان أن الروس شعب متفوّق حمل عبء جلب "الحضارة" إلى الجماعات الإثنية الأخرى في الإمپراطورية الروسية، في حين عانَى الروس أنفسهم من تلاعب قوى أجنبية، أيْ يهودية، بهم.
من الصعوبة بمكان أن نعرف مدى انتشار وعُمق جذور نموّ الشوڤينية الروسية ومعاداة السامية في واقع الأمر. لكن لا يوجد أيّ شك في أنها كانت تخلق مخاوف حقيقية في صفوف أقسام من الإنتلچنسيا الموالية لجورباتشوڤ في أواخر 1989، كما بيّنت مناقشة جرت بين عدد منهم في أنباء موسكو.
كان هناك فزع تقريبا بشأن الطريقة التي قيل أن القوى المحافظة القديمة تحرّض بها أو تنتزع التأييد من الشعب. قال آمبارتسوموڤ Ambartsumov إن "آمالنا المحلّقة في مستهلّ الپيريسترويكا انقلبت اليوم إلى خيبة أمل وحتى إلى حقد أحيانا..." ووفقا لكارپنسكي Karpinsky:
يشير المحافظون إلى الصعوبات المعترف بها عالميا والتي تجتازها البلاد في الوقت الراهن -الأزمة في جوانب كثيرة من الاقتصاد، نقص الإمدادات، السوق غير المتوازنة، انهيار العلاقات القديمة قبل أن تحلّ محلها علاقات أخرى جديدة... وتزدهر العلاقات المحافظة في جوٍّ من التوقعات المشكوك فيها ونقص المؤن...
وتبذل الآن محاولة لربط مصالح الجهاز مع مواقف فئات بعينها من السكان...[41].


5
الاتحاد السوڤييتي: الإحساس بالقلق
 
"القطار يحترق، لكن لا قاطرة تجرّنا بعيدا". لخّصت هذه الكلمات من أغنية مجموعة الروكّ في لينينجراد "أكوارياس" الإحساس العام بالقلق في الاتحاد السوڤييتي مع بداية 1990. وبدا أن هذا الإحساس أصاب كل قطاع في الحياة الاجتماعية وكل فئة اجتماعية. كان الاقتصاد قد خرج عن السيطرة، إلى حدّ أن اقتصاديّ الإصلاح، وكيل الوزارة أبالكين Abalkin، اشتكى قائلا:
غمرت الاقتصاد موجة من الإضرابات. هناك إثارة متواصلة للتوتر، نوع متواصل من الابتزاز على طريقة "إنْ لم تقم بحلّ هذه المسائل، سنقوم بإضراب"[42].
كانت الأقليات القومية تعبِّر عن مظالمها من أقصى الاتحاد السوڤييتي إلى أقصاه. كانت هناك إضرابات في لاتڤيا، وإستونيا، ومولداڤيا، وچورچيا. وكانت لتوانيا تطالب باستقلالها. وروتْ پراڤدا أن "الشعب في طشقند ومدن أخرى عديدة في أوزبكستان لم يعرف سلاما على مدى شهور عديدة... ويجري باستمرار عقد الاجتماعات الجماهيرية الحاشدة -التي لم تعد محظورة- في الشوارع"[43]. وفي أرمينيا وآذربيچان كانت هناك حرب أهلية. وكان هناك في كل مكان نقص متزايد في أغلب المواد الأساسية، ومعه سخط متزايد. وفي المدن الروسية ڤولجوجراد (ستالينجراد سابقا)، تشيرنيجو، تيومن، وهي مركز هام، للپتروكيماويات أجبرت الاحتجاجات الجماهيرية لجان الحزب المحلي على الاستقالة[44]. وأجبرت مظاهرات مؤلفة من الآلاف في كراسنودار وستاڤروپول الجيش على إلغاء استدعائه للاحتياط للذهاب إلى القوقاز[45]. وحذّر إڤاشكو Ivashko، زعيم الحزب الأوكراني:
المزاج العام والوضع السياسي في أوكرانيا لم يكن بإمكانهما إلا أن يتأثرا بالأحداث في ليتوانيا، وما وراء القوقاز وفي أوروپا الشرقية. الناس قلقون. هناك عوامل كثيرة تجعلهم متقلقلين[46].
وحذر رئيس النقابات الرسمية التي توجهها الدولة في تلك الجمهورية قائلا: "السخط الشعبي يتزايد وقد يؤدّي إلى صراعات عمالية واسعة النطاق"[47]. وتحدّثت إزڤستيا عن "توتُّر عصبي في كل أنحاء مولداڤيا... إنّ مثال ما وراء القوقاز أمام أعين الجميع"[48]. وكتب المراسل السابق في وارسو لصحيفة كومسومولسكايا پراڤدا:
أحسّ أنني أتفرّج على إعادة لفيلم... بعد تسعة أعوام سيثبت عمال مناجم كوزباس ودونباس أن هناك أوجه شبه كثيرة مؤسفة بين احتجاجات بُناة سفن جدانسك واحتجاجات عمال مناجمنا[49].
أما المؤسسات الجديدة التي كان يُفترض فيها أنْ تجمع كلمة البلاد على أساس "الإجماع" -مؤتمر النوّاب ومجلس السوڤييت الأعلى المعدَّل- فكانت تعكس ببساطة الانقسامات في المجتمع ككلّ، وإنْ كان ذلك بطريقة أعطت انطباعا مُبالغا فيه عن تأثير الجهاز على الأحداث. كانوا منقسمين بين أقلية صغيرة من المصلحين الراديكاليين، وعلى يمينهم مجموعات بنفس الحجم من "المعتدلين" الموالين لجورباتشوڤ، والمحافظين الصريحين. أما فكرة أنه يقبض على "كل السلطة" إمّا المؤتمر أو مجلس السوڤييت الأعلى فقد بدت فارغة أكثر فأكثر عندما أخذ أعضاء كلٍّ من هاتين الهيئتين يتماحكون حول البنود التافهة المتعلقة بالإجراءات لكنهم سمحوا للمكتب السياسي بأن يفعل ما يشاء عندما انتقلوا إلى القضايا الكبرى.
امتد القلق إلى قلب الحزب الحاكم. وعلى مدى أكثر من 60 سنة كان الحزب قد فرض انضباطا حديديا على المصالح المختلفة داخل البيروقراطيتين الاقتصادية والحكومية، وكان يجمعهما في هيراركية واحدة تحت الأمين العام والمكتب السياسي. أما الآن فكان الحزب الحاكم ذاته يكفّ عن أن يعمل بطريقة موحّدة. هذا ما تبيّن في اجتماعات اللجنة المركزية، التي تجمع معا أولئك الذين يمدّون بالرجال جهاز الحزب ذاته، والمشروعات والوزارات الرئيسية، وقادة الشرطة والجيش. قال عالم اجتماع روسي حادّ الملاحظة:
أعراض... مواجهة متنامية بين الجهاز الحزبي على المستوى المحلي وهيئات القيادة المركزية للحزب... ظهرت في جلسة أبريل [1989] الكاملة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوڤييتي، حيث جرى التعبير عن استياء صريح في كلمات عدد من الأعضاء وأمناء لجان المناطق الإدارية إزاء ما رأوه موقفا خاطئا للمكتب السياسي والسكرتارية في قيادة العمليات التي تجري في الحزب والبلاد. هذا الاستياء تم إبداؤه حتى إلى مدى أبعد في اجتماعات مناضلي الحزب والجلسات الكاملة للجان الحزب المحلي التي عقدت مؤخرا جدا[50].
كان المزاج السائد في جلسة يوليو الكاملة شبيها بذلك للغاية، رغم أن المناقشة في اجتماع ديسمبر كانت مريرة إلى حدّ أن قيادة الحزب نقضت ممارستها المعتادة فلم تنشر محضر الاجتماع. لكن التقارير توحي بأن الخطاب الافتتاحي لجورباتشوڤ أعقبه مباشرة وابل من النقد من مقاعد الأعضاء، بدأ بالرجل الذي كان جورباتشوڤ قد كلفه مؤخرا بمسؤولية لينينجراد، چيداسپوڤ Gidaspov. وقد عبّر أحد النواب عن انطباعاته في أنباء موسكو:
حتى الآن كنا نعرف أن "التفكير الجديد" كان يلقى معارضة في محليات كثيرة من جانب المحافظين والعقائديين. وعندئذ سمعتُ لأول مرة اتهامات ضدّ جورباتشوڤ، بأن خطه خاطئ وبأن "الوقت قد حان لنسير جميعا في الطريق الصحيح"[51].
مع نهاية السنة كان "الراديكاليون" و"المحافظون" داخل الحزب يسبوّن بعضهم علنا، وعلى نحو متزايد بدأ كلا الفريقين يوجّهان النار إلى جورباتشوڤ. ولسوء طالعه شهدت نهاية السنة اجتماعين حاشدين متنافسين في ثاني مدينة بالاتحاد السوڤييتي، لينينجراد، وكان كل منهما منظما من داخل جهاز الحزب المحلّي. وشهدت بداية السنة الجديدة التنظيم العلني لانشقاق راديكالي معارض، المنبر الديمقراطي[52]، الذي تحالف مع "الجماعات غير الرسمية" الراديكالية خارج الحزب لتنظيم كبرى مظاهرات موسكو حتى الآن في بداية فبراير.
  كما أن القوات المسلّحة لم تكن محصنة ضدّ الإحساس بتفسّخ المجتمع ككل. ففي القاعدة كان الجنود العاديون منخرطين في مختلف الجبهات الشعبية، فكانوا يجلسون على الأرصفة، ويخطبون في اللقاءات، ويلتحقون بحركة إصلاحية، الترس[53]. وكانت هناك تقارير عن اجتماعات سرية لمندوبين من الآذيريّين من مختلف الوحدات في آسيا الوسطى[54]. وفي يريڤان كانت هناك طوال شهرين "مظاهرة اعتصام قام بها المجنَّدون... وكان عديد من المشاركين في إجازة مبيت ولا يريدون أن يعودوا إلى وحداتهم[55]. وعلى أعلى مستوى كانت هناك تقسيمات واضحة بين الضباط المتعاطفين مع أولئك المستائين من الإصلاح. وكانت صحيفة الجيش، كراسنايا زڤيزدا، واحدة من أكثر المطبوعات محافظة، لكنْ في المؤتمر الثاني للنواب، "كان الأفراد العسكريون في الپرلمان نشيطين بوجه خاص... وكان الصَّدْع بين المحافظين والوسط باديا بشأن كافة المسائل، لكنْ بوجه خاصّ بشأن المسائل العسكرية -حتى بين النواب العسكريين أنفسهم"[56].
بعد أن كان يبدو وكأنه سيّد الأحداث في 1987 و1988، بدا جورباتشوڤ على نحو متزايد وكأنه أسيرها. أحال إلى التقاعد قسما بكامله من اللجنة المركزية وقام بتعديل المكتب السياسي، وأتى بأشخاص يدينون له بترقيتهم وفصل "محافظين" قدامى مثل شتشيربتسكسي Schcherbitsksy وتشبريكوڤ Chebrikov. لكن قدرته على توجيه الأحداث تضاءلت مع ذلك. وقَّع مرسوما بحظر "المظاهرات غير المصرّح بها"؛ واندلعت على نطاق أوسع من ذي قبل. قام بحظر "الأعمال المتعمَّدة التي تهدف إلى إثارة العداء أو الشّقاق القومي أو العرقي"؛ وتعاظم "الشقاق القومي" كما لم يحدث أبدا من قبل. مرّر قانونا بشأن الإضرابات؛ وأضرب الناس رغم أنفه. وفي أواخر أغسطس صدّق على رسالة إلى قيادات جمهوريات البلطيق محذرا إيّاها ضدّ الاستسلام للضغوط القومية. وقد نظر كلّ المعنيين إلى هذا التقرير على أنه تهديد مبطّن بإرسال قوات روسية إلى هناك. لكنْ عندما وُوجه بقرار من الحزب الليتواني بإعلان استقلاله عن الحزب الشيوعي السوڤييتي في ديسمبر، كان كلّ ما بدا جورباتشوڤ قادرا على أنْ يفعله هو أن يمرِّر قرارا آخر من خلال اللجنة المركزية وأن يناشد القادة الليتوانيين أن يعيدوا التفكير.
لم تتجاهل القيادة الحزبية والقيادة العسكرية ببساطة القلق المتنامي من تحت. فقد اتَّخذت فعلا إجراء قاسيا جدا في محاولة لسحق الحركات. وقامتا فعلا بحظر المطبوعات، وإنهاك جماعات المعارضة، ووضع حدّ للمظاهرات. وفي أبريل قامت القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية بالقتل الوحشي لعشرات من المتظاهرين في تيبليسي؛ كانت هذه القوات تعمل طوال أكثر من 18 شهرا في أرمينيا وكاراباخ؛ وتحرّكت لتحطيم المظاهرات القومية بعد تحطيم احتفالات 7 نوڤمبر في مولداڤيا بأيام قليلة. لكن القمع لم يكن أكثر تماسكا مما كانت الجلاسنوست و"المقرطة"؛ كان قاسيا بما يكفي لخلق مرارة هائلة، لكنه لم يكن قاسيا بما يكفي لكسر العزم على تحويل تلك المرارة إلى عمل أبعد.
كانت وسائل الإعلام الغربية منذ وقت طويل أنصارا متحمسين لجورباتشوڤ. لقد نظرت إليه على أنه يتخذ موقفا ثوريا حازما عندما قرّر تعديل المادة السادسة في دستور الاتحاد السوڤييتي حول الدور القيادي للحزب في أوائل فبراير 1990 والواقع أنه لم يكن أكثر حزما ولا أكثر حسما من قراره، قبل ذلك بأسبوعين، بالقيام بمحاولة لحلّ عسكري في القوقاز. وقد أتى كلا القرارين وسط غليان متزايد من أقصى الاتحاد السوڤييتي إلى أدناه. كان كلا القرارين يمثلان محاولتين يائستين لترميم الشروخ التي أحدثها هذا الغليان في الصرح السياسي. والواقع أنّ كلا القرارين لم يكن بمستطاعهما إلا أنْ يؤديا إلى تفاقم المشكلات الطويلة الأمد لهذا النظام.


6
السياسة العالمية: سلاح ذو حدين
 
حقق جورباتشوڤ نجاحا واحدا كان بإمكانه أنْ يشير إليه حتى خريف 1989. ويتمثل هذا النجاح في سياسته الدولية. كان قد استطاع أنْ يخرج بالقوات السوڤييتية الأخيرة من أفغانستان في فبراير 1989 دون أن تنهار حكومة كابول في الحال. وكان قد استطاع أنْ يقوم بأول زيارة إلى الصين يقوم بها زعيم روسي منذ أيام خروشوڤ وأنْ يقوم بصياغة صلات جديدة مع النظام الإيراني. وقبل كل شيء كان قد استطاع أنْ يهدّئ "الحرب الباردة الجديدة" عن طريق سلسلة من اتفاقيات تحديد الأسلحة مع الولايات المتحدة الأمر الذي سمح بخفض في العبء العسكري الواقع على اقتصاد الاتحاد السوڤييتي كما كان قد استطاع، عن طريق سياسة جديدة للتعاون مع الولايات المتحدة، أنْ يقلّل المواجهات المحلية في أفريقيا الجنوبية وأمريكا الوسطى. كان بإمكانه أن يشير إلى شعبيته في الخارج كطريقة لدعم مركزه في بلاده؛ ولو أطاح به أحد لخاطر بأن ينفرط عقد ما بدا أنه إستراتيچية دولية بالغة النجاح.
غير أنه كان هناك ثمن لا بد من دفعه مقابل هذه الإستراتيچية. فهذه الأخيرة منحت القوى الغربية، خاصّة الولايات المتحدة، حقّ اعتراض (ڤيتو) جزئيا على قرارات السياسة الخارجية للاتحاد السوڤييتي. لم يكتف الاتحاد السوڤييتي بالموافقة على ألا يتدخل في شؤون الفناء الخلفي للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى وعلى أن يساعد القوى الغربية على تحقيق الاستقرار في أفريقيا الجنوبية من خلال جمع بين الإصلاح والقمع -وهي سياسات سمحت للاتحاد السوڤييتي، كما حاول الإستراتيچيون الروس أنْ يثبتوا، بخفض الإنفاق فيما وراء البحار والموجّه إلى "حركات التحرّر" والحكومات الصديقة والذي لم يعد على الاتحاد السوڤييتي إلا بعائد ضئيل للغاية. بل قام جورباتشوڤ أيضا بوضع الاتحاد السوڤييتي في الوضع الذي كان عليه أن يكون فيه حذرا جدا في الإجراءات التي اتخذها للدفاع عن مجال نفوذه الخاص لكيْ لا تستخدمها حكومة الولايات المتحدة كذريعة للتنصُّل من الاتفاقات ولممارسة ضغط جديد على الإنفاق العسكري السوڤييتي.
والواقع أن ما يعنيه هذا تبدَّى بكل وضوح في خريف 1989. فالأنظمة التي جسَّدت النفوذ الروسي على أوروپا الشرقية بدأت تتداعي. ومهما واصل وزير الخارجية السوڤييتي الحديث عن قدسية حدود ما بعد الحرب في أوروپا، فقد بدا أنه ليس بإمكانه هو أو جورباتشوڤ أن يفعلا شيئا ذا بال للحفاظ على تماسك الحكومات التابعة لهما. وقد تم استبعاد الإجراءات الحاسمة، والوحشية، التي كانت فعّالة للغاية في بوداپست في 1956 وپراغ في 1968. وكان كلّ ما بقي هو محاولة التظاهر بأن كل شيء على ما يرام والترحيب بخسارة أغلب المكاسب الإستراتيچية التي تم إحرازها في الحرب العالمية الثانية؛ خاصّة عندما قام بتحوّل دپلوماسي مفاجئ في أواخر يناير 1990 وقال إن إعادة توحيد ألمانيا أمر حتمي. لكن هذا لم يكن بإمكانه أن يوقف مسألة أخرى أكثر حيوية في الواقع أخذت تبرز أمام حكام الاتحاد السوڤييتي. إذا كانوا لم يمكنهم أن يشرعوا في عمل مّا في أوروپا الشرقية خوفا من إثارة الحساسيات الغربية فهل أمكنهم الشروع في عمل ضد دول البلطيق؟ أم كانت سياسات جورباتشوڤ تقودهم نحو خسارة إمپراطوريتهم الداخلية بالإضافة إلى الخارجية؟
لا غرابة إذن في أنه مع بداية 1990 كان هناك تحرّر من الأوهام بشأن جورباتشوڤ سواء بين أولئك الذين كانوا يؤيدون مزيدا من المقرطة في الاتحاد السوڤييتي أو أولئك الذين كانوا يؤيدون "نظاما" من الطراز القديم. ولا غرابة في أن السبب الرئيسي وراء تصوّر الناس أن جورباتشوڤ لن يُطاح به هو غياب شخص يحلّ محلّه.


7
أوروپا الشرقية: انهيار تراكمى
 
ذهلت الأرثوذكسية اليسارية الرسمية بانهيار تجربة جورباتشوڤ لتستحيل إلى فوضى اقتصادية وأزمة اجتماعية، بل حتى حرب أهلية. لكن انهيار الأنظمة الأوروپية الشرقية قوَّض بدوره أهم الفروض النظرية لهذه الأرثوذكسية. ذلك أن اليسار الرسمي ألحّ دائما على أنه في أوروپا الشرقية كان هناك نمط إنتاج مختلف عن بقية العالم. يصدق هذا على كل من التفسيرات القائلة ﺒ "الاشتراكية"؛ و"الدولة العمالية المتدهورة" و"ما بعد الرأسمالية"؛ والتفسيرات التي تتزايد شعبيتها في السنوات الأخيرة والتي تتكلم عن شكل جديد من أشكال المجتمع الطبقي: الجماعية البيروقراطية، أو الدولوية، أو حتى طبعة حديثة من الاستبداد الشرقي.
لكن إذا كان أسلوب الإنتاج في أوروپا الشرقية مختلفا إلى هذا الحدّ عن ذلك الموجود في بقية العالم، فكيف يمكن تفسير تغيّرات الأشهر القليلة الأخيرة؟ كيف أمكن تطعيم أسلوب إنتاج "غير رأسمالي" إطلاقا بسمات مثل عضوية صندوق النقد الدولي، والإنتاج من أجل الربح، وإفلاس المشروعات التي لا يمكنها بيع منتجاتها عند "معدّل عائد" ملائم، والازدياد المفاجئ للبطالة، وحتى البورصة؟
حاول الماركسيون عادة أن يثبتوا أن الانتقال من أسلوب إنتاج إلى آخر يقتضي قطيعة عنيفة بين القديم والجديد. تروتسكي، على سبيل المثال، كان يلحّ على أنه لا يمكن أن تكون قد وقعت ثورة مضادة اجتماعية في الاتحاد السوڤييتي في العشرينيات لأنه، كما ادّعى، لم تكن هناك قطيعة عنيفة كهذه: الحديث عن تغيُّر في أسلوب الإنتاج بدون مثل هذه القطيعة هو "إصلاحية بالمقلوب".
مع ذلك كان عنف "الثورة الثانية" لستالين في أواخر العشرينيات أكبر بكثير من أيّ شيء شهدناه في أوروپا الشرقية على مدار السنة الأخيرة. أرسل ستالين جيشا إلى الريف لطرد ملايين الفلاحين من الأرض، واستخدم الشرطة والجيش لتحطيم مقاومة الطبقة العاملة لاستقطاعات الأجور في المصانع، واستخدم الشرطة السرية – چي پي يو GPU -للتصفية الجسدية لأيّ شخص طرح للمناقشة أيّ سمة من سمات حكمه هو داخل الحزب الحاكم. وبكلمات تروتسكي، حفر ستالين نهرا من الدم بين الستالينية والبلشڤية. وكان هناك ملايين القتلَى في الحرب الأهلية التي كان جانب ستالين فيها مسلحا ولم يكن خصومه كذلك. على النقيض من ذلك، كانت التحولات في أوروپا الشرقية طوال السنة الأخيرة سلمية على نحو كاسح، باستثناء رومانيا وحدها.
بدأ مسار التغيير في پولندا والمجر. في پولندا كان هناك نهوض ضخم للمواجهة الاجتماعية في 80-1981 شلّ نشاط الدولة على مدى سنة وربع. لكن الانقلاب العسكري في ديسمبر 1981 قصم ظهر نقابة تضامن المستقلة، حتى وإن كان لم يستطع أن يحطم نفوذ المعارضة السرية للنظام. ثم وقعت في ربيع وصيف 1988 موجتان من الإضرابات. أدهشت هذه الإضرابات النظام وأغلب قيادة تضامن القديمة على السواء. وخلال الموجة الأولى كان هناك إحساس قويّ بين المستشارين الفكريّين لتضامن بأن الإضرابات كانت خاطئة. ولم يكن هناك مزيد من الحماس للموجة الثانية، رغم أن الزعيم القومي الشهير لتضامن -ليخ ڤاونسا Lech Walesa- أدرك أن مركزه السياسي يفرض عليه الاشتراك في احتلال ترسانة لينين في جدانسك.
كان موقف قيادة تضامن يعني أن الإضرابات محصورة في أربعة مراكز رئيسية ولم يجر تعميمها إلى أيّ شيء أشبه بنفس درجة 80-1981[57]. ولا شك في أن الإضرابات لم تكن بالحجم الضروري لتحطيم سلطة الطبقة الحاكمة وتثوير المجتمع. غير أن ما فعلته الإضرابات تمثَّلَ في إثارة مناقشة مريرة داخل الشرائح الحاكمة في المجتمع الپولندي حول الطريقة التي يمكنها أن تحمي بها مستقبلها هي. في النهاية تبنَّوا الإستراتيچية التي اقترحها وزير الداخلية – كيچاك Kisczcak. وافقوا على مناقشات المائدة المستديرة مع المعارضة ومع "المستقلين" مقابل أن تطلب القيادة القومية لتضامن من العمال أن لا يُضربوا. تمخّض عن المائدة المستديرة اتِّفاق على انتخابات شبه حرّة وتمخّض عن هذه الأخيرة قبول قادة الحزب الحاكم القديم أن يصبح أحد مستشاري تضامن رئيسا للوزراء في حكومة ملتزمة بإعادة البناء، بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، واقتصاد الأوامر، والخصخصة الواسعة النطاق.
ظل نفس الأشخاص كما كانوا من قبل مسؤولين عن المشروعات، والشرطة، والقوات المسلحة. وتم تطهير وسائل الإعلام من أولئك الذين كانوا قد ألقوا ثقلهم وراء الفترة السابقة من الحكم العسكري: الصحفيون الذين سبق فصلهم لتأييدهم لتضامن أعيد تعيينهم، لكنْ لم يكن هناك سوى قليل من التغييرات الأخرى في الأشخاص في الصحافة والتليڤزيون؛ أما القضاة فقد طلب منهم ببساطة أن يكونوا "محايدين سياسيا" من الآن فصاعدا.  في الوقت ذاته، أخذ المديرون الذين كانوا قد صعدوا إلى مراكزهم كجزء من البيروقراطية العليا (النومينكلاتورا) القديمة يستخدمون الآن نفوذهم وثروتهم لشراء أقسام من الصناعة بالجملة. وأنشأ أعضاء البيروقراطية العليا ما يقدّر ﺒ 15 ألف تعاونية[58]. ومن الصعوبة بمكان أن نرى في هذا السياق للأحداث أيّ شيء يمكن وصفه -ولو من بعيد- ﺒ"ثورة" أو "ثورة مضادّة".
في المجر حيث مضت التغيرات الاقتصادية إلى نفس المدى الذي بلغته في پولندا على الأقل، لم يكن هناك إلى ذلك الحين سوى مواجهة اجتماعية أقلّ. كانت المعارضة المنظمة في المجر، حتى وقت متأخر مثل 1987، صغيرة للغاية. وكانت محاولاتها لبناء ركيزة داخل الطبقة العاملة في أوائل الثمانينيات فاترة الهمة وفاشلة. ولم تتجاوز قوّة مظاهراتها الأولى في 1987 و1988 أكثر من آلاف قليلة وكانت تتألّف من الطلبة أساسا[59].
لم يأت الانفتاح على "الديمقراطية" بسبب الضغط من تحت، بل لأن الاستدانة الدولية المتعاظمة والمخاوف من الأزمة الاقتصادية خلقت انقسامات بين كبار زعماء الحزب. تآمر حفنة من هؤلاء في مؤتمر الحزب في ربيع 1988 لطرد زعيم الحزب العجوز، يانوش كادار Yanos Kadar. كانوا يعتقدون أن من الضروري أن يدفعوا الإصلاح الاقتصادي حتى إلى مدى أبعد في اتجاه اقتصاد سوق بكل معنى الكلمة. وافقوا جميعا على ما كانوا يشيرون إليه صراحة على أنه سياسات "ثاتشرية". كما وافقوا على أنهم بحاجة إلى أن يسمحوا بالتنظيمات السياسية إذا أرادوا الحصول على التأييد الذي يحتاجون إليه لتنفيذ هذه التدابير. لكن حينئذ جرت، كما في پولندا، مشاجرات مريرة في صفوف الجماعة الحاكمة الجديدة حول ما هو الاتجاه السياسي الذي ينبغي السير فيه. وسعى قسم منها، حول إيمري پوشجاي  Imre Poszgay، إلى تعزيز سيطرته عن طريق التعاون مع أقسام من المعارضة.
في المناخ السياسي الجديد اندفع الناس الذين كانوا قد رفضوا الانضمام إلى جماعات المعارضة في الماضي، إما خوفا أو لأنهم كانوا يتوقون إلى الصعود الاجتماعي المفتوح أمام مؤيدي الحزب الحاكم، .. اندفعوا فجأة إلى الانضمام إليها، وفجأة كانت قوة المظاهرات السياسية للمعارضة بمئات الآلاف. حتى الوزراء انضموا إليها. وتكوّنت دزينة من الأحزاب الجديدة. وهُزم مرشحو الحزب الحاكم في سلسلة من الانتخابات الفرعية وعندئذ انقسم الحزب ذاته رسميا إلى حزبين.
لكن في كامل هذا المسار للتغيير دون مواجهة كان هناك خيط قويّ من الاستمرار. كتب جاسپار تاماسGaspar Tamas ، أحد قادة أحد أحزاب المعارضة، الديمقراطيون الأحرار:
الجيش، والشرطة، والإدارة المدنية، لا تزال غير محايدة سياسيا .. الاقتصاد ستتم خصخصته اسميا، بنفس المديرين كمالكين حتى إذا كانوا لن يخاطروا بشيء من ثروتهم...
وأغلب ساسة المعارضة زائفون. وتأتي أعلى المهاترات صوتا ضدّ الماضي الشيوعي من أناس كانوا منذ أشهر أو أسابيع فقط ممثلين قياديّين للحزب وكان الشخص الثاني في حزب الديمقراطيين المسيحيّين مدعيا عامّا طوال 20 سنة[60].
كانت التغيرّات في المجر بمثابة العامل المساعد للتغيرات في ألمانيا الشرقية. فالحكومة المجرية، الضعيفة والمتطلّعة إلى المعارضة طلبا للمساعدة، لم تشعر بأنها في وضع تمنع فيه الألمان الشرقيين الذين كانوا قد دخلوا البلاد بصفتهم سائحين عابرين إلى الغرب. وبدأت ألمانيا الشرقية تعاني من استنزاف في العمل الماهر لأول مرة منذ بناء سور برلين في 1961.
منح الضعف المفاجئ لحكومة ألمانيا الشرقية عزما جديدا لجماعات المعارضة في البلاد، هذه الجماعات التي كانت صغيرة جدا والتي كان يجري قمعها بسهولة. قامت جماعات المعارضة بمظاهراتها الأولى، التي قدّرت قوتها بعدة آلاف، في درسدن في أوائل أكتوبر، هاتفةً: "سنبقى هنا"، و"جوربي جوربي" [جورباتشوڤ]. جذب عنف هجمات الشرطة على هذا الاحتجاج آلافا أخرى إلى الشوارع في اثنتي عشرة مدينة في الأيام التالية. فجأة أصبحت قيادة الحزب الحاكم معزولة ويائسة. بدأت مجموعة حول زعيم الحزب المسنّ، هونيكر Honecker، الإعداد لإطلاق الرصاص على المتظاهرين[61]. نظرت أقسام أخرى من القيادة إلى هذا الخيار على أنه بالغ الخطورة. لم يكن بمستطاعهم أن يتوقعوا التأييد من جورباتشوڤ، الذي كان لديه كل ما يدعو إلى أن يكره نظاما كان يتخذ صراحة موقفا نقديا إزاء سياساته، كما كان من شأن القمع الواسع النطاق أن يُفسد تماما العلاقات مع ألمانيا الغربية، التي كان يعتمد عليها النظام اقتصاديا اعتمادا متزايدا. أعدّ رئيس الأمن إيجون كرنتسEgon Krenz ، انقلابا داخل المكتب السياسي طرد هونيكر ثم حاول أنْ يسترضي المتظاهرين بإصلاح مبشّر. فجأة كانت جماعات المعارضة تعمل بصفة قانونية وكان موظفو الحزب متوسطو المستوى ينضمون إلى مظاهراتها في محاولة للسيطرة عليها. لكن النتيجة المباشرة كانت إعطاء أعداد واسعة من الناس الإحساس، للمرة الأولى، بأن الاحتجاج أصبح آمنا لا ينطوي على مخاطرة. ولم يكن بوسع الحزب الحاكم أن يحتفظ إلا بمظهر سيطرة عن طريق تقديم المزيد والمزيد من التنازلات واعدا بحرية السفر، ملتزما بانتخابات حرة، مضحّيا بأعداد متزايدة من الزعماء القدامى وملقيا القبض على أكثرهم فسادا بصورة مكشوفة، بادئا في نهاية الأمر في تفكيك سور برلين. أما كرنتس، طارد هونيكر، فقد طرده بدوره مودروڤ Modrov عندما بدأت قيادة الحزب اجتماعات مائدتها المستديرة مع جماعات المعارضة والأحزاب التي كانت تشكل معها جبهة من قبل، والتي اتخذت بدورها موقفا مستقلا على نحو متزايد.
كانت التغيرات كافية لحثّ مديري المشروعات الضخمة التي تملكها الدولة في ألمانيا الشرقية على مضاعفة محاولاتهم لإقامة صلات مع الشركات الألمانية الغربية. أقامت "إنترفلوج" مشروعا استثماريا مشتركا مع "لوفتهانزا" لتطوير جهاز لإعداد بيئة اصطناعية للتدريب على الطيران[62] ووقّع فريدريش ڤوكوركا Friedrich Wokurka، عضو الحزب ورئيس "الروبوترون". ثالث أكبر مشروع في ألمانيا الشرقية، اتفاقا مشتركا مع مجموعة "پليتس" لصنع أسطوانات (ديسكات) رقيقة في درسدن، مع «سيمنس» و«داتا پرنت» للمشروعات المشتركة لبرامج الكمپيوتر[63]؛ وكانت "ڤارتبورج" تناقش مشروعا مشتركا مع "فولكسڤاجن" لبناء اﻟ "پولو" Polo[64]. وفي اجتماع مشترك تم إبلاغ رؤساء اتحاد الصناعات الألماني الغربي "من جانب نظرائهم الألمان الشرقيين كم أن السوق الاجتماعي الألماني الغربي نموذج رائع"[65].
بدأ مديرو المشاريع الذين كانوا أعضاء في الحزب الحاكم ينتقلون إلى الأحزاب التي كانت تقيم معه جبهة، الاتحاد الديمقراطي المسيحي والديمقراطيون القوميون، الذين بدأوا بدورهم يطرحون الاندماج في ألمانيا الغربية. في الوقت ذاته، ضاعف قادة الحزب الحاكم اتصالاتهم على المستوى القومي والمحلي مع الساسة ورجال الأعمال الألمان الغربيين. وكما شرح اشتراكي ثوري ألماني شرقي، لم يكن رفض هؤلاء القادة للوحدة السياسية مع الدولة الغربية رفضا لإدماج الاقتصاد الألماني الشرقي في الاقتصاد الألماني الغربي. كان ببساطة طريقة للمحافظة على مركزهم الخاص كوسطاء سياسيين بين الاقتصاديْن[66]؛ وبحلول نهاية يناير 1990 كانوا يقدّمون خطتهم الخاصة للوحدة الألمانية.
لم تعن هذه التغيُّرات أيّ تغييرات كبيرة في الأشخاص الذين يديرون هياكل المجتمع الألماني الشرقي. ولم يلق مركز مديري المشروعات أيّ تحدّ على الإطلاق، كما حدث لمركز الجانب الأكبر من ضباط القوات المسلحة وبيروقراطية الدولة. بقيت وسائل الإعلام من الناحية الأساسية في نفس الأيدي التي كانت فيها من قبل، وإن كانت المعارضة قد سُمح لها ﺒ -وكان الصحفيون قادرين على- القيام للمرة الأولى، بكشف كثير من سمات المجتمع الأكثر إثارة للغثيان. وكما عبّر اشتراكي ثوري ألماني شرقي:
إلى الآن لم تُمسّ الهياكل الاقتصادية السابقة. هذا ملحوظ بوجه خاص في المصانع وفي المؤسسات المسؤولة عن الاقتصاد. هناك تغيُّرات في المصانع. على سبيل المثال، مجموعات الحزب الاشتراكي الألماني الموحّد في المصانع لم تعد تلعب أيّ دور. لكنْ حيث أن الإدارة الحالية تقوم بنفس الوظيفة. فلا شيء يتغيّر بالتالي تغيّرا أساسيا
وإلى الآن لم يتم توجيه حركة الشعب إلا ضدّ بعض مراكز السلطة السياسية ومن خلال ضغط الجماهير مضى جيلٌ بعيدا وأتى الجيل التالي إلى السلطة ليعزّز مصالح أولئك الذين يديرون الاقتصاد[67]
كانت ديناميّة التغير في تشيكوسلوڤاكيا، في البداية على الأقل، شبيهة جدا بتلك الخاصة بألمانيا الشرقية. قرّر الطلبة متشجّعين بأحداث جرت في أماكن أخرى، أن يخططوا لمظاهرة في 17 نوڤمبر. كانت هناك مسيرات احتجاج سابقة -مثلا في 20 أغسطس للفت الأنظار إلى ذكرى الغزو الروسي في 1968- لكن الإجراءات الصارمة السابقة للشرطة أبقتها صغيرة نسبيا[68]. أشار الصحفيون الغربيون إلى أن معظم عابري السبيل احتفظوا بمسافة كافية تماما من المتظاهرين[69]. لكنْ كانت هناك هذه المرة ذريعة قانونية للمظاهرة: كانت منظمة الشباب التابعة للحزب الحاكم قد قرّرت إحياء ذكرى تاريخ الاحتجاجات الطلابية على استيلاء النازي على البلاد منذ 50 سنة. كانت المظاهرة أضخم مما توقعت الحكومة والمعارضة على السواء، وأرسلت الحكومة قوة غير معروفة من قبل من "قوات مكافحة الإرهاب" لتهاجم وتسحق المتظاهرين.
يُشار الآن في براغ إلى ذلك الهجوم على أنه "مذبحة 17 نوڤمبر". في الواقع لم يمت أحد ولم يكن هجوم الشرطة مختلفا كثيرا عن ذلك الذي تشنه قوات "القانون والنظام" في الدول الغربية (على سبيل المثال، على عمال في بريطانيا يرابطون عند وارينجتون، وأورجريڤ، وواپنج). لكن مشهد المحتجّين، الذين لا يزالون عادة في أواخر مراهقتهم، وهم يتعرّضون لمثل ذلك الانقضاض كان كافيا ليحفز إلى العمل عددا أوسع كثيرا من الناس. في عطلة نهاية الأسبوع تلك بدأ الطلبة إضرابا في كلّ أنحاء تشيكوسلوڤاكيا. اتخذ طلبة المسرح قرارا بالانضمام إلى هذا الإضراب؛ حفز بدوره الممثلين والمخرجين والفنيين المسرحيين إلى الانضمام إليه. فجأة استحال كل مسرح في براغ إلى مركز للمناقشة والنشاط المعارض. انضم مئات الآلاف من الناس إلى المظاهرات. خرجت فرق تألفت على نحو مرتجل إلى كل موقع عمل وكل مدينة وقرية في البلاد لشرح ما يجري في قلب براغ. فجأة أصبحت الجماعة المعارضة، المنتدى المدني، حركة جماهيرية أظهرت قوتها في 27 نوڤمبر عن طريق تنظيم إضراب ناجح للغاية لمدة ساعتين في كل أنحاء البلاد.
كما في ألمانيا الشرقية، كانت هناك شائعات بأن قيادة الحزب بحثت إطلاق الرصاص بالجملة. لكنْ، مرة أخرى كما في ألمانيا الشرقية، سرعان ما قام أنصار المصالحة بطرد أنصار هذا النهج. كان قادة الحزب والوزراء يأتون ويذهبون بسرعة مذهلة قبل أن يتم تشكيل حكومة ائتلافية تشتمل على معارضين و"مستقلّين"، وجرى الوعد بانتخابات حرة وتم انتخاب السجين السياسي السابق ڤاتسلاڤ هاڤيل Vaclav Havel لرئاسة الجمهورية من قبل الپرلمان الذي اختار النظام القديم ذاته أعضاءه بكل عناية.
بمعنًى مّا كان هناك تناقض حادّ بين الأحداث في تشيكوسلوڤاكيا وتلك التي جرت في پولندا والمجر. هنا كانت توجد عناصر كثيرة لثورة حقيقية. خرجت الجماهير إلى الشوارع وانتزعت التنازلات من النظام القديم. وكان هناك تحريض متواصل في الشوارع. وكان قلب براغ، بكلياته ومسارحه المحتلّة، أشبه أكثر من أيّ شيء آخر بپاريس في مايو 1968. نشأت لجان المنتدى المدني ولجان الإضراب في أماكن العمل ووسائل الإعلام وكذلك في المحليات. وعندما سئل المعارض الماركسي التشيكي المحنَّك، ڤلاديمير ريها Vladimir Riha، عَمّّنْ نظم الحركة، لم يكن بوسعه إلا أن يجيب: "لا أحد. كل شخص فعل ما أراد أن يفعل. لكنها لم تكن فوضى. كانت ثورة"[70].
مع ذلك، إذا كانت هذه ثورة فقد كانت كذلك فقط بأضيق معنًى لتغيير سياسي جزئي مفروض من تحت. كانت مثل 1830 في فرنسا، عندما أقنعت ثلاثة أيام من المظاهرات چنرالات الملك بإحلال أسرة مالكة محلّ أخرى، أو 1848 في برلين عندما أقنع قتال الشوارع الملك الپروسي بأن يَعِدَ بدستور لكنه لم يحطم السلطة الملكية بمجملها. وقد اعتاد تروتسكي أن يميز بين الثورة السياسية، التي تترك علاقات الإنتاج دون تغيير، والثورة الاجتماعية مثل ثورتي 89-1794، و1917. ومن الجلي أن الثورة التشيكوسلوڤاكية كانت مثالا للأولى وليس للثانية.
يتحدث الاشتراكي الثوري التشيكوسلوڤاكي، پيتر كلوڤارت Peter Kluvart، الذي يعمل في مركز براغ للتدفئة، عن مدى ضآلة تغيّر الأوضاع في المصانع: لجان الإضراب لا تزال موجودة في أغلب أماكن العمل، تعمل تارة جنبا إلى جنب مع لجان المنتدى المدني، وتندمج فيها تارة أخرى، لكنْ لم يلق تحدّيا إلى الآن سوى قليل من امتيازات الإدارة[71]. حتى وكالة أمن الدولة سي تي بي StB، والشرطة السرية وجهاز المخابرات -باقية لم تُمس. "كانت تراقب وتضايق رئيسنا- لم يكونوا أصدقاءنا. لكن أمن الدولة ينبغي حمايته"، يقول ريتشارد زاخر Richard Sacher وزير الداخلية غير الشيوعى[72].
في بلغاريا كانت التغيرات التي جرت في الأشهر الأخيرة من 1989 أقرب إلى أحداث المجر منها إلى الأحداث في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوڤاكيا. أزيح من السلطة فجأة زعيم الحزب على مدى اﻟ 30 سنة الأخيرة، چيڤكوڤ Zhivkov، بواسطة منافسين في المكتب السياسي أخذوا يكشفون حينئذ كيف أنه هو وابنه كانا ينهبان من البلاد ملايين الدولارات[73]. كانت قد وقعت مظاهرة معارضة في شوارع العاصمة، صوفيا، قبل ذلك بأيام قليلة -بخصوص البيئة. لكنْ لا يبدو أنها كانت من الضخامة بما يكفي لأن تكون في حد ذاتها قد أدّت إلى التغيرات السياسية، التي يبدو أنها كانت ثمرة التقاءٍ بين وصولية الزعماء الجدد والخوف من النتائج المنطقية بينما كانت الفائدة على الدين الأجنبي المتزايد بسرعة تلتهم نصف عوائد البلاد من التصدير[74].
لكن الأزمة السياسية المفاجئة أمدّت المعارضة فعلا بفرصة لم يسبق لها مثيل للتعبئة. كان بمستطاعها فجأة أن تنظم نفسها بصفة قانونية وأن تحصل على شيء من الذكر في وسائل الإعلام. مع نهاية السنة أحسّت بأنها قوية بما يكفي لأن تهدّد بإضراب عام إنْ لم يسمح الجهاز، الذي وصفته بأنه «لا يزال شموليا» بمقرطة أوسع. وحصلت على وعد بتنازلات مقابل سحب الدعوة إلى الإضراب[75].
كانت رومانيا البلد الوحيد الذي اقترنت فيه التغيرات السياسية بصراع مسلّح، وقعت من خلاله ثورة عنيفة. كانت السلطة مركزة في يدي رجل واحد، شاوشيسكو Ceausescu، على نطاق أكبر مما في أيّ مكان آخر. وكان يستخدمها ليسحق بصورة وحشية أيّ عنصر مقاومة. ولهذا أرسل شرطة أمنه لتقتل وتجرح بالرصاص المضربين من مصنع جرارات النجم الأحمر في براسوف في ديسمبر 1987 وكرّر هذا التاكتيك عندما خرج أهالي مدينة تيميشوارا إلى الشوارع احتجاجا على اضطهاد قسيس پروتستانتي ناطق باللغة المجرية في منتصف ديسمبر 1989.
لكن القمع، في هذه المرة، لم يسحق الحركة في الحال. في تيميشوارا نفسها أجبرت تهديدات العمال بتفجير مصنع پتروكيماوي الجيش على الانسحاب. وعندما بدأت الشائعات عن الاضطرابات تنتشر في أنحاء العاصمة، بوخارست، أحسّ شاوشيسكو بأنه مجبر على التدخل بنفسه. أمر زبانيته بأن يجمعوا وفودا من مواقع العمل بالمدينة لحضور اجتماع جماهيري حاشد تأييدا له. تجمّع الحشد في 21 ديسمبر، كما كان يحدث غالبا في الماضي، وهلّل كما أُمرعندما بدأ شاوشيسكو يتكلّم. لكنْ في غضون دقائق انقلبت الهتافات إلى أصوات ساخرة وأناشيد عن "تيميشوارا". قُطع البثّ التليڤزيوني الحي للاجتماع الجماهيري الحاشد بسرعة، بينما بدا على شاوشيسكو المصاب بالدوار، الذهول والخوف إزاء غضب الحشد بينما كان ينسحب من الشرفة التي كان يتكلم منها.
كانت هناك مظاهرات طوال تلك الليلة حيث كان ينضم إلى الحشد القادم من ذلك الاجتماع الجماهيري الحاشد مئات الآلاف من الناس الذين أمكنهم أن يُدركوا من البثّ التليڤزيوني أن النظام في ورطة. وبدت شرطة الأمن غير قادرة على إغلاق الشوارع في وجههم[76]. في اليوم التالي تجمع المتظاهرون عند مبنَى اللجنة المركزية للحزب الحاكم. وسرعان ما شقّ أولئك الذين كانوا في الصدارة طريقهم إلى الداخل، واستولوا على أسلحة شرطة الأمن، الذين فرّوا مذعورين.
هرب شاوشيسكو وزوجته من سطح المبنَى بهليكوپتر، تاركيْن المركز الرسمي للسلطة السياسية في أيدي الشعب. في داخل مبنَى اللجنة المركزية بدأ ممثلو الحشد الجماهيري في الخارج يناقشون كيف ينبغي ملء فراغ السلطة.
عند هذه النقطة قام قادة القوات المسلّحة بتحرّكهم. فبعد أن أيَّدوا شاوشيسكو في البداية ثم اتخذوا موقفا محايدا بصورة متعمدة بينما كانت شرطة الأمن تقاتل المتظاهرين من أجل السيطرة على الشوارع، أعلنوا الآن تأييدهم للثورة. بدأ الجيش ينتزع السيطرة من أولئك الذين كانوا قد أقدموا في الواقع على كل المخاطرات خلال اليومين السابقين. وسرعان ما أصبح مجلس للإنقاذ الوطني مسؤولا رسميا  كان مؤلفا من چنرالات، ومن زملاء الديكتاتور العجوز الذين تشاجروا معه قبل النهاية، ومن حفنة من ممثلي الطلبة والمتظاهرين في الشوارع.
أمر الچنرالات في مجلس الإنقاذ الوطني قواتهم بأن يحبطوا محاولة مستميتة مضادة للثورة من جانب شرطة أمن شاوشيسكو، التي شرعت في سلسلة من الهجمات الإرهابية على المتظاهرين المدنيين. حاكموا وأعدموا الزوجين شاوشيسكو في 25 ديسمبر لمنعهما من أن يقوما بدور بؤرة للمعادين للثورة. لكن الچنرالات شرعوا أيضا في الوقت ذاته في إضعاف أقوى قوّة مؤهلة ضدّ الثورة المضادة، النشاط الشعبي العفوي الذي كان قد حطم سلطة شاوشيسكو قبل ذلك بثلاثة أيام فقط. وفي يوم إعدام شاوشيسكو أعلن مرسوم من مجلس الإنقاذ الوطني:
الجيش وحده يحق له أن يحوز أسلحة... كل أولئك الذين حدث أن حازوا أسلحة وذخيرة بغض النظر عن الظروف التي حدث فيها ذلك يجب أن يُسلِّمُوها في تمام الساعة 12. ومن يتخلّف عن احترام هذه التدابير الاحتياطية سيُعاقب بمنتهىالصرامة.
بعد ذلك بأسبوعين كان مجلس الإنقاذ يحظر على الطلبة عقد لقاءات جماهيرية في وسط بوخارست وكانت أحزاب المعارضة تشكو من أن إمكانية استخدامها لوسائل الإعلام لا تزال مقيدة.
ما حدث في رومانيا أبرز بكل جلاء كثيرا من السمات الكلاسيكية لثورة. مع ذلك كانت التغيرات لا تزال سياسية أكثر منها اجتماعية. بقيت السيطرة على المشروعات في ذات الأيدي، وكانت القرارات التي تؤثر في الاقتصاد ككل يتخذها أشخاص كانوا شخصيات قيادية في الحزب الحاكم القديم قبل الشجار مع شاوشيسكو.


