حرية الفكر بين البيروني ودافينشي


عدنان عاكف
2011 / 12 / 22 - 23:44     


كان السيد الغارس حكيم قد علق يوم أمس على مقالتي المنشورة على موقع الحوار المتمدن“ قوموا انظروا كيف تزول الجبال “ بالنص التالي الذي يحمل سؤاله الرئيسي واعتبرته السؤال الجوهري الذي ينبغي ان تتمحور حوله كتابات مثقفينا في مجال التراث والنقد الديني. قد تساهم المقالة التالية في البحث عن الجواب المطلوب. وفي ما يلي نص تعليق السيد الفارس
“ كل الشكر للسيد الكاتب على هذا البحث القيم ولكن لدي سؤال هل كانت الدولة الدينية الاسلامية تسمح لهؤلاء العلماء والباحثين بنشر ابحاثهم بين الناس وتشجعهم على عمل هكذا ابحاث ام انها كانت اجتهادات وابحاث فردية تقتصر على اصحابها وممنوع تداولها بين الناس لان الكنيسية لم تمنع غاليلو من البحث او كتابة مايشاء الا بعد ان اصبح يطرح على الناس ما توصل اليه ولك الشكر
" في الهند كان البيروني سجين لدى السلطان، غير انه كان يتمتع بحرية تامة للتعبير عن رأيه بشأن طبيعة المستحثات ومنشأها . في حين ان ليوناردو دافينشي، الذي عاش بعد مرور500 عام، ، والذي عرف بعبقري عصره، كان يتمتع برعاية البابا وحضوته، وباهتمام القائمين على الكنيسة في ايطاليا. ولكن أمنه الشخصي كان يتوقف على مدى ولاءه للأرثوذكسية الرسمية . لقد كانت خلاصة ما توصل اليه بشأن المستحثات وأصلها تعتبر من الهرطقة. ولذلك تردد في الإعلان عنها على الملأ خوفا من العواقب التي تنتظره. وقد كان بالفعل، سيتعرض الى عواقب وخيمة فيما لو انه جازف وأفصح عما كان يخبئه في دفتر ملاحظاته ".
أعدت قراءة هذه الفقرة عدة ومرات. فقرة قصيرة ومختصرة مخفية بين صفحات كتاب لجيولوجي أمريكي مجهول، في الوسط العلمي، استطاعت ان تكشف عن حقيقة أخفتها ( أو حتى تجاهلتها ) مئات الكتب وآلاف المقالات " العلمية "، التي صدرت في الغرب حول " تاريخ علوم الأرض ". فقرة قصيرة لكنها اشتملت على تقييم موضوعي ودقيق لموقفين متناقضين من العقل ومن حرية الفكر والإبداع، في حضارتين مختلفتين ومتباعدتين. والكتاب يعود لجيولوجي أمريكي ، توفي قبل ان يكمله ، فعملت زوجته الجيولوجية، على كتابة ما تبقى منه ليصدر عام 1983، يحمل الكتاب عنوان مثير : " انها بدأت من الحجارة ". والمؤلف هو هنري فاول، يتحدث عن تطور معارف الإنسان عن الكرة الأرضية عبر التاريخ، منذ ان أخذ ابن آدم بين يديه قطعة من الحجارة، كان قد داس عليها بقدمه فسال منها الدم فراح يتفحص لونها وحوافها، ثم اختارها ليجعل منها فيما بعد سكينا وفأسا. انها رحلة طويلة مع مغامرة العقل البشري وعذاباته وخيباته وانجازاته، واكتشافاته بشأن الكرة الأرضية التي كشفت عن وجهها الجميل أحيانا، والمخيف المرعب في أحيان أخرى. وكذلك عن باطنها وأسرارها وكنوزها، وعن تاريخها الطويل، الذي يمتد لأكثر من أربعة آلاف مليون سنة . انها رحلة شاقة وطويلة امتزج فيها الاسطوري مع الواقعي والخرافة مع العلم ، وعرفت الكثير من الصراعات الفكرية بين ما هو علمي وما هو ديني، وامتزجت الملاحظة والتجربة مع الخيال، الذي لولاه لما تقدمت معارفنا عن أمنا الأرض خطوة واحدة.. .
