الديموقراطية بين الدين والليبرالية والماركسية ...


محمد بودواهي
2012 / 1 / 2 - 19:08     

إن المبادئ الأولية للحكم الديمقراطي العلماني والحكم الديني " التيوقراطي" مختلفة كليا. نحن أمام منظومتين مختلفتين من حيث التكوين والشرعية والأهداف. في الحكم الديني، تعتبر الحقيقة الإلهية منزلة، لها الأولوية على التفكير الفلسفي وحتى على الحقائق العلمية. التشريع في التيوقراطية، يستند أساسا على نصوص دينية "مقدسة" لا يمكن تغييرها. كل ما فيها صالح لكل مكان وزمان وحقائقها مطلقة غير قابلة للتأويل أو التحريف.

في الدولة الدينية أي التيوقراطية، الشعب تحت وصاية الله. هذه الوصاية تتم بواسطة الأوصياء على الدين الذين غالبا ما يوكلون أنفسهم بأنفسهم ويشرحون للناس دينهم وجملة حقوقهم وواجبا تهم الخاصة والعامة. لكن في الواقع كل شرح للدين يعكس عقلية وثقافة شارحها واهتماماته وكذلك ثقافة عصره، يفرضها على المواطنين-المؤمنين فرضا دون أي نقاش أو نقد. يحق للناس في التيوقراطية ممارسة نوع محدود جدا من "الديمقراطية" تتعلق بشكليات الحكم وليس في أسسه. أي اجتهاد "ديمقراطي" يجب أن يدور داخل إطار التشريع الإلهي ولا يمكن قبول أي تشكيك بأصول الدين أو الخروج عنها.

الحكم الديني يستند الى عقائدية مطلقة وشمولية. يحاول تفسير كل شيء، بماضيه وحاضره ومستقبله ويرى أن "الدين هو الحل" الأمثل لتسيير شؤون العالم. لذا فلا مكان لغيرها من الأفكار غير المنسجمة معه، مما يؤدي حتما إلى صراع دائم مع "الآخرين" وإلى ديكتاتورية وطغيان واستعباد. فكل خلاف معها يصبح كفرا وخروجا عن الصراط المستقيم. هذا الفكر الديني السياسي والشمولي والمتكبر والمتعجرف، يحرّم كل من لا يسير في رحابه. يستعمل الغلو والتزمت والانغلاق ويأمر بالطاعة الكاملة. فهو غير قادر على قبول التعددية لا بالفكر ولا بالسلوك، لا يقبل تداول السلطة بشكل شرعي بين أحزاب متعددة، إلا إذا كانت مرحلية وفي مصلحة وصوله إلى الحكم، ومن ثم القضاء النهائي على التعددية الديمقراطية. فالتعامل مع غير "المؤمنين" به وباتجاهاته الدينية يصبح بحكم المنطق التيوقراطي تعاملا بمعايير غير التي تعامل بها جماعاتهم. فالقوانين تصبح مجحفة بحق "الملل" والمذاهب الأخرى والأقليات وغير المؤمنين الكفّار ... وتزول نهائيا المساواة بين المواطنين.

أما الديمقراطية العلمانية فهي تستند إلى فصل الدين عن الدولة وتميز بين الدنيوي والمقدس بشكل واضح. وتجعل من الدولة ومؤسساتها بما فيها معاهد التدريس مؤسسات حيادية بعيدة عن الروابط الطائفية أو الدينية أو الغيبية. الديمقراطية العلمانية ترفض تدخل رجال الدين والحركات الدينية في مصير الدولة وتفسح المجال لحرية الإيمان الديني أو عدم الإيمان دون أي إكراه لآن الدولة لا علاقة لها بمعتقدات الأفراد. هذه الدولة مفتوحة لكل المواطنين ذوي المؤهلات دون تمييز ما.

إن النظام الديمقراطي هو نظام سياسي واجتماعي حيث الشعب هو مصدر السيادة والسلطة، فهو يحكم نفسه عن طريق ممثلين عنه.
والديموقراطية لها قوة هائلة في تحريك المجتمعات الإنسانية . فهي أرضية خصبة لكي يعي الناس مكانتهم وحقوقهم وواجباتهم وتحقيق مصيرهم ، وهي تجعل من الحرية عاملا مشتركا لكافة المواطنين ، وهي تعطي فرصا أكبر للتأثير على مجريات الأحداث وليساهموا بالحياة العامة عن طريق العمل السياسي والمدني وعن طريق وسائل النشر والاتصالات الحديثة المتاحة في المجتمع ، وهي توجد آلية واضحة لتطبيق مفهوم السلطة وممارستها في كافة مستويات العلاقات الإنسانية ، و تجعل من الشعب في نفس الوقت حاكم ومحكوم .
فهي تقوي قناعة المواطنين لتفعيلها والدفاع عنها وإلزام الحكام بها. و ترفع الخوف عن قلوب الناس بسبب وعيهم بحقوقهم ومراقبتهم للحكام . و تفتح آفاقا جديدة للإبداع في كثير من المجالات لإيجاد حلول أكثر ملاءمة.و ترسخ كرامة الناس وتنمي استقلاليتهم ونضوج تفكيرهم وسلوكهم الاجتماعي . وتفسح مجالا واسعا للجميع للنقاش الحر والاتجاه إلى العقل لإقناع الآخر .و توجد توازنا بين الحكومة والمعارضة. كما أنها تدير الصراع السياسي والاجتماعي بشكل سلمي وحضاري .....