8
إفلاس نظريتين
 
لكيْ يفهم اليسار ما حدث في أوروپا الشرقية يحتاج الأمر إلى نظرية يمكنها أن تفسّر في آن واحد حجم الأزمة التي أصابت مجتمعات أوروپا الشرقية والسهولة التي استطاعت بها معظم هذه المجتمعات التحوّل من وصف نفسها بأنها "الاشتراكية القائمة في الواقع الفعلي" إلى التقليد على نحو مكشوف لأساليب الرأسمالية الغربية.
والنظرية التي هيمنت تقليديا على اليسار، والتي وصفت هذه المجتمعات بأنها "اشتراكية"، أو "بعد-رأسمالية"، أو "دولا عمالية متدهورة" لا يمكنها أن تقدم هذا التفسير. أكدت هذه النظرية عادة أن اقتصاد هذه المجتمعات يمكنه أن يتوسّع بلا حدود، الأمر الذي نظرت إليه الأحزاب الشيوعية الغربية، بما في ذلك أجنحتها الأوروشيوعية، طويلا على أنه حقيقة إنجيلية. أذكر على سبيل المثال، أنني حضرتُ (كصحفي) مؤتمرا للحزب الشيوعي البريطاني في 1977. كان النقاش بين الأوروشيوعيين و"مجموعة الباحثين" الموالين لروسيا محتدما آنذاك. لكنْ لا أحد اعترض على الفرضيات الرسمية التي تقابل بين "التقدم الذي لا ينقطع" للاقتصاد الشرقي والأزمة في الغرب. كان هناك إيمان بأن الاتحاد السوڤييتي قد طوّر نظاما اقتصاديا متفوقا على النظام الاقتصادي للغرب الأمر الذي جعل من الممكن للأوروشيوعي البريطاني مونتي جونسون Monty Johnson أن يكتب أن ستالين كان محقا ضد تروتسكي في العشرينيات والثلاثينيات: "كان تروتسكي يعاني من أقصى الانهزامية" عندما أشار إلى "إمكانية أن تنمو إنتاجية العمل في البلدان الرأسمالية السائدة أسرع منها في روسيا... كان ستالين قادرا على القول بصواب بعد 1935 أن تروتسكي كان مخطئا وأن... الاشتراكية تم بناؤها في الواقع من الناحية الأساسية"[77].
انتهت الطبعة الأكثر شعبية للتفسير "التروتسكي" الذي يصف البلدان الشرقية بأنها دول عمالية متدهورة إلى استنتاجات مشابهة. كتب المنظّر الشهير لهذا الاتجاه، إرنست ماندل Ernest Mandel، في 1956:
يحتفظ الاتحاد السوڤييتي بإيقاع متوازن تقريبا للنمو الاقصادي، خطة بعد خطة، وعقدا بعد عقد، دون أن يُثقل التقدم المتحقق في الماضي على إمكانيات المستقبل... لقد جرى التخلّص من كافة قوانين تطور الاقتصاد الرأسمالي التي تؤدي إلى تباطؤ في سرعة النمو الاقتصادى[78].
كرّر ماندل زعمه هذا في الطبعة الأولى من كتابه عن الأزمة العالمية في 1978. زعم أن معدلات النمو التي حققتها الدول الشرقية دليل على "طابعها غير-الرأسمالي" وعلى تفوّقها "الكيفي على اقتصاد السوق الرأسمالي" في "قدرتها على أن تتفادَى بين أشياء أخرى التباطؤ والتقلبات الاقتصادية الكبرى، والبطالة"[79]. وأضاف أن "البلدان غير الرأسمالية" لم تعان إلا من آثار الأزمة الرأسمالية العالمية. لكن مثل هذا التفكير لا يمكنه ببساطة أن يفسّر لماذا كان على هذه الدول أن تدخل فجأة في أزمات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية من النوع الذي شهدناه في السنوات الأربع الأخيرة.
هناك نظرية "بعد-رأسمالية" واحدة شدّدت على سمة النزوع إلى الأزمة في اقتصاد الاتحاد السوڤييتي -معالجة تروتسكي ذاته لنظرية الدول العمالية المتدهورة. أكد تروتسكي في الثلاثينيات أن البيروقراطية الحاكمة متناقضة مع إعادة التنظيم الاقتصادية التي أحدثتها ثورة أكتوبر. كان من شأن هذا أن يفضي إلى أزمة كارثية وليس بعد عقود عديدة بل في المستقبل القريب جدا  وكتب قائلا أنه "لا بد للمزيد من نمو النزعة البيروقراطية دون عوائق أن يقود حتما إلى توقّف النمو الاقتصادي والثقافي، وإلى أزمة اجتماعية مفزعة، وإلى اندفاع المجتمع بأسره في طريق الانحدار"[80]. وتمثّلت إحدى حججه ضدّ "نظرية الطبقة الجديدة" التي طوّرها شاختمان Max Schachtman وآخرون في 1939 في أن الاشتراكيين الثوريين يمكن:
أن نضع أنفسنا في وضع يدعو إلى السخرية إذا نحن ألصقنا بالأوليجارشية البوناپرتية تسمية طبقة حاكمة جديدة قبل سقوطها الشائن بسنوات قليلة أو حتى بأشهر قليلة فقط[81].
ويقول في مكان آخر:
في حالة حرب طويلة الأمد مصحوبة بسلبية الپروليتاريا العالمية لا بدّ للتناقضات الداخلية في الاتحاد السوڤييتي من أن تُفضي -وليس فقط ربما- إلى ثورة مضادّة برچوازية-بوناپرتية[82].
لم يكن بإمكان مثل هذه التوقعات أنْ تبقى بعد تصنيع الاتحاد السوڤييتي في عهد ستالين، وإلحاقه الهزيمة بألمانيا النازية، وتوطيده للسيطرة على أوروپا الشرقية. تخلّى أتباع تروتسكي "الأرثوذكسيّون" عن تفسيره هو لنظريته وتبنّوا رأيا في اقتصاد المجتمعات الشرقية لا يختلف كثيرا عن الآراء التي تنادي بها الأحزاب الشيوعية. ويشير كل من "التروتسكيين" والستالينيين إلى التقدم الاقتصادي للاتحاد السوڤييتي كدليل على أنه شكل للمجتمع أعلى من ذلك الذي في الغرب. وكانت نقطة اختلافهم حول تقييمهم للبنية الفوقية للسياسة.
أدت المفاجآت التي كشفت عنها السنوات القليلة الأخيرة عن حجم الأزمة الاقتصادية في الدول الشرقية بزعماء الأحزاب الشيوعية الغربية إلى التخلّي عن نشوتهم الغامرة القديمة. أما أولئك الذين حاولوا أن يستخدموا صيغة تروتسكي فقد حذوا حذوهم، عائدين فجأة إلى تفسيره في الثلاثينيات دون أن يذكروا أبدا أنهم ألصقوا التفسير الخاطئ المناقض على النظرية على مدى 50 سنة. ويدّعي إرنست ماندل الآن أن "الاقتصاد بأسره" يفتقر إلى "أيّ صورة للعقلانية الاقتصادية" لأن "البيروقراطية عاجزة عن أن تقيم امتيازاتها المادية على أساس الأداء المتماسك (أيْ إعادة الإنتاج) للنظام الاقتصادي، لدوره في عملية الإنتاج"[83].
لكنْ قلب النشوة الغامرة القديمة رأسا على عقب لا يفسّر لماذا كان لابد لأزمة اقتصادية واجتماعية عامة أن تنشأ في البلدان الشرقية في العقد الأخير وليس في وقت أسبق. كما أنه لا يقدّم أيّ حجج مضادة لأولئك الذين يدّعون أن الرأسمالية الغربية، أيّا كانت عيوبها، تقوم على أساس من العقلانية الاقتصادية ولابدّ لها بالتالي من أن تكون نظاما أعلى. والواقع أن الرأي "بعد-الرأسمالي" ينقلب بكل سهولة يمينا لينتقل إلى قبول الحجج التي تنظر إلى الدول الشرقية على أنها أدنى من الرأسمالية الغربية. ولهذا فحتى طارق على، في كتابه الذي زعم أن إصلاحات جورباتشوڤ بإمكانها أن تنجح، يسلّم بأن أوضاع العمال الروس هي من بعض النواحي أسوأ مما في أفقر بلدان "العالم الثالث".
رجل عامل في كلكتا أو امرأة تبيع الخزف في كشك في شارع في مكسيكوسيتي يتمتعان بحرية اختيار أوسع بكثير فيما يشتريان... من عامل سيارات سوڤييتي في تولياتيجراد أو عامل صلب في سڤيردلوڤسك[84].
أدَّى إفلاس التفاؤل المرتبط بالتحليلات "بعد-الرأسمالية" للدول الشرقية بكثيرين إلى تأييد نظريات تنظر إلى هذه المجتمعات على أنه تديرها "طبقة جديدة"، تستغل جماهير السكان لكنها ليست الرأسمالية. مثل هذه النظريات قدمها ريتزي Bruno Rizzi وشاختمان في أواخر الثلاثينيات، وچيلاس Djilas في الخمسينيات، وفي العقدين الأخيرين تيكتين Hillel Ticktin، بنس Bence، وكيس Kis، وبارو Bahro، وكارلو Carlo، وكاجارليتسكي، وآخرون كثيرون. صبّ كلّ هؤلاء الكتاب ازدراءهم على الزعم القائل بأن الدول الشرقية مجتمعات لا طبقية، لكنهم لم يكونوا بحال أكثر نجاحا من أنصار النظريات "بعد-الرأسمالية" في الوصول إلى فهم صحيح للدينامية الحقيقية للتطوّر الاقتصادي والاجتماعي.
كانت أقدم طبعة للنظرية تؤمن، في الواقع، بنفس الرأي القائل بالطابع التقدّمي اقتصاديا للدول الشرقية والذي تؤمن به النظريات بعد-الرأسمالية. وأكدّ برونو ريتزي أن "البرنامج الاقتصادي الخاص ﺒ الطبقة الحاكمة الجديدة" كان "تقدّميا"[85]. وردّد هذا الرأي ماكس شاختمان في كتاباته في 40-1941. وهكذا كتب يقول إن:
الجماعيّة البيروقراطية جزء -وهو جزء غير متوقّع، ومهجَّن، ورجعي، لكنه جزء مع ذلك -من العهد الجماعي للتاريخ الإنساني. والنظام الاجتماعي للجماعية البيروقراطية يتميز من النظام الاجتماعي للرأسمالية في المقام الأول بأن الأول يقوم على شكل جديد وأكثر تقدّما من أشكال الملكية، أيْ ملكية الدولة. أما واقع أن هذا الشكل للملكية -وهو من مكتسبات الثورة البلشڤية- تقدمي، أيْ أعلى تاريخيا من الملكية الخاصة، فقد أثبتته الماركسية نظريا كما أثبته امتحان الممارسة العملية[86].
أما المجريّان، بنس وكيس، اللذان كتبا في منتصف السبعينيات تحت الاسم المستعار راكوڤسكي Rakovsky، فكانا يعتقدان أن الدول الشرقية كانت ذات تطور تكنولوچي أبطأ من الرأسمالية الغربية. لكنهما أيضا افترضا أن أيّ اختلالات اقتصادية قد تظهر يمكن التغلب عليها بسهولة. وأكدا أنه "بالنسبة للجماهير... يجري إشباع الحاجات الاستهلاكية الأساسية بصورة متواصلة نسبيا" وأنه "ليس لدينا أيّ مبرر على أساس نموذجنا لأن نتنبأ بأن انهيار التنمية الاقتصادية للمجتمعات ذات النمط السوڤييتي أمر حتمي"[87]. وانتهيا إلى أن الطبقة العاملة لم يكن بإمكانها أن تنظم نفسها إلى أن وقع انقسام – "استقطاب" -داخل الطبقة الحاكمة، وإلى أنه "لا اتجاهات إنمائية يمكن استنتاجها من الهيكل العام للنظام من شأنها أن تشير إلى تعاظم احتمال استقطاب كهذا مع الوقت"[88]. ولا غرابة في أن مثل هذه الاستنتاجات قادت بنس وكيس إلى محاولة إثبات أن الماركسية ليس لديها ما تقدمه للمعارضين الأوروپيين الشرقيين مما ليس بوسعهم الحصول عليه من "العلماء الاجتماعيين الآتين من خلفية مختلفة"[89].
من ناحية أخرى، تؤمن أحدث طبعات نظرية "الطبقة الجديدة" بأن اقتصاد الدول الشرقية أقلّ دينامية بصورة متأصلّة من الرأسمالية الغربية. كان هذا موقف شاختمان من أواسط الأربعينيات فصاعدا[90] وكان هذا استنتاجا انتهَى إليه كتاب چيلاس "الطبقة الجديدة". وفي الآونة الأخيرة برز هذا الموقف في كتابات أولئك الملتفين حول هيليل تيكتين ومجلة كريتيك Critique. يكتب تيكتين على سبيل المثال، قائلا أن: "السمة الاقتصادية الرئيسية للاتحاد السوڤييتي اليوم هي طابعه التبديدي الهائل وربما وجود ميل إلى التبديد المتزايد"[91]. وقد ذهب أحيانا بعيدا إلى حدّ وصف الاتحاد السوڤييتي بأنه "اقتصاد قطع الغيار"[92].
ويتبنَّى تحليل تيكتين، بالجملة تقريبا، منظّر آخر من منظّري الطبقة الجديدة، فوريدي Furedi[93]. وهو يرى أن شكل التنظيم الاقتصادي لا عقلاني على الإطلاق:
ليست هناك آلية يُحدَّد بها وقت عمل المجتمع[94]... الأفراد المنعزلون والوحدات الإنتاجية يديرون شؤونهم بطريقة عشوائية على نحو متزايد بدون أي آلية فعالة لضبط المدخلات أو المخرجات... التكوين الاجتماعي السوڤييتي لا ينطوي على أيّ ميل متأصّل إلى إضفاء الطابع الاجتماعي على العمل أو إلى توطيد تقسيم قومي للعمل[95].
حقا ليس هناك أيّ دافع نحو التجديد أو الدينامية على مستوى المشروع[96].
هذه اللاعقلانية تعني "أن الافتقار إلى دينامية إنمائية هو الذي يُملي سلوك البيروقراطية"[97]؛ وتتمثل ناحية يختلف فيها هذا "التكوين الاجتماعي" اختلافا جوهريا عن الرأسمالية، في نظر فوريدي، في أنه "في الاتحاد السوڤييتي يظلّ من غير المقبول سياسيا الاستغناء عن أعداد ضخمة من العمال"[98].
أما التحليلات التي تؤكّد أن اقتصاد الدول الشرقية كان دائما في أزمة فمن الصعوبة بمكان أن تُفسر لماذا أخذ الوضع يزداد سوءا فجأة في السنوات الأخيرة أكثر من تلك التحليلات التي أنكرت إمكانية الأزمة. علاوة على ذلك، تنكر هذه التحليلات الواقع التاريخي البسيط المتمثل في أن هذه المجتمعات عرفت عقودا من النمو الاقتصادي. هكذا يزعم فوريدي أن "الميل إلى الانكماش الاقتصادي كان السمة السائدة للنظام السوڤييتي دائما منذ 1958"[99]. مثال على هذا الانكماش: تدّل أرقام وكالة المخابرات المركزية على أن الاقتصاد السوڤييتي تضاعف حجمه وأكثر خلال فترة اﻟ 30 سنة تلك![100]
لقد أبدت طبقات رأسمالية الدولة الحاكمة حقا ثقة عالية بالنفس على مدى فترة تاريخية بأسرها - بانية درجة من القاعدة الاجتماعية الداخلية لحكمها وخالقة مزيجا من الخوف والإعجاب بين الحكام في بقية أنحاء العالم. وإذا عبرنا عن الحجة ببساطة، فإن الاتحاد السوڤييتي هزم فعلا ثاني أقوى اقتصاد رأسمالي في العالم في حرب جبارة شاملة. لم يكن "اقتصاد قطع غيار" ذلك الذي كسب معركة ستالينجراد وسبق الأمريكيين في إدخال سپوتنيك في الفضاء[101].
وأيّ نظرية عن الدول الشرقية لا تفسّر في آن معا ديناميتها على مرّ العقود وأزمتها الراهنة لا يمكنها أن تكون نظرية وافية. ومنظّرو الطبقة الجديدة المتشائمون وأولئك المنظّرون "بعد – الرأسماليين" الذين انقلبوا ليقبلوا أهم استنتاجاتهم يحققون شعبية لأنهم يمضون مع ما يغدو على نحو متزايد أرثوذكسية كل من وسائل الإعلام الغربية ومستشاري الحكومات الشرقية: القائلة بأن رأسمالية السوق من الطراز الغربي أكثر فعالية ودينامية من الناحية الجوهرية من أيّ بديل.


9
الأرثوذكسية الجديدة
 
مزاعم هذه الأرثوذكسية الجديدة واسعة الانتشار بحيث أصبحت "إدراكا عاما" تقريبا عند اليسار واليمين في الشرق والغرب على السواء. التقطْ أيّ جريدة تقريبا ويمكنك أن تقرأ أنه "لا شيء يعمل" في أوروپا الشرقية (هل قارن هؤلاء الكتاب أبدا ركوب مترو موسكو مع ركوب مترو الأنفاق في لندن؟)، وأن "النقود لا قيمة لها" في البلدان الشرقية (لماذا إذن يرفع العمال في هذه البلدان مطالب خاصّة بالأجورعندما يُضْرِبُون؟)، وأن الأزمة البيئية أسوأ هناك من أيّ مكان في العالم الرأسمالي (الأمر الذي يجعل المرء يتساءل عما إذا كانت غابات الأمازون أو أعمال الصلب في جارى-إنديانا في الشرق أم في الغرب!). الإيكونوميست، التي يُراد لها أن تكون مجلة أعمال ذكية، مضت في 1988 إلى حدّ زعم أنه لم يكن هناك أيّ نمو اقتصادي في الاتحاد السوڤييتي على مدى 20 سنة[102]، في حين أساء مارتين ووكر Martin Walker من الجارديان اقتباس جورباتشوڤ بما مؤداه أنه "على مدى 20 سنة، إذا استبعدتم عائد الدولة من الڤودكا وتصدير الپترول، لم يكن هناك أيّ نمو في الاقتصاد السوڤييتي"[103].
أكثر المزاعم رواجا هو أن دول أوروپا الشرقية كان يمكنها أن تكون الآن في مستوى تقدّم دول أوروپا الغربية لو أنها اتبعت سياسات السوق المفتوح طوال اﻟ 40 سنة الأخيرة. وإذا كانت لم تفعل، فيما يقال، فذلك بسبب "العقيدة الماركسية" (وجهة نظر الجناح اليميني) أو بسبب "لا عقلانية البيروقراطية" (وجهة نظر تيكتين، وفوريدي، وآخرين). وأمام هذا يتعيّن على أيّ تحليل جادّ للدول الشرقية أن يأخذ في اعتباره بعض الحقائق الأولية.
أولا، كما يكشف المصدر الذي يصعب تماما اعتباره "متساهلا فيما يخصّ الشيوعية"، أعني وكالة المخابرات المركزية، كان اقتصاد الاتحاد السوڤييتي ينمو إلى وقت قريب بسرعة تضارع سرعة نمو اقتصاد كثير من دول غرب أوروپا -بمعدل وسطيّ يبلغ حوإلى 2.6 في المائة سنويا خلال السبعينيات[104]. ويخبرنا أشمل تاريخ صدر حديثا لاقتصادات أوروپا الشرقية أنه في سنوات 48-1968 كان نموّ "أقل بلدين تطورا" من بلدان أوروپا الشرقية، بلغاريا ورومانيا، بمعدل 6-7 في المائة سنويا. وبين 1950 و1970 كانت الاقتصادات الأخرى المخططة مركزيا تدور حول معدل نمو يبلغ 4.5 في المائة[105]. كان هذا المعدّل يُضارع ذلك الخاص بأوروپا الغربية، حيث بلغ معدّل الاقتصاد البريطاني 3 في المائة، والفرنسي 5 في المائة، والإيطالي 6.5 في المائة، والألماني الغربي 7.5 في المائة[106]. والواقع أن الاقتصاد الألماني الشرقي نما أسرع قليلا جدا من الاقتصاد الألماني الغربي طوال عقد ونصف بعد أن أوقف بناء سور برلين نزوح عمل الشباب والعمل الماهر: نمت ألمانيا الشرقية بمعدّل 4.5 في المائة، وألمانيا الغربية بمعدّل 3.8 في المائة[107].
ربما كان وثيق الصلة بذلك أكثر واقع أن كل اقتصادات أوروپا الشرقية كانت أكثر نجاحا بصورة ملحوظة في عقديْها الأوّليْن كاقتصادات أوامر ممركزة مما كانت في سنوات ما بين الحربين كرأسماليات "سوق حرة":
كان متوسط معدل النمو المتحقق في هذه المنطقة خلال العقدين الأولين من التخطيط المركزي (50-1970) أفضل من معدلات الذروة التي ظهرت في أفضل سنوات ما بين الحربين (25-1929). كان نموّ البلدين الأقل تطورا يجري بنفس سرعة نموّ أسرع بلدين نموّا في أفضل فترة خمس سنوات فيما بين الحربين، تشيكوسلوڤاكيا والمجر[108].
مهما كانت إدارة الاقتصاد الپولندي فيما بعد الحرب خالية من الكفاءة، لا يمكن لأحد أن يزعم أنه لم يشهد نموا كبيرا بين 1948 و1980. على النقيض من ذلك: "لا يبدو مطلقا أن پولندا ما بين الحربين قد عادت إلى حجم إنتاج 1913 على أراضٍ قابلة للمقارنة، أما الارتفاع المتواضع الذي تحقق في ألبانيا فكان متخلّفا تماما عن معدّل نموّ السكان".
لم يكن النظام الشرقي شكلا لاعقلانيا تماما للتنظيم الاقتصادي. كان شكلا استطاع أن يكون حافزا لنموّ اقتصادي هائل حتى نقطة بعينها، لكنه وقع في أزمة.


10
رأسمالية الدولة
 
هناك تفسير ماركسي واحد لدول أوروپا الشرقية يمكنه أن ينسجم مع هذا التطور المتناقض. وأعني نظرية رأسمالية الدولة -وهي نظرية تم تطويرها أصلا لتفسير طبيعة المجتمع الذي يحكمه ستالين في الاتحاد السوڤييتى[109] ثم استخدمت في وقت لاحق لتفسير التطورات في أوروپا الشرقية[110]، والصين[111]، وبلدان عديدة في "العالم الثالث"[112].
ركزت النظرية على مظهريْن مترابطيْن للدول الشرقية. وقد تمثّل المظهر الأول في الدور الرئيسي الذي لعبه تراكم وسائل الإنتاج في تطوراتها الاقتصادية. هذا أمر إما يتم تجاهله من جانب النظريات الأخرى عن هذه البلدان[113] أو يجري التسليم به كسمة لكل أشكال المجتمع[114]. والنقطة الأساسية هي أن التراكم الإكراهي سمة للرأسمالية وليس لأيّ شكل سابق للمجتمع. في المجتمعات السابقة كان من الممكن أن يكون هناك تطور لوسائل الإنتاج. لكن هذا كان يجري على نحو متفرّق. فقط في الرأسمالية يصبح التراكم، بكلمات ماركس، "موسى وكلّ الأنبياء". هذا هو ما يؤدي بماركس إلى أن يعقد تمييزا حادا بين ما يحدث لسلسلة كاملة من المؤسسات الاجتماعية والمعتقدات الراسخة في ظلّ الرأسمالية والمجتمعات التي سبقتها.
لا يمكن للبرچوازية أن توجد دون أن تقوم على نحو متواصل بتثوير أدوات الإنتاج وبالتالي علاقات الإنتاج ومعها علاقات المجتمع بأسرها. على العكس من ذلك، كان بقاء أساليب الإنتاج القديمة في شكلها الأصلي، الشرط الأول لوجود كل الطبقات الصناعية السابقة. هذا التثوير المتواصل للإنتاج، والاضطراب المتواصل لكل الشروط الاجتماعية، والشكّ والقلق الدائمان -كل هذا يميز العهد البرچوازي من كل العهود السابقة. إن كافة العلاقات الثابتة، البالغة الجمود، بما يلازمها من تحيزات وآراء قديمة ومبجلة يجري اكتساحها، وكافة العلاقات الجديدة تغدو عتيقة قبل أن تجد الوقت الكافي للتشكّل والرسوخ[115].
كما يوضح ماركس بجلاء أنه لم يكن من الممكن أن تبرز مسألة تراكم إكراهي في تصوّره للاشتراكية. التراكم الإكراهي هو التعبير الملموس عن الاغتراب، عن سيطرة منتجات البشر عليهم والاشتراكية هي التغلّب على هذا الاغتراب. وهكذا يكتب في البيان الشيوعي قائلا:
في المجتمع البرچوازي، ليس العمل الحي سوى وسيلة لزيادة العمل المتراكم. في المجتمع الشيوعي، ليس العمل المتراكم سوى وسيلة لتوسيع، وإثراء، وتحسين، وجود الشغيل[116].
أما واقع أن هناك إكراها على التراكم ماثلا في صميم عمل الاقتصادات الشرقية فليس من الصعب إثباته. ذلك ما يبينه كامل تطور اقتصاد الاتحاد السوڤييتي منذ 1929. وهكذا، على سبيل المثال، قدّر الصحفي الاقتصادي الروسي سليونين Selyunin أن "صندوق الاستهلاك يصل إلى 60 في المائة من الدخل وصندوق المدخرات إلى 40 في المائة"[117]. وهو يلاحظ أن "مثل هذا التركيب المرتفع للمدخرات هو، من الناحية الجوهرية، مستوى زمن الحرب" ويقدّم أرقاما تبين كيف أن نسبة الناتج القومي المخصصة للتراكم ارتفعت على حساب تلك المخصصة للاستهلاك:
روسيا: السلع الاستهلاكية
كنسبة مئوية من إجمالي الناتج
1928          كانت السلع الاستهلاكية         60.5 في المائة من الناتج
1940                كانت السلع الاستهلاكية                     -39.0 في المائة من الناتج
1960                كانت السلع الاستهلاكية                   27.5 في المائة من الناتج
1985                كانت السلع الاستهلاكية          25.2 في المائة من الناتج
 
ويشير أخيرا إلى أنّ:
التحوُّل إلى تصنيع السلع الإنتاجية وضعنا في وضع ينطوي على مفارقة حيث لا تملك معدّلات النمو المتسارعة ولا النمو الأسرع في الدخل القومي سوى تأثير طفيف للغاية على مستوى المعيشة. إن الاقتصاد يعمل بصورة متزايدة من أجل نفسه، وليس من أجل الإنسان.
أو كما يعبر ماركس ذاته:
بقدر ما هو مشخّص في رأسمال، ليست قيم الاستعمال والاستمتاع بها هي التي تحفز [الرأسمالي] إلى العمل، بل القيمة التبادلية وزيادتها... ومصمما بتعصب على جعل القيمة توسّع نفسها، يُرغم الجنس البشري على أن ينتج من أجل الإنتاج... لهذا: ادّخرْ، ادّخرْ، أيْ أَعِدْ تحويل أكبر قسم ممكن من فائض القيمة إلى رأسمال! التراكم من أجل التراكم، الإنتاج من أجل الإنتاج[118].
في حالة دول أوروپا الشرقية كانت نسبة الناتج القومي التي تذهب إلى التراكم تبلغ عادة، حسب الأرقام الرسمية، 25 في المائة أو أعلى[119]. فإذا أعيد حساب الأرقام لتؤخذ في الاعتبار التشويهات التي في آلية الأسعار الرسمية، يمكن أن ترتفع النسبة حتى إلى 40 في المائة[120]. مثل هذا الاندفاع إلى التراكم يؤثر في حياة المجتمع بأسرها. وهو يعني أن مستويات المعيشة يجري خفضها بصورة متواصلة بطريقة أو بأخرى لتوفير الموارد للتراكم. وهو يعني أن الطبقة الحاكمة قد حاولت عن طريق القمع عرقلة أيّ تنظيم مستقلّ من جانب الطبقات المستغلة (بفتح الغين): الرأسماليات "الغربية" بمستوى مماثل من التراكم (تايوان، كوريا الجنوبية) كانت في أكثر الأحيان ديكتاتوريات بأُطُر الحزب الواحد الخاصة بها. وأخيرا، وهذا هو الذي يفسّر سمة ملحوظة كثيرا لآلية "التخطيط" -واقع أنها تصوغ خططا "مُحْكمة" تحاول اعتصار موارد من الاقتصاد غير موجودة ببساطة في كثير من الأحيان، ثم تنتهي إلى طرق مسدودة تؤدي إلى توقف العمل في نسبة عالية من المشروعات الاستثمارية، لتُفضي إلى فوضى اقتصادية واسعة النطاق. وبطريقة مماثلة إلى حد كبير تميل رأسمالية "السوق الحرة" الكلاسيكية في الغرب إلى التراكم السريع خلال فترات الرواج التي لا يمكن إطالة بقائها لتفتح الطريق فجأة بالتالي أمام الكساد.
والواقع التجريبي الخاص بالتراكم الإكراهي لا يمكن فصله عن سمة أخرى للاقتصادات الشرقية: الطريقة التي يرتبط بها تطورها بتطور النظام العالمي الأوسع من حولها. ويؤكد بعض الأشخاص في كثير من الأحيان أن الدول الشرقية لا يمكنها أن تصبح رأسمالية لأنه ليست هناك أيّ منافسة داخلية بين المشروعات. كانت هذه المنافسة هامة في عرض ماركس للرأسمالية لأنها كانت ترغم كل مشروع فردي على خفض تكاليفه إلى حدّ أدنى عن طريق إبقاء معدلات الأجور منخفضة ودفع سرعات العمل إلى أعلى. وكانت تجبر المشروع على أن يستثمر أقصى ما يمكنه من أرباحه على المعدّات الجديدة وعلى التجديد. وقد أدَّى تطور الرأسمالية ذاتها في القرن اﻟ 20، كما رأينا، بالدولة إلى التدخل لخفض المنافسة الداخلية إلى حدّ أدنى. لكن ذلك، كما أوضح لينين وبوخارين Bukharin، بعيدا عن إلغاء المنافسة بين الرساميل، نقلها إلى مستوى أعلى، إلى منافسة على نطاق عالمي. ثم بدأت هذه المنافسة تتخذ أشكالا جديدة، بما في ذلك النزاع المسلح بين الدول الرأسمالية بالإضافة إلى، وأحيانا بدلا من، المنافسة الاقتصادية الخالصة من أجل الأسواق. وقد تهبط المنافسة الداخلية إلى ما يقترب من مستوى الصفر -أما المنافسة الخارجية فتأخذ مجراها.
لم يحدث قط أن تمّ عزل الدول الستالينية عن بقية العالم. والواقع أنه في الخمسينيات في المجر "تمّ تحقيق حوالي خمس الدخل القومي عبر وساطة أسواق"[121]؛ بعد ذلك ﺒ 15 سنة كان الجانب الأكبر من دخلها القومي يعتمد على التجارة الخارجية. وفي حالة تشيكوسلوڤاكيا بلغ مستوى نصيب الفرد من التجارة الخارجية في 1965 – 2758 كراون تشيكي. ويقارن هذا مع متوسط عالمي هو 842 كروان ومتوسط لكل البلدان المتقدمة هو 2750 كراون[122]. ويبيّن تقدير آخر عن 1965 أن نصيب الفرد من التجارة الخارجية في كل من المجر، وألمانيا الشرقية، وبلغاريا، وتشيكوسلوڤاكيا، كان أكبر منه في إيطاليا، وأقلّ بصورة طفيفة فقط منه في فرنسا[123].
مثل هذا المستوى من التجارة الخارجية له بالضرورة تأثير هائل على التوجيه الداخلي للاقتصاد. وهو يعني أن أولئك الذين يسيطرون على الدولة والاقتصاد لابد لهم من أن يهتموا بصورة متواصلة بشأن كيف تتم مقارنة تكاليف الإنتاج داخل البلاد مع متوسط التكاليف في بقية العالم: أيْ لا بدّ لهم من أن يحتفظوا بالأجور منخفضة، وأن يُواصلوا بلا انقطاع ضغطا مستمرا لفرض التسريع على العمال، وأن يستهدفوا مستويات استثمار من شأنها أن تجعل الاقتصاد القومي قادرا على أن يجاري جهود الاقتصادات في أماكن أخرى من العالم. وبكلمات أخرى، رغم أن المشروعات الفردية قد لا تكون معنية مباشرة بالمنافسة مع المشروعات الأخرى، فإن الاقتصاد القومي ككلّ معنيٌّ بذلك.
لكن ليست المنافسة على الأسواق الأجنبية فقط هي التي لها أثر عميق على السير الداخلي للدول الشرقية. فهناك أيضا مثل هذا الأثر لمشاركة هذه الدول في المنافسة العسكرية بين الكتلة الشرقية والغرب والصين. وهذا هو الأهم في حالة الاتحاد السوڤييتي حيث يبلغ الإنفاق على الأسلحة ما بين 12 في المائة (التقدير السوڤييتي قبل الجلاسنوست)[124] و16 في المائة (تقدير وكالة المخابرات المركزية)[125] من الدخل القومي. وهذا يشكلّ حوالي ضعف المستوى الأمريكي، وحوالي أربعة أضعاف متوسط المستوى الأوروپي الغربي، وحوالي 14 ضعف المستوى الياپاني.
وأغلب الأسلحة ليست سلعا بالمعنى النقي للمصطلح. فهي لا تُباع لمشتر مجهول من خلال التنافس مع بائعين آخرين، بل تذهب مباشرة بالأحرى إلى الحكومة التي أشرفت على إنتاجها[126]. لكن الأسلحة تشترك في شيء واحد هام للغاية مع السلع المصنوعة من أجل السوق. فهي لا تتوقف قيمتها لمن يحوزها أيّا كان على خصائصها المادية الفعلية (قيمتها الاستعمالية) بل على كيف تتم مقارنتها، من حيث الأسعار والفاعلية، مع تلك التي يحوزها المنافسون. إن بلديْن يصنعان دبابات للحرب ضدّ بعضهما يرتبطان ببعضهما، من إحدى النواحي، بنفس العلاقة التي بين بلديْن يصنعان سيارات يقومان بمحاولة بيعها متنافسيْن ضدّ بعضهما. ويتوقف النجاح على الإبقاء على الأجور منخفضة، وعلى دفع الإنتاجية إلى أعلى بقدر الإمكان، وعلى استخدام الأرباح في الاستثمار لرفع مستوى الاستثمار في التجهيزات والتجديدات.
هذا هو ما يفسّر المستويات المرتفعة جدا للتراكم في الاقتصاد الروسي في عهد ستالين: كما نظرت البيروقراطية الروسية إليه، كان التراكم هو الطريقة الوحيدة لإرساء قاعدة الصناعية الثقيلة اللازمة من أجل الاستعداد العسكري. وهو يفسر أيضا على سبيل المثال، أوجه التشابه في نموذج التنمية الصناعية في فترة ما بعد الحرب في ألمانيا الشرقية، أو المجر، أو تشيكوسلوڤاكيا مع نموذج سنوات زمن الحرب عندما كانت هذه البلدان جزءا من اقتصاد الحرب النازي. والحرب والاستعداد للحرب - المنافسة العسكرية- تجبر الطبقات الحاكمة الحديثة على أن تفرض على اقتصاداتها نفس دينامية التراكم الرأسمالي كما تفعل منافسة السوق. وهي ترغم هذه الطبقات على أن تنظم اقتصاداتها "المخططة" في ظاهر الأمر حسب عقلانية الإنتاج السلعي. وهي تجبرها، على وجه الخصوص، على أن تعامل قوة العمل بوصفها سلعة، وعلى ألا تدفع لعمالها أكثر من الحدّ الأدنى المحدّد ثقافيا وتاريخيا والضروري لهم ليكونوا قادرين على العمل وراغبين فيه. وبكلمات أخرى، تقوم طبقة رأسمالية الدولة الحاكمة، باندفاعها إلى التراكم، بخلق طبقة العمال[127].


11
رأسمالية الدولة كمرحلة في التطور الرأسمالى
 
باستخدام نظرية رأسمالية الدولة، من الممكن فهم فترة ستالين والسنوات الأولى من الحكم الستاليني في أوروپا الشرقية، فالطبقة الحاكمة لدولة متأخرة اقتصاديا والتي كانت عاقدة العزم على الانخراط في منافسة عسكرية-اقتصادية مع دولة أكثر تقدما حاولت أن تقوم بذلك عن طريق نسخ الأساليب التي كان قد تم تصنيع الرأسماليات المتقدمة بها. كانت الرأسمالية البريطانية قد استخدمت الأسيجة لطرد الفلاحين من الأرض، وكانت قد استخدمت العبودية في الأمريكيتيْن لتُراكم الثروة ولتمدّ نفسها بمواد خام رخيصة، وكانت قد ألحقت ونهبت نصف آسيا، وكانت قد استخدمت قوانيين التشرُّد والعمل الإجباري لنظام الورشة لإجبار أولئك الذين طردوا من الأرض على عرض خدماتهم بوصفهم شغيلة مأجورين، وكانت قد استخدمت قوة عسكرية وشبكة من الجواسيس ضد أولئك الذين حاولوا أن يقاوموا، وكانت قد تغاضت تماما عن صحة الغالبية العظمي من السكان حينما ربحت من عمل الأطفال من الخامسة أو السادسة من عمرهم فصاعدا. سارت الطبقات الستالينية الحاكمة على نفس الدرب مع "التجميع"، والجولاج، وإطلاق الرصاص على المضربين والمتظاهرين، والقوانين ضدّ "الطفيلية"، وشبكات مخبري الشرطة السرية المنتشرة في كل مكان. كانت الطبقات الستالينية الحاكمة ترغب في أن تحقق خلال عقدين اثنين ما استغرق من الرأسمالية البريطانية ثلاثة قرون. كانت البربرية الستالينية بربرية أكثر تركيزا، مؤدية إلى عشرة، أو 20، أو حتى 30 -حسب تقديرات متطرفة- من ملايين الوفيات[128].
وعلى أساس التجربة البريطانية، كان إنجلس Engels قد تنبّأ:
ما دامت روسيا البلد الأخير الذي تغزوه الصناعة الرأسمالية الكبيرة كما أنها في نفس الوقت بلد ذو سكان ريفيين أضخم بما لا يقاس... لابد للتغيير الثوري الذي ستحدثه الثورة الصناعية أن يكون أكثر عمقا، وأكثر حدة من أيّ مكان آخر. ولا يمكن تحقيق عملية إحلال ما لا يقل عن 500000 من كبار ملاك الأرض و80 مليون فلاح على وجه التقريب إلا مقابل معاناة مفزعة واضطرابات عنيفة... فوق جبال من الجثث[129].
لم يكن بمستطاع إنجلس، بطبيعة الحال، أن يتنبأ بأن يكون التصنيع الرأسمالي والمعاناة التي تلازمه مفروضيْن من جانب بيروقراطية حاولت أن تُخفي طبيعتها الطبقية وراء شعارات ماركسية. أما الناس الذين فقدوا حياتهم في سياق هذا التطور فقد فقدوها في غضون مسافة زمنية لا تزيد عن 25 سنة. لكن من غير المحتمل أن تكون نسبتهم إلى إجمالي السكان أعلى من نسبة أولئك الذين ماتوا من الآثار المركّبة للأسيجة وقوانين التشرد في عهد تيودور، واﻟ 250 سنة من تجارة العبيد عبر الأطلنطي، وبربرية نظام المزارع الكبيرة، وحملات تنظيف الأراضي من الفلاحين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وشحن الغلال من آيرلندا أثناء المجاعة، والفقر الذي فرضه الحكم البريطاني على مناطق بأسرها في الهند، وآثار تجارة الأفيون في الصين. حاول حكام بريطانيا أن يُبرّروا بربريتهم باسم الدين والحضارة. أما ستالين فقد برّر بربريته باسم الاشتراكية. لكن الأساليب والغاية كانت نفس الشيء من الناحية الجوهرية.
في الوقت ذاته، لم يكن الميل إلى سيطرة الدولة على الاقتصاد كله شيئا انفردت به الستالينية. كان ذلك شيئا حدث بدرجات متفاوتة في كل مكان في العالم الرأسمالي، وبوجه خاص في عناصره القومية الأضعف، في الفترة التي امتدت من الحرب العالمية الأولى وأزمة 29-1933 حتى السبعينيات.
لقد وَجَدَ أولئك الذين رغبوا في إقامة صناعات جديدة في بلدان كانت الرأسمالية فيها متأخرة في نموّها أن الطريقة الوحيدة التي يمكنهم أن يحققوا بها ذلك في مواجهة المنافسة من جانب القوى الرأسمالية الراسخة تتمثل في استخدام قوى الدولة لتركيز الموارد المتاحة. وقد لعبت الدولة فعلا في منعطف القرن دورا رئيسيا في نمو الصناعة الكبيرة في الياپان وروسيا القيصرية. وقادت الحربان العالميتان وأزمة الثلاثينيات إلى درجة هائلة من الاندماج بين الدولة والمشروعات العملاقة في الرأسماليات المتقدمة: كانت هذه هي النقطة الرئيسية التي لاحظها منذ 1916 بوخارين ولينين في دراساتهما للإمپريالية[130]. ومع أواخر الثلاثينيات كان نطاق سيطرة الدولة على النشاط الصناعي في ألمانيا النازية كبيرا إلى حد أنه أقنع اقتصادي الماركسية النمسوية الشهير هيلفردينج Hilferding بأن الرأسمالية كان قد حلّ محلها أسلوب إنتاج جديد[131]. وحتى في أكثر البلدان الغربية تميُّزا "بالسوق الحرة"، الولايات المتحدة، أقامت الدولة وسيطرت على معظم القدرة الصناعية خلال سنوات 41-1944[132].
في الثلاثينيات والأربعينيات كان الحجم الأكثر فعالية للوحدات الإنتاجية من الضخامة بحيث كانت حفنة من الشركات المحلية تسيطر على السوق في السلع المصنّعة في كل بلد من البلدان المتقدمة اقتصاديا  وقد جعل ذلك من المفهوم إدماج هذه الشركات في بنية واحدة وحيدة، موحدة مع الدولة الرأسمالية، مع استبعاد المنافسين الأجانب من خلال التعريفات الجمركية والحصص. حتى حيث واصلت شركات منافسة وجودها داخل القطاعات الرئيسية لاقتصاد، فهمت الحكومات مهمتها على أنها تتمثل في التحقق من أن الشركات المؤسسة محليا كانت تغطي السوق بالنسبة لمعظم مجموعات السلع: سعَى كل بلد رأسمالي إلى امتلاك صناعته للصلب، وصناعته لبناء السفن، وصناعته للطائرات، وصناعته للسيارات وحتى صناعاته للأثاث وللسلع البيضاء*. كانت رأسمالية الدولة منسجمة مع مرحلة تطور قوى الإنتاج التي كان ذلك فيها هدفا يمكن التفكير فيه.
وقد مضى هذا الاتجاه إلى أبعد حدّ في بلدان كان التطور الصناعي فيها أضعف ما يكون. ففي الثلاثينيات والأربعينيات انتقلت الدولة إلى مكان الصدارة في التنمية الاقتصادية لبدان متباينة تباين إيطاليا موسوليني (حيث كانت أكبر كتلتيْن اقتصاديتيْن مملوكتيْن للدولة)، وأرچنتين پيرون، وبرازيل ڤارجاس، وهند نهرو (حيث كانت العائلات الصناعية الرئيسية قد اتفقت، قبل الاستقلال، على برنامج اقتصادي يقوم على أساس من الخطط الخمسية محاكاة للنموذج الروسي)، والصين في ظل كل من تشانج كاي تشيك وماوتسي تونج، ثم -بعد ذلك بسنوات قليلة- مصر عبد الناصر والنظامين البعثيّيْن المتنافسيْن في العراق وسوريا، وجزائر بومدين، والنظام العسكري في بورما.
كان الأساس المنطقي لمثل هذه التحولات بسيطا:  في هذه المرحلة من مراحل الرأسمالية بدا من الممكن إرساء أساس للتنمية الصناعية عبْر تدخل الدولة بطريقة لم تكن ممكنة بغير ذلك. وقصص النجاح الاقتصادي في "العالم الثالث" كانت تلك التي حدث فيها تدخل قويّ للدولة، وليس حيث تُرك كل شيء للسوق. وهذا هو السبب في أن الأيديولوچيات السائدة، كينزية كانت أم اشتراكية، ديمقراطية أم ستالينية، سلمت بتدخّل الدولة.
لم يحدث في أيّ حالة من هذه الحالات أنْ كان هناك انتقال من "أسلوب إنتاج" إلى آخر. ففي كل حالة قام أولئك الذين كانت لهم السيطرة على جهاز الدولة القائم باستخدامه لإعادة تنظيم الصناعة، مع خفض المنافسة الداخلية إلى حد أدنى بحيث يمكن تحقيق التراكم في مواجهة الضغوط الخارجية. ولا يعني ذلك أنه لم تكن هناك أيّ معارضة لمثل هذا التحوّل -وكثيرا ما اتخذت إجراءات "پوليسية" من أنوأh         أاااأنواع شتي ضد المصالح الرأسمالية "الخاصة" القديمة التي قاومت التغيّرات. لكن هذه التغيّرات كانت ممكنة بدون تعبئة جماهير السكان من أجل ثورة اجتماعية حقيقية، والواقع أنها كانت في بعض الحالات بدون أيّ تعبئة على الإطلاق لغالبية السكان.
 


12
أصول رأسمالية الدولة في أوروپا الشرقية
 
قدّمت أوروپا الشرقية قبل وخلال الحرب العالمية الثانية أمثلة حية لأبنية دولوية قديمة تلجأ شيئا فشيئا إلى تدابير رأسمالية الدولة.
كان لأزمة 29-1934 العالمية نتائج مدمِّرة في كل مكان. وكانت كل البلدان الشرقية باستثناء تشيكوسلوڤاكيا تعتمد على تصدير المحاصيل والمواد الخام. خفّضت الأزمة ما كان بإمكانهم أن يكسبوا من هذه الصادرات بما بين 30 و50 في المائة[133] ودفعت بغالبية السكان المعتمدين على الزراعة إلى الفقر المدقع. كانت النتيجة نشوء تناحرات مريرة بين الطبقات وبين جماعات إثنية مختلفة، وظهور حكومات سلطوية يمينية. وحتى في البلد الأكثر تطوّرا، تشيكوسلوڤاكيا، كان لا بد لهبوط في الناتج القومي الإجمالي بنسبة 14 في المائة بين 1929 و1933 أن يعني مستويات عالية جدا من البطالة بين الأقلية الكبيرة الناطقة بالألمانية من السكان، دافعةً أغلبهم إلى التطلع إلى ألمانيا النازية كملاذ. وأصاب إفقار شديد الناطقين بالسلوڤاكية في النصف الشرقي من البلاد، مغذِّيا نزعة قومية معادية للتشيك.
لم تعرف حكومات أوروپا الشرقية في فترة ما قبل الحرب سوى طريقة واحدة للسيطرة على مثل هذه التوترات -التغاضي عن سياساتها الاقتصادية "الليبرالية" السابقة. وحتى قبل 1929 استخدمت الدول "ضوابط غير مستخدمة إطلاقا، أو لا تكاد تُستخدم، في البلدان الغربية"[134]. وقادت أزمة الثلاثينيات دولة بعد أخرى إلى التدخل مباشرة لتسيطر على التجارة الخارجية، وتنظّم مباشرة صفقات تجارية ثنائية مع الدول الأخرى (خاصّة ألمانيا النازية، التي كانت بدورها قد فرضت احتكار الدولة على التجارة الخارجية)، وتخفِّض بشدّة مستوى الواردات، وتحدّد أسعار صرف تفاضلية لمختلف المعاملات التجارية، وتسيطر على البنوك والمؤسسات الصناعية المتجهة إلى الإفلاس. هكذا اشترت حكومة الكولونيلات اليمينية في پولندا سندات دولة في أضخم شركة صلب لتحول دون إفلاسها وكانت أول من شرع خارج الاتحاد السوڤييتي في تطبيق خطة استثمارية طويلة الأجل[135].
زادت الحرب العالمية الثانية من الميل إلى سيطرة الدولة على الاقتصاد زيادة هائلة. أولا، تم إدماج اقتصادات أوروپا الشرقية بصورة مباشرة أو غير مباشرة في اقتصاد الحرب الألماني، الذي فرض ضوابط مباشرة على مستويات الناتج، والأسعار، وتخصيص المواد الخام، والأجور. ثانيا، دمرت "الألمنة" [من: ألمانيا] والتدابير المعادية للسامية القاعدة الاقتصادية لكثير من الطبقات الرأسمالية المحلية القديمة. ثالثا، شوّهت الحرب تماما التطور الاقتصادي لكل بلد. وتمّ نقل موارد هائلة إلى الآلة الحربية الألمانية على حساب مستويات المعيشة والاستثمار الأساسي. وفي ألمانيا الشرقية، والمجر، والقسم التشيكي من تشيكوسلوڤاكيا كان هناك تطور متسارع للصناعة الثقيلة دون اهتمام باحتياجات السكان المحليين؛ وكان هناك تدمير خالص أحدثته الحرب ذاتها في البلدان التي وقع فيها قتال ثقيل-في پولندا، والمجر، وألمانيا الشرقية، ورومانيا. هكذا كان الناتج المجري في 1947 أقلّ بنسبة 27 في المائة من مستوى 1937، وفي رومانيا بما بين 20 و40 في المائة، وفي بلغاريا ﻟ 16 في المائة، وفي تشيكوسلوڤاكيا ﺒ 17 في المائة. أما في پولندا فكان الهبوط بحوالي 22 في المائة عن مستوى كان هو ذاته أدنى من مستوى 1913![136].
ازداد المأزق الاقتصادي لمعظم البلدان سوءا بسياسات المنتصرين في الحرب. وقد أجبرت تلك البلدان التي كان حكامها القدامى يؤيدون هتلر (ألمانيا الشرقية، رومانيا، المجر) على دفع تعويضات (أساسا للاتحاد السوڤييتي). وفي ألمانيا الشرقية استنفدت هذه التعويضات ما يقرب من نفس مقدار الموارد التي دمرتها الحرب الشاملة: ثُلث مباني ومعدّات أضخم مصنع في البلاد، مصنع لُويْنا بالقرب من هالّه، دمرته الحرب، وثُلث آخر نقلته قوات الاحتلال الروسية إلى الاتحاد السوڤييتي؛ وحتى في أوائل الخمسينيات "وصلت التعويضات بالإضافة إلى المطالب السوڤييتية بشأن تعدين اليورانيوم وتكاليف الاحتلال إلى أكثر قليلا من خُمْس الناتج القومي الصافي بتكلفة العوامل"[137].
وأخيرا، في حالة ألمانيا الشرقية، ألحقت الحدود القومية التي فرضها المنتصرون خسارة اقتصادية كبيرة: أصبحت صناعاتها مقطوعة عن المصادر التقليدية لوقودها -فحم الأنتراسيت- بسبب تسليم سيليزيا إلى پولندا وتأسيس دولة ألمانية غربية منفصلة (وهذا هو السبب في أن محطات توليد الطاقة الكهربائية في البلاد تعمل اليوم بفحم الليجنايت المعدّن محليا والشديد التلويث).
كان أولئك الذين وجدوا أنفسهم يوجّهون أوروپا الشرقية بعد الحرب يديرون بلدانا كانت في الواقع أكثر تخلفا بكثير من أوروپا الغربية قبل الحرب، وكانت قد تأثرت بصورة أسوأ بالحرب وآثارها، لكن الأحداث كانت قد منحت الدولة فيها سلطة إدارة تنظيم الإنتاج دون عرقلة تذكر من جانب المصالح الرأسمالية الخاصة. فلا غرابة إذن في أن زعماء كافة الأحزاب السياسية -البرچوازية والاشتراكية الديمقراطية وكذلك الستالينية- سلّموا بأن الطريقة الوحيدة للسير إلى الأمام بالنسبة للاقتصادات كانت تتمثل في استخدام قوة الدولة تلك.
في تشيكوسلوڤاكيا، حيث كانت نسبة 80 في المائة من الصناعة في يد الدولة فعلا قبل سَتْلنة Stalinisation البلاد بعد فبراير 1948، كانت لجنة التخطيط في 47-1948 "مؤلفة من أعضاء من كافة الأحزاب، برئيس من زبيروچوڤكا Zberojovka، الشركة الضخمة للمعدات الحربية، التي كانت ضمن القطاع الخاص من قبل!"[138]. في پولندا والمجر كان الاشتراكيون الديمقراطيون وكذلك الشيوعيون منخرطين في تخطيط الاقتصاديْن. وكانت النتيجة أن النازي أدار اقتصادات الأوامر الخاصة بزمن الحرب والتي انتقلت مباشرة في أكثر الأحيان إلى "تخطيط"... "الديمقراطيات الشعبية": "كثير من علاقات السوق التي كبحتها ضوابط السعر والكمية في 39-1945 لم تعاود الظهور قط"[139]. وكما اعترف في وقت لاحق أوسكار لانج Oscar Lange، الاشتراكي الديمقراطي الذي تحول إلى شيوعي وساعد في وضع الخطط الپولندية:
أساليب التخطيط الإداري بصورة بالغة التمركز والإدارة التي تستخدم الإكراه فوق-الاقتصاديّ على نطاق واسع ليست سمة مميزة للاشتراكية، بل هي بالأحرى أسلوب مميز بوجه خاص لاقتصاد الحرب[140].
والواقع أن زعماء الأحزاب الشيوعية أصبحوا حقا الأنصار الأشد تصميما لاقتصاد الأوامر بعد اندلاع الحرب الباردة وتكوين الكومينفورم Cominform (منظمة ستالين لتنسيق أنشطة الأحزاب الشيوعية الحاكمة). ومنذ منتصف 1947 فصاعدا ضغطت هذه الأحزاب من أجل معدلٍ للتراكم أعلى كثيرا مما فعلت الأحزاب الاشتركية الديمقراطية والبرچوازية[141]. مرة أخرى، لم يكن هذا نتيجةً لأيديولوچية مّا لاعقلانية، بل بسبب التزام هذه الأحزاب ببناء القدرة الصناعية-العسكرية للكتلة الروسية بأسرها. والأمر البالغ الدلالة أن أولئك الذين عارضوا نظرة هذه الأحزاب لم يكن بإمكانهم تطوير نظرة بديلة متماسكة خاصة بهم. هذا هو السبب في أنه حتى في تشيكوسلوڤاكيا، حيث لم تكن في ذلك الوقت قوات روسية، لم يكن بإمكان الأحزاب البرچوازية والاشتراكية الديمقراطية إعداد أيّ مقاومة حقيقية للانقلاب الشيوعي في فبراير 1948. وكل ما احتاج إليه الحزب الشيوعي لانهيار هذه الأحزاب تركيز قوات حدود في براغ، واستعراض أنصارها في قلب المدينة، وتنظيم إضراب عام لمدة ساعة واحدة (وهذا مستوى للتعبئة من المحتمل أنه أدنى من ذلك الذي أدَّى إلى انهيار حكم الحزب الواحد في نوڤمبر 1989). وكانت البرچوازية التشيكوسلوڤاكية تفتقر إلى بدائل إلى حدّ أن رئيسها، بينيز Benes، وافق على التغييرات التي طالب بها الزعماء الشيوعيون، وبقي ابن مؤسّس الدولة، مازاريك Masaryk، وزيرا (وإنْ كان قد سقط ميتا وربما قُتل، بعد ذلك بقليل).
مفهوما من وجهة النظر هذه ، ليس ما حدث في أوروپا الشرقية شيئا مختلفا اختلافا كيفيا عما حدث في غيرها، لكنه ببساطة التعبير الأكثر تطرفا من الناحية الكمية عن اتجاه عام. من هنا سهولة الانتقال من التنظيم الاقتصادي لما قبل الحرب ولزمن الحرب؛ ومن هنا أيضا سهولة الانتقال اللاحق الذي نشهده في هذه اللحظة.
 