والذي أدهشني في الأمر ليس ما ورد فيها بشأن موقف كل من البيروني ودافينشي من المستحثات ومدلولاتها الجيولوجية. فقد سبق لي ان كتبت عن رأي العالمين الكبيرين أكثر من مرة، وكانت الأولى قد نشرت في سبعينات القرن الماضي في جريدة" الفكر الجديد " الأسبوعية،التي كانت تصدر عن الحزب الشيوعي العراقي، وكانت بعنوان " مفهوم الزمن الجيولوجي عند البيروني ".وقد نشرت في نهاية عام 1978 أو في مطلع العام التالي. كانت الأوضاع السياسية آنذاك في غاية السوء بسبب الهجمة البوليسية التي شنها النظام ضد الشيوعيين والديمقراطيين. أتذكر كيف ان أحد الأصدقاء عاتبني بقوة بعد اطلاعه على المقالة قائلا: لا يفعل فعلتك إلا مجنون. فان لم تعاقب بتهمة الشيوعية فسوف تعاقب بتهمة الإلحاد، وعليك ان تختار.....
الذي أدهشني شيء آخر : اذا كانت أراء البيروني بشأن المستحثات وماضي الأرض قد وصلت الى هذا الجيولوجي ، وهو ليس من المتخصصين بفلسفة العلم وتاريخه، ناهيك عن كونه ليس من المستشرقين الذين اهتموا بكتابات البيروني، فلماذا يا ترى جرى التغاضي عنها من قبل كل من كتب في تاريخ العلم ،
على أية حال، هذا سؤال نتركه للمستقبل، ولا نريد ان يبعدنا عن موضوعنا الأساسي، الذي بدأنا الحديث عنه في مقالة سابقة، وهو ان البعض من مثقفينا يؤكدون على ان حرية الفكر والتعددية الفكرية، في مجال الثقافة والفلسفة والعلم والأدب، والاعتراف بالحقيقة النسبية، هي من سمات الحضارة الغربية فقط وكيف ان هذه الأمور غريبة عن الثقافة العربية، ماضيا وحاضرا، بل يذهب البعض أبعد من الحاضر ليشمل المستقبل أيضا.
ارتأيت ان أبدأ الحديث بهذه الفقرة لأنها تتضمن مقاربة ذكية، وتحمل بين طياتها الكثير من المعاني المهمة للموضوع الذي نحن بصدده. انها تبين كيف ان بعض الغربيين الموضوعيين يقرون ويعترفون ان حرية الفكر والتعبير لم تبدأ في الغرب، وليست سمة متأصلة في دماء الغربيين وحدهم، بل هي ظاهرة ثقافية فكرية عالمية لا تعرف الحدود، ويمكن ان تنشأ وتتطور في أي مكان اذا توفرت لها البيئة الملائمة. ويمكن على العكس ان تذبل وتموت فيما لو تغيرت تلك البيئة الى نقيضها. وها هو جيولوجي غربي يقول لنا بان حرية الفكر قد عرفها الشرقيون أيضا عندما سنحت الظروف التاريخية بذلك. والشيء المهم الثاني ان حرية الفكر في العالم الغربي وكما هي عليه اليوم لم تكن حالة مميزة للغرب منذ بداية التاريخ، بل سبقتها مراحل طويلة ساد فيها الفكر الواحد، والذي لم يسمح لأي فكر مغاير بالظهور، ألا وهو الفكر الرسمي للكنيسة. ومن المؤسف ان هذه الحقيقة غالبا ما تغيب عن بعض مثقفينا، أما النقطة المهمة الثالثة فتتلخص في ان الحالة الفكرية والثقافية المزرية التي تعاني منها مجتمعاتنا حاليا ليست قدر لا يمكن تجاوزه، وقد يكون الماضي البعيد أكثر اشراقا من وضعنا الحالي في مجال حرية الفكر والتعبير...