ويعتبر حق الانتخاب والتصويت في الديمقراطية هو حجر الأساس فيها. لأنه الوسيلة التي تمنح الشرعية السياسية للحاكم لإدارة الدولة لخدمة الشعب . ولتثبيت أركان الديمقراطية، على الحكومة المنتخبة أن تفي بوعودها التي قدمتها للشعب أثناء الحملة الانتخابية . ومن ضرورات الديمقراطية كذلك الشفافية في تسيير أمور الدولة والحوار الدائم بين الحاكم والمحكوم عن طريق وسائل الإعلام وجملة اتصالات منوّعة مثل حضور النائب أو الوزير بشكل دوري في دائرته الانتخابية ليعي مشاكل الناس في واقعهم اليومي لتكون قراراته وإجراءاته تمس مصلحة الناس الفعلية ...

ولا يمكن تصور الديمقراطية اليوم دون فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما فيها السلطة المعنوية الرابعة أي الإعلام. هذا الفصل هو أفضل الضمانات للنظام الديمقراطي ..... فلا ديمقراطية دون صحافة حرة ومستقلة، مكتوبة كانت أو مرئية أو مسموعة. الصحافة الحرة هي مدنية وليست حكومية في تكوينها. تعكس بمختلف اتجاهاتها وجهات نظر الناس وتفكيرهم وتطرح عليهم آراء ومواضيع كثيرة للنقاش وتوضح وتشرح مشاكل المجتمع. كل هذا يؤدي إلى توعية كبيرة للمواطنين.

المصدر الأهم للثقافة السياسية لأكثر الناس تأتي غالبا من الصحافة. هذه المدرسة الديمقراطية حيوية لشحذ عقول الناس وضمائرهم للدفاع عن حقوقهم أمام جبروت الحكومة وغيرها من أصحاب السلطات المتنوعة من مالية إلى دينية.....
ومع بزوغ الانترنيت وجملة المحطات التلفزيونية المحلية والفضائية فتحت أمام كافة الشعوب وخاصة المستعبدة منها من قبل حكامها، إمكانيات هائلة لا يمكن التكهن بتأثيرها على مدى بعض عقود من الزمن. فالمواطن بفضل هذه الوسائل تبدلت نظرته إلى كثير من "بديهيات" سياسات بلاده بمقارنتها مع سياسات دول تحترم مواطنيها وتقدم لهم خدمات وشروط عمل وتتقيد بأخلاقيات تسيير الدولة دون نهبها وتخريبها عمدا أو جهلا....

فالمجتمع الديمقراطي مجتمع مفتوح. تعرض فيه الأفكار وتناقش علنا من المواطنين تحت حماية القانون. هذه الشفافية وعدم رهبة الحاكم هي عناصر حيوية في مجال الديمقراطية. الإنسان المنفتح والمحاور والمدافع عن حقوقه لا يبقي لنفسه حصيلة أفكاره ومواقفه بل يود نقلها إلى الآخرين لاقتناعه بما يفكر فيه وبما يفعله. إذا دخلت هذه العقلية الانفتاحية في مجالات السياسة والنشر والصحافة والفنون وغيرها، تكون هناك صحوة نوعية عند المواطنين يتجاوزون فيها حدود إمكانياتهم الضيقة لإيجاد حلول جماعية أفضل من الحلول "المنزلة" من دماغ السلطان مهما كان قادرا وقديرا. فحصيلة مجموعة الأفكار هائلة بالنسبة لأفكار فرد واحد...

و الديمقراطية تحتاج إلى عمل متواصل وإلى وقت طويل وصبر أطول. ثمار الديمقراطية لا تجنى على المدى القريب. فهي ثقافة تهذب الفكر والسلوك للعيش مع الآخرين واحترامهم رغم الخلافات العميقة بين طبقات المجتمع سياسيا واجتماعيا. وقبول مبادئ تحول السلطة من فريق إلى آخر بشكل سلمي. تحرر العقول من الخوف يخلق أجواء أكثر ملاءمة لمقاومة إعادة الاستبداد والعمل لإصلاح الامور في الدولة الديمقراطية الفتيّة.