13
تناقضات الرأسمالية
أنْ نحلّل مجتمعا على أنه رأسمالي لا يعني فقط أن نشير إلى الطريقة الاستغلالية والبربرية التي يعامل بها حكامه بقية السكان -رغم كل شيء، مثل هذا السلوك نموذجي لكافة المجتمعات الطبقية. إنه يعني أيضا أن نرى أن الطبقة الحاكمة، المجبرة على التراكم مهما كان الثمن، لا يمكنها أن تتفادَى تقويض أساس حكمها هي. كان هذا صحيحا دون شك فيما يتعلق بالطبقات الحاكمة الشرقية. فهذه الطبقات لم يكن بإمكانها أن تتفادَى ما كان، بالنسبة لها، عددا من النتائج السلبية للتراكم.
(1) حفّار القبر. بدأت الأساليب الستالينية تخلق بالضرورة قوة اجتماعية قادرة على تحدِّي حكم البيروقراطية. فعندما استولى ستالين على السلطة المطلقة في 28-1929 في الاتحاد السوڤييتي، كان 80 في المائة من السكان العاملين فلاحين. وخفّضت الخطتان الخمسيتان الأوليان هذا الرقم إلى 60 في المائة مع اندلاع الحرب العالمية الثانية. واستؤنفت العملية بعد الحرب. وعند وفاة ستالين في 1953 كان نصف السكان الروس تقريبا حضريين ومع 1985 كان ثلثا السكان حضريّين وثلث واحد فقط ريفيا، وكان ثُمْنُهم فقط مصنّفين على أنهم "مزارعون جماعيون" (خلفاء الفلاحين)[142]. وفي دول أوروپا الشرقية في فترة ما قبل الحرب كان 65 في المائة من السكان العاملين يعملون في الزراعة وكان 14 في المائة فقط عمالا. ومع 1980 كان 60 في المائة عاملين بالأجر[143].
وجدت الأنظمة الستالينية من السهل نسبيا أن تقوم بإخضاع السكان الريفيين في السنوات الأولى، باستخدام القوة المسلحة عند الضرورة، كما حدث خلال حملات التجميع التي قام بها ستالين ذاته. في الوقت ذاته، تمثل الأثر الأوّلى للتصنيع الإكراهي في إضعاف قدرة الطبقة العاملة على أن تُبدي معارضة للنظام. واستطاعت أقلية هامة من العمال "القدامى" تحقيق انتقال إلى أعلى خارج طبقتهم كمشرفين وبيروقراطيين: تُبيّن أرقام الستينيات أن 29 في المائة من الأشخاص المولودين في أسر الطبقة العاملة في تشيكوسلوڤاكيا قد صعدوا إلى أعمال غير يدوية وفي المجر وپولندا فعل 17 في المائة نفس الشيء[144]. أما مَنْ تبقَّى من أولئك العمال "القدامى" فقد وجدوا تقاليدهم الخاصة بالعمل الجماعي يُضعفها اكتظاظ المدن بجماهير الفلاحين السابقين. وكما لاحظ عالم الاجتماع زيجمونت باومان Zygmunt Baumann فيما يتعلّق بپولندا:
مجموعة ضئيلة نسبيا من العمال الصناعيين من فترة ما قبل الحرب، والذين ظلّوا عمالا رغم كافة فُرص التحوُّل اجتماعيا... عانوا من تدهور متواصل تقريبا في مستويات معيشتهم... لكنهم ذابوا في جمهور غفير من المهاجرين الفلاحين الذين كانت شروط المعيشة التي وجدوها تعني لهم تحسُّنا حقيقيا في مستويات المعيشة التي كانوا قد عرفوها من قبل[145].
لكن عندما انطلق التراكم الرأسمالي، بدأ يُغيِّر هذا الوضع للأمور. فالهبوط في نسبة السكان العاملين في الزراعة أدّى بالضرورة إلى هبوط في عدد الناس الذين يدخلون المدن قادمين من الريف. في الوقت ذاته، تقلّصت فُرص فوز العمال بالتحوُّل إلى أعلى إلى مواقع الياقات البيضاء والمواقع البيروقراطية[146]اللسابقين.معارضة للنظام. ي قام بها ستالين ذاته. .
كانت نسبة متعاظمة من العمال من أبناء العمال ولم يكونوا قد مرّوا بأيّ تحوُّل اجتماعي خلال حياتهم. هكذا بيّنت دراسة لصناعة الأخشاب في سڤيردلوڤسك في أواخر الستينيات أن 60 في المائة من العمال الذين في بداية العشرينيات من أعمارهم كانوا من أصل عمالي بالمقارنة بأقل من 40 في المائة من أولئك الذين فوق اﻟ 46 من أعمارهم. وتبيّن دراسة أخرى، لمجموعة تعدين في الكوزباس، أن 80 في المائة من أولئك الذين في بداية العشرينيات من أعمارهم انحدروا من الطبقة العاملة بالمقارنة مع الرُّبع فقط من أولئك الذين فوق 46[147].
أيضا مستوى الثقافة المطلوب للقوة العاملة يتغير مع التراكم الرأسمالي. في الثلاثينيات والأربعينيات كان بإمكان التهديدات والعقوبات الفظة أن تُقنع كتلة الفلاحين السابقين في المصانع، والمناجم، ومواقع البناء، بأن ينفذوا المهام غير الماهرة وشبه الماهرة المطلوبة للتصنيع الأساسي. وعند وفاة ستالين في 1953 كان هذا يتغير فعلا. كان مستوى وسطيّ أعلى من المهارة ومبادرة أكبر مطلوبيْن من العمال. وفي 1965 كان العمل غير الماهر يصل إلى 40 في المائة من العمل في الصناعة و60 في المائة في البناء؛ ومع 1979 هبطت النسبة إلى 40 في المائة و 33 في المائة على الترتيب[148].
مثل هذا العمل الماهر لم يكن من الممكن الحصول عليه دون قدر من التعليم الثانوي على الأقل بالنسبة للأغلبية الساحقة من العمال والمزيد من التعليم من نوع ما بالنسبة لأقلية هامة. هكذا هبط عدد العمال غير الحاصلين على تعليم ثانوي كامل -في إقليم جوركي- من 87 في المائة في 1965 إلى 52 في المائة في 1979، و20 في المائة فقط بين أولئك الذين تحت الثلاثين من عمرهم. وبين العمال الشبان في مجمّع كاما الصناعي كان ثُلثاهم "يشعرون أن مستواهم التعليمي أعلى من ذلك الذي يتطلبه عملهم"[149]. وكان احتمال تخويف هؤلاء العمال من جانب رؤسائهم أقل بكثير مما كان الحال مع الفلاحين السابقين في سنوات مبكرة. وكما لاحظ أحد معلقي الپراڤدا في 1983:
تواصل مشروعات كثيرة في إقليم سيڤاستوپول بعناد ملء وظائفها بأشخاص ريفيين بدلا من سكان المدن، حتى إنْ كان عليهم أن "يدفعوا" مقابل هذا ببناء عنابر نوم، والدفع مقابل شقق خاصة، إلخ. لكن مديري المصانع يؤكدون أنهم يحصلون على شيء ما مقابل مالهم: العمال يعملون بجدّ أكثر، ويبقى كثير منهم في المصنع، وهم أقلّ ميلا إلى تغيير أعمالهم[150].
(2) اتجاه أشكال الاستغلال القديمة إلى الزوال. كلما انطلق التراكم أكثر، صارت الأساليب القديمة في تحقيقه أقلّ فاعلية. أمكن تحقيق الطور الأول من التصنيع الستاليني باستخدام أكثر الأساليب بدائية لإجبار الفلاحين السابقين غير المهرة على العمل. لم تكن إنتاجية العمل المنخفضة تؤثر في ذلك كثيرا، مادام ملايين الناس كانوا يتركون الزراعة بحثا عن أعمال صناعية وكان بإمكان عملهم أن يبني ويشغّل المصانع حيث لم يكن يوجد أيّ مصنع. كان التصنيع الضخم ممكنا على أساس "انتشاري".
لكنْ في نهاية المطاف بدأت الاحتياطات القديمة من العمل والمواد الخام تُستنفد. عندئذ كان على التطور الصناعي اللاحق أن يكون من خلال التنمية "التكثيفية": إعادة بناء وإعادة تنظيم الصناعة القائمة بحيث يتم استخدام العمل والمواد الخام بفاعلية أكثر بكثير. ويتوقف هذا على ممارسة أكبر بكثير للعناية والمبادرة من جانب العمال. وكان لابد من القيام بجهود لرفع التزام العمال بعملهم بأن يُقدَّم إليهم طعام أفضل، ووقت فراغ أطول، وعرض أضخم من السلع الاستهلاكية[151].
ويتناقض هذا مع محاولات اللحاق باقتصادات أكثر تطورا، وأضخم عادة، عن طريق تخصيص نسبة عالية جدا من الدخل القومي للتراكم. ومن السهل تماما إذن أن يخطر على البال موقف الدجاجة والبيضة: إذا تم رفع مستويات استهلاك العمال، فسوف ترتفع بالتالي إنتاجية الوقت الإضافي. لكنْ في الفترة الفاصلة لا يمكن رفع مستويات المعيشة إلا عن طريق الاقتطاع من التراكم وإبطاء معدّل نمو الاقتصاد بالمقارنة مع منافسيه الرئيسيين. وهكذا كان تاريخ الاتحاد السوڤييتي ودول أوروپا الشرقية تاريخ الوعود بزيادة ناتج السلع الاستهلاكية بالمقارنة مع وسائل الإنتاج متبوعةً بتضحية بإنتاج السلع الاستهلاكية من أجل نمو لاحق في وسائل الإنتاج. كان هذا صحيحا، على سبيل المثال، فيما يتعلق بالاتحاد السوڤييتي في عهديْ خروشوڤ وبريچنيڤ، وپولندا في عهد جومولكا Gomulka (56-1970) ثم مرة أخرى في عهد چيريك Gierek (70-1980).
ازداد الوضع سوءا بتأثير إخضاع الاستهلاك للإنتاج في الماضي. وفي الاتحاد السوڤييتي في ظل ستالين أدّى "تجميع" الزراعة إلى هبوط في إجمالي الناتج الزراعي. أكثر من ذلك، لم يحدث سوى استثمار ضئيل للغاية في البنية التحتية الريفية (الطرق، السكك الحديدية، تسهيلات تخزين الغذاء). لم يُزعج ستالين شيء من هذا، حيث حقّق التجميع هدفين -أجبر ملايين الفلاحين على البحث عن عمل كشغيلة مأجورين في المدن[152] وسمح للدولة بأن تضع أيديها على قسم كبير بما فيه الكفاية من المحصول الذي تناقص لتوفير مستوى حد أدنى من الإمداد بالطعام لأولئك الذين كانوا يكدحون في صناعاتها الجديدة.
واجهت آثار هذه السياسة جميع خلفاء ستالين بمشكلات لا يمكن التغلّب عليها تقريبا  فاستثمار مبالغ ضخمة في المخصبات الصناعية، والآلات الزراعية، وأجور العمال الزراعيين المتزايدة لتقترب من المستوى المديني ليس مُربحا تقريبا كما ينبغي أن يكون. وتتبدّد نسبة عالية بلا ضرورة من المحصول بسبب هزال النقل وتسهيلات التخزين. كما أن السكان الريفيين، في المتوسط، أكبر سنّا وأقلّ مهارة من أن يستجيبوا "لحافز" مستويات معيشة أعلى، وقد تمثّل ردّ فعل أجيال متعاقبة من الشبان والشابات على الشروط المعيشية البائسة في الريف في الانطلاق إلى المدينة في اللحظة التي تعلموا فيها بعض المهارات القابلة للتسويق (مثل قيادة لوري أو إصلاح آلات).
ترتفع مستويات المعيشة حقا، لكنْ ليس بما يكفي تقريبا لرفع الإنتاجية إلى المستويات السائدة في البلدان الغربية المتقدّمة. وإذا لم ترتفع الإنتاجية بسرعة كافية، ستكون الطريقة الوحيدة أمام أولئك الذين يديرون الاقتصاد مركزيا للحصول على مستويات التراكم العالية التي حدّدوها هي تحويل المصانع التي تنتج سلعا استهلاكية إلى إنتاج وسائل الإنتاج. لكن هذا بدوره يعني أن المقدار الذي يدفعه المديرون في شكل أجور يتجاوز إجمالي قيمة السلع الاستهلاكية والناتج الغذائي. وهناك عجز في كثير من السلع الاستهلاكية الرئيسية وميل للأسعار إلى الارتفاع.
بعد النموّ في سنواتها المبكّرة بمعدّل أعلى من الاقتصادات الغربية بدأت رأسماليات الدول الشرقية تنمو بنفس السرعة فقط (أو حتى أبطأ)، كما بدأت تعاني من أزمات حادة في الوفاء بمجموعات بكاملها من السلع الاستهلاكية.
(3) التركيب العضوي المتعاظم للرأسمال. تواجه رأسمالية الدولة المشكلة الكلاسيكية لأيّ رأسمالية -حيث إن التراكم يُؤدي إلى ارتفاع إجمالي الاستثمار أسرع من القوة العاملة، فمتوسط العائد على الاستثمار يميل إلى الهبوط[153]. وقد تناقص متوسط الزيادة السنوية للناتج الصناعي للروبل المستثمر في روسيا[154] على النحو التالي: 51-1955: 6.4 في المائة، 56-1960: 5.1 في المائة، 61-1965: 4.7 في المائة. واستمر هذا الاتجاه طوال عهد بريچنيف. وفي 1985 كانت نسبة الناتج القومي التي تذهب إلى الاستثمار بنفس ارتفاع نسبة 1965 على الأقل، لكن معدل نمو الصناعة كان أدنى بما بين 50 و 60 في المائة على الأقل[155].
(4) الإنتاج الاجتماعي واستحواذ الدولة القومية[156]. وأخيرا، فإن نفس الشيء الذي جعل رأسمالية الدولة تبدو مخرجا من المشكلات. التي تواجه بلدانا عند مرحلة بعينها في تطور النظام العالمي -النمو المتواصل لقوى الإنتاج-يجعل رأسمالية الدولة تبدو عقبة أمام الكفاءة الاقتصادية في مرحلة تالية. فالتطور التالي لقوى الإنتاج على مدى أربعة أو خمسة عقود بدأ يصطدم بأيّ طريقة كهذه في تنظيم الإنتاج.
أصبحت أكثر المشروعات نجاحا في الغرب تلك التي بدأت ليس فقط في أن تبيع على النطاق العالمي، بل كذلك أيضا في أن تنظم الإنتاج على النطاق العالمي. بدأت الرأسمالية المتعدّدة الجنسيات في غرس رأسمالية الدولة كطليعة للنظام. أما الطبقات الحاكمة القومية التي حاولت أن تحتفظ بالسوق المحلي لكامل مجموعة السلع التي في أيدي الشركات المؤسسة قوميا فقد بدأت تكتشف أن هذه الشركات كانت عاجزة ببساطة عن تعبئة مستوى الموارد المطلوب لمباراة المشروعات الأكثر تقدّما في النظام العالمي. والإنتاج الذي كان محصورا في الحدود القومية الضيقة أصبح عديم الكفاءة بصورة متزايدة ومتخلّفا من الناحية التكنولوچية.
كان هذا صحيحا حتى بالنسبة لأضخم اقتصاد في العالم، اقتصاد الولايات المتحدة. في 1948 بلغ إجمالي التجارة الخارجية 12.8 في المائة فقط من ناتج البلاد وحتى في 1965 بلغ 13.7 في المائة فقط. لكن مع 1979 ارتفع الرقم إلى 31.7 في المائة[157]. كانت المنافسة لا تكاد توجد في عدد من الصناعات الرئيسية على مدى 30 أو 40 سنة؛ وكانت الشركات الرئيسية قد سلّمت بتقسيم مستقر للسوق بينها وأهملت التجديد طالما ظلت أرباحها تتدفق[158]. فجأة، في السبعينيات والثمانينيات، تغيّر هذا عندما بدأت الشركات الأجنبية، خاصة الياپانية، تتحدّى الشركات الأمريكية الوطيدة في مجالات رئيسية كالصلب، والمحركات، والإلكترونيات.
فيما يتعلق بالرأسمالية الأمريكية هناك جانب آخر لهذه العملية. في نفس الوقت الذي تفقد فيه نصيبها في السوق على أرض وطنها ظلّت بعض الشركات الأمريكية العملاقة قادرة على إبقاء وتوسيع دورها المسيطر كمنتجين داخل رأسماليات قومية أخري. وتنتج پوينج ما لا يقل عن 80 في المائة من الطائرات المدنية في العالم؛ وخلال اﻟ 20 سنة الأخيرة فرضت فورد وچنرال موتورز سيطرة كاملة على الشركات التابعة لهما في أوروپا، واشترتا بالجملة شركات محلية أخرى، ودمجتا عملياتهما التي تتم على نطاق القارة. وهما الآن أفضل استعدادا من معظم الشركات الأوروپية للنجاح بعد 1992. بل إن واحدة من أصغر وأضعف الرأسماليات الغربية، آيرلندا، تملك شركتين متعددتي الجنسيات كانتا ناجحتين في الفوز بمكان لنفسهما في كل أنحاء أوروپا وأمريكا الشمالية.
والانتقال من الرأسمالية القومية إلى الرأسمالية متعدّدة الجنسيات لا يلغي الدور الاقتصادي للدولة القومية في دعم الشركات "القومية". فلا يمكن لپوينج أن تسيطر على صناعة الطائرات المدنية في العالم إلا بسبب العون الذي تلقاه من الطلبيات العسكرية الأمريكية؛ وقد استخدمت فورد وچنرال موتورز الدولة الأمريكية في توفير بعض الحماية لنفسهما ضدّ سيطرة ياپانية كاملة على "سوقهما القومي" في الوقت الذي كانتا توسّعان عملياتهما المتعددة الجنسيات وتعقدان بعض الصفقات مع الشركات الياپانية. ورغم كونها ذات اتجاه متعدد الجنسيات بصورة متزايدة، فإن بريتيش إيروسپيس التي تحولت إلى قطاع خاص ظلّت معتمدة على طلبيات ونفوذ الحكومة البريطانية في الحصول على ما يقدّر ﺒ 80 في المائة من أعمالها. وفي مجالات الاتصالات السلكية واللاسلكية البعيدة المدى السريعة التوسع والمربحة، تتوقف مقدرة الشركات على عقد صلات متعددة الجنسيات على مدى قدرتها على الفوز بدعم الحكومات عندما يصل الأمر إلى الحصول على طلبات بإعادة تجهيز أنظمة التليفون القومية.
كبرت الرأسمالية العالمية على مرحلة رأسمالية الدولة. لكنْ سيكون من الخطأ أن نصف ما حلّ محلّها بأنه "رأسمالية خاصة" أو حتى "رأسمالية سوق"، وكأنَّ دور الدولة قد اختفى. ما يُوجد الآن هو جمع بين رأسمالية الدولة والرأسمالية المتعددة الجنسيات. وأنا أسميها "الرأسمالية المتعددة الجنسيات" اختصارا، لكن مكوّناتها تتطور من أسس رأسمالية الدولة القومية ولا تنفصل عنها بصورة كاملة أبدا[159].
لكن هذا التطور يحطم فعلا الشروط التي أمكن لرأسماليات الدولة القديمة المكتفية بذاتها قوميا أن تزدهر في ظلّها. كان هذا واضحا حتى منذ أكثر من 20 سنة من محاولات خلق رأسماليات دولة جديدة. اكتشفت الصين وكوبا أنه لا يمكنهما أن ينسخا بنجاح الطريق الذي مهده الستالينيون في الاتحاد السوڤييتي -ومن هنا الصراعات الداخلية المريرة التي أفضت إلى القفزة الكبرى إلى الأمام في 1958 والثورة الثقافية في 1966 في الصين[160]، والأزمة في كوبا والتي أفضت إلى ترك تشي جيڤارا Che Guevara الحكومة في 1966[161].
والواقع أن تكاليف الشروع في إنشاء سلسلة كاملة من الصناعات القادرة على الصمود أمام تلك القوى الصناعية الوطيدة صارت الآن أكبر من أن توفرها الموارد المحددة للطبقات الحاكمة القومية في البلدان الأكثر فقرا. هذه النقطة تم إيضاحها بصورة نابضة بالحياة عندما قُدّر أن إنتاج القنبلة الهيدروچينية الصينية قد استنفد حتما بين رُبع ونصف إجمالي ناتج البلاد من الكهرباء[162]. وكان الواقع "أن الحد الأدنى من كلفة الدخول في السوق العالمي يرتفع كل يوم. أما الموارد التي يُموَّل منها ذلك في البلدان المتخلفة فلا ترتفع"[163]. وكانت النتيجة:
وضع حدّ للعهد الذي كان من الممكن فيه التفكير في أن تنمية لرأسمالية دولة من الطراز الروسي ممكنة بالنسبة للبلدان المتخلفة... التي يمكن فيها التفكير في مسيرة قسرية دموية غادرة عبْر التصنيع على أنها تشكّل تقدُّما بمعنى ما ضيّق...[164].
أما أولئك الحكام الذين حاولوا منذ هذه المرحلة فصاعدا أن يحققوا حلم تنمية رأسمالية الدولة القومية فقد اكتشفوا أنهم طبقوا سياسة أفضت، في الواقع، إلى الأزمة القومية وحتى الانهيار القومي. النظامان اللذان أعقبا هزيمة الاستعمار البرتغالي في أنجولا وموزمبيق تم إجبارهما على تراجع مرير في اتجاه القوى الغربية بهذا المنظور؛ ويتمنَّى النظام الڤييتنامي أن يقوم بهذا التراجع لكنه يجد أن العناد الأمريكي يعترض سبيله؛ أما محاولة نظام الخمير الحمر في كمبوديا أن يشقّ طريقه "بخطط التنمية" القديمة الطراز فقد أفضت إلى كل البربرية القديمة الستالينية بدون التقدم الصناعي الذي صاحبها في الاتحاد السوڤييتي.
ربما لا يكون ذلك نهاية التنمية الاقتصادية في "العالم الثالث"[165]. لكنْ منذ ذلك الحين فصاعدا لم تعد "التنمية" ممكنة إلا لرأسماليات دولة ركّزت مواردها على اقتحام مجموعة ضيقة للغاية من الصناعات، عادةً بالتعاون مع الشركات المتعددة الجنسيات الراسخة الأقدام، على أمل اقتحام قطاع أو قطاعين من السوق العالمي -كما فعلت بنجاح بعض البلدان الصغيرة نسبيا على "حافة المحيط الهادئ". كثير من البلدان التي حاولت السير على هذا الدرب سقطت على جانب الطريق. وفي بلدان أخرى، كالهند والصين بعد ماو، كان النمو الحقيقي في بعض القطاعات والأقاليم مصحوبا بالركود في مكان آخر كما كان يُعمّق التوتّرات الاجتماعية. فقط في حفنة من البلدان، مثل كوريا الجنوبية، كانت القطاعات المتقدمة قادرة على جذب بقية الاقتصاد معها إلى الأمام.
 


14
أزمة رأسمالية الدولة
  
لفترة من الوقت بدا أن لرأسماليات الدولة التي تأسست قديما مستقبل أكثر إشراقا من تلك القادمة متأخرة والتي حاولت أن تحاكيها. وكانت سلسلة الاضطرابات العنيفة قد اجتاحت الكتلة الشرقية برمتها في 53-1956 عندما قاوم الشعب الإرهاب، والمعسكرات العبودية، والهبوط الشديد بمستويات الاستهلاك الشعبي المميزة للعهد الستاليني من التراكم البدائي لرأسمالية الدولة. وفي الاتحاد السوڤييتي كانت هناك إضرابات في المعسكرات العبودية الكبرى. وفي ألمانيا الشرقية وپيلزن في تشيكوسلوڤاكيا في 1953 وفي پوزنان في پولندا أدت الإضرابات إلى صدامات مريرة مع الشرطة وقوات الجيش. وفي المجر كنست انتفاضة عفوية الحكومة القديمة من السلطة ولم يتم إخمادها إلا بعد قمع شديد قامت به القوات الروسية.
لكن زعماء أوروپا الشرقية وخروشوڤ في الاتحاد السوڤييتي كانوا قادرين على احتواء تلك التمردات بمزيج من القمع والإصلاح. كان عهد التراكم البدائي قد خلق احتياطيات اقتصادية كافية لتقديم تنازلات إلى جماهير السكان ولإجراء استرخاء للأساليب القديمة الخاصة بالتعبئة الشاملة من أجل التراكم. وبحلول أواخر الخمسينيات كانت كافة هذه الأنظمة قد استعادت استقرارها وكانت تحقق مستويات نمو اقتصادي تُضارع تلك الخاصة بمنافسيها الغربيين.
بدأت تتكشّف أعراض حلقة جديدة من الأزمة في منتصف الستينيات. عجزت محاولات خروشوڤ المتباينة للإصلاح داخل الاتحاد السوڤييتي عن رفع معدل نمو البلاد إلى المستوى المطلوب ليس فقط لتعزيز نفسه بوصفه القوة العظمى الثانية، بل "للحاق ﺒ وتجاوز" الولايات المتحدة. واتحد قادة مختلف أقسام البيروقراطية على الإطاحة بخروشوڤ في 1964. في تشيكوسلوڤاكيا أدَّى تباطؤ في النمو الاقتصادي إلى الكساد في 62-1963. وأدت مشاجرات بين مختلف الأقسام داخل البيروقراطية وضغوط من أجل الإصلاح الاقتصادي، في بداية 1968، إلى عزل زعيم الحزب العجوز ورئيس الجمهورية، نوڤوتني Novotny، وإلى فترة من التحوّل الليبرالي في ظلّ ألكسندر دوبتشيك Alexander Dubcek. ولم يُوضع حدّ لهذا إلا بغزو روسي للبلاد في أغسطس. وفي پولندا أعقبت الاحتجاجات الطلابية في مارس 1968 مظاهرات وإضرابات عمالية في المدينتيْن البلطيقيتيْن جدانسك وشتشين في شتاء 70-1971 أدّت إلى إحلال چيريك محل جومولكا[166].
كانت أحداث تشيكوسلوڤاكيا وپولندا منذرة بوجه خاص لكافة حكام أوروپا الشرقية. كانت پولندا هي كبرى دول أوروپا الشرقية وكانت تشيكوسلوڤاكيا أكثرها تقدّما صناعيا. وإذا كان قد أمكنهما الدخول فجأة في طور جديد من الأزمة، فلابد أن احتمالات الأمد الطويل في غيرهما كانت قاتمة. أما أولئك الذين كانوا يؤمنون من بيننا بنظرية رأسمالية الدولة فقد كانوا قادرين على أنْ يستنتجوا بعد قمع ربيع براغ أنّ:
البيروقراطية أصبحت واقعة في شرك دائرة شريرة. فأيّ طريقة تحاول أن تحلّ بها بعض مشكلاتها من المحتمل أن تفاقم مشكلاتها الأخرى.
سوف يتجلَّى بصورة متزايدة أن قادة الجهاز المركزي عقبة أمام إنتاج كفء... والبيروقراطية عاجزة عن تحقيق إصلاحات بأيّ قدر من النجاح بدون إحداث صَدْع بالمستويات التي ميزت المجر في 1956 وتشيكوسلوڤاكيا في أوائل 1968. من شأن صَدْع كهذا أن يكون مقدمة لأزمة هائلة في كل مكان في الاتحاد السوڤييتي وأوروپا الشرقية تحتشد فيها الطبقات غير البيروقراطية خلف مطالبها هي.
وسوف تصل الأزمة المزمنة لرأسمالية الدولة إلى نقطة العقدة التي يغدو النظام بأسره مهدّدا عندها. وسوف يتوقف ما سيحدث حينئذ على قدرة مختلف الطبقات على تعبئة نفسها حول برامج تعكس مصالحها الحقيقية[167].
لكن كافة هذه الأنظمة استطاعت أن تستعيد استقرارها في أعقاب أحداث 68-1971 مباشرة تماما كما فعلت بعد 53-1956. واصل الاتحاد السوڤييتي في ظلّ بريچنيڤ التوسع اقتصاديا بسرعة كبيرة، محقّقا تكافؤا عسكريا مع ولايات متحدة كانت مستعدة للدخول في "تهدئة". وكان قادرا أيضا على أن يمنح تحسينات في مستويات المعيشة لغالبية السكان. في تلك السنوات بدأت معظم الأسر تمتلك سيارات. وكان هناك تخلّف كبير في الأوضاع بالمقارنة مع معظم البلدان الغربية المتقدمة، لكنْ بدا في الواقع أن العمال السوڤييت كانوا يشهدون نفس "الثورة الاستهلاكية" كما كان عمال أوروپا الغربية قد فعلوا قبل ذلك ﺒ 15 سنة فحسب. وفي تشيكوسلوڤاكيا بدا أن التحذير المنذر من جانب الاقتصاديين الإصلاحيين قد ثبت بطلانه، عندما استأنف الاقتصاد السير في طريقه الصاعد -من معدّل نمو وسطيّ قدره 1.8 في المائة في 61-1965 إلى 5.7 في المائة في 71-1975. وارتفعت مستويات المعيشة أيضا: مع نهاية 1976 كانت كافة الأسر في الواقع تملك غسّالات، وأجهزة راديو، وتليڤزيونات، وكانت كل أربع أسر من خمس تمتلك ثلاجة، وكانت أسرة واحدة من كل ثلاث أسر تملك سيارة[168].
أما في پولندا فإن تنبؤات كل من الحكومة [169] والمنشقّين[170] على السواء، القائلة بأن مستويات المعيشة لم يكن بإمكانها أن تنمو ثبت أنه لا أساس لها من الصحة عندما دخل الاقتصاد في فترة رواج. وبحلول 75-1976 كان الصحفيون الغربيون يتحدثون عن "معجزة پولندية" كما زعمت الأرقام الرسمية تحسُّنا بنسبة 30 في المائة في مستويات المعيشة في غضون ثلاث سنوات[171]. وفي كل حالة تواصل التوسُّع بسبب الكساد الذي أصاب الرأسمالية الغربية في 74-1976.
كان لحكام أوروپا الشرقية ما يبرّر أن يكونوا فخورين بأنفسهم... إلا أن أرقام النمو الاقتصادي أخفت عددا كبيرا من المشكلات. واصل الاستثمار نموه أسرع كثيرا من الناتج الاقتصادي. كما واصل التقدم التكنولوچي على مستوى عالمي اعتماده، بصورة متزايدة، على تعبئة للموارد تجاوزت الحدود القومية. وكان إدراك هذه المشكلات الطويلة الأمد قد قاد إلى خطط متعاقبة للإصلاح الاقتصادي في بلدان أوروپا الشرقية الرئيسية. وفي كل مكان غير المجر ويوغسلاڤيا جرى التخلِّي تماما عن هذه الخطط في أعقاب 1968. لكن هذا لم يستأصل كل تغيير في إدارة الاقتصادات. وكان قياس مدى تحقيق المشروعات للخطة -ومكافأت مديري المشروعات- يتوقف أكثر بكثير مما كان في أيام ستالين على الرقابة على تكاليف العمل والجودة، وإن كانت رقابة غير فعالة في أكثر الأحيان: لم يعد الاقتصاديون ينكرون أن "قانون القيمة"، قياس إيراد الناتج على أساس المقدار الوسطي للعمل اللازم لإنتاجه على مستوى عالمي، ينبغي أخذه في الحسبان. وازداد عدد الصلات المباشرة للمشروعات مع بقية النظام العالمي دون انقطاع.
كان هذا هو الحال بكل وضوح مع بلدين مثل پولندا والمجر اللتين اقترضتا قروضا ضخمة من البنوك الغربية لتمويل ازدهار استثماراتهما. وفي ظلّ چيريك كان كل مشروع رئيسي يرتبط في الواقع بالتكنولوچيا والأموال الغربية: مصنع جرارات أورسوس خارج وارسو موّله باركليز وأقامه ماسي فيرجيسون؛ مصنع پولسكى-فيات في سيليزيا صممته الشركة الإيطالية وزوّد مصانعها في ميلانو بقطع غيار؛ قام كونسورتيوم لشركات ألمانية بقيادة كروپ بإمداد المصانع الكيميائية بما قيمته نصف مليار جنيه من التجهيزات وخطط لعمليات تسويق مشتركة مع الحكومة الپولندية؛ واعتمد توسُّع إنتاج النحاس الپولندي على صفقة قيمتها رُبْع مليار جنيه مع كونسورتيوم من البنوك الغربية[172].
سمحت سلسلة من تعديلات القانون المجري بتكوين مئات من المشروعات المشتركة مع الشركات الغربية وباقتراض ضخم من البنوك الغربية. هناك دول شرقية أخرى كانت أكثر إحجاما في تعاملها المباشر مع الشركات والبنوك الغربية. لكنْ كانت هناك معاملات مع ذلك. كانت هناك شركات غربية منخرطة في تشييد مصانع السيارات الروسية العملاقة عند تولياتيجراد ونهر كاما؛ وفي سنة 1976 وحدها اشترى الاتحاد السوڤييتي ما قيمته 3.6 مليار دولار من الآلات الثقيلة والتجهيزات من شركات ألمانية غربية[173]؛ وكان تشييد خط أنابيب الغاز الضخم من شمالي روسيا إلى جنوبي أوروپا، بمساعدة غربية، أساسا للتنمية الاقتصادية في الاتحاد السوڤييتي في أوائل الثمانينيات؛ وكان هناك تعاون متزايد بين المشروعات الألمانية الشرقية والألمانية الغربية فيما يتعلق، على سبيل المثال، بتصنيع محركات السيارات لفولكسڤاجن في ألمانيا الشرقية بترخيص خاص. وبحلول منتصف أكتوبر 1989 كان هناك 2090 من المشروعات الاستثمارية المشتركة المسجلة في الاتحاد السوڤييتي، والمجر، وپولندا، وتشيكوسلوڤاكيا، ورومانيا، وبلغاريا[174].
وعلى رأس هذا كله سعت قيادة بريچنيف في الاتحاد السوڤييتي إلى التعويض عن التخلف المتأصّل في قطاعه الزراعي بشراء الحبوب بعقود طويلة الأجل من الولايات المتحدة، يدفع مقابلها من دخله من صادرات الپترول بعد الزيادات الكبيرة في السعر العالمي للپترول في 73-1974 و79-1980.
كان لابد لمثل هذا المدخل التدريجي للتعامل مع المشكلات الاقتصادية العميقة الجذور من أن يصطدم بالضرورة بمصاعب. وكان على الاقتصادات التي كانت تعمل آنذاك بكل طاقتها أن تجد بطريقة أو بأخرى الموارد لتدفع مقابل واردات السلع والتكنولوچيا الأجنبية. وفي أوائل السبعينيات كان يبدو أن الاقتراض من البنوك الغربية هو سبيل الالتفاف حول هذه المشكلة بالنسبة لكل من أنظمة پولندا اردات السلعب. 0.
ى سبيل المثال، بتصنيوالمجر ويوغسلاڤيا. فقد افترضت هذه الأنظمة أنها ستكون قادرة على سداد ديونها من عائدات الصادرات إلى الأسواق الغربية. لكن الركوديْن العالمييْن في 74-1976 و80-1982 وضعا حدًّا لهذا الخيار. وعندما ركدت الأسواق وارتفعت أسعار الفائدة بسرعة شديدة، وجد حكام هذه الدول الشرقية أنفسهم في نفس الوضع الذي كان أمام حكام "البلدان الآخذة في التصنيع حديثا" مثل البرازيل والأرچنتين تماما:  بدأت تكلفة سداد الاقتراض السابق تقضي على فرص المزيد من التراكم: في 79-1980 دخلت پولندا فترة طويلة من الركود الاقتصادي، التي تتخلّلها فترات من الانكماش؛ أما المجر، التي لا يزال معظم المعلقين الغربيين المؤيدين للسوق يتعاملون معها على أنها "اقتصاد المعجزة" في أوروپا الشرقية في أوائل الثمانينيات[175]، فقد سيطرت عليها، على نحو كان قابلا للتنبؤ، مشكلات ديونها بعد ذلك بنصف عقد من الزمان[176].
اجتمع الخوف من محصلة كهذه مع الجمود المحافظ في دول أخرى مثل تشيكوسلوڤاكيا، وألمانيا الشرقية، والاتحاد السوڤييتي في ظل بريچنيڤ لتقييد حجم الانفتاح على السوق العالمي؛ وانتقلت رومانيا في ظل شاوشيسكو من النقيض إلى النقيض، فجلبت ديونا ضخمة في السبعينيات ثم خفَّضت بشدّة الواردات من أيّ نوع (باستثناء السلع الترفيّة من أجل حاشية الديكتاتور) لسداد تلك الديون.
كان الطريق المحافظ يتمثل في محاولة التشبّت بالنموذج القديم لرأسمالية الدولة المكتفية ذاتيا قوميا في وقت كان ركودا 74-1976 و 80-1982 يقدّمان دافعا إضافيا كبيرا في الغرب و"العالم الثالث" لإعادة بناء الصناعات القومية لتتلاءم مع ضرورات الإنتاج المتعدّد الجنسيات. وبصورة محتومة بدأت قطاعات هامة من الاقتصادات الشرقية تتخلّف عن المستويات العالمية الأكثر تقدما من التكنولوچيا. وفي الخمسينيات كان الاتحاد السوڤييتي قادرا على اللحاق بالولايات المتحدة من ناحية التكنولوچيا النووية وعلى التفوق عليها، بعد فترة وجيزة، في سباق الفضاء. ومع أواخر الستينيات كان يبدأ بكل وضوح في التخلّف في القطاعات الرئيسية مثل الكمپيوتر.
كانت محاولات عدم التخلف عن التكنولوچيا الأكثر تقدّما عالميا تغدو، بصورة متزايدة، باهظة التكاليف وفي كثير من الأحيان غير فعّالة. شركة روبوترون الألمانية الشرقية، على سبيل المثال، بذلت جهدا في محاولة للتنافس مع الغرب في تكنولوچيا الكمپيوتر وبرامجه. وكانت إنجازاتها كبيرة حقا، لكنها لم تكن كافية تقريبا لأن تجاري قيام بعض الشركات الغربية المتعدّدة الجنسيات بتركيز موارد أكبر في مثل هذه المجالات. والواقع أن الشركات المتعددة الجنسيات ذات الأساس الأمريكي كان يجري طردها خارج إنتاج كثير من أنواع الميكروتشيپ* الأساسية في هذه الفترة من جانب الشركات الياپانية المتعدّدة الجنسيات لأنها كانت ببساطة لم تعد تملك الموارد اللازمة للتنافس. ولم يكن أمام صناعة دولة صغيرة كألمانيا الشرقية أيّ فرصة للتنافس في وضع كهذا.
على نحو مشابه، كان هناك مشروع تشيكي قادر على صنع المجموعة الكاملة من سلع كهربائية كان يجري إنتاجها في الغرب -من الثلاجات وخلاّطات الطعام إلى أجهزة الكمپيوتر. لكنه فعل ذلك بالضرورة بتكاليف إنتاج أكبر كثيرا على دورات إنتاجه القصيرة من الشركات الغربية العملاقة المتعدّدة الجنسيات، التي كان بوسع كل شركة منها أن تركز على جزء فقط من مجموعة الإنتاج. مرة أخرى، ربما لم يكن بإمكان صناعتي السيارات التشيكية والألمانية الشرقية، اللتيْن لا تنتج الواحدة منهما سوى مئات قليلة من آلاف السيارات في مجموعها كل سنة، أن تحصلا على التطوير والتجهيز التكنولوچييْن المفتوحيْن أمام أعلى عشر شركات غربية متعدّدة الجنسيات، كانت كل واحدة منها تنتج ملايين السيارات سنويا.
كان للتخلّف المتزايد في التكنولوچيا آثار هامة في ثلاثة مجالات. أولا، حدثت عُجوزات عندما وصل هذا التخلف إلى أكثر وسائل الإنتاج تقدّما  فبصورة متزايدة كان لم يعد من الممكن الحصول على أجهزة الكمپيوتر والمعدّات الهندسية المتقدمة إلا بشرائها من الغرب. لكن ذلك يعني الحصول بطريقة أو بأخرى على العملة الأجنبية لشرائها بها -بافتراض أنها ليست واردة في قائمة "كوكوم" الخاصّة بالقوى الغربية بالصادرات المحظورة.
ثانيا، كان من الصعب بصورة متزايدة تحمُّل عبء إنتاج الأسلحة المتقدمة. وقد نجح الاتحاد السوڤييتي، حتى منتصف الثمانينيات على الأقل، في أن يُجاري التكنولوچيا العسكرية الغربية، لكن فقط عن طريق الإغارة على بقية الاقتصاد من أجل الموارد. وكما أشار الاقتصادي السوڤييتي زايتشنكو Zaichenko مؤخرا:
من بين أكثر من 100 بلد توجد عنها إحصاءات موثوقة هناك خمس أو ست دول شرق أوسطية فقط تنفق على الدفاع أكثر من الاتحاد السوڤييتي. وقد رفع الكفاح الطويل لجعل بلادنا أكثر نفوذا في الحلبة الدولية القدرة الدفاعية إلى مستوى لم يكن من الممكن تأمينه إلا باعتصار كافة الجهود المالية والاقتصادية إلى أقصى حدّ...[177].
كان الاتحاد السوڤييتي قادرا على إنتاج الطائرات والدبابات، والمدافع، بجودة ما ينتج منها في الغرب، لكن فقط عن طريق استنزاف الموارد الضرورية لتنمية ناتج عالي الجودة في بقية الاقتصاد.
وأخيرا، حتى حيثما نجحت الأنظمة في إشباع الاحتياجات المادية الأساسية للعمال (الطعام، الكساء، المشروبات الكحولية، الإسكان)، كما في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوڤاكيا، لم يكن بإمكانها أن تمنع الاستياء المتعاظم بشأن تكلفة وجودة السلع الاستهلاكية المعمرة[178].
جعلت نظرية رأسمالية الدولة من الممكن أن نفهم، حتى منذ منتصف السبعينيات، أنه لا الانفتاح على الغرب ولا محاولة تقييد مثل هذا الانفتاح بوسعهمااي ألماني منع انزلاق الدول الشرقية نحو الركود الاقتصادي والأزمة السياسية[179]. وقد جعلت أحداث پولندا في أوائل الثمانينيات الصورة أكثر وضوحا أيضا:
بحلول 1981، كان الاختيار بين الاحتفاظ بالاقتصاد المغلق والانفتاح على بقية العالم قد أصبح حقا اختيارا بين المقلاة والنار. كان الخيار الأول يعني تعميق الركود، والتبديد المتزايد، والعجز عن إشباع مطالب غالبية السكان، والخطر المتواصل لثورة الطبقة العاملة. وكان الخيار الثاني يعني الارتباط بإيقاع اقتصاد عالمي يتعرض بصورة متزايدة للركود والكساد -والتخلي عن الوسائل الإدارية لوقف الكساد الذي يقتضي انكماش الاقتصاد المحلي. ذلك هو السبب في أن أزمة 80-1981 في پولندا كانت صدمة شديدة لكافة حكام أوروپا الشرقية. لقد أثبتت أنه لم يكن هناك أيّ حل سهل للمشكلات التي تُحدق بكل دولة[180].


 
15
"ما قبل-الأزمة" والپيريسترويكا
 
يخبرنا قادة الاتحاد السوڤييتي الآن أنه عندما مات بريچنيڤ أخيرا في 1982 كان الاقتصاد في الواقع في حالة "ما قبل-أزمة". كان التقدير الرسمي لمعدل النمو قد هبط من 5.7 في المائة في النصف الأول من السبعينيات إلى 4.3 في المائة في النصف الثاني من السبعينيات وإلى 3.6 في المائة في بداية الثمانينيات؛ تقدّر الحسابات الغربية هذا الهبوط ﺒ 3.1 في المائة إلى 2.2 في المائة إلى 1.8 في المائة. وفي أيٍّ من الحالتين، كان الاقتصاد السوڤييتي، بعيدا عن "اللحاق" بالاقتصادات الغربية الأكثر تقدما، قد بدأ يتخلّف عنها. لكن الضغوط الخارجية عليه كانت تتزايد -من تعاظم تكديس الولايات المتحدة للأسلحة خلال سنوات ريجان الأولى، ومن الهبوط في الأسعار العالمية للپترول الخام وفي الإيرادات التي كان يمكن للاتحاد السوڤييتي أنْ يشتري بها الحبوب والآلات المتقدمة من الخارج.
لم تكن أعراض "ما قبل-الأزمة" في الاقتصاد فحسب. كان الجيش قد غاص عميقا في مستنقع حرب في أفغانستان لم يكن بمستطاعه أن يكسبها. وكانت اللامبالاة والفساد منتشريْن داخل البيروقراطية، بما في ذلك أفراد أسرة بريچنيف ذاته. وكان الكوادر الحزبيون قد فقدوا آخر بقايا ذلك الالتزام الريادي ببنية رأسمالية الدولة والذي كان لا يزال يمكن أن نلقاه في أيام خروشوڤ. ويتبيّن عمق اغتراب غالبية السكان من الاستهلاك المتصاعد للخمور ومن الأنصار المتزايدين، بين أنشط أفراد الجيل الأصغر، لموسيقى الروك العدمية بمرارة. وقد اعترف بالأخطار التي ينطوي عليها هذا الوضع آنذاك رئيس المخابرات السوڤييتية، أندروپوڤ Andropov، الذي تولَّى السلطة بعد بريچنيڤ في 1982. وهذا هو السبب في أنه جلب جيلا جديدا من رجال الجهاز الحزبي من الأقاليم إلى قيادة الحزب في موسكو، أصبح جورباتشوڤ أبرزهم.
وحينما تولَّى جورباتشوڤ السلطة في 1985 كانت أعراض الأزمة ملحوظة أكثر من أيّ وقت مضى. وكان من الصعوبة بمكان أن يتفادَى النظر بيأس إلى ما وصفه الحزب في الحال بأنه "الطابع الدرامي للوضع الذي وجدت البلاد نفسها فيه في أبريل 1985"[181].
في المركز وفي المحليات على السواء واصل كثير من القادة العمل بأساليب عتيقة وأثبتوا أنهم غير مهيّئين للعمل في الأوضاع الجديدة. تدهور الانضباط والنظام إلى مستوى لا يُطاق. وأصبحت الممارسة الشريرة المتمثلة في خفض أهداف الخطط واسعة الانتشار[182].
ووصف الحزب عهد بريچنيف بأنه عهد "الركود" الذي كان قد: وصل بالبلاد إلى حافة أزمة اقتصادية. وفقد نظام بعيد المدى ومرتفع الإنفاق للإدارة الاقتصادية فائدته. وأصبحت بنيته ومعرفته المتخصصة متعارضتين مع المتطلبات الحديثة... وكفّ الإنتاج، والكفاءة، ومستويات المعيشة عن النموّ...[183].
في عامها الأول حاولت قيادة جورباتشوڤ الجديدة تحقيق "إعادة البناء" الاقتصادية مستخدمةً نفس الأساليب التي كان أندروپوڤ قد استخدمها -حملات حازمة موجّهة من القمة، تستخدم الجهاز القائم فحسب في محاولة لدفع الناس إلى أن يكونوا أكثر جدا ومثابرة. كانت هناك حملة ضدّ الأثر الضار المزعوم للخمور على الإنتاجية شملت رفع الأسعار، وإغلاق ثلثي منافذ البيع، وتدمير آلاف الأكرات من الكروم. وكان هناك هجوم ضار على الفساد بين الكثيرين من الجيل القديم من بيروقراطيّي الحزب الذين كانوا قد استمروا في السلطة طوال عقديْ حكم بريچنيف. وكان هناك إنشاء هيئة مركزية لفحص جودة ناتج المشروعات، ولخفض أجور أولئك الذين يعملون في مشروعات ذات جودة منخفضة. بل كان هناك نداء من جورباتشوڤ إلى الشعب يطالبه فيه بالاقتداء بحركة ستالين الستاخانوڤية في الثلاثينيات[184].
لكن محاولات إعادة تنظيم الاقتصاد بصورة جذرية لم تنجح. وخلال 1986 أصبح أغلب المجموعة التي تحيط بجورباتشوڤ مقتنعين بأن الطريقة الوحيدة لتغيير الاقتصاد تتمثل في تحقيق تحوّل كلّي في البيئة البيروقراطية-الإدارية ذاتها. وقد أدركوا أن هذا لا يمكن تحقيقه دون إدخال تغييرات ذات طبيعة سياسية وكذلك اقتصادية. كان البيروقراطيون المحافظون، كما قيل، يعرقلون الپيريسترويكا، وكان لابد من مقاومة محاولاتهم بالسماح لوسائل الإعلام بإلقاء الضوء على نشاطاتهم من خلال الجلاسنوست.
اشتمل البرنامج الاقتصادي للپيريسترويكا، كبداية، على ثلاثة اتجاهات مترابطة للتغيير. أولا، إعادة بناء الإنتاج بعيدا عن التجهيزات والآلات القديمة لإحلال تجهيزات وآلات جديدة محلها. وكان تحقيق هذا يقتضي إغلاق مصانع وطرد عمال من جهة وإدخال العمل بنظام الثلاث ورديات من جهة أخرى. وأخيرا كان المقصود بهذا أن يستتبع فصل 16 مليون من الخدمة. وحتى ذلك الحين كان هناك أكثر من ثلاثة ملايين حالة فصل[185]. ثانيا، الخفض التدريجي لحجم الجهاز البيروقراطي الذي يسيطر على الصناعة وإبدال البيروقراطيين والمديرين غير الملائمين أو غير الأكفاء أو الفاسدين. وكان من شأن حرية النقد المتزايدة في وسائل الإعلام أن تساعد على ذلك. أخيرا، إحلال الجهود القائمة على قوى السوق محلّ الجهود البيروقراطية لجعل الصناعة ذات كفاءة. ومحلّ استخدام أساليب "الأوامر" للتنسيق "الرأسي" لجهود مختلف المشروعات كان ينبغي إحلال الصلات "الأفقية" حيث تتوصّل المشروعات بحرية إلى تعاقدات على ناتج بعضها الآخر. وكان من شأن السعي وراء أقصى الأرباح أن يقود مديري كل مشروع، كما زعموا، إلى تشجيع الاستخدام الفعّال للموارد والتبنّي السريع لتقنيات جديدة.
كان من المستهدف أن تكون العناصر الثلاثة معتمدة على بعضها. فالانتقال من التنسيق بالأوامر إلى التنسيق بالسوق كان من شأنه أنْ يكشف أيّ تجهيزات هي الأكثر كفاءة وأن يعطي المديرين حافزا على تركيز الإنتاج فيها. وكان ضرب طبقات السيطرة البيروقراطية شرطا مسبقا للانتقال إلى الصلات الأفقية، التي كان من شأنها بدورها أنْ تُلقي الضوء على كفاءة أو عدم كفاءة المديرين الأفراد. لكن الأمور لم تنته إلى ما هو مأمول. ولم يقد الإحلال الجزئي للصلات الأفقية محل الرأسية في 1988 إلى أيّ ارتفاع سحري في مستوى الكفاءة.
مشكلة إمداد السكان بالطعام ازدادت سوءًا .. كل شيء في الاقتصاد يعاني من نقص الإمداد، كما استنتج تقرير في يناير 1989 في التليڤزيون من اجتماع لمجلس الوزراء. وتحدث التقرير عن عدد متزايد من السلع التي تعاني من نقص الإمداد، وعن نقص مليوني متر مربع عن مساحة الإسكان المستهدفة في الخطة، وعن هبوط في عدد ما افتُتح من منشآت الأطفال الجديدة لمرحلة ما قبل المدرسة[186].
وكانت الأسعار تُواصل الارتفاع. "لا المصانع ولا الدكاكين لها أيّ مصلحة في توفير سلع رخيصة -لا فائدة من ذلك"[187]. وكان كثير من المديرين قد اكتشفوا أن بإمكانهم أن يزيدوا أرباحهم، وعلاواتهم الخاصة، ببساطة عن طريق رفع أسعارها. وحيثما كانوا غير قادرين على أن يفعلوا ذلك مباشرة، كانوا يتحولون من إنتاج المجموعات الرخيصة البيع من السلع إلى أخرى أغلى. لكنْ، مادامت السلع التي ينتجها مشروع لازمة بشدّة كمدخلات في مشروع آخر، فقد أدَّى هذا إلى الفوضى في كل اتجاه.
والأهم من ذلك أن العلانية، التي رآها جورباتشوڤ ضرورية إذا كان له أن يُنجز إعادة البناء، زادت من المشكلات الاقتصادية. وفي ربيع وأوائل صيف 1988 كان جورباتشوڤ قادرا على أن يستخدم شعار الجلاسنوست كسلاح ضدّ المحاولات المحافظة للحدّ من الپيريسترويكا. وخلال الإعداد السريع للكونفرنس الحزبي الخاص منح جورباتشوڤ وسائل الإعلام في موسكو حرية التصرف في كشف الفساد، والوحشية، وعدم الكفاءة. وقد أدَّى هذا الضغط إلى إعادة انتخاب قليل من المندوبين إلى الكونفرنس. وأدَّى بآخرين كثيرين إلى التظاهر بالحماس لإعادة البناء. وخرج جورباتشوڤ منتصرا من الكونفرنس، بينما أصبحت مجموعة ليجاتشيڤ Ligachev المحافظة في المكتب السياسي تعتمد على رضاه -كما تبيّن بصورة نابضة بالحياة بعد ذلك بشهرين اثنين عندما أخرجتهم اللجنة المركزية من المناصب الرئيسية ومنحت جورباتشوڤ نفسه رئاسة الدولة.
كان نجاح جورباتشوڤ السياسي بكامله ضمن إطار البيروقراطية السياسية-الإدارية. وقد صعد خلال سنوات خروشوڤ وبريچنيڤ عن طريق تعلّم كيف يفوز بالحظوة عند أولئك الذين فوقه، وكيف يناور ضدّ أولئك الذين إلى جانبه، وكيف يُخضع بالإرهاب أولئك الذين تحته. وكانت هذه مهارات استخدمها جورباتشوڤ إلى أقصى حدّ طوال شهور الربيع والصيف -بالإضافة إلى مهاراته الكبيرة كداعية. وقد مكنته هذه المهارات من أن يقوم بمناورة ضدّ خصومه الأمر الذي ركز سلطة ضخمة في يديه هو وأرْسَى، كما أعتقد، أساس هجوم جديد ضدّ أولئك البيروقراطيين الذين تحت والذين كان بإمكانهم أن يعرقلوا إعادة البناء.
على أن تلك المهارات لم تهيئه لشيء أخر -كيف ينبغي التعامل مع ردود أفعال ملايين الناس خارج البيروقراطية الحاكمة مادامت الجلاسنوست قد منحتهم، للمرة الأولى منذ أواخر العشرينيات، إمكانية مناقشة الشروط التي يعيشون في ظلها. وكان الوعد الباهت بالجلاسنوست من فوق كافيا لإطلاق موجة ضخمة من الجلاسنوست من تحت.
  في بداية الأمر بدا هذا وكأنه أساسا ظاهرة محصورة داخل إنتلچنسيا موسكو، وكان هؤلاء هامين بقدر ما كانوا يؤثرون في محتويات الصحف، ومحطات التليڤزيون والإذاعة، وسياسات دور صناعة الأفلام السينمائية، في عموم الاتحاد. لكنهم أيضا مجموعة متميزة نسبيا ومعزولة تماما عن غالبية الشعب حتى في موسكو، إذا تركنا جانبا كل أنحاء بقية الاتحاد السوڤييتي. وقد بيّن حادث اﻟ سوڤييتسكايا راسييا كيف أمكن إخضاع معظهم بسهولة: تم إجبارهم فجأة على ثلاثة أسابيع من الصمت من خلال تحرُّك معاد من قسم واحد فقط من القيادة. وقام جورباتشوڤ بتحركاته هو لتهدئتهم بعد نجاحاته في كونفرنس الحزب. وطالب العضو "الليبرالي" المزعوم في المكتب السياسي، ياكوڤليڤ Yakovlev، رؤساء وسائل الإعلام بأن يؤمِّنوا تغطية صحفية "مسؤولة" ويمنعوا "محاولات إلهاب المشاعر، وإثارة الانفعالات، وبذر بذور الشك القومي والاجتماعي، ودفع مختلف المجموعات الاجتماعية إلى التصادم". وحثّ على مقاومة "المعالجات الآتية من مواقع غير واقعية، ومتطرّفة" والتي كانت "شكلا خطيرا للغاية من أشكال الطفيلية الاجتماعية"[188]. واستُخدمت مفرزة شرطة تشكلت حديثا لوضع حدّ لمظاهرات مثل تلك التي نظمها الاتحاد الديمقراطي في 7 أغسطس، ومكنّ مرسوم جديد السلطات من سجن منظمي "المظاهرات غير المصرح بها". ثم استُخدم "نقص ورق الصحف" كذريعة لتقييد مطبوعات القسم الإصلاحي من الصحافة، مثل مجلة أوجانييك Oganyek الأسبوعية.
كانت هذه محاولات للحدّ من تأثير الرأي العام الراديكالي في موسكو، وليس لإيقافه حيث هو. أحسّ جورباتشوڤ بكل وضوح أنه لا يمكنه أن يفعل ذلك دون تشجيع درجة من إحياء خصومه المحافظين. كان لا يزال يحتاج إلى أن يشوه سمعتهم بالحقيقة البشعة الخاصة بعهديْ ستالين وبريچنيف. وكان ذلك يعني السماح لوسائل الإعلام بنشر سيل المفاجآت حول ما كانته الحياة في الاتحاد السوڤييتي في واقع الأمر -حول الإعدامات ومعسكرات العمل، حول تهجير الشعوب والمجاعات، حول المحاكمات الهزلية والإعدامات بالجملة في عهد ستالين، حول الفساد بالجملة وانعدام الكفاءة في سنوات بريچنيڤ.
الأكثر أهمية، مع ذلك، ما كان يحدث خارج موسكو، في الحواضر والمدن في كل أنحاء الاتحاد السوڤييتي. كانت آلاف المجموعات الصغيرة غير الرسمية تنظم نفسها فعلا في أواخر 1987، وكانت تتمحور في كثير من الأحيان حول أفراد مسجونين أو وقعوا ضحايا بتهمة "الانشقاق" في الستينيات والسبعينيات. وسوف تحرّض هذه المجموعات حول قضايا محلية -التلوث من مصنع محلي، المخاطر المتوقعة من محطة طاقة نووية، فساد مفوّض سياسي محلي، التمييز ضد لغة محلية، مصير أشخاص محليين خلال سنوات ستالين. وفي بعض المناسبات جذبت هذه الجماعات مئات أو حتى آلاف الأشخاص إلى الشوارع وأجبرت الصحافة المحلية على الاعتراف بوجودها.
وفجأة قدمت المجادلات التي دارت في سياق الإعداد للكونفرنس الحزبي الخاص فرصة لهذه الجماعات للنشاط الجماهيري الحقيقي عندما أعطت أقسام من الجهاز الضوء الأخضر لشن حملة ضدّ تعيين شخصيات فاسدة أو غير شعبية بوجه خاص كنواب. وفجأة أمكن لتلك المجموعات الصغيرة التي استغلت هذه الثغرة أن تجد نفسها تقود مظاهرات احتجاج تصل قوتها إلى آلاف. وكما لاحظ المعارض اليساري كاجارليتسكى[189] "اجتاحت البلاد موجة من المظاهرات". وفي كل مكان تقريبا بدأ المحتجّون في طرح أسئلة تجاوزت مسألة شخص المندوب. وعلى سبيل المثال، في اجتماع ضم 5000 شخص في ياروسلاڤ،
بدا أن تيار الخُطب التي تُلْقَي في الاجتماع الجماهيري الحاشد بلا نهاية. كان الناس يتحدثون ليس فقط عن الإجراءات الانتخابية للكونفرنس الحزبي، بل أيضا عن الإمدادات الهزيلة في المدينة، وحول العجز الحاد في المستشفيات والإسكان، وحول حالات انتهاك مبادئ الإنصاف الاجتماعي. كما عُرضت على الملأ مظالم شخصية. وأخذت كومة طلبات الإذن بالكلام تعلو وتعلو[190].
وعندما قالت قيادة الحزب للكونفرنس أنه ينبغي أن تكون هناك "آلية دائمة لمقارنة الآراء للنقد والنقد الذاتي في الحزب والمجتمع" سارعت إلى إضافة أن "المناقشات... لا ينبغي أن تقود إلى مواجهة سياسية، إلى شقاق بين القوى الاجتماعية"[191]. لكن المواجهة كانت قائمة فعلا  فبالإضافة إلى انفجار السخط بين القوميات غير الروسية كان هناك اندفاع متواصل إلى الاحتجاجات في طول البلاد وعرضها. كما وقع هنا وهناك قليل من الإضرابات غير المعلنة عادة، والقصيرة للغاية عادة، حول الأجور وشروط العمل.
وفي غياب يد حازمة من المركز تسيطر على الجميع تماما، أحسّ البيروقراطيون الذين يديرون المشروعات والحكومة المحلية بأن السبيل الوحيد للاحتفاظ بسيطرتهم على أولئك الذين تحتهم هو التسليم ببعض هذه الضغوط على الأقل. قُطعت الوعود بمنح حقوق قومية أوسع، وبإغلاق المصانع الأكثر تلويثا، وبرفع الإنفاق على الأجور، والإسكان، والتعليم، والصحة.
وهكذا ففي حين فشل الإصلاح في رفع ناتج الاقتصاد، ارتفع فجأة مقدار إنفاق الحكومات والمشروعات. وفي 1988 ارتفعت الدخول بحوالي 8.5 في المائة، والناتج الصناعي ﺒ 3.5 في المائة فقط. وتم إبلاغ اجتماع لمجلس الوزراء في أوائل 1989 بما يلي:
على مدى ثلاث سنوات من ميزانية الخطة تجاوز الإنفاق الدخل ﺒ 184000 مليون روبل. بلغ عرض النقود أبعادا حرجة، فتضاعف حجمه بالمقارنة مع السنة السابقة، وتجاوز بأربعة أضعاف الرقم الوسطي للخطة الخمسية الحادية عشرة... وكان هناك ارتفاع في عجز ميزان المدفوعات...[192].
أحدث مثل هذا الاحتداد المفاجئ للأزمة الاقتصادية تشوشا بين صفوف أولئك الملتزمين بالإصلاح. فمن جهة، هناك ضغط من جانب البيروقراطيين الكثيرين جدا من ذوي العقلية المحافظة في الحكومة والصناعة من أجل إعادة العمل بالأساليب القديمة للرقابة الممركزة، باستخدام البلطجة من أعلى لجعل المديرين في كل مشروع ينتجون المدخلات التي يطلبها المديرون في مشروعات أخرى. وقامت قيادة الحزب بتحوّل محدود في هذا الاتجاه عن طريق فرض ضوابط سعرية جديدة على سلع كثيرة وحظر تصدير سلع استهلاكية بعينها.
من جهة أخرى، كان هناك ضغط من أجل مزيد من الإصلاح من جانب الاقتصاديين الذين زعموا أن منافسة أكثر بين المشروعات ثم منافسة مباشرة، في نهاية المطاف، بين الشركات داخل روسيا وتلك التي في أماكن أخرى في الاقتصاد العالمي يمكنهما وحدهما إجبار المديرين على أن يكونوا أكفأ وعلى أن ينتجوا الأشياء المطلوبة.
لم تعرف القيادة في أيّ اتجاه تسير، لأنها استطاعت أن ترى مشكلات هائلة في كلّ من المقاربتين. كانت تعرف أن نظام البلطجة الممركزة أدَّى من قبل إلى وضع "ما قبل-الأزمة". لكنها كانت تعرف أيضا أن القيام بانعطاف جذري في اتجاه السوق يمكنه أن يدمّر أقساما بأكملها من الصناعة. وحتى سياسة "السوق" المحدود أكثر والمتمثلة في السماح لكل الأسعار بالارتفاع واجهت عقبة هائلة: أدت ارتفاعات أسعار كهذه في پولندا في 1970، و1976، و1980، إلى ثورات عمالية ضخمة. وكما عبر مستشار جورباتشوڤ، أجابيچيان، في أوائل 1989: "إصلاح أسعار القطّاعي... ضروري" لكن بسبب "النتائج الاجتماعية" ينبغي تأجيله لمدة ثلاث أو أربع سنوات.
لم يؤد إبدال البيروقراطيين القدماء، وغير الأكفاء، والفاسدين، حتى إلى تغيّر جوهري في أداء البيروقراطية ككل. وكما اشتكى جورباتشوڤ ذاته:
حوالي 66 في المائة من وزرائنا، و61 في المائة من السكرتيرين الأوائل للجان الحزببية في المناطق الإدارية ومن رؤساء اللجان التنفيذية السوڤييتية في المناطق الإدارية، و63 في المائة من السكرتيرين الأوائل للجان الحزبية في المدن والأقاليم أشخاص جدد... لكن الماضي ترك أثره عليهم... فاهتمامهم الأول ينصبّ على خط تليفون حكومي مباشر، ومبان جيدة، وسيارة وهلمجرا... ويسعى كثير من الناس وراء مصالحهم الذاتية الأنانية الخاصة، لكنهم يريدون تنميتها متخفّين في القناع الملائم المتمثل في الاهتمام بالشعب والاشتراكية[193].
بعد ذلك بثمانية عشر شهرا لم يكن شيء قد تغيّر. فأولئك الذين عيّنهم جورباتشوڤ بنفسه تصدّوا له وانتقدوه في اجتماعات اللجنة المركزية لأنه لم يوفر "الاستقرار". ومن أجل وقف الانهيار الاقتصادي، أدخل ريچكوڤ Ryzhkov تدابير طوارئ للسنتين التاليتين الأمر الذي منح المركز سيطرة ضخمة على الخطط الاستثمارية للمشروعات، وسلطات التسعير، والتجارة الخارجية. وسرعان ما اتهّمه الاقتصاديون المؤيدون للسوق بالعودة إلى الأساليب "الرأسية" و"الأوامرية" في الإدارة الاقتصادية[194].