والآن ما هو موضوع المستحثات، الذي تباينت بصدده المواقف في الحضارتين ؟ الإجابة على هذا السؤال تتطلب الولوج في دهاليز علم الجيولوجيا، وأنا بصراحة لا أريد ولوجه، لأنه سيبعدنا عن موضوعنا. لكننا، في نفس الوقت، لا نستطيع ان نتقدم في حديثنا إلا بالتعرف عليه، حتى ولو بشكل سريع. : المستحثات وفق العلم المعاصر هي بقايا الكائنات الحية ( نباتات وحيوانات ) القديمة المتحجرة التي يعثر عليها في الطبقات الصخرية. والاعتراف بذلك يعني الإقرار بأصلها العضوي. وهذا يعني ان وجود بقايا أسماك قديمة أو حيوانات بحرية مدفونة في أعماق الأرض في الصحراء بعيدا عن الساحل، أو في الطبقات الصخرية المتكشفة في أعالي الجبال تدل على ان هذه المواقع كانت في يوم ما قاع للبحر، .
وهكذا يمكن القول ان المستحثات هي الكتابة المسمارية التي دونتها الطبيعة على الصخور ، مثلما دون انسان بلاد الرافدين القديمة تاريخه وحضارته على ألواح الطين في زمن مضى. مع فارق مهم، وهو ان الماضي في حالة ألواح الطين يقدر ببضعة آلاف سنة، بينما في حالة المستحثات فانه يقدر بعشرات ومئات الملايين من السنين. .
هذا ما يقوله علم الجيولوجيا اليوم. وهذا ما توصل اليه أبو الريحان البيروني في مطلع الألفية الثانية. ولم يجد البيروني أية موانع فكرية وعقبات دينية في التوصل الى رأيه ونشره والتعبير عنه في أكثر من مؤلف. ومن هذه المتحجرات استنتج ان بادية العرب كانت بحرا، وان أرض مصر كانت بحرا في ما مضى.. وان هذا الماضي بعيد عن يومنا هذا، وقد يكون قد حصل قبل خلق البشر، وحصل في زمن لا يعرف قدره بالسنين إلا الله.
بعد نحو قرون خمسة جاء الفنان الكبير دافينشي وتوصل الى نفس النتيجة التي توصل اليها البيروني من قبله، لكنه تردد في الإفصاح عن رأيه خوفا من ان يتهم بالهرطقة والتبشير بتعاليم تخالف تعاليم الكنيسة. ولكن لماذا سيواجه بمثل هذه التهمة ؟ السبب يكمن في المعتقدات اليهودية والمسيحية بشأن خلق العالم وتاريخ الأرض.. من المعروف ان قصة الخليقة في التوراة وردت بالتفصيل، حيث جرى الحديث عن التسلسل الزمني لخلق الأرض والسماء والحيوانات والنباتات، وغيرها. والإقرار بالأصل العضوي للمستحثات يعني الإقرار بوجود كائنات حية قبل تكوين الصخور وخلق اليابسة. وهذا مخالف للتعاليم الدينية التي تنص على ان النباتات والكائنات الحية المختلفة خلقت بعد خلق الماء والأرض، وان الأرض خلقت في يوم واحد، وانها لم تتغير منذ يوم الخليقة وحتى يومنا هذا. والمشكلة الثانية هي ان الاعتراف بالأصل العضوي يعني مخالفة رأي الكنيسة الرسمي بشأن عمر الأرض وتاريخها، والذي حدد وفق حسابات رجال الدين المسيحيين بالأيام لا بل حتى بالساعات، بناء على تسلسل خلق العالم وبناء على أعمار الرسل والأنبياء منذ سيدنا آدم وحتى مولد المسيح. وهكذا أصبح عمر الأرض وفق هذه العقيدة لا يزيد عن 7000 سنة، فيما اعتبرته تقديرات آخرى نحو 6000 سنة. ولنترك الجيولوجي الأمريكي – المسيحي – يبين لنا جوهر المشكلة كما ورد نصا في كتابه :
" لقد كان الكتاب المقدس صريحا في تأكيده على ان الرب فصل الأرض والبحر في اليوم الثالث وخلق جميع الطيور والحيوانات المائية في اليوم الخامس. لذا فان الأصداف التي يعثر عليها فوق اليابسة لا يمكن ان تكون بقايا الحيوانات البحرية السابقة. ان جوهر ما ورد في الكتاب المقدس غير خاضع للتعديل...".