يمكن تلخيص خصائص النظام الديمقراطي بالنقاط التالية:

1. ينتخب الشعب ممثليه عن طريق انتخابات عامة

2. تمارس الأغلبية المنتخبة الحكم، هذه الأغلبية الصادرة عن فئات الشعب المختلفة هي سياسية بالتعريف وليست

عرقية أو إثنية أو دينية.

3. تصان حقوق المعارضة

4. تصان الحريات العامة للمجتمع، منها حرية التعبير وحرية العقيدة وحرية الاجتماع وحرية الصحافة

5. وجود دولة القانون التي تحترم وتضمن حقوق المواطنين والمساواة بينهم

6. الحد من اعتباطية سلطة الحاكم عن طريق مؤسسات دائمة وآليات للدفاع عن المواطنين

7. ضمان عدم الجمع بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية

8. ترسيخ مبدأ الدستورية. أي أن السلطات والمواطنين يحترمون الدستور ويرجعون إلى القضاء لحل الخلافات .

فإذا كانت الديمقراطية جسما زُرِعَتْ في رحم الليبرالية البرجوازية في خضم نموها، ومن ثم تعايشت معها واصبحت جزءا منها، فإِن الديمقراطية في المشروع الماركسي- على الاقل نظريا- تشكل النصف الحقيقي الآخر من مكوناته. لأِنه يربط ما بين السياسة والاقتصاد، ويؤمن بالمشاركة الجماهيرية، ويقوم على تصفية مصدر الاستغلال والتناقضات الطبقية التي تجسدها الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. ومع ذلك تخلفت التطبيقات الماركسية عن تحقيق ديمقراطية سياسية متقدمة مقارنة بالديمقراطية الليبرالية، وذلك في ظروف سيطرة الحزب الواحد وغياب التعددية والاصرار على تفسير الماركسية من وجهة نظر اجتماعية على حساب الحقوق السياسية...

يرى الماركسيون إن المفهوم البرجوازي للديمقراطية قد تخلف عن ملاحقة التطور إذ وقف عند مجرد التعبير عن حاجات النمو الاقتصادي الرأسمالي وحماية مصالح الطبقة البرجوازية, وأصبح العمال حسب رأي ماركس العضو الوهمي لسيادة وهمية ومجردا من حياته الواقعية الملموسة. ولما كان من المستحيل وفقا للفكر الماركسي إقامة الحريات في ظل هذه المجتمعات الصورية التي تحوز فيها الطبقة مقدرات القوة في المجتمع وتستبعد الأخرى, فإن المجتمع الشيوعي وحده هو القادر على تحقيق الحرية, وتعمل الدولة في مرحلة ديكتاتورية " البروليتاريا" على تثبيت أركان الدولة الاشتراكية ومطاردة بقايا الطبقة الرأسمالية المهزومة.

يتناول ماركس الديموقراطية ويفرق بين الديمقراطية الشكلية - الليبرالية - كما في امريكا الشمالية وأوربا الغربية وبين الديمقراطية الحقة التي هي محتوى وشكل ومبدأ هو في الوقت عينه مادي ، مع اهمية الاشارة انه انتقد احادية الجانب في الديمقراطية الشكلية . واعتقد ان الديمقراطية الحقة هي توسيع وتعميق للديمقراطية الشكلية بالمبدأ المادي ، فكلا العنصرين مترابطين- عنده- ويشكلان وحدة هي الديمقراطية الحقة . ويكون قد ارتبط مفهوم ماركس عن الدولة والسياسة والديمقراطية مقرونا بتحديد هيغل الذي ربط الجانب السياسي بالشكلي للدولة وبالدستور والقانون وليس بمفهوم الديمقراطية الحقة التي تشكل كلا عمليا واخلاقيا . حيث هناك فصل بين الدولة والمجتمع – كما تعلّمه ليس من هيغل فقط ، انما من الواقع الراهن لأغلب البلدان تقدما ( امريكا الشمالية وفرنسا و انجلترا ) ايضا، اذ اعتبرها نقطة انطلاق تطبيقية . لان ثوراتها شكلت بالنسبة لماركس تقدما تاريخيا كبيرا .
إن الخصائص العامة للديمقراطية الماركسية تتجلى في أنها تقوم على الإقرار بأن السيادة للشعب ولكنها تحدد هذا الشعب سياسيا في طبقة العمال ، وأنها تأخد بالأسلوب النيابي مثلما تقوم به النظرية الرأسمالية ، وأنها تقوم على استبعاد البرجوازيين ومعارضي الدولة الماركسية من الحياة السياسية. وتبرر ذلك بأن طبقة العمال بعد أن تتولى السلطة سيكون مهمتها رفع الظلم والاستغلال الواقع على الأغلبية وتقيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وصولا الى مرحلة الشيوعية الكاملة ، كم أنها تقرر النظرية الماركسية الحقوق والحريات السياسية للطبقة العاملة فقط دون بقية أفراد المجتمع ....