16
التفتت الداخلى
 
عندما تفقد العناصر التي تكوّن أيّ آلة بيروقراطية كبيرة ثقتها بزعمائها فإنها تستدير لتهاجم بعضها. وعندما تفعل هذه العناصر ذلك فإن أولئك الذين سيطرت عليهم في الماضي يبدأون، بما يعدّ في بداية الأمر طريقة مشوّشة ومرتبكة، في الإلحاح في المطالبة بحقوقهم. ظلّ هذا يحدث في الاتحاد السوڤييتي على مدى السنتين الأخيرتين. والواقع أن أقوى عَرَض من أعراض فقدان الثقة بجورباتشوڤ هو النزوع إلى التفتّت الداخلي للاتحاد السوڤييتي -المسألة القومية.
إنها مسألة نجد اليسار مشوشا بشأنها عالميا في أكثر الأحيان بصورة تدعو إلى اليأس. على سبيل المثال، أكد إيريك هوبسباوم أن "كافة الأجزاء الأخرى من الإمپراطورية الروسية أفضل حالا بوجه عام من روسيا ذاتها" وأن النزعة القومية لدى شعوب كالأرمن "لاعقلانية بكل معنى الكلمة"[195].
ويعني هذا تجاهل الطريقة التي واصل بها ستالين بصورة منهجية سياسة ترويسٍ للشعوب غير الروسية كجزء من عملية تعزيز قبضة البيروقراطية المركزية، الناطقة بالروسية. وقد طهّر ستالين قوميات الأقليات من مواقع السلطة، إلى حد أنه في أواخر الثلاثينيات كان 17 فقط من 1310 موظف في القوقاز الشمالي من المواطنين المحليين[196]. وصفَّى ستالين جسديا مثقفي هذه القوميات وقام بتهجير أمم بأكملها آلاف الأميال. وكان خروشوڤ أقل وحشية[197]، لكنه فصل كثيرا من القادة الحزبيين المحليين بتهمة "النزعة القومية البرچوازية الصغيرة"[198]. وفي ظل بريچنيف سُمح لقادة بعض الجمهوريات بأن يلعبوا على سمات ثقافية بعينها للقومية المسيطرة محليا لكنْ دون مناقشة للسيطرة الشاملة على الاتحاد السوڤييتي من جانب البيروقراطيين الروس، والتي يعبر عنها محليا وجود السكرتيرين الحزبيين الثانين الذين كانوا دائما تقريبا من الروس. أما حق استخدام اللغات غير الروسية فقد داسوه بالأقدام منذ أواخر العشرينيات فصاعدا، ولا شك في أن التسامح إزاء لغات الأقليات في ظلّ بريچنيف لم يُرجع هذه اللغات إلى المساواة مع اللغة الروسية: أعلن أغلبية سكان العاصمة الأوكرانية، كييف، أن لغتهم القومية هي اللغة الأوكرانية، ومع ذلك لم يكن يدّرس بها سوى خُمْس المدارس؛ وفي قيرغيزيا ليست هناك روضة أطفال واحدة تستخدم اللغة المحلية في المناطق الحضرية؛ وفي مولداڤيا تم إجبار الناس على أن يكتبوا ويقرأوا اللغة مستخدمين حروف الهجاء الروسية، وليس حروف الهجاء الرومانية التي كانت سائدة حتى أواخر الثلاثينيات والتي كانت لا تزال مستخدمة لنفس اللغة في رومانيا المجاورة.
لكن النزعة القومية فعلت أكثر من مجرد توفير وسيلة للناس للاحتجاج على الاضطهاد القومي. لقد أدت أيضا إلى تعميق مشاعرهم بالاغتراب عن أولئك الذين كانوا يديرون الدولة المركزية والمشروعات العملاقة. والواقع أن مؤسسات عموم الاتحاد والتي تهيمن على البلاد تتكوّن بأغلبيتها الساحقة من روس، أو -إلى مدى أقل- من بقية السلاڤيين. فعضوان فقط من أعضاء المكتب السياسي من غير الروس. ويؤلّف الروس أقلّ قليلا من نصف السكان لكنهم يشكلون 59.7 في المائة من عضوية الحزب التي تبلغ 18 مليونا  أما غير الروس الذين يريدون أن يحققوا نجاحا لأنفسهم فإن عليهم أن يفعلوا ذلك عن طريق التكيّف مع القومية المسيطرة وقبول ما هو، في نظرهم، لغة أجنبية.
علاوة على ذلك فإن الأوضاع أسوأ في المتوسط في معظم الجمهوريات -لكن ليس في البلطيق- منها في روسيا نفسها. وفي السبعينيات كانت مستويات المعيشة تمثل 76 في المائة فقط من متوسط الاتحاد السوڤييتي ككل في آذربيچان، 76 في المائة في أوزبكستان، و91 في المائة في كازاخستان[199]. ورغم أن معدل وفيات الأطفال كان أدنى في لاتڤيا مما في جمهورية روسيا، فقد كان أعلى 80 في المائة في آذربيچان و40 في المائة في أرمينيا. وكان المعدل أعلى بنسبة الضعف في تبليسي، عاصمة چورچيا، مما في لينينجراد[200].
في ظلّ مثل هذه الظروف، من السهل جدا أن ينظر الناس إلى المشكلات الاجتماعية وكأنها ناتجة عن التمييز القومي. والأهم من ذلك أن وجود مؤسسات "إثنية" على مستوى الجمهورية يقدّم مركزا سهلا للتحريض: ربما استطاعت مظاهرة محلية أن تكيّف للضغط مجلس سوڤييت في جمهورية محلية أو لجنة مركزية للشروع في العمل بطريقة لم تكن ممكنة مع السلطة المركزية في موسكو.
  والواقع أن مجئ المظالم القومية والاجتماعية معا هو الذي أدَّى على وجه الدقة إلى التعبير الأشد مرارة عن النزعة القومية في أرمينيا وآذربيچان. وفيما يتعلق بالأوضاع في كاراباخ، وفي آذربيچان ككل، وفي أرمينيا فإنها كلها أسوأ إلى حد كبير من المتوسط الخاص بالاتحاد السوڤييتي ككل. وفي يوليو 1988:
روت إزڤستيا أن احتجاجات كاراباخ بدأت كاحتجاجات ضدّ سوء الإدارة الكارثي والأوضاع الاقتصادية البائسة. ولم تتخذ وجهة قومية إلا فيما بعد...
وقالت الصحيفة إن اللحم والزبد تم توزيعهما بالحصص لفترة طويلة، وذلك رغم أن كاراباخ إقليم زراعي. ونصف الأُسر الفلاحية لا تملك أيّ أبقار، وثلثها لا تملك أيّ حيوانات على الإطلاق... ولا يملك الناس في ستيپاناكيرت مياها جارية إلا لمدة ساعة واحدة في اليوم، بسبب الإمدادات غير الكافية...[201].
ووصف تقرير أنباء موسكو الأوضاع المعيشية لأولئك الذين اشتركوا في أعمال الشغب المعادية للأرمن في سومجايت في فبراير 1988. كانوا يعيشون إما في بيوت شباب أشبه بالثكنات أو على طريقة العالم الثالث في مدن الأكواخ.
كان هناك 55 بيتا من بيوت الشباب في مدينة واحدة صغيرة. وكانوا هم المحظوظين، لأن الآخرين كان عليهم أن يقنعوا بمدن الأكواخ المصنوعة من ألواح الصفيح القديم، وأصداف [حيوان] الكوكل، وكتل الأسمنت المسلح التي فيها عيوب، بجوار مصانع تقذف الدخان، والسناج، والرماد... ولولا الغسيل المنشور على الحبال وهوائيات التليڤزيون البارزة من الأرض ما كان بإمكاننا مطلقا أن نخمّن أن أناسا يعيشون هناك...
أشارت صحيفة في باكو إلى أن هناك 250000 شخص في آذربيچان ككل "غير منخرطين في عمل نافع اجتماعيا" [أيْ أنهم عاطلون][202]. ونقل راديو باكو عن كونفرنس حزب رسمي حول التمييز ضدّ اللغة الآذيرية لصالح الروسية ما يلي:
ظلت مشكلات كثيرة في حقل اللغة، والتاريخ، والثقافة، والحياة الروحية للشعب، مهملةً لفترة طويلة من الزمن... وكان هناك نقد قاس لبعض المزارع والهيئات السوڤييتية التي تقلّص بصورة مفتعلة مجال استعمال اللغة الآذيرية. والواقع أن إعداد الأوراق الرسمية باللغة الآذيرية وتنظيم مراسلات الأعمال مهملان... كما أن أكاديمية العلوم، وفروعها، والنقابات الإبداعية، ووزارات التعليم والثقافة، ومجالس الإدارة الرئيسية وأقسام الخدمات، تُبدي إهمالا في تطبيق معايير عملية...[203].
لم تكن الاحتجاجات الأولى في أرمينيا في 1987 تخصّ كاراباخ بل كانت ضدّ التلوث المروِّع في يريڤان والذي يُحدثه مصنعان كيماويان ويتسرّب من محطة طاقة نووية مجاورة. وفي أرمينيا ككل، أُبلغ اجتماع للحزب الحاكم أن "استهلاك الفرد من اللحم ومنتجات اللحم أقل بنسبة 24 في المائة من متوسّط الاتحاد واستهلاك كافة منتجات الألبان يبلغ في مجموعه 50 في المائة من المعدّل الغذائي المنصوح به"، وأن مساكن أقل ﺒ 12000 عن تلك اللازمة كانت تُبْنَى كل سنة، وأن إنتاج السلع الاستهلاكية كان أقل من أهداف الخطة بما قيمته 80 مليون روبل[204]. وتكشّفت حقيقة مواصفات البناء في الجمهورية بالطريقة الأشد ترويعا من خلال الدمار الذي أحدثه الزلزال في ديسمبر 1988.
وأفضل تعليق على الأوضاع في هاتين الجمهوريتين يتمثل في الأرقام الخاصة بالبطالة. كشفت الپرافدا أن أحدث الأرقام (عن 1986!) تبيّن أن نسبة العاطلين بلغت 27.6 في المائة في آذربيچان و18 في المائة في أرمينيا -وكان ذلك قبل أن يؤدي "الانتقال إلى الاستقلال المالي" إلى أن يفقد ثلاثة ملايين شخص في الاتحاد السوڤييتي ككل أعمالهم[205]. وبوجه الإجمال هناك ستة ملايين من الشبان بدون أعمال في جمهوريات آسيا الوسطى وكازاخستان[206].
ولا يكاد يدهشنا أن الحركات القومية ازدادت اتساعا وجذرية عندما فقد الناس في الأقاليم الأكثر فقرا أيّ أوهام بأن الپيريسترويكا يمكن أن تحسّن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. أما في الجمهوريات الأكثر غنًى فكلما بدت مشكلات الاتحاد السوڤييتي ككل صعبة العلاج، بدا الانفصال، أو الاستقلال الاقتصادي على الأقل، أشبه بطوق نجاة للإفلات من السفينة الغارقة.
لكن النزعة القومية لم تكن مجرّد تعبير عفوي عن السخط الشعبي. لقد قدّمت أيضا للأقسام المحلية من البيروقراطية الحاكمة سبيلا إلى محاولة حرْف النقد بعيدا عن أنفسهم، نحو جماعات إثنية أخرى. وفي فترة مذبحة سومجايت في أوائل 1988، أشارت تقارير في الصحافة الروسية إلى أن قادة حزبيين محلّيين وقيادات شرطة قد شجعوا أشخاصا عن عمد على الاعتداء على السكان الأرمن في المدينة؛ وفي بداية 1990 استشهدت صحف غربية بزعماء الجبهة الشعبية الآذربيچانية حيث يزعمون أن موظفي الحزب المحليين، وليس هؤلاء الزعماء، هم الذين كانوا يحرضون على الهجوم على الأرمن -وهو زعم قبله اليسار الراديكالي في موسكو[207]. وفي جمهورية تضاعفت فيها مشكلة البطالة ومشكلة أوضاع الإسكان المروّعة بوصول 200000 لاجئ، لم يكن بإمكانهم أن يجدوا لا المنازل ولا الأعمال، كان من السهل تماما توجيه الغضب ضدّ عشرات الآلاف من العمال الأرمن وبعيدا عن امتيازات البيروقراطية المحلية.
كان ستالين قد وطّد سلطته بسياسة فرّقْ تَسُدْ التي سمحت للقومية السائدة في كل جمهورية باضطهاد قوميات الأقليات في الوقت الذي تعاني فيه هذه القومية السائدة ذاتها على أيدي البيروقراطية المركزية الناطقة بالروسية. والآن يتخذ استيقاظ الأقليات المضطهدة (بفتح الهاء) بسهولة صورة توجيه هذه الأقليات مشاعر استيائها ضد بعضها، كما حدث عندما قاتل القوميون الچورچيون لقمع الأبخازيّين في الوقت الذي كانوا يحتجون ضدّ اضطهاد موسكو لهم، أو عندما شنّ الأوزبك مذابح ضد المسكيتيين الذين كان ستالين قد هجّرهم إلى أوزبكستان.
ولم يحدث في آذربيچان فقد أن سعت أقسام من الجهاز الحزبي المحلي إلى استغلال هذه الخصومات. لقد قدّمت مسألة اللغة بوجه خاص إمكانية للقيام بذلك. فقد أمكن لتلك الأقسام من البيروقراطية والناطقة باللغة المحلية أن تتبنَّى القضية، وأن تحصل على التأييد الشعبي بمحاربة شكل حقيقي جدا من الاضطهاد، وأن تحوّله بعد ذلك إلى سلاح لتعزيز نجاحاتها على حساب أولئك الذين لا ينطقون باللغة المحلية، سواء أكانوا ناطقين بالروسية أو بغيرها من لغات الأقليات المحلية. وكان بإمكان هذا بدوره أن يعود بالفائدة على البيروقراطيين الناطقين بالروسية. وكانت هناك أقليات ناطقة بالروسية في كل الجمهوريات تقريبا -ورغم أن هذه الأقليات كانت تشتمل على رجال أجهزة حزبية ومديري مشروعات متميزين للغاية وكان بوسعهم أن يستبدوا بأولئك الذين تحتهم والذيت كانت تشتمل على رجال أجهزة حزبية ومديري مشروعات متميزين للغاية وكان بوسعهرها من لغات الأقليات ان ينطقون باللغة المحلية، فقد كانت تشتمل أيضا على كثير من العمال الناطقين بالروسية والذين يتولون عددا من أكثر الأعمال بؤسا في الصناعة الثقيلة.
والواقع أن قدرة البيروقراطيات المحلية على استغلال النزعة القومية لأهدافها الخاصة قد أدت ببعض الأشخاص اليساريين إلى أن ينظروا إلى ذلك بوصفه العامل الفعّال الرئيسى[208]. ويمكن أن تكون النتيجة النهائية لحجة كهذه معارضة حق قوميات الأقليات في تقرير المصير على أساس أنه "إذا حدث أن تفتّت الاتحاد السوڤييتي إلى قومياته المكونة فإن ذلك سيخلق وضعا أسوأ بكثير من الوضع القائم حاليا .. وسيطلق العنان لعملية بلقنة وسيشوّش النضال الطبقي"[209]، أو على أساس أن المحصلة الوحيدة يمكن أن تكون حمّام دم لا نهاية له[210].
هذه الحجة مقلوبة تماما رأسا على عقب. فالبيروقراطيون المحليون يمكنهم أن يستغلوا مشاعر الحرمان القومي لأن هذه المشاعر موجودة. ولم يكن حكام الجمهوريات المحلية هم الذين بدأوا الحركات القومية في دول البلطيق. وكما سبق أن رأينا، كان على جورباتشوڤ أن يُبدّل الحكام القدامى الذين لم يكونوا ليقدموا تنازلات إلى الحركات القومية التي كانت مزدهرة فعلا آنذاك! وفي بيلوروسيا، أو أوكرانيا الغربية، أو أرمينيا، أو مولداڤيا، أو قيرغيزيا، أو چورچيا، لم ينضم البيروقراطيون إلى هذه الحركات إلا بعد أن انطلقت فعلا. وصحيح أنهم حالما انضموا إليها حاولوا توجيهها بعيدا عن الخيار المتصلّب المتمثل في المواجهة مع الكرملين نحو الخيار المعتدل المتمثل في إزعاج قوميات الأقليات المحلية.
والواقع أن المسؤولية عن خطر إراقة الدماء فيما بين الطوائف يجب إلقاؤها على أولئك الذين شجعت أعمالهم طوال 60 سنة على الخصومات القومية -البيروقراطية المركزية، وبصفة رئيسية الناطقة بالروسية. وإذا كان الأرمينيون والآذربيچانيون قد هاجموا بعضهم فذلك لأن البيروقراطية الحاكمة لم تكن لتمنح أيًّا من الجماعتين الاثنيتيْن الحقوق القومية الكاملة (بما في ذلك حق آذربيچان في الانفصال عن الاتحاد السوڤييتي وحق ناجورنو كاراباخ في الانفصال عن آذربيچان) ولم يكن بإمكانها حلّ واحدة وحيدة من المشكلات الاجتماعية الملحة التي تنغّص على الناس حياتهم.
شيء واحد في سلوك جورباتشوڤ ظلّ ثابتا بعناد عبر كل انعطافاته وتقلباته فرغم كل حديثه عن "المقرطة" نظر إلى محاولة إحباط تطور حركة انفصالية في منطقة باكو الهامة صناعيا على أنها أهم شيء منفرد، معتقدا أن الجغرافيا ستمنع دائما تحوُّل الحديث الانفصالي بين الأرمن الغاضبين إلى عمل. وهذا يفسّر لماذا كان قمعه موجَّها لوقت طويل ضدّ المطالب الديمقراطية للغالبية في كاراباخ. وهو يفسر أيضا لماذا وجّه مرة أخرى قمعه الدموي إلى الآذربيچانيين في اللحظة التي تطورت حركة انفصالية حقيقية بينهم. كانت المراكز الحدودية مع إيران أهم لبيروقراطية عموم روسيا من أيّ حديث عن الديمقراطية أو الحقوق القومية. ولن تكون هناك حكومة يختار شعب قوميات الأقليات بحرية أن يعيش في ظلها، قبل أن تكون هناك في الاتحاد السوڤييتي حكومة مستعدة لأن تترك الناس يهدمون مثل هذه المراكز الحدودية إذا شاءوا -وستكون هناك حاجة إلى ثورة اجتماعية لتحقيق ذلك.


17
لماذا تتجه الپيريسترويكا إلى الفشل
 
ليست إخفاقات جورباتشوڤ نتاجا لنواقص شخصية. لقد كانت ماثلة منذ البداية في صميم المهمة التي حدّدها لنفسه.
من الناحية السياسية، ارتكزت الپيريسترويكا على تناقض. كان لا بد من إعادة تنظيم جذرية لأضخم بيروقراطية في العالم، ولم يكن من الممكن أن يحدث ذلك دون السماح بالضغط عليها من خارج صفوفها. لكن هذه البيروقراطية كان لايزال منتظرا منها أن تفرض مطالب الحكومة المركزية على بقية السكان. ولا يكاد يدهشنا أن جورباتشوڤ قلب رأسا على عقب كلا من صفوف البيروقراطية وصفوف الجماهير التي بدأت تتظاهر، وصورته في أيديها، قبل ذلك بسنتين. كان جورباتشوڤ يحذو حذو نموذج الحكومات الإصلاحية في أوروپا الشرقية في الخمسينيات والستينيات:
فشل الاقتصاد... يؤدي إلى انقسام في الجهاز. قسم يبدأ في المطالبة بإصلاح شامل... وعند نقطة بعينها تستدعي البيروقراطية الإصلاحية شرائح غير بيروقراطية بعينها (المثقفين، الصحفيين، الطلبة) لتساعدها في شلّ الجهاز ولتدعها تستولي على السلطة. لكن هذا يسمح لطبقات غير بيروقراطية (العمال في المقام الأول) بتعبئة نفسها بل يشجعها على ذلك، في البداية خلف أقسام من البيروقراطية الإصلاحية، لكن بصورة متزايدة لمصلحتها الخاصة...
والإصلاحيون... يحاولون ركوب العاصفة. لكنهم لا يمكنهم أن يفعلوا ذلك إلا بإعادة تأكيد البنية الطبقية الأساسية للمجتمع. وهذا يعني تحطيم أيّ مكاسب يكون العمال قد حققوها. وفي البداية تجري تجربة الأسلوب "البارد" المتمثل في الهيمنة الأيديولوچية (مثلا جومولكا بنجاح، وناجي، بدون نجاح كبير في 1956، ودوبتشيك في 1968)؛ وإذا فشل هذا فإن الأسلوب "الساخن" المتمثل في القمع المسلح... يتلوه حينئذ (كادار في 1956، هوساك في 1969)...
وعلى أيّ حال فإن القسم الإصلاحي من الجهاز مجبر على التوصل إلى تفاهم مع أعدائه، الداخليين والخارجيين، ومع أساليبهم إذا كان له أنْ يتفادى التحلّل الكامل على أيدي القوى التي أطلقها بنفسه من عقالها. إنه مجبر على أن يعيد فرض علاقات الإنتاج المتناقضة، رغم التعديل، مع النمو الأكمل للاقتصاد القومى[211].
لكن المشكلات التي تُحيط بجورباتشوڤ -أو أيّ شخص قد يحلّ محلّه- أسوأ من ناحيتين من تلك التي أحاطت بأسلافه الأوروپيين الشرقيين. أولا، كان في متناول هؤلاء سلاح خارجي جبار إذا اختاروا طريق القمع: القوة الضخمة لقوات الاتحاد السوڤييتي المسلحة. وهذا سلاح لايزال موجودا، كما بيّن الانقضاض على باكو في يناير بكلّ قوة. لكن حدّه القاطع تآكل بالهزيمة في أفغانستان وبالجلاسنوست بين بعض صفوف هذه القوات. وليس من المحتمل أن يكون من الممكن استخدام هذا السلاح بصورة فعالة لإعادة فرض النظام في كل أنحاء الاتحاد السوڤييتي إلى أن يهدأ الاضطراب في المجتمع بوجه عام. ولم يحدث ذلك إلى الآن.
ثانيا، لم يكن فشل الإصلاح الاقتصادي مجرّد فشل في التنفيذ. هناك خطأ في صميم فكرة الإصلاح ذاتها. فالهدف هو إعادة بناء الاقتصاد السوڤييتي. بحيث تتوسع أقسامه القادرة على تكييف نفسها مع المستوى العالمي الراهن لقوى الإنتاج في حين تتوقف أقسام أخرى. لكن من المؤكد أن يكون هذا مشروعا مؤلما إلى أقصى حدّ، ليس فقط فيما يتعلق بأولئك العمال الذين يعانون في هذا السياق بل كذلك فيما يتعلق بأغلب الأعضاء الأفراد في البيروقراطية.
وقد اقتضت إعادة بناء الاقتصاد البريطاني بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات إغلاق مصنع من كل ثلاثة مصانع تقريبا وتدمير الرأسمال إلى حد أن إجمالي الاستثمار الصناعي في 1990 لا يزال كما كان في 1972. ومن المشكوك فيه للغاية أن إعادة البناء كانت ستتواصل بسلاسة لو لم يكن لدى الرأسمالية البريطانية تلك الإضافة السعيدة المتمثلة في عائدات پترول بحر الشمال.
واقتصاد الاتحاد السوڤييتي أضخم كثيرا من الاقتصاد البريطاني، وكانت مشروعاته أكثر انعزالا بكثير عن بقية العالم طوال ستين سنة. والنسبة التي سيدمرها انفتاح فوري على المنافسة العالمية أضخم بصورة مماثلة. وكان بمستطاع هذا، بدوره، أن يلحق أضرارا كبيرة بالمشروعات التنافسية الباقية عندما فقدت مورّدين للمواد الخام والسلع الوسيطة كما فقدت مشترين لناتجها. إعادة بناء كهذه، بعيدا عن تقديم مجال "للمشروع ليزدهر" (كما يعبّر أنصار السوق)، يمكن أن تفتح بكل بساطة ثقوبا سوداء في ثاني أكبر اقتصاد في العالم. ومن شأن ذلك أن يغذّي السخط الاجتماعي والقومي على نطاق أوسع كثيرا مما شهدنا إلى الآن -ما لم يكن ذلك مصحوبا بنطاق للقمع أقرب ما كان في عهد ستالين منه إلى ما كان في عهد بريچنيڤ.
لم يكن لدى المصلحين في الاتحاد السوڤييتي أيّ خيار سوى أنْ يحاولوا إدخال آليات السوق الداخلي في حين يحتفظون بالحماية ضد المنافسة الخارجية. لكن ذلك ترك المشروعات السوڤييتية العملاقة في مركز احتكاري أو شبه احتكاري، قادرة على إملاء أوامرها على السوق، وعلى إنتاج ما تريد إنتاجه، وليس ما يحتاج إليه الاقتصاد ككل، وعلى رفع الأسعار. وقد أفضت محاولة الإصلاح بصورة لا يمكن تفاديها إلى التضخم، وإلى عجز يزداد استفحالا، وإلى تقليص إداري للإنتاج.
كتب ماركس ذات مرة قائلا أن البشرية لا تطرح على نفسها إلا مشكلات تستطيع حلّها. لكن ذلك ليس صحيحا فيما يتعلق بالبشر الأفراد أو فيما يتعلق بالطبقات المستغلة (بكسر الغين). فهؤلاء مدفوعون إلى محاولة تحقيق غايات لا يملكون القدرة على بلوغها. كان هذا هو الحال مع جورباتشوڤ ورأسمالية الدولة الروسية. فالطبقة الحاكمة لا يمكنها لا أنْ تتخلَّى عن الإصلاح الاقتصادي ولا أنْ تجعله ينجح. هذا هو السبب في أن الپيريسترويكا تغيّرت من إلهام إلى نكتة في نظر كافة الطبقات داخل الاتحاد السوڤييتي، وهذا هو السبب أيضا في أن البيروقراطية الروسية، بعيدة عن أن تكون قوية، أضعف في الواقع مما كانت خلال عهد "الركود".


18
المراوحة في نفس المكان في أوروپا الشرقية
 
كان من المعتاد أن يُقال في منتصف الخمسينيات أنه عندما تُصاب روسيا بالانفلونزا، تُصاب دول أوروپا الشرقية بمرض الصدر: إصلاح معتدل في الاتحاد السوڤييتي أفسح المجال لثورة مسلّحة في بوداپست. وفي 89-1990 بدا أن الأمور تسير في اتجاه مختلف تماما  فالاضطرابات المريرة في كل أنحاء الاتحاد السوڤييتي، والتي خلّفت مئات القتلى كانت مصحوبة بإصلاح سلمي في پولندا، والمجر، وألمانيا الشرقية، وتشيكوسلوڤاكيا. وحالما نفهم طابع رأسمالية الدولة لهذه المجتمعات، يصبح من الممكن أن نفهم سهولة الانتقال السياسي في كثير من أنحاء أوروپا الشرقية.
كانت الأحزاب الحاكمة في كافة البلدان أحزاب البيروقراطية الإدارية. وكان 6 في المائة فقط من عمال پراغ أعضاء في الحزب في 1970، وبعد ذلك بثلاث سنوات كان عضو حزبي واحد من ثمانية يشتغل بعمل يدوى[212]. وانتهت دراسة سوسيولوچية في أواخر الستينيات إلى القول إن "أعضاء الحزب هم أساسا موظفون أو ينتمون إلى مهن مستقلة"[213].
وحتى حيثما كانت أقسام من الإنتلچنسيا الثقافية المعارضة، فإن ما يسمَّى أحيانا "بالإنتجلنسيا التقنية" التي كانت تدير جهاز الحزب، والدولة، والمشروعات، كانت محافظة بعمق[214]. وكانت نزعتها المحافظة عاملا رئيسيا في السماح للأحزاب الحاكمة القديمة بأن تعيد توطيد سيطرتها بعد صدمة 1956. وكان هذا هو الحال أيضا في تشيكوسلوڤاكيا بعد 1968.
ومع ذلك فطوال تلك الفترة كانت ضرورات التراكم الرأسمالي تدفع أعضاءها الأفراد في مشروعات وحكومات أوروپا الشرقية إلى إقامة صلات أوثق مع الشركات والدول الغربية. وبدأ رجل الأعمال الأوروپي الشرقي الناجح يشبه ويفكر مثل رجل الأعمال الغربي الناجح، حتى إن بقيت الأيديولوچية الرسمية مختلفة. والواقع أن رجال الأعمال، الذين كانوا يديرون المشروعات الضخمة التي كانت تحتل مركزا احتكاريا داخل اقتصادات صغيرة نسبيا، كانوا يقرّرون بصورة متزايدة ما كان يقرّره "المخططون" المركزيون. ويخبرنا وصف للاقتصاد التشيكوسلوڤاكي، اشترك في تأليفه وزير المالية الجديد في البلاد، كيف أنه منذ الخمسينيات فصاعدا:
بدأت شركات احتكارية ضخمة تستخدم سلطتها المكتسبة حديثا لإملاء الخطط على المخططين المركزيين... وطوال أكثر من عقدين من الزمن عرفت تشيكوسلوڤاكيا مجرد "لعب بالتخطيط"[215].
لم يكن رجال الأعمال الأوروپيون الشرقيون شديدي الاهتمام بالأيديولوچية، بشرط أن يديروا مشروعاتهم بنجاح، فيراكموا الرأسمال لحماية امتيازاتهم الخاصة الضخمة للغاية. وكان بوسعهم أن يحملوا بطاقات الحزب لأن عضوية الحزب كانت تساعدهم في النجاح -ولأن الحزب كان يساعدهم في قمع الانشقاق في صفوف القوة العاملة. لكنهم لم يأخذوا المعتقدات الحزبية المعلنة مأخذ الجدّ. وقد روَى المنشق السلوڤاكي السابق، سيميكا، كيف أنه كان من الممكن حتى قبل 1968 العثور داخل الحزب التشيكوسلوڤاكي على "معادين ملتزمين للشيوعية، ومعجبين متحمسين بالمجتمع الاستهلاكي الغربي"[216].
بهذه الطريقة تمّ ببطء إرساس الأساس لتحوُّلٍ مفاجئ في ولاءات الكوادر الرئيسيين في بيروقراطية الحزب الحاكم والحكومة في اللحظة التي دخل فيها المجتمع في أزمة سياسية عميقة. ولم يحدث مطلقا أن اشترك كبار المديرين في المعارضة. ولا توجد، في حدود علمي، حالة واحدة من هذا القبيل في أيّ مكان في أوروپا الشرقية أو الاتحاد السوڤييتي. لم يكن البيروقراطيون هم الذين خرجوا إلى الشوارع. وكان شأنهم دائما أن ينحازوا إلى النظام عندما كان العمال يضربون، كما حدث في پولندا في 80-1981. لكنهم أخذوا بصورة متزايدة ينظرون سرّا إلى الأيديولوچية الستالينية الجديدة الحاكمة على أنها شيء غير ملائم لا ينبغي أن يقدموا له أكثر من ولاء لفظي.
غير أنه كان هناك قسم صغير من الإنتليچنسيا تمثلت وظيفته في أن يهتم بالاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية طويلة الأمد -المستشارون الأكاديميون، الاقتصاديون والسوسيولوچيون، للنظام. وفي الخمسينيات والستينيات كان هؤلاء قد قبلوا نماذج هذا النظام للتنمية الاقتصادية. وفي حين أن الاتجاه العالمي الواسع كان لايزال نحو درجات متباينة من رأسمالية الدولة، كان كافة المستشارين الاقتصاديين ينظرون إلى "التخطيط" وملكية الدولة على أنهما من الأشياء المسلّم بها. أما أولئك الأبعد نظرا فقد رأوا أن البنية القائمة عُرضة لضروب شتي من الأزمات (وبوجه خاص الأزمة المتكررة التي ترجع إلى فيض التراكم ودورة الاستثمار) والفاقد. وتمثّل حلهّم في إصلاح اقتصاد الأوامر، واختيار "شيوعية الإصلاحات"، وعدم الاندفاع في اتجاه رأسمالية غربية كانت بدورها تستخدم بصورة متزايدة لغة "التخطيط".
مع مضيّ الوقت بدأت المواقف تتبدّل. ظهرت مجموعات من الاقتصاديين الذين عبَّروا تعبيرا نظريا عن الاتجاهات الجديدة الناشئة في النظام العالمي. وقد رأوا أن ما يهم طبقة حاكمة ناجحة هو قدرتها على مقايضة المنافسة المتعدّدة الجنسيات برأسمالية الدولة. وانقلبت نظريتهم إلى عبادة للسوق غير المقيد. ومن النموذج الستاليني للمجتمع انتقلوا إلى ما كانوا يسمونه "باشتراكية السوق". وسرعان ما ألحّوا على أن "الاشتراكية" (أيْ رقابة الدولة من أيّ نوع) هي ذاتها عقبة.
لم يكن بمستطاع المستشارين الاقتصادين أن يحسموا كيف ينبغي أن تتصرف الطبقة الحاكمة. لكنهم استطاعوا أن يمدّوها بخيارات من شأنها تمكينها من أن تكون على مستوى التطورات عندما تكون أزمة اقتصادية واجتماعية قد انفجرت فعلا. كان اقتصاديو المؤسسة المجرية جميعا أنصارا متطرفين "لاشتراكية السوق" منذ منتصف الستينيات فصاعدا. ودفعت أزمة أواخر السبعينيات الاقتصاديين الپولنديين، الذين كان من بينهم من قبل أنصار بارزون للتخطيط مثل كاليكي ولانج، في نفس الاتجاه. حتى تشيكوسلوڤاكيا، التي كانت قد قُيّدت بقيود أيديولوچية ثقيلة منذ أحداث 1968، كان تحت تصرفها معهد للتنبؤ تابع لأكاديمية العلوم التشيكوسلوڤاكية لتقديم طريق بديل إلى الأمام من أجل مديري البلاد.
هذا هو السبب في أن الأمر لم يكن بحاجة إلى أكثر من ضغط خارجي ضئيل للغاية لينهار صرح "الشيوعية" الأوروپية الشرقية. أما الأشخاص المسنّون الذين في القمة، الكادارات، الياكيسات*، الهونيكرات، الأشخاص الذين ظلوا طوال حياتهم متفانين في الأساليب القديمة للتراكم والتي تقوم على اقتصادات الأوامر المحصورة قوميا، فقد أبرقوا وأرعدوا حول الخيانة بل داعبتهم أحيانا فكرة أن يأمروا شرطتهم بفتح النار. لكن الهياكل الرئيسية التي تحتهم كان يديرها فعلا أشخاص كانوا قد قبلوا، سرّا على الأقلّ، الإدراك العام الرأسمالي الجديد الذي ينشره الاقتصاديّون. وكان كل ما هو مطلوب احتمال الأزمة الاقتصادية مقترنة بدرجات متباينة من الاحتجاج الجماهيري السلمي حتى تقوم اللجان المركزية المجتمعة على وجه السرعة بفصل الحرس القديم -وحتى تقوم اللقاءات الحزبية الإقليمية والقومية بعد ذلك بفصل أعضاء اللجنة المركزية.
والواقع أن المبادرة الشجاعة والنشطة للطلبة، والمثقفين، والعمال في المقام الأول، والذين خاطروا بالتعرض لانتقام الشرطة بالخروج إلى الشوارع، قد عجّلت بتمرّد سلبي وجبان، لكنْ حاسم، قامت به الطبقة الحاكمة ضدّ حزبها الحاكم القديم. وهذا ما جعل غالبية الشعب يشعرون بأنهم كسبوا كل شيء، وبكل بسهولة. لكن السلطة المركزية للطبقة الحاكمة لم تُمسّ.
والطبقة الحاكمة والحزب الحاكم لا يكونان أبدا شيئا واحدا تماما  فالحزب الحاكم يمثل الطبقة الحاكمة، رابطا أعضاءه معا في انضباط مشترك يساعدهم في تحقيق غاياتهم ضدّ بقية المجتمع. لكن الطبقة يمكنها أن تحتفظ بالمصدر الحقيقي لسلطتها وامتيازاتها، أيْ سيطرتها على وسائل الإنتاج، حتى عندما ينهار الحزب. هذا ما تأكد في ألمانيا، وإيطاليا، والپرتغال، وإسپانيا، بعد سقوط نظمها الفاشية. فقد تحطمت الشبكة الرسمية التي كانت تربط معا قيادات الشرطة، وضباط الجيش، ووزراء الحكومة، ورجال الصناعة. لكن الشبكة غير الرسمية بقيت كما بقي الدافع إلى التراكم وهذا ما منحهم هدفا طبقيا مشتركا ضدّ أولئك الذين تحتهم. ولم يمض وقت طويل حتى كانوا قادرين على بناء أحزاب حاكمة جديدة قادرة على الدفاع عن مصالحها تماما كما كانت الأحزاب القديمة.
وفي أوروپا الشرقية شهدنا طوال الأشهر الستة الماضية الانهيار التراكمي للأحزاب الحاكمة القديمة. لكن رؤساء المشروعات، وموظفي الوزارات، والچنرالات، وحتى معظم قيادات الشرطة، ظلوا في مكانهم، لم تمسّهم التغيرات، وهم يناقشون مسألة أيّ أحزاب جديدة ينبغي مساندتها والسيطرة عليها، محاولين تأمين حصولهم على حكومات جديدة لمواصلة نماذجهم الجديدة للتراكم الرأسمالي.


