مدمن روايات . قصة قصيرة .


محمود الرشيدي
2011 / 12 / 24 - 11:08     

عند متمِّ آخر فقرة ،من آخرفصل ، من آخر رواية قرأها ، أغلق الكتاب .
تمعن فيه وهو يحاول أن يتذكرأحدات الرواية ، أشخاصها ، أماكنها ، والطريقة المثيرة التي كان صاحبها يتعامل بها مع الزمن .
كان يُكسِّره فيها تكسيرا ، وما زاوية الإنكسار إلا إكراه وثنْي واستسلام للعزم والإرادة . وكان يتلاعب به تلاعبا ،كما يتلاعب القط المتخوم بفأرة مسكينة : تارة بعدوانية ، وأخرى برحمة ورأفة ؛ يتشمّمُها ، يداعبها ، يغازلها ،ثم يطلق سراحها ، ليُعاود مطاردتها بعنف ، وبحقد دفين وعميق .
هكذا كان الكاتب يتعامل مع الزمن..
أما حمولة الرواية من الأحدات ، فكانت كحمولة زوبعة خريفية في الفضاء ، لا يكاد الحدث يستقر في المكان حتى يلْفَظه ، ولا يكاد يوشك على النهاية حتى يعود على البدإ من جديد ؛ بملامح وتفاصيل وأسباب أخرى ، وبحِدة درجة أعتى وأمرُّ .
حلول العُقد تبقى في معظم الأحوال باهتة ، كغموض ما يتوجَّب إعتماده من خطوات وقرارات تالية...وكأنها نكاية بالقارىء ، أوحب له بإشراكه في هذه الوجبة الدسمة ، فيكون له بدوره ، حيِّزفي التصور والتفاعل .
كان صاحب الرواية يصوغ أسئلة بسيطة ومحيرة للغاية ، تخرج من صُلب الأحدات بسهولة ، يضعها ويُحمِّل عاتق القارىء وزرها ، بعدما اقتنع بأن إجاباتها لا يمكن توليدها من الأحدات ، ولامن صُلبها ، بِدات السهولة في الأسئلة : لأن فوضى الأسباب في الجريمة والخطيئة ، كما في البِرِّ والفضيلة ، يصعُب جمع شتاتها . ذلك الشتات ذوالعروق الدقيقة ، واللامتناهية في الصغر ، وذو الأبعاد الموغلة في الغابرمن الأزمنة ، تجعل العقل بقوانينه بعلمه وبفكره عاجزا ، ودون مستوى الحسم ، كما تجعله يُعيد النظر في نظا راته الطبية التي يرى بها الأشياء ، وفي بنية آلته المفكرة وتطوير أجهزتها .
وتبقى الأسئلة عالقة ، رغم أنها عظيمة...
كعادته التقط قلمه ، وفتح الرواية على الصفحة الأخيرة البيضاء ، يريد كتابة تعليق ، أو ارتسام لما يجول في ذهنه حول مدلولها ورمزيتها حسب تصوره . إنها عادة أدمنها ، مثلما هو مدمن روايات . عيبه الوحيد ، كما يلاحظ بعض زملائه ، هو أنه لا يعيد القراءة لنفس الرواية أبدا .
قبْل أن يخط أي حرف ، تباذر لذهنه كعادته كذلك : من سيكون من أصدقائه له السبق والأولوية في قراءة الرواية بعده ؟ ؛ وهومن كان قد صنَّف ثُلَّة أصدقائه ، حسب الميولات ، والإهتمامات ، والتوجهات الفكرية والسياسية .
وبدأت عملية تركيب تفاعلات الرواية بأحداتها على أمزجتهم واحدا تلو الآخر ، واستمرت عملية التفكيك والتركيب ، ولم يبرح مكانه ، وهويقلِّب هذه المرة أوراقها في اتجاه أولها ، ليستعين بقراءة عناوين الفصول على هذه العملية ...
لم يكتب هذه المرة تعليقا كعادته .. ولم يحسم في صاحب السبق كعادته.. ولكن وجد نفسه يقرأ أول فقرة من أول فصل ، في ثاني قراءة لروايته على غير عادته .