19
الرأسمالية المتعددة الجنسيات
والمعارضات الأوروپية الشرقية
 
الانتقال السلس من شكل للحكم الرأسمالي إلى شكل آخر لا يتوقف أبدا بصورة كلية على موقف الطبقة الحاكمة. هناك ضغط فقط من أجل هذا الانتقال لأن أزمة أشكال الحكم القديمة تخلق سخطا شعبيا هائلا: علاوة على ذلك يقتضي الانتقال ذاته تمزّق الآليات التي احتفظت بالسخط مكبوحا في الماضي -الأجهزة السياسية والأيديولوچية للطبقة الحاكمة. وكلما كان مستوى التراكم ومستويات القمع المطلوبة لتعزيزه أكبر، تكون هناك إمكانية أكبر لأن تستغل غالبية الشعب هذا التمزُّق لتعبِّر عن المرارة المتراكمة بانفجار ضخم للغضب والعمل يقذف إلى الفوضى بكافة مخططات مُصلحي الطبقة الحاكمة. وهذا هو السبب في أنهم في لحظات حاسمة يأملون في الحصول على مساندة أقسام من نفس المعارضة التي اضطهدوها من قبل. لأن المعارضين وحدهم هم الذين يملكون النفوذ الشعبي اللازم للسيطرة على الجماهير ولتأمين أن يكون الانتقال انتقالا سلسا.
وقد أوضح عضو قياديّ في الحزب الحاكم القديم في پولندا، ليزيك ميلر، إيضاحا لا لبس فيه منطق منح مقاعد حكومية لمنظمة تضامن:
سيكون على حكومة تضامن أن تغلق بعض المؤسسات الكبيرة حيثما تكون منظماتها هي قوية، وسيؤدي هذا إلى احتجاجات حادة من جانب العمال. وقد حاولنا أن نفعل ذلك مرات عديدة، لكننا تركناه جانبا في كل مرة خوفا من ردّ الفعل. وسيكون على مازوڤتسكي أن يكون على مستوى المشكلة.
وقد يغدو الموقف في الاقتصاد أسوأ، فالعناصر المتطرفة ستظهر على السطح، وأعمال الشغب ستبدأ، والبلاد ستصاب بالشلل، والعنف سيكون المخرج الوحيد... ويمكن أن ينشأ موقف قد يطلب فيه مازوڤتسكي من الچنرال ياروزلسكي أن يفرض قانون الطوارئ[217].
ويؤكد المصلح المؤيد للسوق، كليامكين، أن الحكم السلطوي المتواصل لايزال ضروريا لأنه لا توجد أُطُر بديلة قادرة على السيطرة على انفجار من تحت: "ليس لدينا ما يسمَّى بمجتمع مدني، أيْ مجتمع منفصل عن الدولة... ولهذا فلا مكان تُنقل إليه السلطة"[218]. وبكلمات أخرى، ليس كافيا تماما للطبقة الحاكمة أن يخترقها أشخاص ملتزمون بالشكل الجديد للحكم الرأسمالي؛ فالجماهير أيضا ينبغي أن تخترقها أُطرُ معارضة، غير رسمية، ملتزمة بالأهداف ذاتها. إن الأيديولوچية التي غزت طبقة رأسمالية الدولة الحاكمة ينبغي لتزمون بالشكل الجديد للحكم الرأر بديلة قادرة على السيطرة على انرة المترأن تغزو أيضا أولئك الذين ظلّوا ألدّ أعدائها. ومن هنا التغيرات في الأفكار السائدة داخل التجمعات المعارضة في الدول الشرقية بين الستينيات والثمانينيات.
في تمرّدات منتصف الخمسينيات كانت قوى المعارضة بقيادة أشخاص كانوا يتحدثون في إطار نوع ما من نموذج "اشتراكي" للمجتمع بديل عن النموذج الستاليني. وفي الثورة المجرية لم يطالب حتى شخص واحد باستعادة أوضاع ما قبل الحرب أو بمحاكاة لأشكال الملكية الغربية. وكانت تلك القوى التي تجمعت حول حكومة إيمري ناجي Imre Nagy تقف مع طبعة معدَّلة من النظام القائم؛ وكان مقاتلو الشوارع الأكثر راديكالية ومندوبو المجالس العمالية لا يثقون بهذا النموذج. وقد طالبوا برقابة ديمقراطية مباشرة على الدولة والمشروعات. ولم يتحدثوا عن الملكية الخاصة (إلا فيما يتعلق بالأرض، من خلال تقسيم المزارع الجماعية على الكادحين). وفي "أكتوبر" الپولندي في 1956، كان أنصار كل من حكومة جومولكا الجديدة والمعارضة "اليسارية" التي تواجهها، والملتقية حول مطبوعة پو پروستو Po Prostu، يقفون مع "شيوعية يجري إصلاحها". وحتى في تاريخ متأخر مثل 1968 تحدّث الخصوم الأكثر جذرية للستالينية الجديدة في پولندا و"للتطبيع" في تشيكوسلوڤاكيا في إطار اشتراكية حقيقية بالمقارنة مع الاشتراكية الزائفة للنظام الحاكم[219].
وبدا أن البديل الوحيد القابل للحياة لرأسماليات الدولة القائمة مجتمعات يقترن فيها التخطيط وملكية الدولة لوسائل الإنتاج الرئيسية بشكل راديكالي من الديمقراطية. وكانت المجادلات داخل المعارضة تدور حول درجة الديمقراطية الراديكالية، وحول ما إذا كانت المجالس العمالية ينبغي أن تنصح أم أنْ تسيطر، أنْ تعمل إلى جانب الدولة القائمة أم أنْ تسعى إلى أنْ تحلّ محلّها.
وقد تغيَّر هذا خلال السبعينيات. في پولندا عاد كورون Kuron ومودزيليڤسكي Modzelewski، بعد فترتين طويلتين في السجن وفترة خمود مفروض، إلى السياسة المعارضة لكنهما ارتدّا عن مواقفهما الثورية السابقة لصالح ثورة "محدودة"؛ وكتب آدم ميتشنيك دراسة طويلة، اليسار والكنيسة، تحاول الإقناع بالتخلّي عن مجادلات اليسار-اليمين القديمة لصالح برنامج مشترك للدفاع عن الحقوق المدنية[220]. وفي المجر كان وجود "يسار جديد" -وطّد نفسه في التقاليد الماركسية- أمرا رئيسيا لظهور الانشقاق المكشوف من جديد في أوائل السبعينيات، لكن بعد ذلك بسنوات قليلة ابتعد معظهم ابتعادا حاسما عن أيّ منظور اشتراكي ويمكن اليوم أن نجدهم أساسا فيما يبدو في حزب الديمقراطيين الأحرار، الذي ينظر إلى اقتصاد سوق غير مقيدّ على أنه الاقتصاد الوحيد الذي ينسجم مع القيم الديقراطية الليبرالية[221]. وفي تشيكوسلوڤاكيا، استمر اشتراكيون ثوريون أفراد مثل پيتر أُول Peter Uhl في لعب دور بارز في الحركة المعارضة حتى لحظة انهيار حكم الحزب الواحد، لكن التحول في الموقف العام للمعارضة لخصه خير تلخيص ڤاتسلاڤ هاڤيل، الذي يقول إنه كفّ عن النظر إلى "الاشتراكية" على أنها عبارة ذات معنى في منتصف السبعينيات.
وسوف تبرّر المعارضة تحوّلها الأيديولوچي بالإشارة إلى الأهوال الستالينية بوصفها تثبت مخاطر البرامج "الطوباوية"[222] أو الحاجة إلى أخذ حقائق الجغرافيا السياسية (أيْ القوة الروسية) في الاعتبار[223].
لكن لا هذه الحجة ولا تلك تفسّر التغيير حقا  فأهوال الستالينية كانت معروفة جيدا في أوروپا الشرقية منذ منتصف الخمسينيات فصاعدا. أما الحجة الخاصة "بحقائق الجغرافيا السياسية" فقد أفلست مع تآكل قدرة القوات الروسية على التدخل. وكان ما حدث فعلا هو أن قسما ضخما من المعارضة بدأ يتطلع إلى بديل جديد للنظام الاجتماعي القائم، وهو بديل كان من الممكن إقناع أقسام أساسية من الحكام القائمين بقبوله. وكان البديل، بطبيعة الحال، بديلا يمكن فيه لأولئك الذين يديرون المشروعات أن يتنافسوا داخليا وعالميا بدون توسُّط بيروقراطية الحزب والدولة. وكان المقصود -رغم أن أحدا لم يعبر عن ذلك بكل هذه الصراحة- أن أسلوب رأسمالية الدولة الخاص بالبيروقراطية العليا القديمة في التراكم كان عليه أن يفسح المجال لأسلوب السوق المتعدد الجنسيات الجديد.
كان يجري تمهيد السبيل لمقاربة كهذه في الدوائر الفكرية في وارسو. وحتى في أيام 80-1981 المحمومة كان هناك لقاء للعقول في صفوف المعارضين الفكريين الذين كانوا يقدمون المشورة لمنظمة تضامن وأولئك الذين كانوا يقدمونها للحكومة. وقد روت يادڤيجا ستانيزكيس Jadwiga Staniszkis، التي كانت حاضرة في المفاوضات الأولى في جدانسك في أغسطس 1980 بين الجانبين، كيف أن:
الخبراء على الجانبين... كانوا إلى هذا الحد أو ذاك أعضاء في نفس الوسط في وارسو. وكان خبراء الحكومة انتقاديين في الواقع لكنهم كانوا من الناحية الأساسية محترفين موالين للدولة. وكنا انتقاديين بصراحة أكثر، لكننا كنا لا نزال مقبولين داخل إطار ليبرالية [السكرتير العام] چيريك "الديكورية". ولو كان الأمر مجرد مسألة م لكننا كنا لا نزال مقبولين داخل إطار ليبرالية [السكرتير العاُط بيروم، واقف سياسية لكان بمستطاعنا بكل سهولة أن نتبادل الأماكن[224].
مع ازدياد أزمة البلاد سوءا خلال 1981 وافق الزعيم الأقوى نفوذا لمنظمة تضامن، ليخ ڤاونسا، على فكرة التعاون مع "إصلاحات" الحكام القدامى. لكن الشخصيات الرئيسية في الطبقة الحاكمة فهموا أن أعضاء النقابة كانوا أشدّ مرارة وأكثر ثقة بالنفس من أن يتقبلوا أعباء الجانب الاقتصادي لاتّفاق كهذا عليهم. وفي ديسمبر 1981 لجأوا إلى انقلاب عسكري لتحطيم قوة النقابة. لكن الانقلاب عجز عن وضع حد للأزمة الاقتصادية، وبحلول 1987 كانت هناك قوى هامة داخل النظام وداخل المعارضة على السواء تضغط من أجل "ميثاق مناهض للأزمة". على جانب النظام كان التعديل الپراجماتي بعيدا عن رأسمالية الدولة نحو "رأسمالية السوق المتعدّدة الجنسيات" قد مضى بعيدا إلى حدّ أن وزير الصناعة كان مديرا سابقا من البيروقراطية العليا كان قد تحوّل إلى صاحب مشروع خاص ناجح. وعلى جانب تضامن كانت هناك قيادة للنقابة فقدت الثقة في قوة احتمال أن يشرع العمال الذين كانوا ذات يوم أعضاء في النقابة في النضال من جديد، وكانت مستعدة لذلك للنظر بجدية إلى صفقة كهذه ورحّبت كخبراء بالاقتصاديين الذين كانوا يبشرون باقتصاد صار غربي الطابع تماما.
لم يفكر معظم أعضاء المعارضات في الأمور بمثل هذه الطريقة السافرة أو اللامبالية. وبين قرابة 200 من المنشقين المتصلبين في كل بلد، كان معظمهم مدفوعين بكراهية عميقة لنظام الحزب الواحد القمعي وكانوا يريدون، ببساطة، أسهل بديل له. وكان اقتصاد "السوق"، والضغط على رأسمالية البيروقراطية العليا لتحوّل نفسها إلى ملحق للرأسمالية المتعددة الجنسيات يبدوان مبشّريْن بذلك. وكان صحفي غربي، تيموثي جارتون آش Timothy Garton Ash، حاضرا في الاجتماعات التنظيمية اليومية للمنتدى المدني التشيكي في النصف الثاني من نوڤمير 1989. وهو يروي كيف كانت تتخذ القرارات الخاصة بالسياسة الاقتصادية:
معظم أولئك الحاضرين كانوا ينشطون في المعارضة من قبل، وكانت كبرى المجموعات مأخوذة على حدة تتكون من الموقِّعين على ميثاق 77. ومنذ عشرين سنة كانوا صحفيين، أكاديميين، سياسيين، محامين، لكنهم يأتون الآن من أعمالهم كوقادين، أو منظفي شبابيك، أو كتبة، أو -في أفضل الأحوال- ككُتّاب محظورين... وقد أتى قليل منهم من السجن مباشرة... وهم يتراوحون من الناحية السياسية بين التروتسكي المحدث پيتر أُول والكاثوليكي المحافظ بعمق ڤاتسلاڤ بينا Vaclav Bena...
وإلى جانب هؤلاء هناك ممثلون لمجموعات هامة. وهي الطلبة... الممثلون... ثم هناك العمال، الذين يمثلهم أساسا پيتر ميللر Peter Miller، وهو تقني من مجمع سي كي دي الضخم للآلات الثقيلة في براغ... ثم هناك أولئك الذين سمَّيْتُهم بالمتنبئين، أيْ أعضاء معهد التنبؤ التابع لأكاديمية العلوم التشيكوسلوڤاكية...
والمتنبئون اقتصاديون في واقع الأمر. وينبع كهنوتهم الخاصّ من معرفتهم. أو اعتقادهم بمعرفتهم، أو على الأقل دفعهم إلى الاعتقاد بمعرفتهم، ما ينبغي عمله فيما يتعلق بالاقتصاد -وهو موضوع ساخن تماما في عقول الناس الذين في الشوارع، وهو موضوع ليس لدى معظم الفلاسفة، والشعراء، والممثلين، والمؤرخين، المتجمعين هنا فيه سوى خبرة أقلّ قليلا مما لدى العمال العاديين الذين يركبون ترام ڤيسوكاني... ويؤيد الدكتور ڤاتسلاڤ كلاوس Vacklav Klaus، المتعجرف بقدر ما هو واضح، حُلُول ملتون فريدمان Milton Friedman. أما زميله الأكثر تواضعا، الدكتور توماس يتسيك Tomas Jezek، فهو -على العكس- تلميذ لفريدريك فون هايك Friedrich von Hayek...[225]..
ولم يمض وقت طويل قبل أن يقوم أحد الاقتصاديين بما نظر إليه الناس على أنه محاولة للحصول على رئاسة الوزارة في لقاء جماهيري بميدان ڤينسسلاس:
تتلو طالبة رسالة من الطلبة يطلبون فيها من الرئيس أن يستبدل كوماريك Komarek بآداميتش. وهي تقول إن "الدكتور بان دوشنت كوماريك Pan Docent Komarek -الدكتور في العلوم- له برنامج جاهز" -وهكذا يكون من الواضح لكل شخص يقف في الميدان أن المنتدى قد اقترح لتوّه مرشحا كرئيس للوزراء. لكنْ اذهبوا إلى "الفانوس السحري" وستكتشفون أن المنتدى لم يقصد ذلك أبدا[226].
والشيء اللافت للنظر في هذه الواقعة هو أن كل هذا حدث بدون أن يلاحظ أحد أن كوماريك كان عضوا لفترة طويلة في الحزب الحاكم -وهو شيء مستحيل في الواقع في تشيكوسلوڤاكيا ما لم يكن مستعدا لشجب حركة 1968 الإصلاحية وميثاق 77. والواقع أن أيّ شخص آخر بمثل هذه الخلفية كان سيجري استقباله بارتياب هائل من جانب الطلبة، لكن ليس من جانب الاقتصاديين الذين بدا أنهم يقدمون علاجا سحريا للتغلّب على الأزمة الاقتصادية والسياسية. لم يصل كوماريك إلى رئاسة الوزارة -إلى الآن. لكنه أصبح نائبا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، هذا الموقع الذي يقول منه للتشيكيين والسلوڤاكيين إن حلّ مشكلتهم الإسكانية يتمثل في نسخ الأساليب التي تنتهجها ثاتشر في بريطانيا[227].
وعلى نحو مماثل، يشغل مستشارو تضامن من غُلاة دُعاة "السوق الحر" الوزارات الاقتصادية في وارسو، ويتلقّون المشورة من الاقتصادي الأمريكي چيفري زاكس Jeffery Sachs -ويتركون لكورون ذي الميول الاشتراكية الديمقراطية وزارة العمل، التي يحاول منها أن يوقف المقاومة العمالية لنتائج مثل هذه السياسات.
في ألمانيا الشرقية كان أغلب أولئك الذين خاطروا في المظاهرات الأولى في أكتوبر 1989 قليلي الثقة إلى أبعد حدّ بالغرب. لكنهم كانوا يسلّمون بأنه لابد من اتخاذ خطوة في اتجاه اقتصاد السوق. وكان هذا يصدق بوضوح، حتى على يسار الحركة – "يقول معظم الناس في اليسار المتحد إننا نحتاج إلى درجة من السوق وإلى رأسماليين أجانب. وتيار السوق الاشتراكية قويّ جدا"[228]. وقد وضعتهم أفكارهم في موقف أضعف جدا من أن يقارعوا الحجة بالحجة عندما قال اشتراكيون ديمقراطيون من ألمانيا الغربية، وأعضاء في أحزاب الجبهة القديمة، ورؤساء مشروعات ألمانية شرقية، جميعا، للعمال أن الاندماج في الدولة الألمانية الغربية سيقدّم حلولا سحرية لمشكلات الجميع.


20
احتمالات للتسعينيات
 
يعمّ ابتهاج غامر كلّما حقّقت حركة جماهيرية معارضة أهدافها الأوّليّة. وكلما كان سفك الدماء الذي يقتضيه الانتصار أقلّ، كان الابتهاج أعظم. هكذا كان الأمر في پاريس في 1930 وفبراير 1848، وفي پتروجراد في فبراير 1917، وفي برلين في نوڤمبر 1918، وفي لشبونة في أبريل 1974. وهكذا كان الأمر أيضا في عواصم أوروپا الشرقية في 1989.
ونادرا ما يدوم الابتهاج. فسهولة الانتصار هي ثمرة توافق مؤقت في الأهداف بين كتلة الطبقات المستغلة (بفتح الغين) وقسم من الطبقة المستغلة (بكسر الغين). وقد منع أنصار الإصلاح داخل النظام القديم الجنود من فتح النار في لحظة حاسمة فأمّنوا بذلك التغيير بدون إراقة الدماء. لكن الإصلاح الذي يريدونه يسلّم باستمرار لأساليب الاستغلال القديمة، في حين تريد غالبية الناس، كحدّ أدنى، تحسينا لتلك الأساليب. ويفسح الابتهاج العام في الأيام الثورية الأولى المجال للجدال المرير والتحرّر العميق من الأوهام.
والمرارة والتحرر من الأوهام يكونان أعمق ما يكونان، في بداية الأمر، بين أولئك الذين أقدموا على أعظم المخاطرات في معارضة النظام القديم. وهم يكتشفون أن أولئك الذين كانوا آخر من قفزوا في عربة الثورة قد أمسكوا بعجلة قيادتها، في حين يجري دفعهم هم إلى هوامش الحياة السياسية. وفي پولندا نجد المستشارين الفكريين لتضامن هم الذين يؤثّرون في الحكومة، وليس العمال الذين خاطروا بأحكام السجن الطويل وهم ينشرون إضرابات 1988. وفي ألمانيا الشرقية يقوم بالتوجيه السياسي أولئك الذين حققوا نجاحات أكيدة في أحزاب الجبهة في ظل النظام القديم أو أولئك الذين كانوا تكنوقراطا أرسلهم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني الغربي عبر الحدود، وليس المناضلون القدامى المنتمون إلى المنتدى الجديد أو اليسار المتحد. وفي تشيكوسلوڤاكيا يدير الوزارات الاقتصاديون الذين لم يتركوا الحزب الحاكم إلى أنْ حُسمت المعركة، وليس الطلبة الذين كانوا يُضربون بهراوات الشرطة في الشوارع. وفي رومانيا نجد الچنرالات ورجال الجهاز الحزبي السابقين والذين لم ينضموا إلى الثورة إلا بعد أن هرب شاوشيسكو يهدّدون الآن بالأحكام بالسجن لأولئك الذين يشتركون في مظاهرات غير مصرّح بها.
من السهل تماما في وضع كهذا أن يشعر المناضلون القدامى المعارضون بأنه قد خانهم ليس فقط القادمون متأخرين إلى الثورة، بل غالبية الناس. وأنت تسمع الآن مناضلين پولنديين وألمانا شرقيين يتحسّرون على ما ينظرون إليه على أنه الفرصة الكبرى المفقودة لتحقيق ثورة حقيقية، وكأنّ فترة الاضطراب الاجتماعي والسياسي قد وصلت إلى نهايتها. مثل هذه المشاعر يمكن أن تقود إلى اتجاهيْن لا طائل تحتهما على حد سواء، نحو انسحاب منهار المعنويات من النشاط أو نحو محاولات بطولية للانقضاض على النظام الجديد بأعمال ليس لها دعم جماهيري.
ما يُنْسَى، في كل من الحالتين، هو أن الطبقة الحاكمة لا تزال تواجه مشكلات ضخمة خاصة بها. ولهذه الطبقة حكومات تنكبّ على تحقيق الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعدّدة الجنسيات، لكن مثل هذا الانتقال بعيد عن أن يكون سهلا. ومن الأرجح أن تكون فترة الانتقال حافلة بالمواجهات الاقتصادية والاجتماعية المتكررة، رغم أن جدية هذه المواجهات ستتباين من بلد إلى آخر.
هناك مشكلات اقتصادية لا بد من مواجهتها مماثلة لتلك التي أحاطت بإصلاحات جورباتشوڤ الاقتصادية في الاتحاد السوڤييتي. فهناك قطاعات صناعية كثيرة في كل بلد من بلدان أوروپا الشرقية لا يمكنها ببساطة أنْ تبقى بعد انفتاح كامل على السوق العالمي. وليس من المؤكد بحال من الأحوال أن تلك القطاعات التي تزدهر فعلا في الظروف الجديدة ستكون قادرة على أن تنمو بسرعة كافية لملء الفجوات في الاقتصاد القومي والتي خلقها انهيار القطاعات الأخرى.
ويتطلع الاقتصاديون في الحكومات الجديدة إلى الاستثمار الغربي لمساعدتها. لكن هذا الاستثمار ظلّ، إلى الآن، ضئيل الحجم للآخر من قفزوا في عربة الثورة قد أمسكوا بعجلة قيادتها، في حين يجرى دفعهم هم إلى ضة النظام القديم.غاية، رغم الدعاية الكبيرة التي أحيطت بها وعود الجماعة الأوروپية ورئيس الوزراء الياپاني. وكما لاحظت فاينانشال تايمز مؤخرا:
يحذّر رجال الأعمال الغربيون من افتراض أوروپي شرقي بأن المال سيتدفق على هذه البلدان بمجرد فتح الباب. ورغم مستويات الأجور التي تمثّل ثُلث تلك السائدة في الغرب أو أقلّ، لايزال على بلدان الكتلة الشرقية أن تتنافس مع أجزاء أخرى من العالم على الاستثمار. ووفقا لمسؤول كبير لإحدى الشركات الألمانية الغربية المتعددة الجنسيات، ليس من السهل إقناع أعضاء مجلس الإدارة بمزايا الوضع في أوروپا الشرقية.
والنتيجة هي أن المبلغ الإجمالي للاستثمار المتاح لايزال من الأرجح أن يظل صغيرا. ولا يمكن لعدد صغير نسبيا من الصفقات الضخمة والمرتفعة القيمة مثل قيام چنرال إلكتريك مؤخرا بشراء "تونجسرام" المجر مقابل 150 مليون جنيه إسترليني أن يُخفي واقع أن معظم الاستثمارات الغربية في الكتلة الشرقية لا تشتمل إلا على مقادير صغيرة من الرأسمال[229].
والواقع أن المستثمرين الغربيين غير مقتنعين بأن فترة عدم الاستقرار السياسي قد انتهت، وهم يخشون من أن المصانع التي يموّلونها في أوروپا الشرقية قد تواجه مصاعب بيع السلع التي تنتجها في الغرب -وهذا بالضبط ما حدث للاستثمارات الضخمة في پولندا في السبعينيات[230].
حتى الأجور المتدنية لا تمثل إغراءً كبيرا كما قد يبدو. فهناك أماكن أخرى في العالم ذات أجور أدنى من ذلك أيضا. والأكثر أهمية أن القوة الشرائية لمجموعات الأجور قد تكون متدنية فيما يتعلق بالسلع الاستهلاكية المعمرة والسلع الإلكترونية، لكنها ليست متدنية إلى هذا الحدّ عندما يتعلق الأمر بالبنود الأساسية كالطعام والمسكن، والتدفئة، والوقود. كما أن جانبا من الانفتاح على السوق العالمي يقتضي رفع هذه الأسعار في اتجاه الأسعار العالمية. لكن هذا بدوره يمكن أن يؤدي بالعمال إلى استغلال تحرّرهم من سيطرة الحزب الواحد فيصرّون على زيادات الأجور.
ويمكن ﻟ ليخ ڤاونسا أنْ يقول لرجال الأعمال الأمريكيين إن بإمكانهم أنْ يستخدموا عمالا پولنديين مقابل عشرة دولارات في الأسبوع، لكن هذا يرجع إلى أن الدولار يمكن أن يشتري في وارسو حوالي عشرة أضعاف ما يمكن أن يشتريه في نيويورك من الأغذية والخدمات الأساسية -وهذا وضع يعتزم الوزراء الاقتصاديون الپولنديون تغييره بسرعة.
والمشكلات الاقتصادية المرتبطة بالانتقال سائدة في كل بلدان أوروپا الشرقية. لكنها أحدّ في بعضها بكثير عن الأخرى. وتمثّل المديونية السابقة عبئا هائلا على الطبقتيْن الحاكمتيْن في پولندا والمجر. وسوف يلتهم تسديد الفوائد معظم صادراتهما إلا إذا نمت هذه الأخيرة بمعدّل سريع على نحو لا يمكن تصوره. كما أن جانبا كبيرا من "المساعدة" المعروضة عليهما من الغرب يتخذ شكل قروض إضافية، سيكون عليهما دفع فائدة إضافية عليها. وهذا لا يترك لهما خيارا آخر سوى الإعداد للانتقال إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات مع برامج تقشّف تجر معها معاناة ضخمة للغالبية العظمى من الناس. وحتى الآن منع الضعف السياسي الحكومة المجرية من وضع خططها موضع التطبيق بصورة كاملة. لكن الحكومة الپولندية قد اتخذت فعلا تدابير بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يسعى إلى رفع تكاليف الطعام، والإسكان، والوقود، إلى "مستويات اقتصادية" أعلى أضعافا مضاعفة مما كانت من قبل، ليخفض الأجور بنسبة 25 في المائة وليخلق نصف مليون أو أكثر من العاطلين. وهناك فعلا تقارير تقول إن الطوابير قد اختفت من الدكاكين لأن الناس لا يقدرون على شراء ما فيها؛ وفي الوقت ذاته، يشكو المزارعون بقسوة من أن الطلب الآخذ في الهبوط على الطعام يدفع كثيرا منهم نحو الإفلاس.
عندما انهار حكم الحزب الواحد لم تكن على ألمانيا الشرقية ديون كتلك الخاصة بپولندا والمجر. لكن احتمال الأزمة الاقتصادية، التي كان قد تنبأ بها الاقتصاديون الروس فعلا قبل ذلك ﺒ 18 شهرا[231]، سرعان ما أضحى واقعا مريرا عندما تدهورت الخدمات وظهرت العجوزات مع رحيل 2000 من العمال المهرة يوميا إلى الغرب. وانتهت الغالبية العظمى من الناس إلى النظر إلى الاندماج في ألمانيا الغربية على أنه الحل الوحيد، وهو موقف شجعت عليه الطريقة التي كان يضاعف بها رؤساء أنجح الكومبينات Kombinate (المشروعات العملاقة) في البلاد صلاتهم المباشرة مع الشركات الغربية. لكن التوحيد يمكنه فقط أن يخلق سخطا هائلا بين نفس العمال الذين يصرخون مطالبين به الآن. فالأسعار الألمانية الشرقية للطعام، والنقل، والوقود، والإسكان، سيكون عليها أن تتضاعف عدة مرات لتصل إلى المستويات الألمانية الغربية، لكن الرأسمال الألماني الغربي لن يكون مضطرّا إلى أن يدفع للعمال في المصانع الألمانية الشرقية التي ينظر إليها على أنها متخلّفة ومنعدمة الكفاءة ما يكفي لمواجهة تلك الزيادات في الأسعار. وسيكون خياره المفضَّل ذبح تلك المصانع، تماما كما فعل بمصانع ذات عمر مماثل في إقليم الرُّور، محوّلا قواها العاملة إلى احتياطي للعمل الرخيص من أجل بقية البلاد. وهكذا نجد تقريرا للجماعة الأوروپية:
يتوقع بطالة في السنة الأولى بنسبة 15 في المائة، لكنه يضيف أن النسبة قد تكون أعلى بكثير. وهو يحذر أيضا من تفاقم مشكلات التكيّف في ألمانيا الشرقية نتيجة لموجة من الواردات من الغرب... وقد أمكن لمتوسط الأجور في ألمانيا الشرقية بعد الإصلاحات السعرية أن يصل إلى 1400 مارك ألماني غربي، بالمقارنة مع 2400 مارك ألماني غربي في ألمانيا الغربية. كما أمكن لتحويل دخل إضافي قدره 300 مارك ألماني غربي من الغرب إلى كل عامل بأجر أن يرفع الأجر إلى 70 في المائة من المستويات الألمانية الغربية...
ومن شأن هذه التحويلات، رغم أنها ليست مرتفعة، أن يُرهق على نحو لا يمكن تفاديه الموارد المالية الألمانية الغربية. [وسيكون هناك خطر] مجازفات جدية -اجتماعية ومتصلة بالميزانية- لكل من الدولتين الألمانيتيْن وللجماعة الأوروپية بأسرها[232].
حتى وزير المالية الألماني الغربي يعتقد أن "إدخال المارك الألماني الغربي في ألمانيا الشرقية من شأنه أن يزيد البطالة، ويجبر على إغلاق مصانع، ويتطلب إنشاء نظام أمن اجتماعي"[233].
قلّما يرد ذكر لرومانيا وبلغاريا في مخططات معظم الصناعيين والممولين الغربيين. فَهُمْ ينظرون إليهما على أنهما متخلفتان وبعيدتان عن الأسواق الرئيسية أكثر مما يسمح بأن تكون لهما أهمية كبيرة.
ويدّعي بعض أولئك الذين يديرون الآن الوزارات الاقتصادية في تشيكوسلوڤاكيا أن مشكلات البلاد ليست قاسية على نحو يقترب مما في پولندا، مثلا، وأن إعادة البناء تنسجم مع الاحتفاظ بالتوظيف الكامل وبنظام إنعاش اجتماعي كامل. ويقول مصلح بارز آخر على النقيض من ذلك، إن تشيكوسلوڤاكيا "تحتاج إلى مسز ثاتشر أخرى". ويبقى أن نفهم أيّهما على صواب. وهذا البلد قليل السكان نسبيا وقد يكون قادرا على أن يجد مواقع ملائمة داخل الاقتصادات الغربية يمكن لصادراته أن تمتد إليها. لكنْ حتى في هذه الحالة، سيقوم رؤساء المشروعات التشيكوسلوڤاكية بالضغط على العمال ليتحملوا تكاليف إعادة البناء، ومن المحتمل حدوث موجة من المقاومة.
تداعت رأسماليات الدولة القزمية في أوروپا الشرقية أمام المنافسة القادمة من العمالقة الجدد للنظام العالمي. لكن هذا لا يعني أن بإمكانها أن تحوّل نفسها بنجاح إلى عمالقة أو حتى أن تُفلح في تكييف أنفسها بنجاح للخدمة عند أقدام العمالقة.
وبصرف النظر عن الأوضاع في بلدان منفردة، يبرز شيء واحد في كل فحص موضوعي للواقع: الفجوة بين ما تتوقع الغالبية العظمى من العمال من التغيرُّات وما يُرجّح أن يحصلوا عليه فعلا. وتتاخم بلدان أوروپا الشرقية أكثر الدول الأوروپية الغربية رخاءً. وقد انتهَى الناس إلى مطابقة الشكل الغربي للرأسمالية مع مستويات المعيشة الإسكندناڤية أو الألمانية الغربية. لكن مثل هذه المستويات المعيشية غير واردة أبدا  وهناك صدام حتمي، عند نقطة ما، بين التوقعات المنتعشة والواقع القاسي.
ويبشر الاقتصاديون الأوروپيون الشرقيون بأن السوق هو الحل السحري لكافة المشكلات، وبأن عهد الرأسمالية المتعددة الجنسيات عهد توسع اقتصادي غير محدود ومتزايد الاتساع دوما، جالبا الازدهار -وإنْ بدرجات متباينة- لكل الطبقات. لا شيء يمكنه أن يكون أبعد من ذلك عن الحقيقة. فمنافسة الشركات العملاقة على نطاق عالمي تقودها إلى التركيز في قطاعات بعينها من الاقتصادات القومية وترك الأخرى تتقّيح. وهي تقودها إلى نوبات دورية من إعادة البناء، تؤدي فجأة إلى إغلاق مصانع، وطرد قوى عاملة، وتدمير أقاليم بأكملها. وهي تقودها إلى الانهماك في نوبات مسعورة من التراكم التنافسي (الرواجات) عندما تطوف بالعالم بحثا عن المواد الخام والعمل الماهر، متبوعة بدورات مفاجئة من الركود (الكسادات)، تقف خلالها أحدث المصانع عاطلة عن العمل وتُترك مشروعات تشييد هائلة غير منتهية. وهي تقودها إلى أن تطبّق على المجتمعات الصناعية أساليب مناوبة الزراعة، فتدمّر وتحرق التجمعات القديمة للطبقة العاملة في البحث اللانهائي عن مواقع أكثر ربحا
يمكن لهذا كله أن يخلق مصاعب لا تُحصى ولا تُعدّ للقادة السياسيين الجدد لأوروپا الشرقية. سيكون عليهم إلى حد ما أن يسعوا إلى استمالة العمال الذين لن يصبروا بعد الآن على الأشكال القديمة للاستغلال والاضطهاد ليقبلوا الأشكال الجديدة. وسيكون عليهم في كثير من الأحيان أن يفعلوا هذا عندما يواجه العمال أوضاعا من الحرمان الشديد. وليس من المؤكد بحال من الأحوال أنهم سينجحون.
والبلد الذي نجد فيه المشكلات الموضوعية الماثلة في إحداث الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات أكبر ما تكون هو الاتحاد السوڤييتي. فهو لا يمكنه حتى أن ينجز التغيرات السياسية التي كانت بمثل تلك السهولة في أوروپا الشرقية بدون أن تمزق البيروقراطية نفسها إربا  فهذه البلاد، والبيروقراطية بالتالي، أضخم كثيرا من تلك التي في أوروپا الشرقية. وكانت مشروعاتها محمية أكثر من المنافسة الخارجية المباشرة ولفترة أطول من الزمن. وقد أدَّى هذا إلى تضافر معقد لأقلية من الشركات ذات الكفاءة بالمعايير العالمية مع أغلبية عديمة الكفاءة. وكان حكام الاتحاد السوڤييتي قادرين، في الماضي، على أن يعوضوا عن نقاط الضعف الاقتصادية بالقدرة العسكرية، وهكذا شيّد قطاعا للمعدات الحربية يضارع ذلك الخاص باقتصاد يبلغ ضعف اقتصاده، ذلك الخاص بالولايات المتحدة. ومحاولات تفكيك هيكل كهذا تترك أجزاءه المنفردة، ببساطة، معلقةً في الهواء. وتتفجر الأزمات الاقتصادية والسياسية في آن معا.
والمأزق الاقتصادي يلخصه جدال جرى خلال السنة الأخيرة حول خطط بناء مجمع جديد للپتروكيماويات في سيبيريا الغربية خلال العشر سنوات القادمة:
دفعت الأزمة المتزايدة العمق في إنتاج وتوافر السلع الاستهلاكية في الاتحاد السوڤييتي مجموعة من كبار العلماء السوڤييت إلى الدعوة إلى التخلّص من واحد من أضخم استثمارات البلاد -تشييد خمسة مشروعات پتروكيماوية خلال العقد التالي في حقول پترول سيبريا الغربية، مخطَّطة كمشروعات استثمارية مشتركة مع شركات أمريكية، وياپانية، وألمانية غربية، وهندية.
ويزعم العلماء أن المشروع سيتكلف ضعف الاستثمار المخطط والذي يبلغ 41 مليون روبل... وعندما يبدأ الإنتاج، [فإنه سوف] يدفع السعر العالمي لمنتجات الپلاستيك والپوليمر إلى الهبوط... وهم يزعمون قبل كل شيء أن هذا الاستثمار سيحرم باقي الصناعة الكيماوية من الاعتمادات التي تحتاج إليها بشدّة، ويمنع تبنِّي إستراتيچيات وفر الطاقة، ويستبعد أيّ إمكانية لإعادة توجيه الاقتصاد إلى الحاجات الاجتماعية[234].
والنقطة اللافتة للنظر هي أن منطق المشروع الكيماوي ليس منطق رأسمالية الدولة القومية القديمة، المكتفية ذاتيا، بل منطق السعي إلى إقامة إنتاج مرتبط بالرأسمالية المتعدّدة الجنسيات. وستكون النتيجة، فيما يقول النقاد، استثمار ضخم يشوّه باقي الاقتصاد الداخلي للاتحاد السوڤييتي ويدفع قطاعات الإنتاج الأخرى إلى الوراء، ويمزّق نتاج مرتبط بالرأسمالية المتعدّدة الجنسيات. ادة توجيه الاقتصاد إلى الحاجات الاجتماعيةول بترول سيبريا الغربية، اقالصلات بين مختلف الصناعات، ويؤدي إلى مزيد من ضغوط الهبوط بمستويات المعيشة -كل ذلك بدون أيّ ضمانة على أن التغييرات في أماكن أخرى في الاقتصاد العالمي لن تؤدي به إلى أن يعمل على نحو مرتبك.
كما يتأكدّ المأزق السياسي من الطريقة التي يتعايش بها الإطار الحزبي القديم والإطاران الپرلمانيان الجديدان: مؤتمر النواب ومجلس السوڤييت الأعلى، بدون أن يكون أحدها قادرا على أن يكون في مستوى المشكلات. ولا يزال الهيكل الحزبي القديم مركز التنسيق الرئيسي لأولئك الذين يديرون المشروعات، والقوات المسلحة، والشرطة والمخابرات، والحكومة المحلية والقومية. وقد بيّن تقرير في عهد بريچنيف أن 40 في المائة من كبار رجال الجهاز الحزبي كانوا مديرين صناعيين سابقين، وأن نسبة 25 أخرى في المائة كانوا رؤساء زراعيين سابقين، مقابل 12 في المائة صعدوا من صفوف بيروقراطية الحزب وحدها[235]. والزعماء الحزبيون "المحافظون" ليسوا ديناصورات، معزولين عن واقع الحياة الإدارية، بل هم ممثلون لأولئك الذين يديرون المشروعات الكبرى. ونزعتهم المحافظة هي تلك الخاصة بطبقة يعتمد أعضاؤها على صلاتهم ببعضهم أكثر كثيرا مما يعتمدون على صلاتهم مع الشركات الغربية العملاقة. ولهذا فإنهم لا ينظرون، كما هو الحال في جانب كبير من أوروپا الشرقية، إلى الانتقال إلى الرأسمالية متعددة الجنسيات على أنه يقدّم ضمانة سهلة ضدّ التغيرات التي يخشونها. ولا يمكن لحكومة مثل حكومة جورباتشوڤ، التي ترمي إلى تغيير الاتحاد السوڤييتي تغييرا كاملا، أن تستغني عنهم أو عن الهياكل الحزبية التي يسيطرون عليها. لكن هذه الهياكل تفتقر بصورة متزايدة إلى التأثير على القوى الجديدة التي أطلقتها الجلاسنوست من تحت -الحركات القومية، لجان الإضراب، الاحتجاجات البيئية. وهم يجمعون على المناوبة بين تهديد وتهدئة الحركات التي تظهر إلى الوجود. وفي هذا السياق تبدأ مختلف المصالح البيروقراطية في الانجذاب في اتجاهات متباينة، مُحْدثة نوعا من التفتت الداخلي للحزب إلى إن يعجز عن ممارسة أيّ سيطرة حقيقية على النمو الاجتماعي.
يتمتّع مؤتمر النواب والسوڤييتات بولاء من جانب الغالبية العظمى من الناس أكبر مما للحزب. ولكنهما ليسا في وضع ملائم ليحلا محله كمركز لتنسيق أعمال مختلف أقسام البيروقراطية الحاكمة. ومن هنا الاختلاف الصارخ بين الاتحاد السوڤييتي وتشيكوسلوڤاكيا، مثلا. ففي تشيكوسلوڤاكيا انهار الحزب وواصل المجتمع سيره كما كان يفعل من قبل إلى حد بعيد، بمستوى متزايد من تكامل مشروعاتها مع الغرب. أما في الاتحاد السوڤييتي فلم يحدث انهيار الحزب إلى الآن، لكن المجتمع يغدو أكثر اختلافا وفقدان اتجاه بصورة متزايدة.
ويؤدي هذا الآن إلى ظهور سلسلة غريبة من التفرُّعات الأيديولوچية بين المصلحين. وأشهر الزعماء الديمقراطيين الراديكاليين -مثل أولئك المتجمعين حول يلتسين Yeltsin في مؤتمر النواب يجدون هويتهم في السوق والديمقراطية. لكن بعض غلاة أنصار السوق ينتهون الآن إلى استنتاج أن هناك حاجة إلى حكم سلطوي.
وقد عبَّر عن هذا الرأي بكل وضوح أ. ميجرانيان Migranian و أ. كليامكين Klyamkin من معهد النظام الاشتراكي العالمي في أواخر السنة الماضية. ويؤكد ميجرانيان: "كان سيصبح أفضل لو أن قائدنا [جورباتشوڤ] كان قد قوَّى يده بطريقة إدارية، كما حدث في المجر في ظل يانوش كادار Janos Kadar  أو في الصين في ظل دنج شياو پنج" Deng Xiaopeng. أما كليامكين فيتساءل:
ماذا يحدث إذا أعلن مصلح نفسه مؤيدا لإدخال السوق؟ هل يمكن تحقيق هذا بالاعتماد على السوق؟ بالطبع لا، حيث أن 80 في المائة من السكان لن يقبلوا ذلك، فالسوق يعني، رغم كل شيء، الانقسام إلى طبقات اجتماعية، والتمايز حسب الدخل... ولهذا لا يمكن لمصلح جاد أن يعتمد في نجاحه على الجماهير[236].
سمَّى بوريس كاجارليتسكي ذلك ﺒ "ستالينية السوق"[237]. لكن المظهر الأيديولوچي الذي تتخذه المحاولات الجديدة الرامية إلى حلول سلطوية لا يُرجَّح أن يكون مظهرا ستالينيا كاملا. فردّ الفعل ضدّ النظام القديم ضخم للغاية. وهناك، على أيّ حال، طرق أخرى كثيرة يمكن بها لأنصار إعادة البناء السلطوية أن يحاولوا بناء قاعدة لأنفسهم. فالماضي يجثم بثقله ككابوس على عقول الأحياء، والماضي ينطوي على تحيزات جماهيرية ستحاول قوى سياسية معدومة الضمير استغلالها -الشعور المعادي للأتراك في بلغاريا، الشعور المعادي للمجريين في رومانيا، الشعور المعادي "للغجر" في المجر، شوڤينية الروس الكبار في الاتحاد السوڤييتي، معاداة السامية في كل مكان تقريبا. وربما ظهرت حقا تركيبات سياسية جديدة، تبشّر برسالة معادية للشيوعية، لكنها أيضا سلطوية، ومستعدة للعمل مع بقايا قوات الأمن القديمة لفرض "النظام".


21
بناء معارضات اشتراكية
 
في كل مكان في الدول الشرقية جعلت المطابقة الشعبية بين الستالينية والاشتراكية من الصعوبة بمكان على الاشتراكيين الحقيقيين أن يجدوا آذانا صاغية. والعمال الذين يرون العلم الأحمر يرفرف فوق معسكر اعتقال لا يلوّحون به بابتهاج بصورة آلية. والأهم من ذلك أن المعارضات الاشتراكية عانت عادة في ظل دول الحزب الواحد القديم أكثر كثيرا مما عانت القوى الليبرالية التي تتلقىَّ درجة من المساعدة والحماية من الغرب. وهكذا، رغم أن جماعات الاشتراكيين الحقيقيين موجودة، تظل أعدادهم صغيرة ويظل تأثيرهم صغيرا في اللحظة الحاضرة.
على أن مقاومة اندماج رأسمالية الدولة والرأسمالية المتعددة الجنسيات أمر لا مفرّ منه في كل مكان. وسوف تأتي هذه المقاومة من ثلاثة مصادر رئيسية. أولا، ستكون هناك مقاومة من جانب كثير من الديمقراطيين الراديكاليين الذين تحملوا وطأة تحدِّي أنظمة الحزب الواحد القديمة. ولن يكون هؤلاء سعداء بأن يروا أشخاصا حصلوا على مراكزهم من خلال البيروقراطية العليا يحتفظون بها ببساطة بإسقاط مظهر إيديولوجي لصالح آخر. وسيواصلون المطالبة بتسريح الشرطة السياسية ولن يكونوا سعداء بأن يروا الهياكل الحزبية القديمة التي تسيطر على وسائل الإعلام تفسح المجال لهياكل جديدة يتحد فيها مرشحو الحزب القديم مع الرأسمال المتعدد الجنسيات ليمارسوا سيطرة محكمة للغاية[238]. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يكتشف أولئك الذين تأثروا بنزعة معارضة الحرب وأفكار الخضر أن الشكل الجديد للرأسمالية سيكون محكوما عليه بالتشبّث بالجيوش القديمة وبتلويث البيئة في سبيل الربح.
في رومانيا وقعت فعلا صدامات مريرة بين أولئك الذين قاموا بثورة ديسمبر وأولئك الذين تولوا السلطة. وفي پولندا هناك صدامات متكررة في الشوارع بين الشرطة والشباب المتأثر بخليط من الأفكار المعارضة للحربلرأسمالية سيكون محكوما عليه بالتش، والفوضوية، والخضراء، والقومية الپولندية. وفي تشيكوسلوڤاكيا أخذ كثير من جمهور مناضلي المنتدى المدني شعار الديمقراطية الراديكالية بجدية أكثر من أن يقبلوا معها كلمات زعماء مثل پيتر پيتهارت Peter Pithart، الذي ناشد -في برنامج تليڤزيوني– "المنتديات المدنية في أماكن العمل والمحليات أنْ يتجنبوا أيّ أساليب ثوروية زائفة" مثل "استخدام الضغط للحصول على الحق في توقيع كافة التعاقدات الاقتصادية إلى جانب المدير الإداري"[239]. وفي ألمانيا الشرقية يشعر المناضلون ضمن جماعات المعارضة القديمة مثل المنتدى الجديد بالمرارة وهم يرون البيروقراطية العليا تعقد صلات مع الرأسمال الألماني الغربي في حين يضطلع رُسُل الاندماج في الدولة الألمانية الغربية بمظاهرات الشوارع. وفي المجر كان رد فعل أنصار السوق الديمقراطيين الراديكاليين من حزب الديمقراطيين الأحرار مريرا عندما قامت أحزاب سياسية ذات أيديولوچية مناصرة للسوق وأكثر سلطوية بالمناورة مع الأعضاء السابقين في البيروقراطية العليا.
والأمور أكثر تعقيدا في الاتحاد السوڤييتي لأن الحزب الحاكم القديم لا يزال يسيطر، ولأن الديمقراطيين الراديكاليين أقلية داخل الهياكل القومية القائمة لكل من الحزب ومؤتمر النواب. أما التحرر من الأوهام فيما يتعلق بجورباتشوڤ أكثر من أيّ وقت مضى فلا يزال يتخذ شكل مطالبة الشعب بتحول أكثر راديكالية نحو السوق. هذا موقف كل من النواب المتجمعين حول يلتسين وحزب المعارضة شبه الشرعي، والاتحاد الديمقراطي. لكنْ حتى في هذه الحالات، لابد من أن يسأل الناس أنفسهم أحيانا لماذا يميل أولئك الذين سيستفيدون أكثر من السوق، أيْ رؤساء المشروعات الكبيرة، إلى النزعة السلطوية، وليس إلى الديمقراطية، ولماذا بذل الزعماء الغربيون قصارى جهدهم للاحتفاظ بجورباتشوڤ في السلطة.
ثانيا، سيكون هناك في كثير من الأحيان ردّ فعل قومي بين جماعات الأقلية الإثنية على الشكل الجديد للرأسمالية. ولا يمكن لاتحاد رأسمال الدولة والرأسمال المتعدد الجنسيات إلا أن يؤدي إلى تفاقم تفاوت النمو الاقتصادي داخل كل بلد. وتقتضي القدرة التنافسية الفعالة المتعددة الجنسيات تركيزا للإنتاج في أقاليم جغرافية بعينها -عادة تلك التي هي الأكثر تقدما فعلا أو الأقرب إلى تسهيلات الإنتاج والأسواق الأجنبية- على حساب أخرى. ويمكن أن نرى النتيجة في الدولة الشرقية التي كانت مفتوحة أكثر على الصلات المتعددة الجنسيات، أيْ يوغسلاڤيا: نصيب الفرد من الدخل القومي في سلوڤينيا، على الحدود الإيطالية والنمسوية، يصل إلى ضعفه في الصرب، وهو في الصرب ثلاثة أضعافه في كوسوڤو في الجنوب. ويمكن أن يقود نفس منطق النمو الاقتصادي المناطق الناطقة بالسلوڤاكية من تشيكوسلوڤاكيا إلى المعاناة، جنبا إلى جنب مع جمهوريات الاتحاد السوڤييتي الجنوبية (من أرمينيا إلى كازاخستان) ومساحات واسعة من إقليمه الحيوي الناطق بالروسية. كما يمكن أن يقود بعض دول أوروپا الشرقية إلى وضع أسوأ بكثير، نسبيا، من الأخرى: المتحمسون الغربيون للجماعة الأوروپية يضعون الآن فعلا تمييزا بين تلك الدول المتقدمة نسبيا والتي قد تكون "مؤهلة" للانضمام إليها (عادة ألمانيا الشرقية، وأحيانا تشيكوسلوڤاكيا) وتلك التي يمكنها في أفضل الأحوال أن تطمح، بوصفها مناطق بطيئة النمو، إلى وضع "العضو المنتسب".
وستكون النتيجة، حتما، خلق مشاعر قوية من الحرمان القومي بين أولئك الذين في المناطق التي تقع في أقصى المؤخرة. ويمكن أن يكون هناك تحرّر واسع من الأوهام المتعلقة بالسوق بين جماهير السكان؛ كما يمكن أن تكون هناك محاولات من جانب الأقسام المحلية من الطبقة الحاكمة والإنتلچنسيا لاستغلال هذه المشاعر لتحسين مركزهم الخاص. وكما هو الحال مع موجة النزعة القومية السائدة اليوم في كل من الاتحاد السوڤييتي ويوغسلاڤيا فسوف يقود ذلك كليهما إلى تمردات قومية ضدّ السلطة المركزية وإلى هجمات طائفية على قوميات الأقليات.
ستأتي المقاومة الثالثة، والأهم من حيث إمكاناتها، من العمال، وقد شهدت يوغسلاڤيا، حيث التحول إلى السوق هو الأكثر تقدّما، موجة ضخمة من الإضرابات في 1987 و1988. وفي ألمانيا الشرقية ستكون الإضرابات حتمية عندما يحاول النظام (مهما كان مَنْ يديره) أن يرفع أسعار السلع الأساسية في اتجاه المستويات الألمانية الغربية. وفي بلغاريا كانت هناك "موجة عارمة من الإضرابات" في يناير، بما في ذلك "إضراب لعمال المناجم انتشر مثل انهيار جليدي"[240]. وفي تشيكوسلوڤاكيا حذّر نائب رئيس الوزراء الاتحادي، كارنوجورسكي Carnogursky، من "تقارير منذرة بالفوضى في كثير من المشروعات"[241]. وفي پولندا كانت لا تزال هناك ثقة هائلة بوزراء تضامن في بداية السنة؛ ومع ذلك، كان هناك قدر هائل من الإضرابات، على سبيل المثال في المناجم.
كانت أهم الإضرابات هي تلك التي وقعت في مناجم الاتحاد السوڤييتي في صيف 1989. وكانت المطالب الأولية في منجم شڤياسكوڤ في ميجدوريشنسك، حيث بدأ الإضراب، مطالب اقتصادية عاجلة -من أجل خدمة كانتين ملائمة في المنجم، من أجل ملابس عمل أدفأ في الشتاء، من أجل 800 جرام من الصابون شهريا  لكنْ مع امتداد الإضرابات صارت بؤرة لسخط أوسع نطاقا بكثير. وقد نشأ هذا السخط من كل من حدود إصلاحات جورباتشوڤ والاتجاه الذي كانت تأخذه الإصلاحات. وكما عبر رئيس لجنة عمل كيموروڤو، وهو كهربائي في منجم ڤولكوڤ، "مع أوضاع الإدارة الاقتصادية الجديدة لم تتغيرّ شروط العمل بالنسبة للعمال ومع ذلك أصبح العمل أكثر شدة -أما الأجر الذي كان يُفترض ارتفاعه مع العمل البدني المبذول فلم يرتفع بطريقة متناسبة كهذه..."[242]. وجمعت الملصقات بين مطالب اقتصادية ومطالب سياسية أكثر: "يسقط البيروقراطيون"، "امنحوا 40 في المائة عن الليالي، و20 في المائة عن الأمسيات"[243]. وسرعان ما برزت مطالب أخرى أيضا:  من أجل معاشات أفضل، من أجل إجازات إضافية، من أجل إجازة أطول لرعاية الأطفال. وكانت هناك شكاوى مريرة من جانب عمال المناجم الذين أجريت معهم أحاديث في وسائل الإعلام الرسمية حول الاختلاف الصارخ بين أوضاعهم وأوضاع رؤسائهم: عمال المناجم لم يحصلوا أبدا على تصاريح سفر، بينما "الجهاز الإداري بأكمله كثير السفر جدا"[244]: "يقيم القادة الحزبيون على مستوى المنطقة في مبان رائعة"، بينما ليس لدى عمال المناجم سوى "أكواخ بائسة معرّضة للتصريفات الكيماوية"[245]. وبحلول الأسبوع الثالث كان بعض المضربين في الدونباس يطالبون بالإنهاء الفوري لكافة الامتيازات الرسمية، مثل المحلات الخصوصية لمسؤولي الحزب، ودستور جديد وأكثر ديمقراطية للبلاد، وحقهم في تكوين نقابتهم المستقلة.
سيكون من الخطأ أن نعتقد أن المضربين توصّلوا في الحال إلى نظرة واضحة وواعية طبقيا  وقد نظر كثيرون إلى عمال المناجم على أنهم مختلفون بعض الشيء عن بقية العمال وأفضل منهم إلى حد ما. وكان المطلب المبكر والذي تلقَّى قدرا من التأييد في الكوزباس يتعلق بالاستقلال المالي للمناجم المنفردة أو مناطق التعدين المنفردة، بحيث يمكنها استخدام الأرباح مباشرة لتحسين الأجور والأوضاع -وهو مطلب حاول أنْ يتحدَّى الاستغلال الواقع عليهم لكنه أمكن أيضا، جزئيا، توجيهه ضد العمال في مشروعات أقل ربحا وضد عمال المناجم في مناجم أقدم وأقل كفاءة في الدونباس.
وقد قال بوريس كاجارليتسكي الذي اشترك في بعض اجتماعات لجنة الإضراب في كاراجاندا:
ينبغي أن لا تبالغوا في مستوى الوعي الطبقي لدى الطبقة العاملة. فنحن نخطو الآن الخطوات الأولى فحسب لحركة الطبقة العاملة. وأحيانا كان عمال المناجم محليين تماما، بمعنى أن لجان الإضراب رفضت التضامن من جانب جماعات أخرى من العمال، على سبيل المثال. لكنْ من ناحية أخرى، ما أروع الطريقة التي كان يتعلم بها الناس!
ويتمثل أحد أهم الأمور في أن العمال الآن، بعد أن أضربوا، بدأوا يدركون أنهم أقوياء جدا  وسيجعلهم ذلك أقل فأقل تواضعا، وأكثر فأكثر قدرة على استخدام قوتهم سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا
إنه تغيرّ كبير. فعلى مدى سنين طويلة كان أفراد الطبقة العاملة غير قادرين على أنْ يحققوا أيّ شيء. أما الآن فيمكنهم أن يحققوا أشياء، في حين لا يستطيع جورباتشوڤ والقيادة أن يحققوا أيّ شيء[246].
أخيرا عاد المضربون إلى العمل مقابل وعود من جورباتشوڤ وريچكوڤ لم يفيا بها. وعندما أضرب عمال المناجم في ڤوركوتا محتجّين مرة أخرى في نوڤمبر لم يتلقوا تأييدا فعّالا من أيّ مكان آخر في البلاد وأخيرا تفتّت إضرابهم أمام قانون جورباتشوڤ الجديد ضدّ الإضرابات. لكن جورباتشوڤ ذاته نظر إلى إضرابات الصيف على أنها تهديد أكبر حتى من نضالات قوميات الأقليات. وقال جورباتشوڤ لمجلس السوڤييت الأعلى:
ربما كانت هذه أكبر محنة تصيب بلادنا طوال أربع سنين من إعادة البناء. كان هناك تشيرنوبيل، وكانت هناك محن أخرى متباينة. ومع ذلك فأنا أخصّ هذه المحنة بأنها الأشد خطورة والأشد صعوبة[247].
إن حتمية نضالات عمالية كهذه هي التي تقدّم أعظم الأمل للاشتراكيين في الدول الشرقية. لكن هذا لا يعني أن العمال سيبدأون منذ البداية بأفكار اشتراكية. وسيجد كثيرون أنفسهم في البداية في الديمقراطيين الراديكاليين (وفي الحركات القومية بين الأقليات القومية)؛ بل ربما انخدعت قلة بديماجوچية المحافظين في الحزب (رغم أن هذا خطر تُبالغ فيه كثيرا الإنتليچنسيا ذات العقلية الإصلاحية). وسوف تجعلهم كراهيتم للنظام القديم مرتابين في كثير من الأحيان في أولئك الذين يدعون أنفسهم اشتراكيين.
على أن محاولات الديمقراطيين الراديكاليين لخلق تأييد منظم بين العمال ستلحق بها الأضرار باستمرار بسبب التزامهم الخاص بربط رأسمال الدولة بالرأسمال المتعدّد الجنسيات عبْر السوق. فهذا الالتزام يؤدي بالديمقراطيين الراديكاليين إلى إقرار أنه لا بد من أن تكون هناك فوارق اجتماعية ضخمة بين أولئك الذين يديرون المشروعات وأولئك الذين يعملون فيها؛ ويتمثل اعتراضهم الوحيد على الفوارق الاجتماعية القديمة في أنها أتت من مواقع البيروقراطية العليا، وليس من السوق. وهو يعني أيضا أنهم لا يعتقدون أن هناك موارد لتحسين الشروط المادية للعمال[248]، ولهذا فهم مترددون إزاء تأييد إضرابات حول مسائل من هذا النوع، قائلين إن العمال لا ينبغي أن يناضلوا إلا في سبيل المطالب السياسية. ويتمثل مدخلهم إلى المشكلات العمالية في البداية بالقول بأن العمال ينبغي أن يعملوا بمزيد من الجدية (مصدّقين في كثير من الأحيان الخرافة التي تروج لها الطبقات المتوسطة في كل مكان في العالم والتي تقول بأن "عمالنا لا يعرفون كيف يعملون")، وأن هذا العمل بجدية هو الذي سيؤدي آخر الأمر إلى ارتفاع في مستويات المعيشة.
هذا هو السبب في أن مستشاري تضامن كانوا معارضين للإضراب قبل وكذلك بعد تشكيل الحكومة الائتلافية في پولندا. وهذا هو السبب في أنه خلال التغيرات السياسية في تشيكوسلوڤاكيا في نوڤمبر، دعا أبرز الشخصيات في المنتدى المدني إلى إضراب عام لمدة ساعتين فقط وطالبوا العمال بتعويض فاقد الإنتاج في وقتهم الخاص. وهذا هو السبب في أن موقف المجموعة الملتفة حول يلتسين في مؤتمر النواب من إضراب عمال المناجم في الاتحاد السوڤييتي لم يكن مختلفا عن موقف جورباتشوڤ -كان يلتسين مستعدا لشجب الأوضاع التي كانت قد أدت إلى الإضراب، لكنه ناشد عمال المناجم بعد ذلك في التليڤزيون أن "يُبدوا شعورا خاصا بالمسؤولية تجاه الشعب وتجاه الحكومة" وأن يعودوا إلى العمل[249].
وتتجلَّى الفجوة بين الديمقراطيين الراديكاليين والنضالات العمالية بكل قوّة في حالة الاتحاد السوڤييتي حول مسألة التعاونيات. ينظر الراديكاليون إلى هذه الأخيرة على أنها علاج سحري لمشكلات البلاد، مجسّدين بذلك أهداف المشروع الصغير والمشروع الفردي. أما في الممارسة فتقدّم التعاونيات في الاتحاد السوڤييتي خدمات مكلفة جدا للطبقات المتوسطة لا يمكن للعمال أن يتحملوها. ولا يمكنها إلا أن تفعل هذا بسبب قدرتها على السيطرة على أشياء لا يمكن العثور عليها حتى في المحلات التي تترد عليها الجماهير كثيرا. ولا غرابة في أن الغالبية العظمى من العمال ينظرون إلى التعاونية بنفس نفورهم تقريبا من المخازن الخاصة التي في متناول النخبة الحزبية وحدها.
كما تُسبّب الإضرابات المتصلة بموضوعات اقتصادية مشكلات خاصة لأولئك الذين يسعون إلى توجيه إحباطات الناس في اتجاهات قومية خالصة. فالقوى العاملة في المشروعات الضخمة هي دائما تقريبا مختلطة القوميات[250]، ويمكن للنضالات العمالية أن توحّد هذه القوى حول لجان إضراب تتجاوز الانقسامات الإثنية، منعشة إمكانية ظهور أممية حقيقية تأخذ في اعتبارها حقوق الأقليات القومية.
من ناحية أخرى، قبل أن يكون بإمكان الاشتراكيين في الدول الشرقية أن يستغلّوا العوامل المواتية لهم في هذا الوضع سيكون عليهم هم أنفسهم أن يكونوا واضحين فيما يتعلق ببعض النقاط الهامة.
عليهم، أولا، أن يدركوا أن الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات لا هو خطوة إلى الأمام ولا هو خطوة إلى الوراء، بل خطوة في نفس المكان. فالتغيير لا ينطوي إلا على انتقال من شكل للاستغلال إلى شكل آخر بالنسبة للطبقة العاملة ككل، حتى إذا وجدت بعض الجماعات المنفردة من العمال (العمال المهرة في صناعات متوسّعة) نفسها في وضع أفضل يسمح لها بتحسين أوضاعها ووجدت أخرى (أولئك الذين في صناعات خاضعة "للترشيد") أن أوضاعها ازدادت سوءا.
لسوء الحظ، لا يزال هناك اشتراكيون في الدول الشرقية لم يدركوا هذا إدراكا كاملا  فبعضهم ينظرون مخطئين إلى الشكل الغربي للرأسمالية و"حماية حقوق ومصالح المستهلكين"، و"الديمقراطية" على أنها نفس الشيء الواحد (وكأن أيّ مصطلح منها يصحّ على العدد الضخم من رأسماليات "السوق الحرة" في "العالم الثالث" والبلدان الآخذة في التصنيع حديثا!) كما ينظرون إلى السوق على أنه شيء ينبغي احتضانه، ولو بتحفظات[251]. وينظر آخرون إلى تأميم الصناعة على أنه شيء ينبغي الدفاع عنه في حدّ ذاته، وإلى المهمة الأساسية على أنها مقاومة بيع "الملكية القومية" للشركات الغربية المتعددة الجنسيات[252] -أو، في حالة ألمانيا الشرقية، الدفاع عن الدولة ككل ضدّ امتصاصها في ألمانيا الغربية.
لكن رأسمالية الدولة لم تأت إلى الوجود نتيجة للنضالات العمالية[253]. لقد كانت تنسجم مع ضرورات التراكم في طور بعينه من أطوار النمو الرأسمالي استنفد الآن طاقاته. كذلك لا علاقة لهذا الانعطاف الجديد نحو الرأسمالية المتعددة الجنسيات بالديمقراطية أو بالاحتياجات الاستهلاكية؛ بل يحدث هذا الانعطاف لأنه ليست هناك طريقة أخرى يمكن بها للبيروقراطية العليا لرأسمالية الدولة أن تقوِّي نفسها ضدّ المنافسة العالمية. ولا تتمثل مهمة الاشتراكيين في الدفاع عن طور من أطوار التراكم ضدّ آخر، بل تتمثل في استغلال عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي الناشئ عن محاولة الانتقال من طور إلى آخر لتأكيد مطالبنا نحن الثورية.
ويعني ذلك، بصورة ملموسة، دعم أيّ نضال للعمال، أو المثقفين، أو الطلبة، أو القوميات المضطهدة (بفتح الهاء) ضدّ نظام رأسمالية الدولة القديم، وفي نفس الوقت مقاومة محاولات السيطرة على هذه النضالات من جانب أولئك الذين يريدون غرس الرأسمالية المتعددة الجنسيات في داخل رأسمالية الدولة.
وهو يعني أيضا مقاومة الترشيد الذي تفرضه القوى الجديدة للرأسمالية المتعددة الجنسيات، بدون الوقوع في فخّ تحالفات مع ممثلي رأسمالية الدولة القديمة. فهؤلاء الأخيرون سيحاولون إغراء العمال بإسقاط المطالب المتعلقة بالأجور والأوضاع داخل الصناعات المؤممة وبأن يتعاونوا في رفع الإنتاجية، زاعمين أن هذا هو السبيل لتجنّب "خطر الخصخصة" أو خطر تحوّل البلاد إلى "مستعمرة جديدة". إذا انخدع العمال بهذا، فسوف يتيحون الفرصة فقط للاستغلال المكثف من أجل... منع الاستغلال المكثف. ويجدر بنا أن نتذكر تجربة إعادة البناء في اﻟ 16 سنة الأخيرة في بريطانيا: كان كبار المديرين في بريتيش إيرلاينز، وبريتيش إيروسپيس، وبريتيش ستيل، وبريتيش شيپبيلدنج، وأوستن روڤر، قد حثُّوا العمال على أن "يشاركوا في جعل التأميم يعمل"؛ فقط بعد قطع أشواط في الإغلاق الواسع النطاق وبرامج الاستغناء عن العمال على هذا الأساس صنعوا لأنفسهم من الخصخصة مبالغ ضخمة للغاية. وفي پولندا على سبيل المثال، كانت هذه هي الطريقة التي أراد الوزراء المؤيدون للسوق أن تمضي بها الأمور. "أرادوا"، كما يؤكّد حديث صحفي مع أحد مستشاريهم، ستانيسلاڤ جومولكا، "أن يبدأوا بخصخصات صغيرة وأن يوسّعوا العملية بثبات على غرار النموذج البريطاني"[254].
ويتمثل جانب من جوانب استغلال الأزمة السياسية للانتقال في دفع المطالب الديمقراطية للديمقراطيين الراديكاليين إلى أقصى الحدود: بدون حصرها في مجرد مسألة الانتخابات، بل أيضا طرح مسألة نقابات حرة، ومسألة الحق بدون عوائق في الإضراب والتظاهر، ومسألة التسريح الكامل للقوى القمعية (الشرطة السياسية، وشرطة الأمن، والأجهزة السرية)، ومسألة تطهير هيئات الدولة وإدارات المشروعات من كلّ أولئك الذين تعاونوا مع هذه الأجهزة في الماضي، ومسألة الإشراف على وسائل الإعلام من جانب أولئك الذين يعملون فيها وليس من جانب المعيّنين من قبل الحكومة، أو البيروقراطية العليا، أو المشروع الكبير. وهو يعني تحويل النضالات الديمقراطية ضدّ رأسمالية الدولة إلى نضالات ديمقراطية ضد الرأسمالية المتعدّدة الجنسيات -كما يعني، في هذا السياق، كسب عدد من أفضل أقسام الديمقراطيين الراديكاليين لينظروا إلى الرأسمال المتعدد الجنسيات على أنه عدو.
وترتبط بهذا مسألة طبيعة الدولة. يقع كثير من الاشتراكيين في أوروپا الشرقية في فخ تقديم مخططات لجعل المجتمع القائم أعدل وأكفأ. وهم يناقشون بلا انقطاع كيف يمكن إعادة تنظيم الصناعة بطريقة أقل تبديدا، وكيف يمكن إقناع العمال بأن يعملوا أفضل، وكيف يمكن الحصول على الجمع الصحيح بين السوق والخطة. لكنهم يفعلون ذلك بدون أن ينطلقوا من الحقائق الأكثر أساسية: حقيقة أنهم يعيشون في مجتمع طبقي حيث تعيش طبقة حياة مريحة للغاية على حساب الطبقة الأخرى (ومن هنا الميل إلى الحديث عن "مجتمع مسيَّر ذاتيا" وليس عن مجتمع في ظل رقابة عمالية)، وحقيقة أن مجتمعا من هذا النوع يملك دولة معزولة عن بقية المجتمع وتلتهم قسما ضخما من الناتج الاجتماعي، وحقيقة أن أيّ حديث عن "مصلحة الأمة" أو "مصلحة المجتمع" يحجب هذه الحقائق.
فقط عندما يتم فهم طبيعة الدولة، يمكن التوصُّل إلى فهم صحيح للمسألة القومية. والاشتراكيون الذين يجدون أنفسهم بطريقة أو بأخرى في الدولة القائمة ينتهون، بالضرورة، إلى النظر إلى مطالبات قوميات الأقليات بالانفصال عن تلك الدولة على أنها تقود إلى "الانقسام داخل طبقة العمال". أما الاشتراكيون الذين يريدون أن يحطموا الدولة القائمة كدولة طبقية فَهُمْ، على النقيض، لا يكترثون بما إذا كانت ستبقى كدولة رأسمالية واحدة أم ستنقسم إلى دولتين رأسماليتين. ونحن لا نعبد دولة قومية روسية تسمَّى الاتحاد السوڤييتي، كما أننا لن نعبد كذلك دولة قومية لاتڤية، مثلا.
لكننا نقرّ بأنه إذا أحسّت أقلية قومية بأنها مضطهدة (بفتح الهاء) فليست هناك سوى طريقة واحدة لجعل عمالها يجدون أنفسهم في نضال العمال في قومية الأغلبية. على عمال صة مبالغ ضخمة للغلقولالأغلبية، أو على الاشتراكيين الواعين بينهم على الأقل، أن يوضحوا أنهم لا يريدون أن يُواصلوا ذلك الاضطهاد. وعليهم أن يقفوا إلى جانب حق الأقلية القومية في تكوين دولتها هي إنْ شاءت ذلك، بصرف النظر عن شكل الدولة الذي تختار الأقلية إقامته.
ربما كانت قومية الأقلية واقعة تماما تحت تأثير قادة برچوازيين صغار (أو بيروقراطيين صغار) يحاولون قيادتها إلى طريق مسدود. لكن الطريقة الوحيدة التي سيقطع بها العمال الذين في صفوف قومية الأقلية صلاتهم مع هذه القيادة تتمثل في أن يروا حركة عمالية اشتراكية بين قومية الأغلبية مستعدة للقتال، بصورة أكثر فاعلية من هؤلاء القادة، ضدّ واقع الاضطهاد القومي.
وتعتقد الحكومة الإصلاحية والديمقراطيون الراديكاليون في الدول الشرقية أن الانتقال من شكل رأسمالية الدولة المحتضر للاستغلال إلى الشكل الرأسمالي المتعدد الجنسيات سيكون مصحوبا باستقرار اجتماعي وازدهار واسع النطاق. وهم مخطئون. فالخطوة الأولى في التغلب على مقاومة جهاز الحزب الواحد القديم للانتقال ربما كانت قد قُطعت في عدد من دول أوروپا الشرقية، لكن ذلك يترك أيضا فترة طويلة من التكيُّف الاقتصادي و -بالتالي- التكيُّف الاجتماعي والسياسي. وليست هناك أيّ ضمانة على أنه لن يكون هناك حتى قبل أن تكون تلك الفترة قد انتهت انفجار جديد مفاجئ لإعادة بناء رأسمالية على النطاق العالمي، وضغوط جديدة تقود إلى اضطراب اقتصادي، واجتماعي، وسياسي.
وفي الوقت نفسه لم تُتَّخَذ في الاتحاد السوڤييتي حتى الخطوة الأولى. وخوفا من الفوضى ترددت الجماعة الملتفّة حول جورباتشوڤ في أن يتقدموا إلى الأمام، رغم أنهم في نفس الوقت يعرفون أنه لا يمكنهم أن يعودوا إلى الوراء. لكنْ إذا عجزت رأسمالية الدولة عن أن تحوّل نفسها إلى رأسمالية متعددة الجنسيات، فسوف ندخل بالتالي في طور طويل جدا من النضالات الاجتماعية المريرة والواقع أن قوى الاشتراكية الحقيقية لديها، رغم صغر حجمها، كل شيء تجازف من أجله.
والحقيقة أن الأحزاب التي تمتدح "السوق الحرة" -الشكل المتعدد الجنسيات للرأسمالية- قائمة الآن فعلا بصورة علنية في كل مكان في أوروپا الشرقية وبصورة شبه علنية في الاتحاد السوڤييتي. كما أن بقايا الأجهزة السياسية القديمة لرأسمالية الدولة تخلق الآن أحزابا جديدة خاصّة بها، على أمل إحياء النجاحات السياسية عن طريق الديماجوچية الموضوعة لجعل أولئك الذين يعانون في ظلّ إعادة البناء ينسون المعاناة التي تحملوها في ظلّ النظام القديم. ويقف دُعاة العنصرية والكراهية الطائفية متربصين خلف الكواليس، مستعدّين لاستغلال التحرّر من الأوهام. والمهمة الملحة للاشتراكيين الحقيقيين هي بناء أحزاب خاصة بهم، صامدين بمعارضتهم الثورية في وجه كلّ من الشكلين القديم والجديد للرأسمالية.
 


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
ملحق: كريس هارمان
من تروتسكي
إلى رأسمالية الدولة
(مراجعة نقدية لكتاب إرنست ماندل:
إلى أين يمضي الاتحاد السوڤييتي في ظل جورباتشوڤ؟ -
الطبعة الإنجليزية – لندن 1989)
 
 
 
 
 
 


من تروتسكي إلى رأسمالية الدولة
 
تظهر على الاتحاد السوڤييتي اليوم كافة أعراض مجتمع يدخل فترة ممتدّة من الاضطراب الاجتماعي والسياسي. وتشكل مثل هذه الفترات دائما تحديا كبيرا لكنها تقدّم أيضا فُرصا كبيرة لليسار الثوري عالميا  لكنْ لابدّ لليسار لكيْ يواجهها من أن يمتلك فهما واضحا لما يجري ولماذا. لابد له من أن يمتلك نظرية ثورية ترشد ممارسته الثورية.
هناك عدد من مختلف التحليلات النظرية للاتحاد السوڤييتي لدى اليسار الثوري. وإرنست ماندل واحد من أشهر أنصار النظرية التي تشخّصه على أنه دولة عمالية متدهورة، كما أن توني كليف هو أشهر أنصار النظرية التي تشخّصه على أنه رأسمالية دولة بيروقراطية. ويقدم ظهور كتاب ماندل: إلى أين يمضي الاتحاد السوڤييتي في ظل جورباتشوڤ؟ في ترجمة إنجليزية وكتاب توني كليف رأسمالية الدولة في روسيا في ترجمة فرنسية، في الشهور القليلة الأخيرة، مناسبة لنقابل بين التحليلين ولنرى أيهما ينسجم أكمل انسجام مع الحقائق الراهنة.
جاء كل من ماندل وكليف من التراث التروتسكي. كان كليف عضوا في الأممية الرابعة في فلسطين وبريطانيا خلال الثلاثينيات والأربعينيات قبل أن يلعب دورا قياديا في حزب العمال الاشتراكي (الاشتراكيون الأمميون سابقا)، والذي لا يزال مناضلا قياديا فيه. وظلّ ماندل شخصية قيادية في الأممية الرابعة منذ منتصف الأربعينيات.
انطلق كل منهما من قبول نفس التحليل عن روسيا، ذلك التحليل الذي طوّره تروتسكي في الثلاثينيات. لكن التطورات في أوروپا الشرقية في أواخر الأربعينيات قادت إلى فترة من النقاش الحاد في الحركة التروتسكية العالمية دفع بكليف وماندل إلى اتجاهين نظريين مختلفين.
كان تروتسكي قد أكد في الثلاثينيات أن البيروقراطية في الاتحاد السوڤييتي "شريحة" -فئة من فئات المجتمع استطاعت أن تستغلّ عزلة الثورة الروسية (التي كانت تزيد بدورها منها في ذلك الحين!)، وفقر البلاد، وإرهاق الجماهير لتركّز السلطة والامتيازات في أيديها هي. لكنها لم تستطع أن تفعل ذلك إلا عن طريق التذبذب بين الطبقة العاملة والقوى البرچوازية والبرچوازية الصغيرة داخليا وعالميا:
البيروقراطية السوڤييتية (سيكون من الأدق أنْ نقول: المعادية للسوڤييت) هي نتاج التناقض الاجتماعي بين المدينة والريف؛ بين الپروليتاريا والفلاحين؛ بين الجمهوريات القومية والمقاطعات؛ بين مختلف مجموعات الفلاحين؛ بين مختلف شرائح الطبقة العاملة؛ بين مختلف مجموعات المستهلكين؛ وأخيرا بين الدولة السوڤييتية ومحيطها الرأسمالي... ورافعة نفسها فوق الجماهير الكادحة، تنظم البيروقراطية وتضبط كافة هذه التناقضات...[255].
فالبيروقراطية "لم تكن طبقة مستقلة بل زائدة على جسد الپرليتاريا"[256]. إلى هذا المدى كان من الممكن مقارنتها بالبيروقراطية النقابية في الغرب: لقد خانت الطبقة العاملة واستخدمت الطبقة العاملة لتحقيق أهدافها هي، لكنها كانت لا تزال تابعة إلى حد ما للطبقة العاملة. لم تكن لها جذورها المستقلة في الملكية أو في الإنتاج، لكنها كانت زائدة طفيلية تقوم على التناقضات في حقل الاستهلاك. وبوصفها كذلك كانت تعوق تطور المجتمع، دون إحلال أيّ تطور جديد يقوم على مصالحها الطبقية الخاصة. "يمكن لورم أن ينمو إلى حجم هائل وحتى أن يخنق الكائن الحيّ، لكنْ لا يمكن أبدا لورم أن يصبح كائنا حيا مستقلا"[257].
لهذا، أدت البيروقراطية إلى عرقلة تطور البلاد. "لا بدّ للمزيد من نموّ النزعة البيروقراطية دون عراقيل أن يقود حتما إلى توقف النمو الاقتصادي والثقافي، وإلى أزمة اجتماعية مفزعة، وإلى اندفاع المجتمع بأسره في طريق الانحدار"[258].
في صياغته المبكرة لهذا التحليل استخلص تروتسكي الاستنتاج القائل بأن البيروقراطية كان لا يزال من الممكن إعادتها إلى الطريق الصحيح سلميا من جانب طبقة عاملة ناهضة من جديد.
الإقرار بأن الدولة السوڤييتية الراهنة دولة عمالية لا يعني فقط أن البرچوازية لا يمكنها أن تنتزع السلطة إلا بواسطة انتفاضة مسلحة، بل يعني أيضا أن پروليتاريا الاتحاد السوڤييتي لم تفقد بعد إمكانية إخضاع البيروقراطية لنفسها، وإحياء الحزب، وبعث نظام الديكتاتورية -بدون ثورة جديدة، بأساليب الإصلاح وعلى دربه[259].
لكنه لم يخش تغيير تقييمه في ضوء التجربة القاسية لما كانت تعنيه الستالينية التي تربّعت على السلطة. في أكتوبر 1933 كتب يقول: "لا يمكن إجبار البيروقراطية على تسليم السلطة إلى أيدي الطليعة الپروليتارية إلا بالقوة"[260].
أما الثورة المغدورة، المكتوب بعد ذلك بثلاث سنوات، فكان متشبّثا تماما بفكرة أنه لا يمكن إصلاح أيٍّ من الحزب والدولة:
تتفق كافة الدلائل على أن السياق اللاحق للتطور لابد أن يُفضي حتما إلى صدام بين قوى الشعب المتطورة ثقافيا والأوليجارشية البيروقراطية. وليست هناك محصلة سلمية لهذه الأزمة. لم يسبق قطّ لشيطان أن قطع مخلبه بنفسه. إن البيروقراطية السوڤييتية لن تتخلَّى عن مواقعها دون قتال. ومن الجلي أن التطور سيقود إلى طريق الثورة[261].
هذه الثورة كانت -كما أكد تروتسكي- ثورة "سياسية" وليست اجتماعية، رغم أنها لابد أن تكون ثورة سياسية ذات "نتائج اجتماعية عميقة"[262].
بل ازداد موقف تروتسكي من البيروقراطية صرامة في السنوات الأربع الأخيرة قبل مقتله. فقد ألحّ على أنها قوة معادية للثورة، ونتاج لضغط البرچوازية على الطبقة العاملة. لكنه كان لا يزال يلحّ على أنها ليست طبقة. أرادت أقسام ذات نفوذ قويّ من البيروقراطية أن تحوّل نفسها إلى طبقة، لكنْ لم يكن بمستطاعهم أن يفعلوا ذلك إلا عن طريق إقرار الملكية الخاصة في الصناعة -وقد منعهم الخوف من الطبقة العاملة من أن يفعلوا ذلك. "إنها [البيروقراطية] لا تحتفظ بملكية الدولة إلا بقدر خوفها من الپروليتاريا..."[263].
وتماما كما لم يكن بمستطاع الطبقة العاملة أن تقيم دولة عمالية سليمة بدون ثورة، لم يكن بمستطاع البيروقراطية أن توطد نفسها كطبقة حاكمة بدون ثورة مضادة حقيقية. كانت البيروقراطية تبدو قوية للغاية، كما أكّد تروتسكي. لكن قوتها لم تكن لتدوم طويلا في واقع الأمر، "البوناپرتة بحكم جوهرها ذاته لا يمكنها أن تثبِّت نفسها طويلا: إن جسما كرويا متوازنا على رأس هرم لابدّ أن يتدحرج حَتْما إلى هذا الجانب أو ذاك"[264].
وقد تمثلت إحدى حججه ضدّ "نظرية الطبقة الجديدة" التي طوّرها شاختمان وآخرون في 1939 في أننا كاشتراكيين ثوريين "سنضع أنفسنا في وضع يدعو إلى السخرية إذا نحن ألصقنا بالأوليجارشية البوناپرتية تسمية طبقة حاكمة جديدة قبل سقوطها الشائن بسنوات قليلة أو حتى بأشهر قليلة فقط"[265].
وفي 1940 أوضح هذه الحجة بقوة أيضا  فاندلاع الحرب سيشكّل ازديادا في كافة الضغوط المتناقضة داخل الاتحاد السوڤييتي ولن تكون هناك أيّ فرصة للبيروقراطية لأن تكون قادرة على مواصلة عملها للحفاظ على التوازن. "في حالة حرب طويلة الأمد مصحوبة بسلبية الپروليتاريا العالمية لابدّ للتناقضات الداخلية في الاتحاد السوڤييتي من أن تُفضي -وليس فقط ربما- إلى ثورة مضادة برچوازية-بوناپرتية"[266].
المشكلة التي كان على أنصار تروتسكي أن يواجهوها بعد الحرب تمثلت في أن البيروقراطية الستالينية، بعيدا عن أنْ تتداعى أو حتى تضعف، كانت أقوى من أيّ وقت مضى. كانت جيوشها قد وسّعت حدود الاتحاد السوڤييتي وأقامت أنظمة مماثلة فعلا للاتحاد السوڤييتي في أوروپا الشرقية -وهذا إنجاز سرعان ما سينسخه جيش ماوتسي تونج في الصين. وإذا كان الاتحاد السوڤييتي دولة عمالية متدهورة فمن المنطقي بالتالي أن تكون هذه الأنظمة شكلا ما من الدولة العمالية كذلك. لكن ما الذي حدث آنذاك لقناعات تروتسكي المتعلقة بأن البيروقراطية الستالينية كانت "معادية للثورة" -أو للقناعة الماركسية العامة المتعلقة بأن الثورة من تحت ضرورية لتدمير الرأسمالية؟
تصارع ثوريّو الأممية الرابعة مع هذه التناقضات في تحليل تروتسكي خلال 47-1949. حاول بعضهم (بما فيهم كل من كليف وماندل بعد فترة وجيزة) أن يكيفوا الوقائع مع التحليل القديم: كانت روسيا دولة عمالية متدهورة، أما دول أوروپا الشرقية فكانت ديكتاتوريات برچوازية (وهو موقف لا تزال منظمة النضال العمالي في فرنسا تتظاهر بالإيمان به). لكنْ سرعان ما تبلور موقفان، يختلف كل منهما بطريقته الخاصّة عن موقف تروتسكي.
تمثلّ الموقف الأول في استخدام الكثير من اللغة المميزة لصيغ تروتسكي، لكنْ لقبول أن الستالينية كان بمستطاعها أن تكون قوة ثورية رغم أنفها، ولإعلان دول أوروپا الشرقية "دولا عمالية مشوّهة". كان هذا هو الموقف الذي اتخذه ماندل، وپيير فرانك Pièrre Frank، وميشيل پابلو Michel Pablo، وآخرون.
هذا هو الطريق الذي قاد بعض الناس بكل سهولة بعيدا عن روح نظرية تروتسكي. پابلو، على سبيل المثال، انتهَى إلى أنه إذا كان بوسع الأحزاب الستالينية أن تكون ثورية، فإن الإنسانية تواجه بالتالي "مئات السنين من الدول العمالية المشوّهة" ويتمثّل عمل الثوريين في خلق هذه الدول عن طريق دخول الأحزاب الستالينية[267]. في نفس الوقت أكّد إسحق دويتشر، وهو تروتسكي من جيل ما قبل الحرب كان قد عارض تكوين الأممية الرابعة، أن نموّ الصناعة داخل روسيا سيقود الستالينية آليا إلى إصلاح نفسها. ومن جديد تمثل المنطق في التخلي عن السياسة الثورية المستقلة. كتب دويتشر في 1953 يقول إن "نتيجة عصيان برلين كانت موضوعيا معادية للثورة وليست ثورية" لأنه ساهم في "سقوط بيريا Beria" في وقت "كان بيريا واحدا من أولئك الذين أيّدوا الإصلاح الديمقراطي"[268]. وفيما بعد نقل دويتشر ثقته إلى خروشوڤ، وكتب عن انتفاضات الخمسينيات قائلا:
أوروپا الشرقية (المجر، وپولندا، وألمانيا الشرقية)... وجدت نفسها على حافة استعادة البرچوازية عند نهاية عهد ستالين؛ ولم يوقفها هناك سوى القوة المسلحة السوڤييتية (أو التهديد بها)[269].
في الوقت ذاته، أيّد قسم من أنصار پابلو سحق الثورة المجرية بالقوات الروسية. وبطبيعة الحال فإن مثل هؤلاء الأشخاص لم يكونوا بالضرورة غير نقديّين للستالينية أو لخروشوڤ. وإلى نهاية حياته في 1968 واصل دويتشر الجدال في سبيل طبعة ديمقراطية من الاشتراكية. لكن النقطة الهامة هي أنه نظر إلى البيروقراطية الروسية، التي تعمل من فوق، على أنها وسيط بمستطاعه أن يأخذنا جزءًا من الطريق إلى هناك.
نجح الاتجاه السائد في الأممية الرابعة في تفادي مثل هذه الاستنتاجات المتطرفة لكنهم كانوا يميلون فعلا إلى النظر إلى الكتلة الروسية على أنها قوة تاريخية تقدمية. ماندل، على سبيل المثال، سيؤكد أن معدّل نموّ الاقتصاد الروسي كافٍ وحده لإثبات تفوّق اقتصاده على أيّ رأسمالية (ناسيا توقّع تروتسكي قبل ذلك بقرابة 20 سنة الانهيار الوشيك لذلك الاقتصاد!):
يحتفظ الاتحاد السوڤييتي بإيقاع متوازن تقريبا للنمو الاقتصادي، خطة بعد خطة، وعقدا بعد عقد، دون أن يُثقل التقدّم المتحقّق في الماضي على إمكانيات المستقبل... لقد جرى التخلص من كافة قوانين تطور الاقتصاد الرأسمالي التي تؤدي إلى تباطؤ في سرعة النموّ الاقتصادى[270].
وإذا كان ماندل لم يرتكب قط خطأ دويتشر المتمثل في معارضة ثورتي 1953 في ألمانيا الشرقية و 1956 في المجر، فقد كان يميل حقا إلى مطابقة الإصلاح من أعلى في أوروپا الشرقية مع "الثورة السياسية". هكذا عبَّر عن تفضيل واضح في 1956 لأساليب جومولكا في وارسو على تلك الخاصة بالثوار في بوداپست. وكان بمستطاعه أن يكتب أنه رغم أن "الديمقراطية الاشتراكية ستظل أمامها معارك مثيرة تكسبها في پولندا، فإن المعركة المبدئية، التي أتاحت لملايين العمال أن يطابقوا أنفسهم من جديد مع الدولة العمالية، قد تم كسبها في الواقع"[271].
ويواصل هذا الاتجاه اليوم كثير من الأشخاص الذين يزعمون أنهم ينطلقون من تحليل تروتسكي. هكذا، على سبيل المثال، يضع طارق على -الذي يقول إن "تكوينه السياسي" قد "تأثر إلى حد كبير بإسحق دويتشر، وليون تروتسكي، وإرنست ماندل (بذلك الترتيب)"- ثقة هائلة في جورباتشوڤ في كتابه الذي هو اسم على مسمًّى: الثورة من فوق. "لكيْ يحافظ على الاتحاد السوڤييتي" يكتب طارق على، "يحتاج جورباتشوڤ إلى أن يستكمل الثورة السياسية الجارية الآن".
لحسن الحظ، نجد نغمة كتاب ماندل عن الپيريسترويكا مختلفة. وهو يخبرنا بما يلي:
يمثل جورباتشوڤ استجابة الجناح التحديثي للبيروقراطية إزاء تهديد استقرار حكمها، هذا التهديد الذي تمثله هذه الأزمة [أزمة النظام السوڤييتي] وكذلك تقدُّم الإدراك العام. توجيه هذه التغيرات ومحاولة إبقائها تحت سيطرة البيروقراطية -هذا هو المشروع التاريخي لجناح جورباتشوڤ من البيروقراطية السوڤييتية[272].
ويشكِّل أساس الواقعية الظاهرة لجورباتشوڤ رؤية للواقع محافظة بصورة عميقة، وتنسجم تماما مع المحافظة الاجتماعية والأيديولوچية للبيروقراطية السوڤييتية...[273].
ويجادل ماندل بقوة ضدّ أولئك الذين يقولون إن ما يجري الآن "ثورة من فوق":
الهدف الحقيقي لما يجري هو منع انفجار ثوري، أيْ منع "ثورة من تحت". لكنْ، لهذا السبب بالذات، تُعدّ هذه التدابير إصلاحات جذرية وليست ثورة بالمعنى الصحيح للكلمة...[274].
لكن اللهجة ليست واثقة هكذا دائما، كما هو الحال عندما يكتب قائلا أن "الحكم الصحيح الوحيد" على التدابير التي اتخذها جورباتشوڤ "حكم مدقق، حالة حالة، ومشكلة مشكلة... أمر مزعج جدا لأولئك المبالغين في التبسيط"[275]. وكأنّ ماندل، بعد أن اتخذ اتجاها جادا ضد أولئك الذين من أمثال طارق على، الذين يريدون منا أن نضع ثقتنا في جورباتشوڤ، لا يزال غير مقتنع تماما بأنهم مخطئون.
لكنْ إذا كانت استنتاجات ماندل ليست متماسكة تماما، فإن التحليل الذي يبنيها عليه أقلّ تماسكا في الواقع. ولا يقتصر الأمر على مجرّد أن الكتاب يشتمل على عدد يثير الغيظ من الأخطاء الأولية المتصلة بالوقائع[276]. فالأكثر أهمية أن الأساس النظري للمناقشة مزعزع من الناحية الجوهرية.
والمشكلة الأكثر أساسية مع هذا التحليل تتعلّق بفهم ماندل للبيروقراطية. فهو يلحّ على أن البيروقراطية ليست طبقة: "البيروقراطية العليا (النومينكلاتورا) ليست طبقة حاكمة بل قسم من طبقة اغتصب السلطة من الطبقة العاملة..."[277].
ويقوده هذا إلى كافة أنواع التناقضات. فهو يكتب قائلا إن "الشريحة البيروقراطية تحتكر السلطة السياسية تماما كما تحتكر السلطة الاقتصادية"[278] وأن "مصالح جمهور المنتجين، العمال الفلاحين... تتعارض مع مصالح الموجهين/المديرين..."[279].
وهو يطبقّ على ذلك ما يسميه "بالقانون الجوهري الذي ينبثق من تاريخ مختلف المجتمعات"، والقائل بأن "المجموعة الاجتماعية (الطبقة الاجتماعية أو قسم رئيسي من طبقة اجتماعية) التي تسيطر على الفائض الاجتماعي بفضل مكانها في عملية الإنتاج، تسيطر إلى درجة كبيرة على كافة النشاطات الأخرى أيضا"[280]. وينتج من "التفسير المادي للتاريخ" أن:
علاقات السيطرة تنبع من علاقات الإنتاج. ولا يمكن لعلاقات السيطرة هذه، إلا خلال فترات وجيزة من السلطة المزدوجة، أن تكون متعارضة جوهريا مع علاقات الإنتاج.
لكنْ إذا كانت البيروقراطية "تسيطر على الفائض الاجتماعي" بفضل "دورها في عملية الإنتاج"، فإن "دورها" ينطوي إذن على استغلالها للمنتجين المباشرين. و"الجماعة" التي تستغل المنتجين المباشرين هي، بحكم التعريف، طبقة مستغلّة (بكسر الغين).
بطبيعة الحال، كانت هناك حالات كثيرة تاريخيا قام فيها قسم من طبقة مستغلة بتركيز السلطة في أيديه واغتصب بذلك جانبا كبيرا من الفائض الذي كان يجري توزيعه من قبل على أقسام أخرى من الطبقة الحاكمة. كان هذا يصحّ، على سبيل المثال، على الملكية الإقطاعية المتأخرة، ووفقا لماركس على نظاميْ كلّ من لويس فيليپ ولويس بوناپرت. لكن الفائض في هذه الحالات كان يأتي، في المقام الأول، من الاستغلال الطبقي للمنتجين المباشرين. كان "القسم من الطبقة" قسما من طبقة مستغلة (بكسر الغين).
من التزييف التام للماركسية أن يُزعم أن قسما من الطبقة العاملة، أيْ من طبقة مستغلة (بفتح الغين)، يمكنه أن يسيطر على الفائض الناشئ عن الاستغلال. لكن ماندل لا يواصل هذا الخط في المناقشة. فبعد ثلاث صفحات من إيراده ينكر ماندل برهانه هو:
بخلاف طبقة حاكمة حقيقية، البيروقراطية عاجزة عن أن تقيم امتيازاتها المادية على الأداء(أيْ إعادة الإنتاج) المتماسك للنظام الاقتصادي، ولدورها في عملية الإنتاج...[281].
وهكذا فالبيروقراطية في صفحة "تسيطر على الفائض الاجتماعي" بفضل "دورها في الإنتاج". وبعد ثلاث صفحات نجد "امتيازاتها المادية"، التي يُفترض أنها جزء من الفائض، لا تأتي من "دورها في عملية الإنتاج". ثم يزداد تشوُّش المناقشة كلها أكثر عندما يُقال لنا فيما بعد: "في الواقع، لا يوجد في الاتحاد السوڤييتي مجتمع اشتراكي، مجتمع بلا طبقات"[282].
هذا التشوُّش حول ما إذا كانت البيروقراطية طبقة حاكمة جزء من تشوُّش أوسع. في عرض ماندل لا وجود لتفسير لدينامية الاقتصاد السوڤييتي. ماندل، كما رأينا من قبل، اعتاد أن يؤمن بوجهة النظر القائلة بأن التخطيط جعل الاقتصاد الروسي قادرا على التوسُّع بلا حدود. أما الآن فقد جعله الواقع التجريبي يغير رأيه. وهو يتحدث عن "الأزمة" الاقتصادية، ويقول: "المظهر الصارخ أكثر لهذه الأزمة هو تباطؤ معدّل النمو الاقتصادي"[283].
وهو يفسّر هذا بثلاث طرق.
أ) يؤكّد ماندل أن:
التطور المتناقض للمجتمع السوڤييتي هو بالتحديد نتاج لاقتران الدينامية والجمود. وتنبع الدينامية من النمو الاقتصادي والاجتماعي (الذي هو نتاج لما يبقى من ثورة أكتوبر) والذي يثير الإعجاب في الأمد الطويل، حتى إن كان يتباطأ سنة بعد سنة. وينبع الجمود من القبضة البيروقراطية الخانقة على الدولة والمجتمع ككل. وهذا الجمود عقبة أمام المزيد من النمو[284].
وفي موضوع آخر يقدم ماندل نفس الفكرة بطريقة تختلف اختلافا طفيفا:
الشريحة المسيطرة في المجتمع تبدو عاجزة عن تطوير النظام[285].
... المصالح المادية للبيروقراطية [هي] القوة المحركة الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة، لتحقيق الخطة، وللأداء اليومي للنظام. وهذا يسلب الاقتصاد بأسره أيّ شكل من أشكال العقلانية الاقتصادية. والمصالح المادية للبيروقراطية تدفع في اتجاه استمتاع متزايد بالسلع والخدمات للبيروقراطية نفسها وليس في اتجاه تحقيق الناتج الأمثل للمشروعات -وبلا شك ليس في اتجاه تحقيق الحد الأقصى لمعدّل التراكم[286].
ب) ويمضي ليؤكّد أنه:
من الناحية التقنية يعبّر الهبوط في معدّل النمو عن الزيادة المنتظمة لما يمكننا في الاقتصاد الرأسمالي أن نسمية "مُعامل رأس المال". إن حجم الاستثمار اللازم لزيادة الدخل القومي بنسبة 1 في المائة يزداد من خطة خمسية إلى التالية[287].
ج) وأخيرا يزعم ماندل أن:
علاقات الخطة/السوق، أو ما يعني نفس الشيء: علاقات الاستبداد البيروقراطي/قانون القيمة... [هي] التناقض الجوهري للاقتصاد...[288].
ولنفحص هذه الطرق واحدة واحدة.
في نقطته الأولى لا يعني حديث ماندل عن "اقتران الدينامية والجمود" شيئا إلا إذا كان المقصود هو أن هذا الاقتصاد كان يبدو ديناميا للغاية، بمعدلات نمو أعلى من معظم البلدان الغربية المتقدمة (ليس كلها مع ذلك: من المحتمل أن الياپان حققت معدلات أفضل)، ولكنه يميل بصورة متزايدة إلى الركود. لكن من الخطأ تماما أن نحاول تفسير الدينامية "بما بقي من ثورة أكتوبر" والركود "بالقبضة البيروقراطية الخانقة". مثل هذا التفسير يعني أن "القبضة البيروقراطية الخانقة" كانت أقلّ وأن "بقايا ثورة أكتوبر" كانت أكبر - في زمن محاكمات موسكو ومن خمسة إلى عشرة ملايين من الشغيلة المستعبدين- منهما في الوقت الحاضر.
والواقع، كما بيّنت كلّ دراسة جادة للخطط الخمسية والتصنيع، أن الاندفاع في اتجاه التصنيع والزراعة الجماعية قام به جناح ستالين من البيروقراطية (وإنْ كان صحيحا أن ذلك تم بمساعدة الزينوڤييڤيين السابقين، والمعارضين اليساريين المذعنين من أمثال پريوبراچينسكي وراديك، والجمهور الغفير من البوخارينيين التائبين). وقد جاء ذلك الاندفاع في أعقاب ما سمِّيَ أحيانا "بالثورة الستالينية" -البقرطة النهائية والكاملة للحزب، وآلة الدولة، والنقابات، واستخدام الشرطة السياسية (چي پي يو) لمحو كل تعبير عن المعارضة[289].
هذه البقرطة لم تَقُدْ ببساطة، ولا حتى بصفة رئيسية، "في اتجاه ازدياد استمتاع البيروقراطية نفسها بالسلع والخدمات". لقد قادت قبل كل شيء، رغم ما يزعم ماندل بخلاف ذلك، إلى معدّل ضخم للتراكم ولم يكن هذا التراكم في "السلع والخدمات" التي يستهلكها البيروقراطيون، بل كان، قبل كل شيء، في الصناعة الثقيلة في الحديد، والصلب، والأسمنت، وتوليد الكهرباء، والفحم، والپترول.
في الآونة الأخيرة أمدّنا الاقتصادي الروسي، ڤاسيلي سليونين، بأرقام عن التراكم في الاتحاد السوڤييتي منذ العشرينيات. وهو يبدأ بأرقام من أجانبيچان تبيّن أن 25 في المائة من الدخل القومي الراهن تذهب إلى "الادخار" و75 في المائة إلى الاستهلاك. ثم يُعيد حساب هذه الأرقام آخذا في اعتباره التشويه الناتج عن الأسعار وينتهي إلى أن "صندوق الاستهلاك يصل إلى 60 في المائة من الدخل وصندوق المدخرات إلى 40 في المائة. ومثل هذا المستوى المرتفع من تكوين المدخرات هو، من الناحية الجوهرية، مستوى زمن الحرب"[290]. وهو يقابل مستوى وسطيا لإجمالي التراكم في الدول الغربية يتراوح بين 15-20 في المائة.
ويمضي سليونين ليبيّن كيف ارتفع المستوى الحقيقي للتراكم في الاتحاد السوڤييتي ارتفاعا متواصلا منذ العشرينيات، فيقدّم الأرقام التالية: في 1928 كانت السلع الاستهلاكية 60.5 في المائة من الناتج، في 1940-39 في المائة، في 1960-27.5 في المائة، في 1985–25.2 في المائة. وينتهي إلى أن الأرقام المقدمة رسميا لمعدّل التراكم لابد أنها تقدير منخفض على نحو فظّ:
هل يمكن تصوُّر أن ثلاثة أرباع الدخل تذهب وفقا للأرقام الرسمية إلى الاستهلاك في حين أن السلع الاستهلاكية لا تتجاوز رُبْع الناتج الصناعي؟ لا يمكنك أن تمنع نفسك من التساؤل عما هي السلع التي يتم شراؤها بصندوق الاستهلاك.
وضعتنا التحولات في اتجاه تصنيع السلع الإنتاجية في وضع ينطوي على مفارقة حيث لا تملك معدلات النمو المتسارعة ولا النمو الأسرع في الدخل القومي سوى تأثير طفيف للغاية على مستوى المعيشة إن الاقتصاد يعمل بصورة متزايدة من أجل نفسه، وليس من أجل الإنسان[291].
قد يكون هذا أمرا لا عقلانيا من وجهة نظر جمهور العمال الروس، الذين يتراكم عملهم دون أن يكسبوا شيئا  لكن من المؤكد أنه ليس سياسة تقوم على إنتاج السلع من إجل استهلاك البيروقراطية وحدها -إلا إذا كنت تعتقد أن "الكوادر الفولاذيين" يأكلون المواد الخام حقا!
والواقع أن البيروقراطية قد أشرفت على سياسة تراكم وتصنيع ضخمين، ومن الخطأ تماما زعم أنها منعت حدوث ذلك.
ثانيا، يزعم ماندل أن النمو في "مُعامل رأس المال" نتاج ﻟ "تزايد عدم استخدام الموارد، الناشئ من القصور العام في أداء الاقتصاد، بالإضافة إلى الإنتاجية المنخفضة لعمل الإنسان".
لكن هذا من قبيل افتراض صحة المطلوب إثباته. إذا كان عدم استخدام الموارد "يتزايد"، لماذا؟ هناك "قصور عام في أداء الاقتصاد" و"إنتاجية عمل منخفضة". لكن هل هناك أيّ سبب لأن تكون هذه الأشياء أسوأ اليوم مما كانت في زمن ستالين وخروشوڤ؟
ربما توقع المرء من ماركسي أن يبحث النمو في "معامل رأس المال" بدقة أكثر مما يفعل ماندل. فالمعامل يتصل اتصالا وثيقا بالمفهوم الماركسي عن التركيب العضوي لرأس المال. والمعامل هو نسبة وسائل الإنتاج إلى الناتج، التركيب العضوي لنسبة وسائل الإنتاج إلى قوة العمل (بقياس كل ذلك بمعايير القيمة). إذا ارتفع أحد الحدّينْ يصبح من المتوقع أن يرتفع الآخر كذلك.
وبطبيعة الحال، كان التركيب العضوي متزايد الارتفاع لرأس المال، في نظر ماركس، أساس التناقض الجوهري للاقتصاد الرأسمالي، ميل معدل الربح إلى الهبوط والاقتصاد بصورة متزايدة إلى الركود. وإذا كان يشكل أساس أزمة الاتحاد السوڤييتي أيضا، فإن الاكتشاف له دلالة بالغة حقا، ولا ينبغي تبريره ببساطة بادّعاء أن اللاعقلانية وعدم الكفاءة أكبر في الوقت الحاضر منهما في ذروة إرهاب ستالين في الثلاثينيات.
وأخيرا، ماذا عن محاولة فهم "التناقض الجوهري" على أنه بين "الخطة" و"السوق"، أو بين "الاستبداد البيروقراطي" و"قانون القيمة"؟
وصيغة ماندل هنا معيبة نظريا وخطرة سياسيا في آن معا.
يعمل قانون القيمة في المجتمعات التي يوجد فيها إنتاج سلعي -وبوجه خاص الشكل الأكثر تطورا للإنتاج السلعي. والوظيفة (الضرورية لأيّ مجتمع) المتعلّقة بتوزيع العمل بين مختلف الإجراءات الإنتاجية، لا يتم القيام بها بصورة واعية في مثل هذه المجتمعات، بل تتم بالأحرى من خلال التفاعل الأعمَى بين منتجات مختلف إجراءات العمل المنظمة بصورة مستقلة عن بعضها. ومنظمو مختلف إجراءات العمل هذه يتنافسون فيما بينهم، وهذا التنافس يُجبر كُلا منهم على محاولة أن يظلّ في طليعة الآخرين في رفع إنتاجية العمل -من خلال كلّ من فَرْض عمل أقسى واستثمار وسائل إنتاج متزايدة التقدم دوما وهم بتصرّفهم بهذه الطريقة، يقيمون الصلة على نحو متواصل بين كل إجراء من إجراءات العمل الملموس وكل إجراء آخر من إجراءات العمل الملموس يجري القيام به ضمن النظام، أو -كما يعبرّ ماركس- يحوّلون العمل الفردي الملموس إلى عمل اجتماعي مجرّد.
وقانون القيمة هو الضغط الذي يوجد في مثل هذا النظام مُجبرا كل وحدة منفردة من وحدات النظام على الارتباط بالإنتاجية في كل وحدة أخرى. وهو القوة الاقتصادية القسرية التي تلغي رغبات ونوايا أولئك الذين يديرون الأجزاء المنفردة من النظام. وفي ظلّ الرأسمالية، من المؤكد أن قانون القيمة ليس شيئا مناقضا بالضرورة "للاستبداد البيروقراطي" أو -لنفس السبب- للتخطيط داخل الشركات المنفردة. العكس تماما -فهو يُجبر المديرين على أن يكونوا مستبدين، وعلى تضييق الخناق على العمال، وهو يُجبرهم كذلك على أن "يخططوا" الترتيبات الداخلية ضمن نطاق الشركة للوفاء بمتطلّبات المنافسة خارجها. وكما عبر ماركس: "فوضى السوق تُحتّم طغيان المصنع".
صحيح أيضا أن الرأسمالية نظام يتطور بصورة متواصلة، بتجديدات وتقدّم تقني تحدث في بعض أجزاء النظام قبل الأخرى. في مكان آخر من النظام لا تعود الأشكال القديمة "للطغيان داخل الشركة" -الأساليب القديمة للتخطيط الرأسمالي- منسجمة عندئذ مع ما هو ضروري لمواكبة الصراع من أجل إنتاجية متزايدة. عندئذ يدخل قانون القيمة في تناقض مع الأشكال القائمة لتنظيم الإنتاج.
يحدث التناقض بين "الاستبداد البيروقراطي" و"قانون القيمة" لأن المجتمع خاضع لقانون القيمة. هل يمكن أن يصدق هذا على الاتحاد السوڤييتي؟ فقط في حالة قبولك أن الاتحاد السوڤييتي مجتمع منتج للسلع، شكل مختلف من أشكال الرأسمالية.
لم يمثّل هذا أيّ مشكلة لتروتسكي وپريوبراجينسكي وهما يكتبان في أواسط العشرينيات. فرغم أن الدولة كانت تسيطر على الصناعة الكبيرة في الاتحاد السوڤييتي، كان القطاع الزراعي بكامله من الناحية العملية، وقسم كبير من التجارة، وكثير من الإنتاج الحرفي، في أيدي الأفراد. كانت الدولة تتاجر مع القطاع الخاص ومع البلدان الرأسمالية خارج البلاد، ولهذا كانت تتعرّض لضغوط الإنتاج السلعي ذاته. في هذا الوضع كان بمستطاع تروتسكي وپريوبراجينسكي أن يكتبا عن التعارضات بين الضغوط الآتية من ناحية من متطلّبات الإنتاج السلعي ("قانون القيمة") وتلك الآتية من ناحية أخرى من المحاولات التي تقوم بها الدولة لتخطيط الاقتصاد وفقا لمصالح مجموعة اجتماعية أو أخرى.
لكن من أين تأتي اليوم الضغوط الخاصّة بإشباع متطلبات الإنتاج السلعي؟ قضى ستالين في واقع الأمر على البرچوازية الصغيرة الريفية والحضرية. ويسيطر قطاع الدولة تماما على الاقتصاد. وإذا كان الاتحاد السوڤييتي، كما يؤكد ماندل، "مجتمعا بعد رأسمالي"، مجتمعا لم يعد يسيطر عليه الإنتاج السلعي، فمن الصعب إذن أن نفهم لماذا ينبغي لقانون القيمة أن يتعارض مع أساليب البيروقراطية في إدارة الاقتصاد. إن ذلك أشبه ما يكون في الواقع بأن نتوقع أن تعمل قوانين الديناميكا الهوائية في حيز مفرّغ من الهواء -إلا إذا كان يقرّ دون قصد بما ينكره على طول بقية كتابه، بأن البيروقراطية مجبرة على أن تسلك كطبقة رأسمالية.
هناك تفسير خطير يمكن إيراده على صيغته: أن الاقتصاد المدار بيروقراطيا "يناقض قانون القيمة"، رغم أنه بطبيعته أقل كفاءة من اقتصاد رأسمالي قائم على السوق، وهذه، دون شك، قناعة جمهرة برمّتها من أيديولوچيِّيي الرأسمالية الغربية. وهي أيضا قناعة كثير من أولئك الذين ينظرون إلى الاتحاد السوڤييتي على أنه شكل جديد من أشكال المجتمع الطبقي، لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي: إنهم ينظرون إليه على أنه "استبداد شرقي" أو "جماعية بيروقراطية" بدينامية مختلفة تماما عن الرأسمالية -في الحقيقة بلا أيّ دينامية على الإطلاق عادةً، ولهذا ينبغي النظر إليه على أنه أدنى من الرأسمالية. هذا من الناحية الجوهرية هو اليوم، على سبيل المثال، موقف مجموعة المثقفين الملتفين حول مجلة كريتيك في بريطانيا. وكان هذا أيضا هو التحليل الذي قاد التروتسكي الأمريكي السابق ماكس شاختمان إلى تأييد غزو خليج الخنازير لكوبا.
لا يتجه ماندل، بطبيعة الحال، إلى مثل هذه الاستنتاجات العملية الرهيبة. لكنه يلجأ فعلا إلى صيغ من شأنها أن تقود الآخرين إليها، كما هو الحال عندما يؤكد أن "وضوح المعلومات ونشرها دون عوائق... تكفلهما الملكية الخاصة داخل نطاق المشروعات الرأسمالية"[292].
في الواقع، على وجه التحديد لأن فوضى السوق تقود إلى طغيان المصنع، فهي تقود أيضا إلى القصور البيروقراطي داخل نطاق الشركة، وإلى محاولات لخنق التجديد، وإلى افتقار إلى سيطرة الإدارة العليا على إدارة المصنع. ويتميز أداء أيّ شركة رأسمالية بسلسلة كاملة من الممارسات التي لا تلغيها آليّة ما أوتوماتيكية سلسة التشغيل، بل فقط إعادة التكييف الدورية للإنتاج الداخلي مع قانون القيمة الخارجي عبْر الأزمة و"إعادة الهيكلة". أكثر من ذلك، يعني التركيز والتمركز المتزايدان لرأس المال أن الشركات تكبر دوما، وأن الاستبداد البيروقراطي داخل الشركة يقوَى دوما، وأن درجة إعادة الهيكلة والأزمة المطلوبة لإشباع قانون القيمة تغدو دوما أكبر وأكثر خللا
وهذه النقطة هامة. فنحن مواجهوان طول الوقت بدعاية وسائل الإعلام تخبرنا أن "أزمة الشيوعية" تبيّن كفاءة الرأسمالية الغربية. ولا ينبغي أن نتزحزح قيد أنملة فيما يتعلق بهذه الحجة.
من المؤسف أن هذه ليست النقطة الوحيدة التي يعطي ماندل فيها حجة. ففي نقطة أخرى يقول إن السبب في أن الخدمة الصحية في الاتحاد السوڤييتي أسوأ منها في الولايات المتحدة هو أن "الأطباء في الاتحاد السوڤييتي يبدّدون قدرا كبيرا من وقتهم في ملء الاستمارات"[293]. على أن الرعاية الصحية الأمريكية شهيرة بعدم كفاءتها (وهي تلتهم نسبة من الناتج القومي تبلغ ثلاثة أضعاف النسبة الخاصة بالاتحاد السوڤييتى، أو ستة أضعاف إجمالي الاعتمادات) على وجه التحديد لأن الأطباء الأمريكيين يبدّدون قدرا كبيرا من الوقت في مراجعة أرصدة مرضاهم في البنوك!
ويظهر الافتقار إلى التماسك النظري في تحليل ماندل بكلّ وضوح عندما يكتب قائلا إن مقاربة "ستيفن كوهن Stephen Cohen وموشيه ليڤين Moshe Lewin"..."مماثلة لمقاربة كاتب هذه السطور"[294]. وقد قدّم كلّ من كوهن وليڤين أعمالا تاريخية مفيدة. لكنهما كلاهما أيضا بوخارينيان متزمتان، يعتقدان أن الاعتماد على السوق كان من شأنه أن يحلّ كافة مشكلات الاتحاد السوڤييتي الاقتصادية في الثلاثينيات ويفهمان مهمتهما على أنها نُصح قادة الاتحاد السوڤييتي باتباع سياسة اعتماد كهذا في الوقت الحاضر.
ملاحظة عملية، أخيرة، على تحليل ماندل. كان تروتسكي ينظر إلى البيروقراطية على أنها زائدة طفيلية غير مستقرّة. وقد قاده هذا إلى استنتاج أن الأزمة الكبرى التي توقعها في غضون "سنوات قليلة، إنْ لم يكن أشهر قليلة" ستؤدي بالأقسام الرئيسية من البيروقراطية إلى أن تؤثر تحويل نفسها إلى طبقة برچوازية تقوم على أساس الملكية الخاصة. "ليس بصورة عضوية من خلال التدهور، بل من خلال الثورة المضادة"[295].
وأولئك الذين ينطلقون من المعنى الحرفي لتحليل تروتسكي اليوم ينقسمون إلى ثلاثة معسكرات. هناك أولئك الذين ينظرون إلى الأزمة الحالية في الاتحاد السوڤييتي على أنها تلك التي حذر منها تروتسكي (متجاهلين فترة زمنية فاصلة قدرها 55 سنة أشرفت البيروقراطية خلالها على تقدّم ضخم في قوى الإنتاج). وقد استخلص هؤلاء الاستنتاج القائل بأن المصلحين داخل الاتحاد السوڤييتي وأوروپا الشرقية الذين يتحدثون اليوم عن السوق يمثلون قوى "نزعة الاستعادة البرچوازية" وأن مهمة الثوريين تتمثل في مقاومتهم. ومنطق هذا الموقف هو تقديم تأييد نقدي لليجاتشيڤيين -القوى الأكثر رجعية في الاتحاد السوڤييتي.
يتمثل التفسير الثاني في القول بأن إصلاحات جورباتشوڤ تواصل "الثورة السياسية"، وفي تقديم تأييد نقدي له.
والرأي الثالث، وهو الذي يؤمن به ماندل في المقام الأول: في كتابه (وإنْ بصورة غير متماسكة، كما رأينا)، يتمثل في السعي إلى استغلال الثغرات التي تقدمها الجلاسنوست لتنظيم الطبقة العاملة بصورة مستقلة عن جورباتشوڤ وخصومه المحافظين.
لكن ماندل لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا عن طريق الانتقاص من حجج تروتسكي تلك التي تلحّ على قوة قوى "الاستعادة". ويلح ماندل: "ليست الرأسمالية ما يريد جورباتشوڤ إدخاله في الاتحاد السوڤييتي"[296] -رغم أنه يكتب بانعدام تماسك نموذجي في مكان آخر قائلا إنه "نشأ داخل البيروقراطية قسم ‘ذو نزعة استعادية‘ بكل جلاء"[297] وإن "المأزق الاقتصادي الحقيقي لجورباتشوڤ... هو... الاحتفاظ باقتصاد اشتراكي الطابع ومخطط أو استعادة الرأسمالية في الصناعة الكبيرة".
واقع أن مثل هذه المنظورات المختلفة تماما يمكن أن تنبثق من نفس التحليل "التروتسكي الأرثوذوكسي" الواحد للاتحاد السوڤييتي لابد من أن يثير أسئلة حول صحة التحليل نفسه -تماما كما فعلت أزمة الحركة التروتسيكية من قبل في 47-1948.
جاء رد فعل كليف بصورة مختلفة للغاية عن ماندل. أكّد في الطبعة الأولى، المنسوخة بالإستنسل، من كتابه، والتي ظهرت في أوائل 1948، أن الحركة الثورية تواجه خطرا هائلا.  فالوقوف عند المعنى الحرفي لتحليل قديم للواقع أمكنه أنْ يؤدي إلى التخلي عن الروح الثوري الذي كان وراء ذلك التحليل أصلا  وكانت الطريقة الوحيدة لتفادي ذلك الخطر تتمثل في إنجاز إعادة تحليل أساسية للمجتمع الروسي "تمدّ جذورها في تعاليم المعلمين الماركسيين العظام".
بدأ تحليل كليف بفحص الوقائع المادية للاتحاد السوڤييتي. وبعد تمحيص كُتل ضخمة من المواد التجريبية، استخلص التناقضات بين الأوضاع في فترة ما بعد الثورة والأوضاع بعد 1928، عندما وطد ستالين سلطته أخيرا.
كان تروتسكي قد انتهَى إلى استنتاج في 1935 بأن الترميدور، البقرطة الحاسمة للنظام، كان قد وقع قبل ذلك بعشر سنوات مع هزيمة المعارضة اليسارية. لكنه مضى بعد ذلك ليشير إلى أن الترميدور كان يمثل، في الثورة الفرنسية، إقامة نظام غير ثوري يحتفظ مع ذلك بإنجازات جوهرية للثورة، وكان مختلفا عن الثورة المضادة.
وأكَّد كليف أن تمحيصا للوقائع المادية بيّن أن تغيُّرا كيفيا أبعد حدث بعد ترميدور 1924 الروسي. وفي شتاء 28-1929 قامت البيروقراطية، التي كانت تتذبذب من قبل بين الطبقة العاملة والفلاحين، بالهجوم الضاري عليهما معا.
العناصر الأخيرة من الرقابة العمالية تم تحطيمها في المصانع؛ والاستقلال النقابي تم القضاء عليه تماما؛ والأجور الحقيقية هبطت بنسبة 30 أو 40 في المائة؛ والشرطة السياسية مُنحتْ حرية التصرف لمحو بقايا النقاش داخل الحزب؛ والنضال ضدّ "المساواتية" أضحى سياسة دولة في حين أخذت التفاوتات بين البيروقراطيين والعمال تزداد بصورة كبيرة؛ والفلاحون تم طردهم من الأرض من خلال ما سُمِّيَ "بالتجميع"؛ وتضاعف عدد المساجين في معسكرات العمل 20 مرة في غضون سنتين (ليتضاعف من جديد عشر مرات في العقد التالي)؛ واستُخدم الترويس لتحطيم استقلال الجمهوريات السوڤييتية غير الروسية.
لم يكن من قبيل المصادفة أن تقع كل هذه التغيرات دفعة واحدة. كانت كلها نواتج جانبية لاستجابة الجناح الستاليني من البيروقراطية إزاء الأزمة الاقتصادية التي أصابت البلاد مع خطر الحرب في 1927 و "أزمة المقصّات" في 1928. وعندما تداعت سياستها القديمة -سياسة بوخارين-ستالين في 24-1927 المتمثلة في تجاهل بقية العالم وأملا في الأفضل -استخدمت البيروقراطية كافة القوى التي في متناولها لفرض سياسة جديدة. سعت البيروقراطية إلى الرد على التهديدات الآتية من الغرب عن طريق مجاراة نفس الوسائل التي يستخدمها الرأسماليون الغربيون لإقامة الصناعة، ومعها القدرة العسكرية. وحطمت البيروقراطية استقلال الطبقة العاملة والفلاحين وهجمت على مستويات معيشتهم للحصول على فائض من أجل التصنيع. وإذا كانت أساليبها أكثر وحشية حتى من تلك التي استُخدمت، مثلا في إنجلترا، فذلك لأن البيروقراطية الستالينية سعت إلى أن تنجز في عقدين اثنين ما استغرق إنجازه 300 سنة في إنجلترا.
كان أكثر جزء إثارة للإعجاب في كتاب كليف هو ذلك الذي بيّن فيه، بالتمحيص البالغ التدقيق في الإحصاءات الرسمية للاتحاد السوڤييتي، كيف أن الحديث الرسمي عن "التخطيط" (المقبول آنذاك من جانب ماندل و"تروتسكيين أرثوذكسيين" آخرين) كان يُخفي واقع إخضاع إنتاج السلع الاستهلاكية على نحو متواصل بعد 1928 لإنتاج وسائل الإنتاج. وفي حين نمت السلع الاستهلاكية والإنتاجية قبل 1928 كلاهما معا، تباعد طريقهما تماما بعد 1928. وفي حين كان يتم تجاوز أهداف "الخطة" من السلع الإنتاجية، فإن أهدافها من السلع الاستهلاكية كان يتم تجاهلها ببساطة.
ويبيّن هذا، بالمناسبة، التعارض الحادّ بين التصور الخاصّ بالتخطيط والتنمية الصناعية والذي ناضل تروتسكي من أجله في السنوات السابقة على 1928 وذلك الذي حققه ستالين. انطلق تروتسكي من الحاجة إلى تسريع معدّل النمو الصناعي من أجل رفع مستويات المعيشة، والثقة بالحكومة، والوزن الاجتماعي للطبقة العاملة. أما ستالين فقد انطلق من خفض مستويات المعيشة، واستخدام الشرطة السياسية لإرهاب الطبقة العاملة لإخضاعها، وإغراق الشرائح القديمة، الواعية طبقيا، من العمال في بحر من الفلاحين السابقين، الجهلاء وقليلي التجربة والمصابين بالفزع.
كان هناك أوجه شبه شكلية بين سياسات ستالين وسياسات تروتسكي. وقد أربكت هذه التشابهات تروتسكي نفسه بعض الوقت وقادت أشخاصا مثل راديك وپريوبراجينسكي إلى الإذعان للستالينية. لكنهما، كما أدرك تروتسكي نفسه فيما بعد، كانتا متناقضتين من وجهة نظر الطبقة العاملة.
في ظلّ ستالين كانت الصورة الإجمالية تتمثّل في اقتصاد يسيطر فيه الاندفاع إلى تراكم وسائل الإنتاج على كل شيء آخر. وهذا الاندفاع إلى التراكم أثار البيروقراطية ضدّ العمال والفلاحين. فقد منح مختلف أعضاء البيروقراطية مصالح، تمدّ جذورها في عملية الإنتاج ذاتها، شكلتهم في طبقة في تعارضٍ تاريخي قاس مع الطبقات الأخرى. وكان هذا يعني أنهم كانوا لم يعودوا فئة من الطبقة العاملة، أو مجموعة تتذبذب ببساطة بين طبقات أخرى، بل كانوا أبطال تطوير أسلوب إنتاج على حساب الطبقات الأخرى. وكما عبَّر كليف:
لماذا كانت الخطة الخمسية الأولى نقطة تحول كهذه؟ في ذلك الوقت بالذات، وللمرة الأولى، سعت البيروقراطية إلى أن تخلق پروليتاريا وأن تراكم الرأسمال بسرعة. بكلمات أخرى، في ذلك الوقت سعت البيروقراطية إلى أن تنجز الرسالة التاريخية للبرچوازية بأسرع ما يمكن. وكان لابد لتراكم سريع للرأسمال على أساس مستوى منخفض للإنتاج، ودخل قومي ضئيل للفرد، أنْ يلقَى ضغطا ثقيلا على استهلاك الجماهير، على مستويات معيشتها. في ظل مثل هذه الأوضاع كان لابد للبيروقراطية -التي تحولت إلى تشخيص لرأس المال، والتي يشكل تراكم رأس المال نفسه بالنسبة لها كلّ شيء، أن تتخلّص من كل بقايا الرقابة العمالية، وأن تحلّ الإكراه محل الإيمان بعملية العمل، وأن تحوّل الطبقة العاملة إلى ذرات متفرّقة من الأفراد، وأن تحشر الحياة الاجتماعية الاقتصادية بأسرها بالقوة داخل قالب شمولي. ومن الجلي أن البيروقراطية، التي غدت ضرورية في عملية التراكم الرأسمالي، والتي غدت مضطهدة (بكسر الهاء) العمال، لم تكن لتتباطأ عن استغلال تفوقها الاجتماعي في علاقات الإنتاج من أجل الحصول على امتيازات لنفسها في علاقات التوزيع. وهكذا فإن التصنيع والثورة التقنية في الزراعة ("التجميع") في بلد متأخر تحت شروط الحصار يُحوّلان البيروقراطية من شريحة خاضعة للضغط المباشر وغير المباشر وللرقابة من جانب الطبقة العاملة إلى طبقة حاكمة، إلى مدير للأعمال العامة في المجتمع: توجيه العمل، شؤون الدولة، العدل، العلم، الفن، وهلم جرا[298].
يشير كليف إلى البيروقراطية على أنها "رأسمالية دولة". وقد تسبّب هذا في الهجوم على نظريته من جانب جمهرة غفيرة من المعلّقين -وماندل واحد منهم فقط- يزعمون أنه لا يمكن أن تكون هناك رأسمالية بدون مالكين خاصّين لوسائل الإنتاج ينافسون بعضهم لبيع السلع.
يبحث كليف هذه الحجة بإسهاب في كتابه. وهو ينطلق من التحليلات الخاصّة بالمرحلة الإمپريالية للرأسمالية والتي طورها خلال الحرب العالمية الأولى كل من لينين وبوخارين. أوضحت تلك التحليلات كيف أن تركيز وتمركز رأس المال يقودان إلى إحلال "رأسمالية الدولة الاحتكارية" محل رأسمالية "السوق الحرة"ة في المجتمع:  علاقات الإنتاج من أجل الحصول ب شمولي. لواعي. وتُفضي الاندماجات الأفقية والرأسية إلى شركات ضخمة تسيطر على صناعات بأكملها، وتقوم بتخطيط عملياتها بعناية مدققة فلا تكتفي بتركها لمصادفات السوق. وتعمل قمم هذه الصناعات في علاقات وثيقة بصورة متزايدة مع بيروقراطيات الدول. هناك، إن جاز القول، "اندماج" بين الصناعة والدولة. وهذا يجد تطوّره الأكمل في حروب إمپريالية جبارة شاملة، يعمل فيها الدولة والرأسمال معا على تخطيط اقتصاد الحرب داخليا، في الوقت الذي يسعيان فيه إلى تحطيم الرأسماليات المنافسة تحطيما ماديا.
واقتصاد الحرب دقيق التخطيط إلى حد أن أولئك الذين ينطلقون من نظرة بسيطة، لا تاريخية، للرأسمالية لا يعودون ينظرون إليه على أنه رأسمالي. كان هذا على سبيل المثال، الاستنتاج الذي انتهَى إليه اقتصادي الماركسية النمسوية الشهير، هيلفردنج، بشأن اقتصاد ألمانيا النازية. ففي داخل اقتصاد الحرب يكون الإنتاج مخططا من أعلى ولا يعتمد على تقلبات السوق، على التفاعل بين السلع. أما تجارته الخارجية فمحدودة بالضرورة.
يلحّ كليف، مع ذلك، على أن اقتصاد الحرب يظلّ نوعا من الرأسمالية. لأنه إذا كانت منافسة "السوق الحر" من الطراز القديم لا تلعب سوى دور ضئيل للغاية، فإن شكلا جديدا للمنافسة يسيطر عليه تماما. إنها المنافسة العسكرية بين طبقات رأسمالية الدولة الحاكمة المتنافسة لمختلف البلدان. ولهذه المنافسة آثار على تنظيم الإنتاج داخل كل بلد مماثلة لتلك التي للمنافسة الاقتصادية على تنظيم الإنتاج داخل كل شركة.
للتنافس عسكريا فيما بينهم، يكون على حكام كل بلد أن يتحقّقوا من أن إنتاجية العمل تحت سيطرتهم ليست أدنى من تلك التي لدى منافسيهم. وفي كل مرة يستثمر فيها منافسوهم في معدّات جديدة وتكنولوچيا أكثر تقدّما يكون عليهم أن يحاولوا أن يفعلوا نفس الشيء. وفي كل مرة ينجح فيها منافسوهم في الحصول على فائض أكبر لاستثمارهم عن طريق رفع معدّل استغلال عمالهم، يكون عليهم أن يحاولوا أن يباروهم في محاولاتهم.
بهذه الطريقة تغدو مختلف إجراءات العمل الملموس المبذول في مختلف المصانع في مختلف أنحاء العالم مرتبطة ببعضها، وتُقاس ببعضها، وتتحوّل إلى تعبيرات عن عمل مجرد مشترك ويُجبر تهديد الهزيمة العسكرية طبقة رأسمالية الدولة الحاكمة العملاقة على أن تفرض قانون القيمة على مشروعاتها تماما كما يُرغم تهديد الإفلاس على ذلك أصغر صاحب مشروع منفرد.
هذا هو التحليل الذي يستخدمه كليف لفكّ شفرة لغز روسيا الستالينية. كانت سياسات ستالين بعد 1928 تقتضي تحويل روسيا إلى اقتصاد أسلحة ضخم، يسيطر عليه الاندفاع إلى مراكمة الأساس الاقتصادي للقوة العسكرية، وقبل كل شيء الصناعة الثقيلة. كان ستالين يُخضع اقتصاد الاتحاد السوڤييتي ككل لضغوط شكل خاصّ من أشكال المنافسة الرأسمالية العالمية (لقانون القيمة على نطاق عالمي)، حتى وهو يمنع المنافسة بين مختلف أقسام الاقتصاد داخل الاتحاد السوڤييتي.
هذه السيطرة عن طريق المنافسة هي التي تفسّر السمة الأكثر لفتا للنظر في التنمية الاقتصادية في الاتحاد السوڤييتي: الطريقة التي كشفت بها عن نفس الدينامية التي أكد ماركس أنها فريدة للرأسمالية -السعي الذي لا نهاية له إلى التراكم. في البيان الشيوعي يعقد ماركس تمييزا حادا بين "المجتمع البرچوازي" الذي لا يكون فيه "العمل الحي سوى وسيلة لزيادة العمل المتراكم" و"المجتمع الشيوعي" حيث "العمل المتراكم ليس سوى وسيلة لتوسيع، وإثراء، وتعزيز وجود الشغيل". والاتحاد السوڤييتي يقع على جانب "المجتمع البرچوازي" من هذه الناحية وليس على جانب الاشتراكية. ويوضح كليف لماذا.
لكن هذا ليس كل ما يسعى إلى أن يفعل. فهدفه من كشف دينامية اقتصاد الاتحاد السوڤييتي بوصفها دينامية تراكم تنافسي لا نهاية له هو استخلاص استنتاجات من أجل النضال في سبيل الاشتراكية.
أما أولئك الذين لا يُدركون حقيقة مثل هذه الدينامية فيمكنهم أن ينتهوا إلى أحد استنتاجين مشؤومين على حد سواء. الأول هو النظر إلى الفئة البيروقراطية الحاكمة على أنها أكثر تقدمية من الطبقات الرأسمالية في الغرب. ويصبح المنطق بالتالي إخضاع النضال من أجل الاشتراكية لتقديم المساعدة، أو النصيحة على الأقل، لهؤلاء الحكام. وهو منطق يقود إلى الرعب من فكرة أن الثورات الاجتماعية قد تهدّد حكمهم، وإلى الشلل أمام الأزمة الراهنة في الاتحاد السوڤييتي خشية أن تُفضي إلى "استعادة للرأسمالية".
الاستنتاج الثاني هو النظر إلى البيروقراطية على أنها أقل تقدمية من الطبقات الرأسمالية الغربية، على أنها قوة شمولية تمنع تطور الإنسان لمستقبل غير محدود، كان ذلك طريق شاختمان في الأربعينيات والخمسينيات. وهو الطريق الذي ينجذب إليه اليوم كثير من "منظّري الطبقة الجديدة".
أما نظرية كليف فتنتهي، بفضل إدراكها لحقيقة مثل هذه الدينامية، إلى استنتاج متميز جذريا. إنه الاستنتاج القائل بأن البيروقراطية الستالينية، شأنها في ذلك شأن الطبقات الرأسمالية الغربية، تخلق حفّار قبرها. وكلما كانت ناجحة في مراكمة الرأسمال، فإنها تخلق حجم وقوة طبقة عاملة تملك القدرة على الإطاحة بها.
البيروقراطية توسِّع أعداد الطبقة العاملة على أساس أعلى تركيز عرفه التاريخ إلى الآن. ومهما تكن المحاولات الهادفة إلى عبور الهوّة بين العمل المأجور المركّز ورأس المال المركّز، فإن البيروقراطية تخلق قوّة سوف تصطدم معها بعنف عاجلا أم آجلا[299].
عندما كُتبَتْ هذه الكلمات في أواخر الأربعينيات، كانت تبدو أقل تأثيرا بكثير من تلك التي كانت تتحدّث عن "مئات السنين من الدول العمالية المتدهورة" أو تلك التي زعمت أن البيروقراطية الروسية كانت تحكم نوعا جديدا من المجتمع العبودي لا يتعرّض لتناقضات الرأسمالية. أما اليوم فيُثبتها مدى الاضطراب الذي يجتاح الاتحاد السوڤييتي.
نقطة واحدة أخيرة. تحليل كليف وحده هو الذي يجعل بمقدورنا أن نفسّر طابع الأزمة الاقتصادية الحالية في الاتحاد السوڤييتي. فهي ترجع إلى أن الاتحاد السوڤييتي جزء من نظام عالمي يقوم على المنافسة العسكرية والاقتصادية بحيث تمة الاقتصادية الحالية في الاتي كانت تتحدّث عن مفي الات
سام الاقتها، م. الي. جد البيروقراطية أن أساليبها القديمة في إدارة الاقتصاد لم تعد ملائمة.
ويحاول حكام الاتحاد السوڤييتي المحافظة على التكافؤ العسكري مع دولة تملك ضعف ناتجهم القومي الإجمالي -ولهذا يتعيّن عليهم أن ينفقوا ضعف نسبتها من ناتجهم القومي الإجمالي على الأسلحة. وتستحوذ عليهم فكرة تحديث صناعتهم الهندسية بحيث يمكنهم أن يجاروا التقدم التقني في أيّ مكان آخر في العالم. وهم ينظرون إلى الهبوط النسبي في سعر صادرهم الرئيسي، خام الپترول، في السنوات الأخيرة على أنه تهديد لإستراتيچيتهم الاقتصادية بأكملها بجعل استيراد الآلات الأكثر تقدما أمرا أكثر صعوبة. وهم يخشون بعمق، قبل كل شيء، أن لا يمكنهم أن يرفعوا إنتاجية العمل داخل الاتحاد السوڤييتي لتقترب من مستوى الولايات المتحدة.
اعتاد ماندل أن يُنكر أن الظروف الخارجية يمكنها أن تمارس مثل هذه الضغوط على الاقتصاد الروسي، وكتب قائلا إن هذا يعني زعم "أن ذيلَ واحدٍ في المائة من الناتج المستورد من والمصدّر إلى البلدان الرأسمالية المتقدمة هو الذي يهزّ كلب الاقتصاد الروسي"[300]. أما الآن فهو يسلّم بأن هذه الضغوط قائمة، لكنه لا يستطيع دمجها في تحليل شامل. وهكذا، كما رأينا، يرى ماندل تناقضا بين "قانون القيمة" و"الاستبداد البيروقراطي" دون أن يفسّر كيف يعمل ذلك القانون ولماذا كان ينبغي أن يأتي التناقض إلى الصدارة الآن.
لكنك بمجرد أن تدرك أن الاتحاد السوڤييتي بلد رأسمالية دولة بيروقراطية يصبح من السهل جدا إكمال التحليل. استجابت البيروقراطية الستالينية للأزمة العالمية في الثلاثينيات والتهديد المتعاظم بالحرب بالسعي إلى مراكمة الرأسمال داخل البلاد مع خفض صلاتها التجارية الخارجية إلى حدّ أدنى. ومن هذه الناحية، لم تكن البيروقراطية تسلك سلوكا بالغ الاختلاف عن الطبقات الحاكمة في كثير من البلدان الرأسمالية في الغرب والعالم الثالث. كانت الفترة بأكملها فترة اقتصادات مكتفية ذاتيا نسبيا تتدخل فيها الدولة لكيْ تمنع انطلاق الأزمات العنيفة من عقالها ضمن الاقتصاد الداخلي -فترة الكينزية في الغرب، وتنمية إحلال الواردات في بلدان كالأرچنتين والبرازيل، ومحاولات نسخ "التخطيط" الستاليني في الصين وحتى في الهند.
لكنْ في الستينيات والسبعينيات وصلت مثل هذه المقاربات في كل مكان بصورة متزايدة إلى تناقض مع تدويل الاقتصاد العالمي. كان تركيز الرأسمال يعني أن الموارد اللازمة للبقاء في الطليعة في الصناعات الأكثر تقدُّما بدأت تتجاوز الموارد الداخلية لكل الدول تقريبا؛ وكانت مواكبة التطورات في التكنولوچيا تعني بصورة متزايدة صياغة علاقات مع أضخم الشركات المتعدّدة الجنسيات. أما الصناعات التي كانت قد تطورت داخل نطاق الحدود القومية فلم يكن بمستطاعها عندئذ أنْ تبقى إلا في حالة إعادة بنائها كجزء من تقسيم عالمي جديد للعمل.
كان من الممكن أن تكون إعادة البناء مؤلمة حتى لرأسماليات الدولة المحدودة والمفتوحة نسبيا مثل تلك التي في بريطانيا. أما في رأسماليات الدولة الكاملة والأكثر اكتفاءً ذاتيا في الشرق فيمكنها أن تكون مدمِّرة. فهي لا تهدد فقط أوضاع وأسباب عيش كثير من العمال، بل تهدّد أقساما بأكملها من الجهاز البيروقراطي-الإداري ذاته. ولا يمكن أن تكون هناك أيّ ضمانة، حتى في حالة استكمالها بنجاح، على أن الأوضاع في العالم الخارجي لن تكون قد تبدّلت خلال الفترة الفاصلة، تاركة اقتصاد الاتحاد السوڤييتي كما كان -دون مستوى المنافسة.
تواجه الطبقة الحاكمة الروسية المشكلة التي تنقضّ دوريّا على كل طبقة حاكمة رأسمالية. إن نفس الأساليب التي سمحت بتراكم ناجح في الماضي لا تعود تفعل ذلك. ولأنها جزء من نظام عالمي فإن عليها أن تحاول تغيير أساليبها لكن محاولاتها لأن تفعل ذلك تُطلق من عقالها قوى اجتماعية لا يمكنها أن تُسيطر عليها. وكما كتب ماركس في البيان الشيوعي:
لا يمكن للبرچوازية أن توجد دون أن تقوم على نحو متواصل بتثوير  أدوات الإنتاج وبالتالي علاقات الإنتاج ومعها علاقات المجتمع بأسرها... هذا التثوير المتواصل للإنتاج، والاضطراب المتواصل لكلّ الشروط الاجتماعية، والشكّ والقلق الدائمان -كل هذا يميز العهد البرچوازي من كل العهود السابقة. إن كافة العلاقات الثابتة، البالغة الجمود، بما يلازمها من تحيزات وآراء قديمة ومبجلة يجري اكتساحها، وكافة العلاقات الجديدة تغدو عتيقة قبل أن تجد الوقت الكافي للتشكُّل والرسوخ. كلّ ما هو صلب يذوب في الهواء، وكل ما هو مقدس يُنتهك، وفي نهاية الأمر يصبح الإنسان مجبرا على أن يواجه بوعي يقظ شروط حياته وعلاقاته بنوعه[301].
لم يعد بإمكان برچوازيات الدولة الستالينية في الشرق أن تهرب من هذه الدينامية الرأسمالية العنيفة أكثر مما بإمكان البرچوازيات "الخاصة" (وبدقة أكثر: برچوازيات رأسمالية الدولة الاحتكارية) في الغرب والعالم الثالث. هذا هو الأمر المثير للغاية فيما يجري في الاتحاد السوڤييتي اليوم. لكنْ لتفهم لماذا، عليك أن تتجاوز صيغ ماندل المبهمة، وغير المتماسكة والمتناقضة مع نفسها، وأفضل طريقة لعمل ذلك هي أن تنطلق من كتاب كليف.


 
حول نظريات الطبيعة الاجتماعية
لبلدان النموذج السوڤييتى
تذييل بقلم المترجم
 
 
إلى أين تؤدي التطورات الجارية في الاتحاد السوڤييتي (خاصة منذ 1986 والپيريسترويكا) وبلدان أوروپا الشرقية (خاصة بعد انهيار نظمها الحاكمة في أواخر 1989)؟
هذا هو السؤال الذي يطحن ويعتصر عقول وقلوب الماركسيين (بالمعنى الواسع للكلمة) في كل مكان في العالم. وتتوالى الأسئلة القلقة المؤرقة: إلى اشتراكية ذات وجه إنساني مهما يكن ظاهر مسار التطور الفعلي بعيدا تماما عن أن يكون مبشرا بها؟ إلى الرأسمالية؟ وما مصير حلمهم الذي اطمأنوا طويلا إلى أنه تحقق على الأرض؟ وما مصير البشرية ذاتها في ظل مثل هذا الانقلاب في اتجاه التاريخ؟ وما مصير الماركسية بدورها في ضوء المحصلة التاريخية لتطبيقها طوال هذا القرن؟ ولابد أن تنتهي مثل هذه الأسئلة إلى سؤال جوهري: ما طبيعة النظام الاجتماعي-الاقتصادي الذي كان قائما في تلك البلدان؟ أكان اشتراكيا حقا؟ أكان رأسماليا رغم الشعارات؟ أم ماذا؟ ولا تنتهي الأسئلة: هل يمكن لمجتمع اشتراكي حقا أن يتحول إلى الرأسمالية؟ وبالمقابل: هل يحتاج مجتمع رأسمالي إلى كل هذه العواصف والأعاصير والزلازل والطوفان ليظل مع ذلك رأسماليا؟ ولا تنتهي الأسئلة بل تتواصل قلقة ومؤرقة، محيرة ومعذبة، حقيقية ومضللة، لكن مصيرية في كل الأحوال، إلى ما لا نهاية.
على أيّ حال، هذا هو السؤال الجذري الذي ألقى كريس هارمان، وهو من أبرز مفكري حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا بزعامة توني كليف، على عاتقه مهمة الإجابة عنه في كتابه هذا "العاصفة تَهُبّ"، ولهذا العنوان صلة بكراس عنوانه "الجلاسنوست: قبل العاصفة" ألفه هارمان بالاشتراك مع آندي زيبروڤسكي، ونُشر في عدد صيف 1988 -أيْ قبل الانهيار الأوروپي الشرقي (أواخر 1989) بأكثر من عام– من الاشتراكية الأممية (المجلة النظرية الفصلية لحزب العمال الاشتراكي) والتي نشرت هذا الكتاب أيضا في عدد ربيع 1990.
ويقدم هارمان هنا استقصاءً شاملا مدققا لكل ما هو جوهري، لكل ما له مغزى، في مسار التطورات الجارية في الاتحاد السوڤييتي منذ الپيريسترويكا، وفي مجرى الأحداث التي عصفت بالأحزاب الحاكمة في أوروپا الشرقية. ورغم أن هذا الاستقصاء الشامل المعمق هو السمة المميزة لهذا الكتاب، الذي هو كتاب سياسي في المحل الأول، لا يكتسب كتاب هارمان أهميته من مجرد الوصف الموضوعي والأمين والغني بالتفاصيل التي تطمح إلى تقديم صورة ناطقة بالحياة، بل هناك دائما ما يعمق مغزى هذا الاستقصاء لما هو راهن من بحث عن جذور الأزمة الراهنة، وكشف للبنية الاجتماعية-الاقتصادية التي كانت هذه الأزمة ممكنة بل حتمية ضمن إطارها، واستكشاف لصورة المستقبل، للنتائج التي لابد أن تؤدي إليها هذه التطورات التاريخية في نهاية الأمر. والحقيقة أن إجابة هارمان حاسمة: الانتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية، الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات.
لا جدال بطبيعة الحال في أن إجابة هارمان لن تكون مُرضية لجميع المعنيين، كما أنه لاشك في أنها إجابة واحدة بين إجابات متعددة، موجودة أو محتملة، حاسمة أو مترددة. ذلك أن كافة محاولات تفسير (واتخاذ موقف إزاء) التحولات الجارية في البلدان المعنية وغيرها من البلدان التي ظلت توصف بأنها بلدان اشتراكية (خاصة: الصين، ڤييتنام، كوريا الشمالية، كوبا، ألبانيا، يوغسلاڤيا -وقد امتدت العاصفة إلى البلدين الأخيرين بعد نشر هذا الكتاب) ليست مجرد استجابات وردود فعل تلقائية أو عارضة لهذه التحولات العاصفة، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظريات المتعددة الأقدم عهدا والتي لا يقل عمر أحدثها عن عدة عقود: نظريات الطبيعة الاجتماعية لهذه البلدان. بل يمكن القول إن كافة المحاولات والتفاسير والتحليلات والأحكام الجديدة ما هي إلا اجتهادات نظريات الطبيعة الاجتماعية، الأصلية القديمة، من خلال محاولات أنصارها ومفكريها فهم هذه التحولات الجديدة.
على أن إجابة هارمان تستمد مغزى خاصا من الظروف التي جاءت فيها، من واقع أنها جاءت "أثناء العاصفة". ظلت النظرية القائلة بأن البلدان المعنية رأسماليات دولة بيروقراطية، والتي تمثل إجابة هارمان إجابتها على السؤال الراهن، نظرية محدودة الشعبية في ظل السيادة العالمية لماركسية الحزب الشيوعي السوڤييتي. والآن.. بعد اندلاع العاصفة التي ألقت بأنصار الخط السوڤييتي في كل مكان إلى متاهات لا مخرج منها من الحيرة وفقدان الاتجاه والتشوش والإحباط والتي أدت ولا بد أن تؤدي بالكثيرين منهم إلى إعادة النظر في الماركسية السوڤييتية برمتها، أصبح من المحتمل تماما أن تجد نظرية توني كليف عن رأسمالية الدولة البيروقراطية وكذلك كل تحليل يرتكز عليها للتطورات الراهنة آذانا صاغية بصورة متزايدة. بل يمكن القول إن إفلاس جملة من النظريات "الماركسية" المتعددة والمتناقضة حول هذه القضية المحورية سيدفعنا من الآن فصاعدا إلى الإصغاء إلى هذه الإجابة وإلى هذه النظرية التي ترتكز عليها بعقول وقلوب مفتوحة.
وخلال قرابة ثلاثة أرباع القرن منذ ثورة 1917 وظهور الاتحاد السوڤييتي ثم بقية بلدان ما يسمَّى بالمنظومة الاشتراكية العالمية تبلورت عدة نظريات نكتفي بالإشارة إلى أبرزها حسب الترتيب الزمني:
1 - نظرية أن هذه البلدان اشتراكية، وهي نظرية هذه البلدان عن نفسها، وهي أيضا النظرية التي ظلت سائدة في الحركة الشيوعية العالمية، وهي النظرية الموسكوڤية المرتبطة بالنموذج السوڤييتي للاشتراكية.
2 - نظرية أن هذه البلدان لا هي اشتراكية ولا هي رأسمالية، بل هي في مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية أمامها احتمالان: إلى الأمام نحو الاشتراكية عبر انتصار ثورة سياسية عمالية أو إلى الوراء نحو الرأسمالية عبر انتصار ثورة (اجتماعية) مضادة بيروقراطية-برچوازية تحطم مقاومة الپروليتاريا. وهذه نظرية التروتسكية والأممية الرابعة.
3 - نظرية أن هذه البلدان تمثل نظاما استغلاليا جديدا لكنه ليس رأسماليا هو نظام الجماعية البيروقراطية وهي نظرية ماكس شاختمان وچيمس بورنهام إلخ...
4 - نظرية أن هذه البلدان رأسمالية دولة منذ 1929 في الاتحاد السوڤييتي ومنذ البداية في غيره من البلدان المعنية. وهذه نظرية توني كليف في كتابه: رأسمالية الدولة في روسيا (1948)، وهي نظرية حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا.
5 - نظرية أن الاتحاد السوڤييتي بلد رأسمالي، إمپريالي اشتراكي، يهيمن على توابعه الأوروپية الشرقية، إلخ.. وهذه هي النظرية الماوية الأحدث عهدا والتي سيطرت على الصين (وألبانيا) لفترة (في الستينيات والسبعينيات) وكان لها صداها في الحركة الشيوعية العالمية قبل أنْ تتلاشى تقريبا مع تصفية الماوية في الصين في أعقاب وفاة ماو تسي تونج (1976) واتجاه الصين إلى سياسة عملية لا جدال فيها.
لا يتسع المجال هنا بطبيعة الحال لأيّ مناقشة مستفيضة لهذه النظريات. وإنما يهمنا في سياق هذه الإشارات إلى الإطار التاريخي النظري العام لكل تحليل للتطورات الراهنة أن نؤكد ما يلي: لا يمكنك في الواقع أن تبحث بجدية الطبيعة الاجتماعية للتطورات الراهنة دون أن تنطلق من إحدى هذه النظريات (أو غيرها). ينبغي بالتالي أن ينتبه كل المعنيين إلى أن البحث الأعمق المطلوب الآن يتعلق بالطبيعة الاجتماعية الأصلية لهذه البلدان وبالنظريات العديدة التي تبلورت على مدى عقود حول هذه المسألة، والتي فرضت نفسها أخيرا ساعة حسمها: أولا في مجرى الواقع الفعلي للتطورات الجارية، ثم أثناء وبعد ذلك -حسب استعداد الماركسيين نظريا وسياسيا ونفسيا- على مستوى النظريات.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن نظريات الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية هي بحكم طبيعتها نظريات "بعد التجربة"، فبعكس النظرية الماركسية الأصلية السابقة على الثورات والتجارب الاشتراكية عن الاشتراكية تتميز النظريات الجديدة بأنها تقييم وتنظير للتجربة، بأنها نظريات عن التجربة، عن واقع عيني، وليست نظريات عن مبادئ هدف ضروري تاريخيا لم يوضع بعد موضع التطبيق.
وتنطوي كل نظرية عن الطبيعة الاجتماعية لهذه البلدان، بالضرورة، على نظرية خاصة بها عن الاشتراكية، وهي ليست بالضرورة النظرية الماركسية الأصلية عن الاشتراكية. فلا يمكن لنظريات متعارضة عن الواقع السوڤييتي المحدد مثلا أن تكون منطلقة من مفهوم واحد للاشتراكية هو مفهومها الماركسي. ولا يمكن أن تقول إحداها إن الواقع المعنيّ الواحد اشتراكي وتقول أخرى إنه رأسمالي وتقول ثالثة إنه انتقالي إلخ... دون أن نستنتج من هذا التعارض الجذري أن هذه النظريات عن الطبيعة الاجتماعية تنطوي على نظريات متعارضة جذريا عن الاشتراكية بل كذلك عن الرأسمالية وعن الدولة وعن أساليب الإنتاج بوجه عام على المستوى النظري. كما أنه لا يمكن لهذه النظريات المتعارضة عن الاشتراكية أن تكون ماركسية أو صحيحة في آن معا. ولهذا فمن الواجب عندما نكون بصدد فحص نظرية من نظريات الطبيعة الاجتماعية أن نبحث نظريتها الخاصة عن الاشتراكية من حيث مدى اتفاقها مع أو اختلافها عن النظرية الماركسية عن الاشتراكية، رغم أن كل نظرية خاصة عن الاشتراكية تعلن نفسها ماركسية وتتخف وراء أقنعة ماركسية وتغرق مبادئها الخاصة بفيض من المصطلحات والعبارات الماركسية ومن الحق الذي أريد به الباطل.
تعلن النظرية السائدة والأقدم عهدا حول الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية، أيْ النظرية السوڤييتية، أنها بلدان اشتراكية.
فإلى أيّ مدى تتطابق هذه النظرية عن الاشتراكية مع موضوعها، أيْ الواقع العيني للبلدان المعنية؟ وإلى أيّ مدى تتطابق هذه النظرية وموضوعها معا مع النظرية الماركسية عن الاشتراكية؟
الواقع أن التطابق بين نظرية الطبيعة الاشتراكية ومفهومها عن الاشتراكية وموضوعها التجريبي تطابق جوهري، بل هو الاندماج بعينه، فهذه النظرية ليست في واقع الأمر سوى تنظير لهذا الموضوع، وبعبارة أخرى فهي نظرية تم "تفصيلها" على "مقاس" التجربة، لكن بعبارات "ماركسية".
هذا الحكم الذي يبدو متسرعا للغاية وقاسيا للغاية يؤكده مع ذلك واقع أن المحتوى الفعلي لهذه النظرية لم يكن محتوى نقديا بل كان طوال تاريخها محتوى ذيليا: البحث من داخل حدود التجربة ودون لجوء إلى معايير من خارجها (من الماركسية بالذات) في طبيعة ومشكلات وحلول هذه التجربة. ويعرف الجميع الظروف التي أحاطت بنشأة هذه النظرية وبتطور موضوعها ذاته: ظروف الديكتاتورية الستالينية التي لم تنجح ولم ترغب الإصلاحات الفوقية السابقة للپيريسترويكا في أكثر من تصفية أساليبها الأشد وحشية وضراوة.
لكن حقيقة الطابع الزائف والملفق لهذه النظرية تتجلَّى بكل وضوح عند أدنى مقارنة لنظريتها عن الاشتراكية ولموضوع هذه النظرية مع النظرية الماركسية عن الاشتراكية. والواقع أن تلك النظرية لم يكن بمستطاعها أن تدّعي أن البلدان المعنية اشتراكية إلا بعد أن تسلحت بنظرية عن الاشتراكية تتعارض تعارضا جذريا مع الاشتراكية الماركسية. فالمسألة كما ترى ليست مسألة نظرية ماركسية (آن الأوان لبحث صحتها من بطلانها) وتطبيق (آن الأوان لبحث نجاحه من فشله) لنفس هذه النظرية، كما يحاول بعضهم طرح المسألة، بل هي مسألة خاصة بنظرية أفرزها واقع بعينه وقدّمها على أنها هي النظرية الماركسية عن الاشتراكية.
فبدلا من النظرية الماركسية عن الاشتراكية والتي تنظر إلى هذه الأخيرة على أنها تحرير الطبقة العاملة لنفسها بنفسها: بوصفها بقيادة حزبها الماركسي الثوري القوة الأساسية للثورة الاشتراكية وبوصف سلطتها والتي هي ديكتاتورية الپروليتاريا ديمقراطية مباشرة تسيطر من الناحية الفعلية وليس بالأقوال وحدها على الدولة والاقتصاد والتخطيط والسياسة الداخلية والخارجية الأممية، حيث لا تمثل ملكية الدولة إلا شكلا للملكية الفعلية والإدارة الفعلية لهذه الملكية من جانب الطبقة العاملة وبقية الجماهير العاملة، وحيث يكتسب التخطيط طابعه الاشتراكي من كونه تخطيطا للإنتاج والتوزيع تباشره الطبقة العاملة لمصلحتها ولمصلحة الاشتراكية والشيوعية إلخ إلخ إلخ.. -بدلا من هذا نجد أن ملكية الدولة هي قدس أقداس النظرية السوڤييتية فالدولة التي تقيمها اشتراكية والتخطيط القائم عليها اشتراكي وطابع قوى الإنتاج التي ترتكز عليها اشتراكي ومستويات المعيشة التي تنشأ في ظلها مكاسب اشتراكية والأيديولوچية التي تنقشها على صدرها اشتراكية. كل هذا بفضل ملكية الدولة في حد ذاتها أما كل تحليل ماركسي لملكية الدولة لفهم طابعها الاجتماعي الحقيقي فهرطقة لا معنًى لها.
وهذه النظرية غريبة على أيّ احتجاج نقدي بأن البيروقراطية الستالينية غدرت بثورة أكتوبر واغتصبت السلطة وأقامت ديكتاتورية معادية للطبقة العاملة واستندت إلى شرعية ثورة أكتوبر وتأميمها وملكيتها العامة وإلى أيديولوچية اشتراكية ماركسية مزيفة وإلى تحطيم كافة مؤسسات الديمقراطية الاشتراكية من سوڤييتات ونقابات ووسائل إعلام وإلى حزب مغانم شيوعي هو في حقيقته جهاز نوعي من أجهزة الدولة لتقيم مشروعا للتصنيع وتطوير القوى المنتجة يحتل فيه التراكم مركز الصدارة على حساب حاجات الجماهير العاملة وتتضخم من خلاله امتيازات البيروقراطية وتغدو الطبقة العاملة في مجراه محرومة من أيّ أسلحة للنضال. ومثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون في ظل الشروط التاريخية الراهنة شيئا آخر سوى مشروع رأسمالي لا بدّ له من أن يمرّ بمرحلة طويلة غير تقليدية لأنه نتاج ثورة مغدورة تقيّده مع ذلك ببعض خصائص نشأته التي يستمدّ منها شرعيته ذاتها. وعندما تصل التحولات الراهنة في الاتحاد السوڤييتي وأوروپا الشرقية (ولا يعرف أحد متى يأتي الدور على الصين وڤييتنام وكوريا!) إلى نقطة الرأسمالية الصريحة السافرة (مهما يكن شكلها: رأسمالية دولة، رأسمالية خاصة، رأسمالية متعددة الجنسيات) التي لا يختلف اثنان حول طبيعتها، سيتجلَّى بوضوح أن ادّعاء أن الاشتراكية بعد أن توطدت وتطورت ونضجت يمكن أن تتحول إلى رأسمالية ادّعاء سخيف حقا وسيدفع ذلك دون شك إلى إعادة النظر في الأسطورة التي سيطرت على الجميع (باستثناء أقليات من الماركسيين) من أوائل القرن إلى أواخره، أسطورة أن البلدان المعنية بلدان اشتراكية، هذه الأسطورة التي صدّقتها هذه البلدان عن نفسها، وصدّقها أنصار الاشتراكية خارجها، وصدّقها حتى أعداؤها الإمپرياليون والرجعيون في كل مكان.
يبدو أن من العبث أن نتوقف هنا عند محاولات تفسير التطورات الجارية لدى أصحاب وأنصار هذه النظرية التي تعصف بها الآن هذه التطورات ذاتها في البلدان المعنية، كما تدخل الأحزاب الشيوعية التي تبنتها تاريخيا في متاهات لا فكاك منها وها هي الأحزاب الشيوعية الغربية تدخل في عمليات لا تنتهي من تغيير الأسماء والبرامج والمبادئ، من الإحباط العام والإحساس بأنها فقدت مبرر وجودها إلخ إلخ.، على أن الميل المتزايد إلى التحرر من الأوهام في صفوف مناضلي الأحزاب التي تتبنَّى هذه النظرية، تحت ضغط التحولات العاصفة، يدفع وسيدفع الكثيرين منهم إلى إعادة النظر في نظرية الطبيعة الاشتراكية بعيدا عن الأوهام الجديدة التي أطلقتها هذه التحولات ذاتها عن زواج الاشتراكية والحرية، عن اشتراكية ذات وجه إنساني، عن اشتراكية السوق، إلخ إلخ... هذه الأوهام التي لا تبدو بالغة الانسجام مع المجرى الفعلي للتطورات ومع تعبير البيروقراطية السوڤييتية عن أهدافها بتشريعات وبرامج وخطط وتدابير قاطعة التحدد وبلغة بالغة البلاغة ناهيك عن انهيار نظم أوروپا الشرقية التي تحكمها الآن أحزاب معادية للشيوعية والتي تراجعت الأحزاب الشيوعية فيها حتى بعد تغيير الأسماء والبرامج إلى موقع معارضة هزيلة.
سنكتفي بإشارة موجزة هنا، قبل الحديث عن تروتسكية الأممية الرابعة، إلى كل من نظرية الجماعية البيروقراطية ونظرية الإمپريالية الاشتراكية.
يعتقد كاتب هذه السطور أن المأثرة الحقيقية لنظرية الجماعية البيروقراطية هي اكتشافها المبكر لواقع أننا إزاء مجتمع استغلالي لكنني أعتقد أيضا أن مشكلاتها الجوهرية تتمثل في أنها لم تتعرّف في علاقات الإنتاج الاستغلالية على أساس قوى الإنتاج المناظرة لتلك التي تميز الرأسمالية على مجتمع رأسمالي بدلا من "اكتشاف" نظام استغلالي جديد بسبب نظرتها إلى ملكية الدولة بعكس نظرية توني كليف التي ربطتها مباشرة برأسمالية الدولة البيروقراطية مبرهنة أن ملكية الدولة ليست مبررا حقيقيا لاكتشاف أسلوب إنتاج خاص.
أما نظرية الإمپريالية الاشتراكية (التي كانت قد حلّت في أواخر الستينيات محل نظرية صينية سابقة قصيرة العمر هي نظرية التحريفية وخطر استعادة الرأسمالية) فقد تم إعدادها في سياق ما سُمِّيَ بالنزاع السوڤييتى-الصيني كأداة من أدواته وليس كنظرية ماركسية أصيلة تطمح إلى التفسير والتغيير. وتتمثل مشكلتها الجوهرية في انطلاقها من خرافة إمكانية الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ذلك أن هذه النظرية نظرت إلى عهد ستالين على أنه كان قلعة للاشتراكية رغم أخطائه وسلبياته، ولم يبدأ الانحراف عن الاشتراكية والماركسية في نظرها إلا بعد ذلك العهد من خلال الإصلاحات "التحريفية" اللاحقة.
والحقيقة أن كاتب هذه السطور يجهل أيّ تناول لأنصار نظرية الجماعية البيروقراطية للتطورات الراهنة ويرى في تفسير بعض أنصارها المحليين لهذه التطورات بأنها تجري في إطار الانتقال من الجماعية البيوقراطية إلى الرأسمالية، انطلاقا من أن الجماعية البيروقراطية ذاتها لم تكن سوى أسلوب إنتاج "انتقالي" من الإقطاع إلى الرأسمالية، نفس الميل الأصلي إلى المبالغة في شكل الملكية وإلى اكتشاف أساليب إنتاج انطلاقا من ملكية الدولة. كما أن من العبث أن نبحث اليوم عن تفسير ماوي محتمل للتطورات الراهنة بعد اختفاء الماوية من حكم الصين ومن التأثير القويّ خارجها.
والآن، وسط نظرية الطبيعة الاشتراكية والنظرية التي تناقضها على طول الخط، نظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية، تبرز نظرية الطبيعة الانتقالية للبلدان المعنية وهي نظرية تروتسكية الأممية الرابعة. وبحكم منطقها الداخلي (الطابع الانتقالي) تتضمن هذه النظرية احتمال أن تؤدي التحولات الراهنة إلى مصائر متعددة:
* استمرار المجتمع الانتقالي لفترة أخرى (في حالتي نجاح أو فشل الإصلاح البيروقراطي الفوقي).
* الانتقال من المجتمع الانتقالي إلى الاشتراكية عن طريق ثورة سياسية عمالية (تفتح التحولات الراهنة سبيلا إليها).
* الانتقال من المجتمع الانتقالي إلى الرأسمالية عن طريق ثورة مضادة تحطم مقاومة الطبقة العاملة.
ونظرية المجتمع الانتقالي هي في الأصل نظرية تروتسكي الذي كان ينظر منذ نصف قرن إلى حسم هذا التناقض بثورة سياسية عمالية (ذات نتائج اجتماعية عميقة) أو بثورة مضادة برچوازية تحطم مقاومة الطبقة العاملة على أنه مسألة سنوات قليلة أو حتى أشهر قليلة فقط. وإذا كانت تلك النبوءة لم تتحقق، بل حتى إذا كانت نظرية المجتمع الانتقالي قد فات أوانها في ذلك الحين، فإن الروح الثورية لموقف تروتسكي كانت تتمثل في هذا النداء: ثورة أكتوبر تجري الآن تصفيتها على أيدي البيروقراطية الحاكمة باسم الطبقة العاملة ولكن ضدها فإما ثورة عمالية توقف هذا الانحدار وتستأنف السير في اتجاه الاشتراكية وإما الرأسمالية عن طريق الثورة المضادة التي أضحت مستعدة تماما للانقضاض، وبعبارة أخرى: انقذوا ثورة أكتوبر من التصفية النهائية الوشيكة وإلا فعليها السلام.
وإذا كانت مأثرة تروتسكي الكبرى من الناحية النظرية وفيما يتعلق بالمسألة المطروحة هنا هي أنه وضع النظام السوڤييتي بين قوسين، وطرح طبيعته الاجتماعية-الاقتصادية للنقاش، وكشف طبيعة البيروقراطية المعادية للطبقة العاملة وللاشتراكية، وحذر من أن ذلك النظام كان يتجه بخطًى حثيثة نحو الرأسمالية، ودعا إلى الثورة ضدّه دون إبطاء، فقد تمثل الخطأ الكبير في موقفه في نظرية الطبيعة الانتقالية ذاتها والتي قاده إليها اعتقاده أن هناك تناقضا جوهريا بين ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزي من ناحية وديكتاتورية البيروقراطية وامتيازاتها ومخططاتها وأهدافها الرأسمالية الأبعد مدى من ناحية أخرى، حيث تمثل ملكية الدولة هذه نقيضا مباشرا للرأسمالية. وكان هذا الخطأ الكبير هو الأب الشرعي من الناحية النظرية لتطور الفكر التروتسكي في اتجاه مناقض لروح ومحتوى موقف تروتسكي فيما يتعلق بمسألة الطبيعة الاجتماعية-الاقتصادية للنموذج السوڤييتي.
ولا جدال في نظر كاتب هذه السطور في أن نظرية المجتمع الانتقالي تنطوي على مغالطة كبرى: فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يفترض النمو المطرد للجديد الاشتراكي رغم بقاء عناصر من القديم الرأسمالي لفترة تطول أو تقصر، بينما يعاني هذا "الانتقال" من النمو المطرد إلى حدّ الأزمة للقديم الرأسمالي على حساب بدايات الجديد الاشتراكي التي تحققت قبل انفراد ستالين بالسلطة. ولولا التقييم الخاطئ لملكية الدولة والتخطيط المركزي لكانت هذه المغالطة التاريخية الكبرى مستحيلة تماما.
والحقيقة أن "التروتسكية" أو "تروتسكية" الأممية الرابعة وإرنست ماندل أو "الماندلية" (وهذه الأخيرة هي التسمية الملائمة في رأي كاتب هذه السطور فيما يتعلق بالمسألة المطروحة هنا على وجه الحصر) احتفظت بالمعادلة الشكلية لنظرية الطبيعة الانتقالية عند تروتسكي: مجتمع انتقالي لا هو رأسمالي ولا هو اشتراكي يجمع عناصر من الماضي الرأسمالي مع عناصر من المستقبل الاشتراكي، أمامه احتمال الاشتراكية عبْر الثورة السياسية واحتمال الرأسمالية عبْر الثورة المضادة التي تحطم مقاومة الطبقة العاملة. وما طبقه تروتسكي على الاتحاد السوڤييتي جرى "تثبيته" عليه لكن بطريقة ملتوية ثم جرى مدّه بنفس الطريقة الملتوية إلى كافة البلدان التي سارت في طريق النموذج السوڤييتي (بعد ثورات أو تدخلات سوڤييتية). ولا يملّ ماندل تكرار هذه المعادلة التي كان حسْمها مسألة سنوات قليلة أو حتى أشهر قليلة فقط منذ أكثر من نصف قرن في نظر تروتسكي. بل تطور طرفا هذه المعادلة عند ماندل على نحو يتراجع فيه تدريجيا احتمال استعادة الرأسمالية إلى أن استبعدها نهائيا ووصفها بأنها فكرة مضحكة حتى بعد الپيريسترويكا بسنوات. ومن الجلي أن تروتسكية ماندل فيما يتعلق بمسألة طبيعة ومصائر النموذج السوڤييتي، تتعارض تعارضا جذريا مع تروتسكية تروتسكي رغم أنها تغذت نظريا وكنقطة انطلاق على نقاط الضعف في تحليل تروتسكي لهذا النموذج.
سبق أن أشرنا إلى أن نظرية الطبيعة الانتقالية تتضمن احتمال أن تؤدي التطورات الراهنة إلى مصائر متعددة: استمرار المجتمع الانتقالي لفترة أخرى، الاشتراكية، الرأسمالية. وقبل أن نرى كيف يطرح ماندل الاحتماليْن الأوليْن مستبعدا الرأسمالية استبعادا قطعيا قاطعا ينبغي أن نشير إلى أن نظرية الطبيعة الانتقالية لا تستبعدها بل هي الفكرة الأساسية في تروتسكية تروتسكي بهذا الخصوص، كما يتبنَّى اتجاه تروتسكي راهن (ديڤيد نورث) فكرة أن التحولات الراهنة تؤدي وستؤدي إلى الرأسمالية.
وفي القسم الأخير من مقدمته لكتابه: إلى أين يمضي الاتحاد السوڤييتي في ظل جورباتشوڤ؟ (15 مارس 1989 صفحات 20-23 في الطبعة الفرنسية)، يستبعد إرنست ماندل منذ البداية "احتمال حدوث استعادة للرأسمالية في الاتحاد السوڤييتي، سواء أكانت "عفوية" أو من خلال مخطط خفي لدى جورباتشوڤ، أو بالإرادة الشعبية"، فالاستعادة "العفوية" للرأسمالية تعني "التقليل على نحو غير مسموح به من شأن الدور المستقل للعامل السياسي، للدولة والقوى الاجتماعية، في مجرى الثورات المضادة. وكما أن الرأسمالية لا يمكن القضاء عليها تدريجيا فإنه لا يمكن استعادتها تدريجيا"، أما تصوّر مخطط لدى جورباتشوڤ أو الجناح "الليبرالي" للبيروقراطية لاستعادة الرأسمالية فهو "يعني أن نسيئ تماما فهم طبيعة وأسس ومدى امتيازاتهم وسلطتهم" بل يدّعي ماندل أن قبول استعادة الرأسمالية يساوي في نظر هذه الشريحة قبول الانتحار الهاراكيري الذي يمثله "قبول سلطة حقيقية للسوڤييتات، أيْ قبول إطاحة الپروليتاريا بها"، وأخيرا فإن الشغيلة "ثلاثة أرباع الشعب السوڤييتي" ليسوا مستعدين "لإعادة المصانع الكبرى، التي أقاموها بكثير من التضحيات، إلى مُلاك خاصين" فهذا لا يتفق مع "مصالحهم المادية الأكثر أولية". ثم يناقش إرنست ماندل أربعة احتمالات "أكثر واقعية لتجربة جورباتشوڤ":
1: نجاحها في المقرطة ورفع مستوى حياة الجماهير في حدودها الإصلاحية لكن هذا السيناريو هو الأقلّ احتمالا أمام مقاومة الفئات البيروقراطية الأكثر محافظة وجمودا وأمام "التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تشكل عقبة أمام أيّ حل ‘إصلاحى‘ لهذه التناقضات".
2: تجاوزها من خلال التقاء تجذير قسم من الكادر القيادي للحزب الشيوعي السوڤييتي مع تعبئة جماهيرية معادية للبيروقراطية أوسع كثيرا من تلك الجارية حاليا وبالتالي "ربيع موسكو" على غرار ربيع پراغ. وهذا السيناريو بعيد الاحتمال أيضا "لكنْ أقلّ من الأول" لأنه "في هذه الحالة ستعتبر قوى الجهاز جورباتشوڤ أهون الضرريْن بالنسبة إلى خطر ثورة من تحت".
3: إخفاقها وهو المآل "الأكثر مدعاة للتشاؤم": قيام القسم المحافظ من البيروقراطية العليا بوقف المقرطة وإلغاء الجلاسنوست على الفور في حالة عدم اتساع التعبئة الجماهيرية وتدهور شروط حياة وعمل الطبقة العاملة والإخفاق الاقتصادي وسيكون ذلك بالتأكيد "بمثابة كارثة للاشتراكية، في الاتحاد السوڤييتي وكذلك على المستوى العالمي" لكن الأمور لن تعود إلى وضعها السابق بعد كلّ هذه الحريات التي انتزعت والتي تجعل قمعا باتساع قمع الثلاثينيات أمرا لا يمكن تصوّره.
4: انفلاتها إلى ثورة سياسية: يتأخر تحسين شروط حياة وعمل الطبقة العاملة، ويزداد سخطها ويتحول إلى حركة جماهيرية مستقلة متزايدة الاتساع والتنظيم الذاتي متزايد التمركز من خلال استغلال الجلاسنوست:
وتعلن الجماهير ترشيح نفسها للممارسة المباشرة للسلطة. ويمتلئ شعار "كل السلطة للسوڤييتات!" بكل محتواه الكلاسيكي، في سياق اجتماعي-اقتصادي أكثر مواتاة للغاية من نظيره في 1917، أو 1923، أو 1927. وتنبثق من الپروليتاريا ومن الإنتليچنسيا الاشتراكية الراديكالية قيادة سياسية جديدة، شيوعية بالمعني الأصيل والحقيقي للكلمة، لتساعد الجماهير في تحقيق أهدافها الأساسية. وتنتصر الثورة السياسية بالمعنَى الماركسي لهذه العبارة.
والسيناريو الثالث (تدعيم الديكتاتورية) والسيناريو الرابع (الانفجار الثوري الجماهيري والثورة السياسية) لا يستبعدان بعضهما البعض على المدى الطويل بل قد يؤدي الثالث إلى الرابع، وهما الاحتمالان الأكثر رجحانا "وإنْ من خلال اجتماعهما"، وهما "ينطلقان من تقييم أكثر واقعية لعمق التناقضات الاجتماعية التي تمزّق الاتحاد السوڤييتي".
فالاحتمالان الوحيدان عند إرنست ماندل هما باختصار:
* استمرار نفس النظام "الانتقالي" من خلال السيناريو الأول (نجاح التجربة) أو الثاني (تجاوز التجربة) أو الثالث (إخفاق التجربة).
* الثورة السياسية والاشتراكية (السيناريو الرابع).
جاءت تقديرات إرنست ماندل في ربيع 1989 لكن خريف 1989 جاء بانهيار نظم أوروپا الشرقية وباتجاه الاتحاد السوڤييتي بمزيد من التصميم نحو الملكية الخاصة والسوق وتفاقم المسألة القومية، وبدت بوادر استجابة ماندل لهذه التطورات العاصفة في بداية 1990 (في حديثه في مجلة إمپريكور) حيث سلّم بأن پولندا والمجر قد تستعيدان الرأسمالية لكنه قال أيضا إن المعركة لم تحسم بعد وإن حركة پروليتارية جماهيرية لم يشهد التاريخ لها مثيلا توشك على الاندلاع. وهذه النبوءة الأخيرة لم تؤكدها التطورات الأوروپية الشرقية والسوڤييتية حتى الآن، وإنما هي عقائدية تروتسكية حول ضرورة "مقاومة الطبقة العاملة" التي سيكون على ثورة مضادة بورچوازية أن تحطمها مع أن هذه "المقاومة" تم تحطيمها منذ عهد بعيد من خلال آليات النظام الستاليني والتي استمرت من الناحية الجوهرية بعد ستالين بدليل الحالة السياسية الراهنة للطبقة العاملة في الاتحاد السوڤييتي وأوروپا الشرقية وبقية البلدان المعنية.
ومهما يكن من شيء فإن إفلاس ماندل والماندلية فيما يتعلق بهذه المسألة المحورية من المسائل النظرية والعملية للتروتسكية والذي يشمل في آن واحد نظرية الطبيعة الاجتماعية ونظرية إعادة البناء يفتح الباب واسعا (مع التقدير الكامل للإنجازات الضخمة لماندل والأممية الرابعة في بقية المسائل النظرية والعملية للماركسية الراهنة) أمام نظرية أخرى تنطلق من تبنِّي نقاط قوة نظرية تروتسكي والعمل على التغلب على نقاط ضعفها في آن معا، وهي النظرية الأخيرة التي ننتقل إليها الآن.
هذه النظرية التي تحدد الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية بأنها رأسمالية دولة وتنظر إلى إعادة البناء على أنها انتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية الواحدة هي نظرية توني كليف في كتابه: رأسمالية الدولة في روسيا (1948) وهي النظرية التي "طوّرها إلى مدى أبعد ودافع عنها، بين آخرين، كريس هارمان، نايچل هاريس، دنكان هالاس، پيتر بينس" كما يقول چون مولينو في كتابه: نظرية الثورة عند ليون تروتسكي (1981، بالإنجليزية، الإشارة رقم 90، الفصل الرابع) وهي، كما سبق القول، نظرية حزب العمال الاشتراكي البريطاني.
ترى هذه النظرية أن النظام السوڤييتي الناشئ عن ثورة أكتوبر 1917 تحوَّل إلى رأسمالية دولة عبر مسار تبرز فيه حقائق أساسية: تخلُّف قوى الإنتاج، دمار الحرب الأهلية التي دمرت أيضا الطبقة الثورية ذاتها، صعود البيروقراطية الستالينية كطبقة رأسمالية حاكمة: تمثل سنة 1929 تاريخا حاسما في هذا المسار. وفي مقاله المعنون: من تروتسكي إلى رأسمالية الدولة (إنترناشونال سوشاليزم، عدد صيف 1990)، يشير كريس هارمان إلى تغيرات كبرى تمت دفعة واحدة في شتاء 28-1929، موجزا أفكار توني كليف في كتابه سالف الذكر:
في شتاء 28-1929 قامت البيروقراطية، التي كانت تتذبذب من قبل بين الطبقة العاملة والفلاحين، بالهجوم الضاري عليهما معا. تمّ تحطيم العناصر الأخيرة من الرقابة العمالية في المصانع؛ وتمّ القضاء تماما على الاستقلال النقابي؛ وهبطت الأجور الحقيقية بنسبة 30 أو 40 في المائة؛ ومُنحت الشرطة السياسية حرية التصرف لمحو بقايا النقاش داخل الحزب، وأضحى النضال ضد "المساواتية" سياسة دولة في حين أخذت التفاوتات بين البيروقراطية والعمال تزداد بصورة كبيرة؛ وتمّ طرد الفلاحين من الأرض من خلال ما يسمَّى "بالتجميع"؛ وتضاعف عدد المساجين في معسكرات العمل 20 مرة في غضون سنتين (ليتضاعف من جديد عشر مرات في العقد التالي)؛ واستخدم الترويس لتحطيم استقلال الجمهوريات السوڤييتية غير الروسية.
ويقول چون مولينو في كتابه سالف الذكر (ص 137) عن ذلك التحول:
وفي رأسمالية الدولة في روسيا أثبت توني كليف بالتحليل التفصيلي، أنه ابتداءً بالخطة الخمسية الأولى، تمّ إخضاع الاقتصاد السوڤييتي بكل قسوة للتراكم وإنتاج وسائل الإنتاج، كنقيض لاستهلاك العمال. وذلك في تناقض صارخ مع فترة 21-1928 حيث كان هناك، رغم التشوّه البيروقراطي، نموّ متوازن إلى حدّ ما للإنتاج، والتراكم، والاستهلاك.
أيْ أن استعادة الرأسمالية في الاتحاد السوڤييتي تاريخ قديم تحقق منذ أكثر من ستين سنة فلا مجال للحديث (منذ ذلك العهد القديم) عن مجتمع اشتراكي أو انتقالي كما تفعل النظرية السوڤييتية والنظرية التروتسكية على التوالي انطلاقا من ملكية الدولة والتخطيط المركزي الشامل اللذيْن ينظر إليهما كليف على أنهما الأداتان الضروريتان لرأسمالية الدولة البيروقراطية، واللذيْن يرتكز كليف على دراسة مستفيضة معمقة للاقتصاد السوڤييتي ولعلاقات الإنتاج والتوزيع في المجتمع السوڤييتي للكشف عن طابعهما الطبقي الحقيقي الذي تخفيه النظريات التي لا تتصور الرأسمالية إلا في شكل الرأسمالية الخاصة والملكية الخاصة والفردية.
ويودّ كاتب هذه السطور أن يشير هنا إلى تبنيه من الناحية الجوهرية لنظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية في السنوات الأخيرة. لكنني أودّ أيضا أن أؤكد أن هذا التبني لا يمتدّ إلى كافة وجهات نظر هذا المذهب الماركسي: الفكري السياسي التنظيمي، ولا يخلو من تحفظات هامة على بعض الأفكار المرتبطة بنظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية. وسأشير فقط إلى نقطة واحدة: يبدو أن هجوم هذه النظرية على المبالغة في دور ملكية الدولة في نظريات أخرى قادها إلى المبالغة في تصور أن رأسمالية الدولة الشاملة يمكن أن تكون نظاما "دائما" في بلد واحد أو في مجموعة من البلدان، ولهذا لم يكن باستطاعتها أن تتنبأ بانهيار محتمل لهذا الشكل من أشكال الرأسمالية ولهذا كان التهوين الدائم من إمكانية استعادة شكل الرأسمالية الخاصة رغم أن هذا الشكل لا يمكنه أن يحول في الظروف المعاصرة دون أن تحتل رأسمالية الدولة دورا بالغ الأهمية في الاقتصاد كما هو الحال في قلاع الرأسمالية الغربية ذاتها. وهنا يمكن القول إن هذه النظرية سوف تجد، تحت ضغط التطورات الراهنة، ما تتعلمه من إلحاح تروتسكي على الرأسمالية الخاصة وعلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لكن ضمن إطار نظري مختلف يعتقد أن رأسمالية الدولة الشاملة يمكن أن تكون، وكانت بالفعل، مرحلة خاصة وشكلا خاصا للرأسمالية، كما يعتقد أنها ستلعب دورا كبيرا في اقتصاد البلدان المعنية في المستقبل.
وإذا كان كريس هارمان يصف محصلة التحولات الراهنة بأنها ستكون انتقالا من شكل رأسمالية الدولة البيروقراطية إلى شكل الرأسمالية المتعددة الجنسيات، مقدِّرا للدور الذي تلعبه الإمپريالية العالمية في هذه التحولات، ومتفاديا أيّ حديث عن رأسمالية خاصة بعقائدية نموذجية لدى هذا الاتجاه في هذه النقطة بالذات، فإن أيّ تحليل ماركسي مدقق لن يعثر على سور صيني بين الرأسمالية المتعددة الجنسيات والرأسمالية الخاصة والفردية ولا بينهما وبين رأسمالية الدولة. وكريس هارمان لا يقيم مثل هذا السور بصورة مباشرة على أيّ حال وإنْ كان تفاديه العقائدي لكل حديث عن الرأسمالية الخاصة قد يوحي به عن حق أو عن غير حق.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المؤلف في سطور
(كريس هارمان)
كريس هارمان Chris Harman هو رئيس تحرير الفصلية اللندنية International Socialism "الأممية الاشتراكية"، وعضو اللجنة المركزية لحزب العمال الاشتراكي في بريطانيا، وأحد كبار منظِّريه. وهو من أصول عمالية. شارك في حملة التضامن مع ڤييتنام، وأغضب الكثير من اليساريين عندما اتَّهم في أحد الاجتماعات هو تشي منه باغتيال تا ثو ثاو Ta Thu Thau (1906-1945) زعيم الحركة التروتسكية الڤييتنامية في 1945 بعد سحق الانتفاضة العمالية في ذلك العام في سايجون. وقد أصدر العديد من الكتب والكراسات والمقالات حول مجموعة واسعة من الموضوعات، نُشر الكثير منها في المجلة المذكورة. ومن أعماله: "(تفسير الأزمة: إعادة تقييم ماركسية (1984)"، و "روسيا من الدولة العمالية إلى رأسمالية الدولة (1987)" بالاشتراك مع پيتر بنسPeter Binns  و توني كليف Tony Cliff، و "الماركسية التاريخ (1998)"، و "النبي والپروليتاريا: الأصولية الإسلامية، والطبقة، والثورة (1999)".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
المترجم في سطور
(خليل كلفت)
خليل كلفت كاتب ومترجم مصري، كتب العديد من مقالات النقد الأدبي وقليلا جدا من القصص القصيرة في النصف الثاني من الستينيات. وفي النصف الثاني من السبعينيات كتب (باسم قلم) العديد من المقالات والكتب في مختلف مجالات السياسة المصرية والعربية والعالمية والمسألة الزراعية في مصر ومسألة القومية العربية وغيرها. يعمل منذ بداية الثمانينيات في مجال إعداد المعاجم اللغوية، والترجمة عن الإنجليزية والفرنسية، حيث ترجم العديد من الكتب في مجالات الأدب والنقد الأدبي والسياسة والفكر، كما نشر العديد من المقالات والدراسات السياسية والثقافية واللغوية. ومن ترجماته في مجال السياسة والفكر "فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها -وجهة نظر ماركسية"، "راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية"، "توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث"، "سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم"، "إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادي والعشرين: مخاوف وأخطار جديدة"، "وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب -جلسة بشأن أرتريا ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا" وترجم (بالاشتراك مع على كلفت) "فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد "، كما شارك في ترجمة: "إيڤ ميشو (إشراف) [محاضرات] جامعة كل المعارف"، "چيرار سوسان وچورچ لابيكا (إشراف): معجم الماركسية النقدي". ويصدر له قريبا: "چوزيف ستيجليتز: تجارة عادلة للجميع".  
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
كلمة الغلاف
انهيار النموذج السوڤييتي
 
يقدم كريس هارمان، وهو رئيس تحرير المجلة الفصلية اللندنية "إنترناشونال سوشاليزم" [الاشتراكية الأممية]، ومن كبار مفكِّري حزب العمال الاشتراكي في بريطانيا، في هذا الكتاب استقصاءً شاملا مدقِّقا لمسار التطورات الكبرى التي جرت في الاتحاد السوڤييتي السابق منذ الپيريسترويكا، وفي مجرى الأحداث التي عصفت بالأحزاب الحاكمة في أوروپا الشرقية. ورغم أن هذا الاستقصاء الشامل المعمَّق هو السمة المميزة لهذا الكتاب، فهو كتاب سياسي في المحل الأول، لا يكتسب كتاب هارمان أهميته من مجرد الوصف الموضوعي والأمين والغني بالتفاصيل التي تطمح إلى تقديم صورة نابضة بالحياة، بل هناك دائما ما يعمِّق مغزى هذا الاستقصاء لما هو راهن من بحث عن جذور تلك الأزمة، وكشف البنية الاجتماعية-الاقتصادية التي كانت هذه الأزمة ممكنة بل حتمية ضمن إطارها، واستكشاف لصورة المستقبل، للنتائج التي كان لا بد من أن تؤدي إليها تلك التطورات التاريخية في نهاية الأمر. والحقيقة أن إجابة هارمان حاسمة: الانتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية، الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 


 [*]  جرى تدخل تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة بغطاء من الأمم المتحدة، ووُصف بأنه تدخل إنساني لإنقاذ الصومال من المجاعة والحرب الأهلية، على أن مثل هذا التدخل مشكوك فيه من أكثر من ناحية:
1: غموض الأهداف الإستراتيچية الأمريكية.
2: لا يمكن تصوُّر تدخلات مماثلة في أماكن أخرى من العالم الثالث في حالة تزامن المجاعات والحروب الأهلية على نطاق واسع.
3: الشمال الإمپريالي قد يملك تلطيف هذه المجاعات في المدى القريب غير أنه لا يملك قطعا (ولا يريد أصلا) إيقاف هذه الشعوب على أقدامها بحيث تنتقل إلى نظام اجتماعي اقتصادي حديث ومتطور يمكنه وحده منع مثل هذه الكوارث. وقد عبرت حتى صحافتنا "القومية" عن مثل هذه الشكوك والمخاوف والتحفظات.
 
* تأسست لإحياء ذكري ضحايا القمع الستاليني وهي غير جماعة الذاكرة (پاميات) اليمينية -المترجم.
* السلع البيضاء: البياضات كالفوط والملاءات والمفارش إلخ.. والأجهزة المنزلية كالثلاجات والغسالات والمواقد، إلخ.. -المترجم.
* الميكروتشيپ microchip قطعة صغيرة جدا من السليكون في كمپيوتر يمكنها حمل مقادير هائلة من المعلومات أو القيام بعمليات رياضية أو منطقية -المترجم.
* الياكيسات إشارة إلى ميلوس ياكيس Jakes: زعيم ستاليني تشيكوسلوڤاكي -المترجم.


إشارات العاصفة تهب
 
[1]  Financial Times, 24 January 1990.
[2]  Yeltsin quoted in Financial Times, 19 January 1990.
[3]  Independent on Sunday, 4 February 1990.
[4]   بصفته المسؤول النقابي في يوركشاير كان راميلسون مسؤولا بصفة مباشرة عن طردهم من الحزب الشيوعي. وقبل ذلك بتسع عشرة سنة، في مايو 1937، كان راميلسون ضمن القوات التي بعث بها القادة   في برشلونة.  POUM للتعامل مع الفوضويين والحزب العمإلى للتوحيد الماركسي الستالينيون
[5]  Quoted in Guardian, 13 January 1990.
[6]  Morning Star, 19 January 1990.
[7] Themes , New Left Review 178, November-December 1989.؛ هناك شائعة تقول إن پيري أندرسون، أبرز أعضاء هيئة التحرير فكريا، مكتئب اكتئابا عميقا بسبب ما ينظر إليه على أنه تحوُّل ذو نطاق عالمي إلى اليمين.               
       
 
[8] عرض هذه النظرية للمرة الأولى بصورة متماسكة توني كليف في كتابه The Nature of Stalinist Russia (London, 1948) والذي أعيد طبعه في صورة معدّلة تعديلا طفيفا بعنوان : Stalinist Russia: A Marxist Analysis (London, 1955) and State Capitalism in  Russia (London, 1974 and 1988).
[9]  Z Medvedev, Gorbachev (Oxford, 1988).
[10] For an account of Andropov s role by the Budapest police chief in 1956, see S  Kopacsi, On the Side the Working Class (New York, 1987).
[11] J Bloomfield, ed, The Soveit Revolution (London, 1989).
[12] T Ali, Revolution From Above (London, 1988) pxiii.
[13] Report in Labour Focus on Eastern Europe, July/October 1987.
[14] Interview in London, January 1990.
[15] Independent, 30 June 1988.
[16] Speech to Congrees of Delegates, 26 May 1989.
[17] Transcript of broadcast in BBC monitoring service reports, May 1979.
[18] Report from Boris Kagarlitsky in Socialist Worker, 29 may 1989.
[19] See transcripts of interviews with editor of Argumenty i facty in BBC monitoring.
[20] Report by Helen Womack, Independent, 9 February 1990.
[21] Pravda, 6 February 1989.
[22] Central Committee plenum of 18 July 1989, transcript translated in BBC  monitoring reports, 24 July 1989.
[23] Supreme Soviet, 2-3 October 1989. Interestingly, the Soviet s debate on issue was  not televised, see Moscow News, 22 October 1989.
[24] Pravda, 21 October 1989.
[25] Congress of Deputies, 13 December 1989, see also 15 and 16 December.  Transcript to be found in BBC monitoring reports December 1989.
[26] Transcript of speech in BBC monitoring reports,20 December 1989.
[27] On page 119 of his book, Perestroika.
[28]      وهكذا لا يتناول كتاب طارق على الثورة من فوقRevolution From Above ، المكتوب في أوائل 1988، المسألة القومية حتي  الـ 15 صفحة الأخيرة ـ الأمر الذي يعطي انطباعا بأنها أضيفت إلى النهاية بعد النهوض المفاجئ للنزعة القومية في أرمينيا. ويصف طارق " تفتُّت الاتحاد السوڤييتى" بأنه «مشروع من أكثر مشاريع واشنطن جنونا» في مقدمته. انظر T Ali, op cit, pxiii. وقد تبين مدي إدراك طارق للواقع السوڤييتي قبل ذلك بثلاث سنوات عندما كتب، بعد زيارة رسمية لطشقند: «لم أر مطلقا أي دليل على أي إحياء للدين في آسيا الوسطي السوڤييتية... والواقع أن "المحللين" الغربيين الذين ظلوا يتحدثون عن اضطرابات من الطراز الخميني بعيدون كل البعد عن الحقيقة.          
[29] See, for example, the discussion on these questions in all editions of Tony Cliff s  State Capitalism in Russia, op cit, and in my own Prospects for the 70s: The  Stalinist State , in International Socialism 42 (old series) February/March 1970.
[30] These claims were, for instance, -print-ed without critical comment by the Guardian s  Martin Walker. See the issues of the Guardian for the third week of December  1986.
[31] See G J Libaridian, The Karabagh File (Cambridge Mass, 1988).
[32] TASS report, quoted in Independent, 5 March 1988.
[33] Quoted in Independent, 3 April 1988.
[34] Independent, 16 July 1988.
[35] Le Monde, 26 July 1988.
[36] Quoted Times, 3 September 1988.
[37] TASS, 16 December 1988.
[38] Pravda, 16 December 1988.
[39] There are full reports on the proceedings of the founding Congresses in the BBC  monitoring reports for October 1988.
[40] Gorbachev, speech to Central Committee of CPSU, 25 December, op cit.
[41] Moscow News, 25 October 1989.
[42] TASS, 25 October 1989.
[43] Pravda, 2 October 1989.
[44] Izvestia, 5 February 1990.
[45] Soviet TV, 19 January 1990, in BBC monitoring report, 22 January 1990.
[46] Kiev Radio, 15 January 1990, quoted in BBC monitoring repoors, 17 January  1990.
[47] TASS, 1 February 1990.
[48] Izvestia, 2 February 1990.
[49] Komsomolskaya Pravda, 11 January 1990.
[50] N Mikhailov, Moskovksaya Pravda, 18 August 1989.
[51] D Granin, Moscow News, 17 December 1989.
[52] Soviet TV, 19 January 1990, in BBC monitoring report, 27 January 1990.
[53]  كنتُ حاضرا في مؤتمر للجبهة الشعبية بموسكو برئاسة جندي يرتدي الزي العسكري.      
[54] Krasnaya Zvezda, 3 November 1989.
[55] Yerevan Radio, 29 September 1989, in BBC transcripts, 3 October 1989.
[56] A Gelman, in Moscow News, 31 December 1989.
[57] For full accounts of the strikes, based on discussions with Polish socialists who  were active in them, see Socialist Worker, 27 August 1988, 3 September 1988. 10  September 1988.
[58]   أدين بهذا الرقم لعضو في الحزب الاشتراكي الپولندي (الثورة الديمقراطية) من وارسو.     
[59]  أفاد ميكلوس هارازتي Miklos Haraszti الذي كان منشقا آنذاك Socialist Worker Review (July 1988) بأن 10 آلاف اشتركوا في مظاهرة 15 مارس1988.              
[60] Article in Sunday Correspondent, 17 September 1989.
[61] For an account of their preparations see Stern, 25 January 1990.
[62] Financial Times, 15 January 1990.
[63] Financial Times, 15 January 1990.
[64] Independent, 2 February 1990.
[65] Financial Times, 15 January 1990.
[66] Interview in East Berlin, 22 December 1989.
[67] Ibid.
[68]  قدّر تقرير لشاهد عيان من المظاهرة الخاصة بلفت الأنظار إلى الذكري الـ 21 للغزو الروسي أنه اشترك فيها 7-8 آلاف شخص، انظرْ: Socialist Worker, 26 August 1989.
[69] See, for example, Czech protestors fail to involve silent majority , Financial  Times, 30 October 1989.
[70] Interview in Prague, 11 December 1989.
[71] Ibid.
[72] Interview in Independent, 31 January 1990. See also the report that the state  security system had been both alolished and reorganised , Prague Radio, 1  February 1990, in BBC monitoring report, 3 February 1990.
[73] For an account of what happened in politburo and Central Committee, see Moscow  News, 7 January 1990.
[74] For the new leadership s account of the economic crisis, see article from Trud, 1   December 1990, translated BBC transcripts, 14 December 1989.
[75] For accounts of what occurred see BBC monitoring service for Eastern Europe, 19  and 28 December 1989.
[76]  لم يكن هناك أي صحفيين غربيين في البلاد في ذلك الحين وهناك تقارير عديدة متناقضة في وسائل الإعلام الغربية عما حدث بالضبط، وأنا أعتمد هنا بصفة رئيسية على شهادة شخص روماني استخدم كاميرا الفيديو الخاص به لتصوير أحداث 21-22 ديسمبر، كما رُويت في الإذاعة البريطانية: برنامج پانوراما في 8 يناير 1990.          
[77] New Left Review 50 (1967).
[78] Quatrieme Inernational, année 14 (1956), nos 1-3.
[79] E Mandel, La crise, 1978, pp161-5.
[80] Trotsky, The Class Nature of the Soviet State (London, 1962).
[81] Trotsky, IN Defence of Marxism (New York, 1973), p14.
[82] The War and the Fourth International . In Writings 1939-40 (New York, 1973).
[83] E Mandel, Beyond Perestroika (London, 1989), p34.
[84] T Ali, Revolution From Above, p80.
[85] B Rizzi, The Bureaucratisation of the World (London, 1985), p87.
[86] M Schachtman, The New International, October 1941, p238, and Workers Party  Historic Documents Bulletin 1, 1944, both quoted in R Dunayevskaya, State  Capitalism and Marx s Humanism´-or-Philosophy and Revolution (Detroit, 1967) pp  18-19.
[87] M Rakovski, Towards an East European Marxism (London, 1978), p103.
[88] Ibid, p101.
[89] G Bence and J Kis, After the break , translated in F Silnitsky, L Silnitsky and Karl R  Reyman, Communism and Eadtern Europe, p140.
[90] M Schachtman, The Bureaucratic Revolution.
[91] Towards a political economy of the USSR , Critique, no 18, spring 1973, p22.
[92] In debate with Alex Callinicos at the Socialist Workers Party annual school,  Marxism, in 1981.
[93] In The Soviet -union- Demystified (London, 1986).
[94] F Furedi, ibid, p100.
[95] Ibid, p102.
[96] Ibid, p117.
[97] Ibid, p172.
[98] Ibid, p159.
[99] Ibid, p67.
[100] CIA -dir-ectorate of Intelligence, Revisiting Soviet Economic Performance Under  Glasnost: Implications for CIA Estimates (Washigton, 1989), p10.
[101]   ينبغي أن يُذكرّ أحدّ تيكتين بطقطوقة من سنة 1958: "أمسك نيزكا وضعْه في جيبك، أرسله إلى الولايات المتحدة الأمريكية". 
[102] Economist, 9 April 1988.
[103] M Walker, What is to be done? , Marxism Today, June 1988, re-print-ed in J  Bloomfield, ed, The Soviet Revolution, op cit, p97.
[104] CIA, op cit.
[105] Introduction , in M C Kaser, ed, An Economic History of Eastern Europe, vol 1  (London, 1986), p8.
[106] Ibid.
[107] Estimates quoted by Kaser, ibid, p9.
[108] Ibid.
[109] T Cliff, State Capitalism in Russia, op cit.
[110] T Cliff, The Class Nature of The peoples Democracies (London, 1950) re-print-ed in  Neither Washington nor Moscow (London, 1982), Y Gluckstein (T Cliff), Stalin s  Satellites in Europe (London, 1952) and Chris Harman, Class Struggles in Eastern  Europe (London, 1989, previous edition titled Bureaucracy and Revolution in  Eastern Europe, London, 19740.
[111] Y Gluckstein (T Cliff), Mao s China (London, 1957) and N Harris, The Mandate of  Heaven.
[112] T Cliff, Deflected Permanent Revolution , in Neither Washington Nor Moscow, op  cit.
[113]  في نظر تروتسكي كان ما حدث في مجال الاستهلاك هو الذي أحدث انقساما بين «شريحة حاكمة» وجمهور العمال. وفي نظر ماندل: «البيروقراطية السوڤييتية... ليست تحت أي إكراه اقتصادي لزيادة الناتج إلى الحد الأقصى»  The Inconsistencies of State Capitalism (London, 1969).            
 [114]  يناقض ماندل زعمه هو شخصيا أن البيروقراطية ليست واقعة تحت أي إكراه لزيادة الناتج إلى الحد الأقصى بزعمه أن «المنطق الداخلي لاقتصاد مخطط يقتضي زيادة الناتج إلى الحد الأقصى وتـوزيع الموارد على النحو الأمثل، ويؤكد علاوة على هذا أن التراكم حدث في بعض المجتمعـات قبل ظهور الرأسمالية وسيظل يحدث في ظل الاشتراكية،  Mandel, ibidأما تيكتين فينظر إلى معدل مرتفع للتراكم على أنه سمة هامة من سمات المجتمع الروسى، لكنه ينكر أن هذه سمة رأسمالية.
[115] K Marx and F Engles, Manifesto of the Communist Party, in Collected Works, vol  1 (Moscow, 1962), p37.
[116] Ibid.
[117] V Selyunin, Sotsialistischeksaya industria, 5 January 1988, translated in Current  Digest of the Soviet Press, 24 February 1988. See also A Zaichenko, How to   divide the pie , Moscow News 24, 1989.
[118] K Marx, Capital, vol 1 (Moscow, 1961), pp648-652.
[119] See, for instance, G R Feiwer, The Standard of Living , in Osteuropa Wirtshaft,  February 1980.
[120] For an explanation of the recomputation of the figures, see Kaser and Radice, op  cit.
[121] J Fekete in Gossman (ed), Money and Plan.
[122] Figures given in introduction to C Boffito and L Foa, La crisis del modello  sovietico in Cecoslovacchia (Turin, 1970).
[123] Figures given in M Kaser, Comecon (London, 1967), p140.
[124] According to Col-Gen Babyev, quoted in BBC monitoring report, 4 February  1990.
[125] CIA, op cit.
[126] يصدق هذا في الولايات المتحدة، حيث التنافس بين أصحاب مصانع الأسلحة مجرد خرافة، صدْقهُ في الاتحاد السوڤييتي - وفي الوقت ذاته يُباع قسم من أسلحة الاتحاد السوڤييتي - وهذا البلد هو ثاني أكبر مُصدِّر للأسلحة في العالم.           
[127] أولئك الذين ينظرون إلى الاتحاد السوڤييتي على أنه غير رأسمالى، يتحدثون عادة عن "الطبقة العاملة" دون أن يكونوا قادرين على تفسير لماذا، حيث أن الطبقة العاملة نتاج نوعي للرأسمالية وليس لأي أسلوب إنتاج  آخر. ولو كانوا منطقيين لاستخدم منظّرو "الطبقة الجديدة" مصطلحا مثل "عبيد الدولة".                   
[128] أعلى تقدير هو تقدير المنشق السابق والمؤيد الحإلى لجورباتشوڤ، ر. ميدڤيديڤ.     
[129] F Engels, Letter to Danielson , quoted in Rosdolsky, The Making of Marx s Capital, vol 2 (London, 1989), pp463-4.
[130] N Bukharin, Imperialism and the World Economy (London, 1972) and V I Lenin,  Imperialism, the Highest stage of Capitalism.
[131] Quoted in M Haynes and P Binns, Eastern European Class Societies , Inernational   Socialism 7, winter 1979.
[132] A D H Kaplan, The Liquidation of War Production (New York, 1944), p91.
[133] Kaser, op cit, p4.
[134] G Ranki and J Tomaszewski, The Role of the State in Industry, Banking and  Trade , in M Kaser and E Radice, eds, Economic History of Eastern Europe, vol 2,  p4.
[135] Ranki and Tomaszewski, ibid, pp29 and 45-7.
[136] Kaser, Introduction, op cit, p7.
[137] A Zauberman, Industrial Growth in Poland, Czechoslovakia and East Germany  1937-62 (London, 1964).
[138] Kaser, Introduction, op cit, p190. cf also Brus, in Kaser and Radice (ed), op cit  pp612-4.
[139] Kaser, Introduction, op cit, p1.
[140] Oscar Lange, Belgrade lecture of November 1957 , quoted in Kaser, ibid, p15.
[141] For an account of these arguments see Brus, op cit, pp612-614.
[142] Figures given in B Arnot, Controlling Soviet Labour (London, 1988), pp25-26.
[143] Kaser, Introduction, op cit, p1. NB His figures exclude East Germany.
[144] Figures given in W D Connor, Socialism s Dilemmas: State and Society in the  Soviet Bloc (New York, 1988), p144.
[145] Quoted in Connor, ibid, p149.
[146] For estimates for Eastern Europe see ibid, p149.
[147] Studies quoted ibid, p89.
[148] Figures quoted ibid, p96.
[149] Studies quoted ibid, p97.
[150] Quoted ibid, p98.
[151] بمصطلحات ماركس، ترتفع التكلفة المحددة اجتماعيا وثقافيا لإعادة إنتاج قوة العمل.      
[152] بتعبير ماركس، حوّلهم إلى شغيلة صاروا "أحرارا" من أي سيطرة على وسائل عيشهم.    
[153]   أو، كما عبر ماركس، يؤدي التركيب العضوي المتزايد الارتفاع للرأسمال إلى ميلٍ لمعدل الربح إلى الهبوط. للحصول على وصف لمختلف المناقشات لهذه المسألة في كتابات ماركس، انظرْ  C Harman, Explaining the Crisis (London, 1984), ch 1.
[154] Figures given in K Fitzlyon, Soviet Studies, Summer 1969, p179.
[155] Official figures and Western estimates both given in CIA, op cit.
[156] هذه العبارة الثقيلة استخدمها بوخارين في وصف تناقضات النظام العالمي لرأسماليات الدولة، انظر مؤلّفه:  Economics of the Transformation Period (New York, 1971).
[157] Figures from N M Bailey, Productivity and the Services of Labour and Capital ,  Brooking Papers, 1981:1,p22.
[158] كانت الملاحظة التجريبية لهذه الظاهرة هي التي تشكل أساس النظريات المعاصرة عن «الركود» في الاقتصاد الأمريكي من قبيل            J Steindl, Maturity and Stagnation in American Capitalism (London, 1955) and P  Baran and P Sweezy, Monopoly Capital.
[159] For discussion over this question see the articles by M Kidron and myself in  International Socialism (first series) 100.
[160] For accounts of these using an early version of the present analysis, see T Cliff,  Crisis in China , International Socialism (first series) 29, 1966, re-print-ed in Neither  Washington Nor Moscow (op cit), pp143-165.
[161] See C Harman, Cuba, the End of a Road , International Socialism (first series) 45,  November/December 1970.
[162] Calculations in M Kidron, Memories of Development , in Capitalism and Theory  (London, 1974), p172.
[163] Ibid, p171.
[164] Ibid, p172.
[165] Ibid, p173   كما استنتج كيدرون على نحو خاطئ من حجة صحيحة تماما.     
[166] For full accounts of these events see my Bureaucracy and Revolution in Eastern  Europe re-print-ed in an updated edition as Class Struggles in Eastern Europe (the  chapters on Czechoslovakia in the 1982 edition of the work occur in an abridged  form).
[167] C Harman, Prospects for the Seventies, the Stalinist States , op cit
[168] Figures given by Jiri Kosta, in Nove, Hohmann and Seidenstecker (eds), The East  European Economies in the 1970s (London, 1982), p36.
[169] Gierek, transcription of speech in Gierek, Face aux grevistes de Szczecin (Paris,  1972) p37.
[170] Kuron and Modzelewski, A Revolutionary Socialist Monifesto (Open Letter to the  Party) (1965 edition), pp37 and 30.
[171] من أجل مقال كتبتُه في منتصف السبعينيات كان على أن أثابر في دراسة إحصاءات رسمية تفصيلية لإثبات كم كانت التحسينات في مستويات المعيشة محدودة حقا:        See note 5 to my Poland and the Crisis of State Capitalism: part two , in  International Socialism (first series) 94.
 
[172] For details of these ventures see ibid, p29.
[173] According to International Herald Tribune, 17 August 1976.
[174] Figures given in Financial Times, 19 January 1990.
[175] See, for example, Alex Nove, The Economics of Feasible Socialism (London,  1983).
[176] For such predictions, see references in Class Stuggles in Eastern Europe (London,  1983).
[177] Moscow News, No 24, 1989.
[178]  في الأسابيع الأخيرة كانت الصحافة الغربية حافلة بمقارنات سخيفة تماما بين مستويات المعيشة الأورپبية الشرقية والأوروپية الغربية، تقوم على مقارنات الأجور على أساس أسعار الصرف «الحقيقية» (أى، غير الرسمية). لكنْ من حيث بنود الاستهلاك الهامة، مثل كثير من الأغذية الأساسية، وتكاليف الإسكان والتدفئة، يأتي العمال في ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوڤاكيا خارج أي مقارنة على الإطلاق: فيما يتعلق بالبيرة، على سبيل المثال، يعادل المارك الألماني الشرقي حوإلى ثلاثة ماركات ألمانية غربية، بعكس سعر الصرف «الحقيقى”الذي يحدد قيمته بما بين ثُمْن وواحد على اثني عشر من قيمة المارك الألماني الغربي. ويخسر العمال الألمان الشرقيون والتشيك المقارنة فيما يتعلق بأشياء كالكساء وقبل كل شي السلع الكهربائية والسيارات، التي يتطلب شراؤها ساعات عمل أكثر بكثير مما في الغرب. والأمور أسوأ كثيرا، دون شك، بالنسبة للعامل الروسي الذي يجد صعوبة في الحصول على المشروبات الكحولية واللحوم وكذلك الكساء الجيد النوع والسلع الكهربائية.         
[179]  كانت هذه هي الحجة الأساسية في مقالى،    Poland and the Crisis of State Capitalism, International Socialism (first series) 93  and 94.
[180] C Harman, Class Struggles in Eastern Europe, op cit, p332.
[181] Pravda, 22 April 1988.
[182] N Ryzhkov, Report on draft guidelines for economic and social development given   to 27th congress of CPSU, March 1986.
[183] قرار للكونفرنس الحزبي الـ 19 عن الپبيريسترويكا مقدم من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوڤييتي.             
[184] Pravda, 22 August 1985.
[185] The estimate for the total number of redundancies due under economic  restructuring is from Pravda, 21 January 1988, The figure for redundancies so far comes from Moscow News, 3 September 1989, which quotes a Pravda suggestion that total unemployment in the central Asian republics and Kazakhstan alone is six million.
[186] Transcript in BBC monitoring reports, January 1989.
[187] BBC monitoring reports, February 1989.
[188] Pravda, 14 July 1988.
[189] In an interview in the London Review of Books, November 1988.
[190] Izvestia, 10 1988.
[191] Central Committee resolution to special conference, in BBC monitoring reports, June 1988.
[192] Report on Soviet TV, 17 January 1989, transcript in BBC monitoring reports, January 1989.
[193] Pravda, 11 May 1988.
[194] For the government s measures, see Ryzhkov s report on the Soviet economy to the  congress of Deputies, TASS, 13 December 1989. for the criticisms of Ryzhkov for  consolidating commandist methods see the statement by 23 people s deputies in  Komsomolskaya Pravda, 12 December, and speeches by Popov, Chernyakov and  Yeltsin to the Congress of Deputies, TASS 14 December 1989 and Soviet TV 15  December 1989, in BBC monitoring reports, 16 and 20 December 1989.
[195] Independent on Sunday, 4 February 1990. The claim about the non-Russian being  worse off is accepted by Neil Ascherson in the Independent on Sunday, 11  February 1989.
[196] Yakov Roi (ed) The USSR and the Muslim World (London, 1984), p133.
[197]    رغم أنه بعث بقوات لتقتل مئات من الناس في چورچيا في 1956. وكان هناك تقرير كامل عن ذلك في: Literaturli Sakartvelo (Tbilisi) وقٌدّمت ترجمة له في الفترة الصباحية لهيئة الإذاعة البريطانية في أبريل 1988، وهناك أيضا إشارة إليه في Kopasci, op cit.       
[198] For details see T Cliff, Russia: A Marxist Analysis (London, 1964), pp 327-333  (The more recent editions, under the title State Capitalism in Russia, do not contain  these sections of the work.).
[199] Y Roi, op cit.
[200] Ibid.
[201] Guardian, 13 July 1988.
[202] Kommunist, 29 September 1988.
[203] 22 October 1988. in BBC monitoring reports, October 1988.
[204] Kommunist (Yerevan), 29 September 1988, translated in BBC monitoring reports,  12 October 1988.
[205] Pravda, 31 October 1989, summarized in BBC monitoring reports, 2 November  1989.
[206] Pravda, quoted in Moscow News, 3 September 1989.
[207] يقول أوليج فيرونين من نقابة سوتسبروف الاشتراكية المستقلة أنه رأي دليلا وثائقيا على تورُّط قادة الحزب في آذربيچان في هذه المذابح: كلمة ألقيت في لندن في 12 نوڤمبر1990.      
[208] كان هذا إلى حد كبير التفسير الذي طرحه لما كان يجري آنذاك بوريس كاجارليتسكي في أحاديث صحفية عندما كان في لندن في خريف 1989: للحصول على نسخة منشورة من مناقشته، انظرْ:  New Statesman and Society, 10 November 1989.
[209] R Knight, a follower of Frank Furedi, in The Next Step, 26, January 1990.
[210] The argument for supporting Gorbachev put by Jeremy Lister of  Labour Focus on  Eastern Europe, at the Campaign for Solidarity with East European Workers  conference, London, 27 January 1990.
[211] C Harman, Prospects for the Seventies: the Stalinist States , op cit, p17.
[212] Figures quoted in P Hruby, Fools and Heroes, the Changing Role of Communist  Intellectuals in Czechoslovakia (Oxford, 1980), p148.
[213] Quoted in Hruby, ibid, p143.
[214] For a perceptive contemporary account of this grouping in Poland see Byrski, The  Communist "middle class" in the USSR and Poland , Survey, autumn 1969.
[215] Financial Times, 13 December 1989.
[216] M Simecka, The Restoration of Order (London, 1984).
[217] Interview in Moscow News, 29 October 1989.
[218] Quoted in Financial Times, 26 January 1990.
[219] For Poland, see the 1965 Open Letter to the Party by Jacek Kuron and Karol  Modzelewski, republished recently as Solidarnosc: The Missing Link, the account  of the opposition in Warsaw at this time in N Karsow and S Schechter, Monuments  Are Not  Loved (London, 1970), and for Czechoslovakia, see Boffito and Foa, op  cit P Broue (ed) Ecrits a Prague sous la censure (Paris, 1973) Committee to  Defend Czechoslovak Socialists, Voices of Czechoslovak Socialists (London,  1977).
[220] See L église et la gauche (Paris, 1979). Part of this is translates as The church and  the left, a dialogue , in F Silnitsky, L Silnitsky and K Reyman, Communism and  Eastern Europe (Brighton, 1979).
[221] In the series of essays Marx in the Fourth Decade , referred to in F Silnitsky, ibid.
[222]  هذا من الناحية الجوهرية هو موقف هارازتي: “What is Marxism”، أعيد طبعه في F Silnitsky, ibid, p148-159.
[223] الحجة الرئيسية لكورون من أجل «الثورة المحدودة» في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات.    
[224] Quoted in C Barker, The Festival of the Oppressed (London, 1986), p26.
[225] The revolution in the Magic Lantern , The New York Review of Books, 18  January 1990.
[226] Ibid, p48.
[227] Prague Radio, 3 January 1990, translated in BBC monitoring report, 5 January  1990.
[228] Bjon Kruger of the United Left, interviewed early December 1989.
[229] Financial Times, 21 December 1989.
[230] Ibid.
[231] See report in Financial Times, 3 June 1988.
[232] Report quoted in Independent, 10 February 1990.
[233] Quoted Financial Times, 13 February 1990.
[234] Financial Times, 5 April 1989.
[235] Figures in M P Gehlen, The Soviet Apparatchiki , in R B Farrell (ed), Political  leadership in Eastern Europe and the Soviet -union- (London, 1970), p147.
[236] Quoted in Financial Times, 26 January 1990.
[237] In his Issac Deutscher Memorial Lecture in London, September 1989.
[238] روبرت ماكسويل، الذي كان لفترة طويلة المدافع عن بريچنيڤ، وياروزلسكى، وچيڤكوڤ، وشاوشيسكو، يملك الآن حصة 50 في المائة في الجريدة الحكومية "المحولة إلى قطاع خاص"، في حين اشتري ميردوخ الإشراف على الجريدة الرئيسية للمعارضة وكان في پولندا ليري ما هي الجرائد التي يمكنه أن يشرف عليها هناك.             
[239] Czechoslovak television, 19 January 1990, transcript in BBC monitoring report, 22  January 1990.
[240] Sofia Radio, 26 January 1990, transcript in BBC monitoring report, 29 January  1990.
[241] Prague Radio, 27 January 1990.
[242] Quoted, Moscow home service, 14 July 1989, in BBC monitoring  report, 17 July 1989.
[243] Soviet television, 13 July 1989, transcript in BBC monitoring servive report, 15  July 1989.
[244] Interviews on Soviet television, 17 July 1989, transcript in BBC monitoring  service report, 19 July 1989.
[245] Soviet television, 21 July 1989.
[246] Interview in London, October 1989.
[247] Speech to Supreme Soviet, 24 July 1989, in BBC monitoring report, 26 July 1989.
[248] ادّعاء سمعتُه من راديكإلى قيادي واحد على الأقلّ في موسكو منذ إضراب المناجم.      
[249] Soviet television, 21 July 1989, transcript in BBC monitoring report, 25 July  1989.
[250]  الأمر الذي لا يعنى، بطبيعة الحال، أن الإدارات لم تعط عن قصد عمالا من أصول إثنية أو إقليمية بعينها أعمالا داخل المصانع أسوأ من غيرهم: العمال المؤقتون ("ليميتشيكى") من أماكن أخري في الاتحاد السوڤييتي في مصانع موسكو، «الغجر» في المشروعات المجرية، الڤيتناميون والپولنديون في ألمانيا الشرقية، المهاجرون الناطقون بالروسية في بعض مصانع جمهوريات البلطيق.       
[251] For some of the arguments that arise see the interveiws with members of the  PPSDR in Solidarity at the Crossroads , in International Socialism 41.
[252]  كانت هذه إلى حد كبير نغمة عدد من الخُطب التي ألقاها نواب من «الوسط» في مؤتمر ديسمبر 1989 للـ PPS-DR المنعقد في ڤروكلاو [پريسلاو، بپولندا].
[253] حتي في الاتحاد السوڤييتى، كان أضخم توسُّع لملكية الدولة خلال «ثورة ستالين» طوال 28-1929 وليس خلال ثورة 1917 العمالية.            
[254] Independent, 5 February 1990.
 

 
 
 
 
 
 
إشارات ملحق "من تروتسكي إلى رأسماية الدولة"
 
[255]  The workers State and the Question of Thermidor and Bonapartism (London, nd), p8.
[256]  The Class Nature of the Soviet State (London, 1962), p13.
[257]  Ibid, p13.
[258]  Ibid, p12.
[259]  Problems of thee of the Soviet State (London, 1962), p13.              ondon. nd0 development of USSR , Writings of Leon Trotsky, 1930-31 (New   York, 1973), P215.
[260]  L Trotsky. The Class Nature of the USSR , Writings, 1933-4 (New York, 1972).  pp117-118.
[261]  The Revolution Betrayed (London, 1957). p286.
[262]  Ibid, p288.  
[263]  In Defence of Marxism (New York, 1942). pp63-70.
[264] L Trotsky. The Workers State and the Question of Thermidor and Bonapartism   (London), p19.
[265] L Trotsky, In Defence of Marxism,op cit, p14.
[266] The War and the Fourth International , in Writings, 1939-40 (New York, 1973).
[267] Pablo s articles from these years are to be found in, International Secretariat   Documents, vol 1 (New York, 1974).
[268] Letter from Deutscher to Brandler, 15 July 1953, in correspondence between  Brandler and Deutscher , New Left Review, 105, September-October 1977.
[269] I Deutscher, The Prophet Unarmed (Oxford 1959), p462. See also Universities and  Left Review, vol 1, no 1, p10.
[270] Quatriéme International, année 14 (1956)nos 1-3.
[271] E Germaine (ie Mandel), Quatriéme Internationale, December 1956.
[272] E Mandel, Beyond Perestro Beyound e, DeceQuatril 1, no 1, p10.   nd in, international Sika (London, 1989), pxii.
[273] Ibid, p116.
[274] Ibid, p187.
[275] Ibid, p134.
[276] على سبيل المثال: عندما يحدّد زمن "إصلاحات كوسيجين" Kosygin مرتين على أنها بدأت في منتصف السبعينيات، في حين أنها بدأت في الواقع قبل ذلك بعشر سنوات؛ انظر على سبيل المثال:
  Michael Ellman, Socialist Planning, Cambridge, 1989, pp73, 80, and Marshall  Goldman, Gorbachev s Challenge, New York, 1987, pp53-54.
وعندما يشير إلى جريجوريانتس Grigoriants على أنه "مُعارض يسارى"، في حين أنه ليبرإلى يميني؛ وعنـدما يقول  أن "مؤتمر اتحاد الكتاب طرد رجال الأجهزة المحافظين في 1987"، في حين أن اتحـاد الكتاب ظلّ في  الواقع لفترة طويلة أشدّ الاتحادات الثقافية محافظة.
[277] Mandel, 1989, op cit, pxii.
[278] Ibid, p33.
[279] Ibid, p33.
[280] Ibid, p31.
[281] Ibid, p34.
[282] Ibid, p109.
[283] Ibid, p3.
[284] Ibid, p3.
[285] Ibid, p32.
[286] Ibid, p35.
[287] Ibid, p8.
[288] Ibid, p21.
[289] For an account of this based on research in previously inaccessible archives, see M  Reiman, The Birth of Stalinism (London 1987).
[290] Vasily Selyunin, Sotsialistischeksaya industria, 5 January 1988.
[291] Ibid.
[292] Mandel, op cit, p11.
[293] Ibid, p15.
[294] Ibid, p44.
[295] Trotsky, 1962, op cit, p13.
[296] Mandel, op cit, p62.
[297] Ibid, p42.
[298] Cliff, op cit, p154.
[299] Ibid.
[300] The Inconsistencies of ‘State Capitalism’ (London, 1969), p13.
[301] The Communist Manifesto.