كان على دافينشي ان يخفي النتيجة التي توصل اليها عن زملائه وعن الجميع. وبالفعل بقيت مخفية في أوراق ملزمته الجيولوجية التي يعتقد انها فقدت، أو ربما تعمد إخفاءها بدقة متناهية، بحيث انها لم تكتشف إلا في القرن التاسع عشر. بمعنى ان أراء دافينشي الجيولوجية لم تكتشف إلا بعد موته بنحو ثلاثة قرون... لذا فان كل ما كتبه في المواضيع المتعلقة بالأر ض والصخور والمياه الجوفية ليس له أية أهمية من الناحية التاريخية لتطور علوم الأرض.
علينا هنا ان نشير الى ان التعاليم اليهودية والمسيحية عن خلق الأرض وعمرها لم تكن بعيدة عن المسلمين. غالبية المسلمين الذين تناولوا موضوع خلق العالم وتطرقوا الى عمر الأرض قد أخذوا بالرأي الذي ساد في الأوساط اليهودية والمسيحية. . والاختلاف بين قصة الخليقة في الانجيل والتوراة من جهة وما ورد في القرآن ان القصة المسيحية اليهودية أوردت تفاصيل عملية الخلق والتسلسل الزمني لعمليات خلق الماء والأرض والسماء والأحياء، إضافة الى أعمار الرسل والأنبياء. في حين ان مثل تلك التفاصيل لم تتطرق اليها قصة الخلق في القرآن. ولو عدنا الى كتب التراث ( قصص الأنبياء، كتاب التأريخ للطبري وابن الأثير والمسعودي، الخ... ) سنجد انهم حددوا عمر الأرض بنحو ستة أو سبعة آلاف سنة أيضا. وقد أخذوا بنفس مفهومهم بشأن أيام الخلق الستة، أي أخذوا بالتفسير الحرفي لكلمة " يوم " واعتبروها الفترة الزمنية الممتدة بين طلوع الشمس وبين غروبها. وليس من الصعب على المتتبع المتأني ان يعثر على تأثير المعتقدات المسيحية واليهودية.
لماذا شذ البعض، ومنهم أبو الريحان البيروني ( ويمكن الإشارة الى رأي اخوان الصفاو ابن سينا أيضا، وحتى بعض علماء التفسير الذين لم يأخذوا بالمعنى الحرفي لمفهوم كلمة “ اليوم “، كل ما في الأمر ان هؤلاء سلكوا طريقا آخر، مخالف تماما للطريق الذي سلكه الآخرون. لقد لجأ هؤلاء الى الطبيعة وظواهرها الملحوظة، ودرسوها بتمعن وفكروا في مدلولاتها، فوجدوا ان الأخذ بالمعنى الدارج لكلمة " يوم " لا يتوافق مع ما بين أيديهم من معطيات... كل شيء يؤكد على انه أمام عمليات طبيعية بطيئة ، وتتطلب فترات زمنية طويلة جدا، ولا يمكن ان تحدث خلال يوم طبيعي واحد من أيامنا. وبعد ان استقر على رأيه هذا راح يبحث في كلام الله عله يعثر على ما يدعم رأيه.. وقد عثر البيروني بالفعل، واستشهد به . لقد رفض الرأي الذي اعتبر اليوم هو الفترة الزمنية المحصورة بين طلوع الشمس وغروبها، وأخذ بمفهوم اليوم الذي يعني حقبة أو فترة زمنية محددة أو غير محددة لا يعرف أمدها إلا الله. وقد نطق القرآن الكريم – كما يقول البيروني – بان يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون. وفي موضع آخر في يوم مقداره خمسين ألف سنة...
وهكذا، نجد ان البيروني الذي كان يتعامل مع ظواهر وأسئلة تتعلق بالطبيعة وجد ان الطبيعة وحدها القادرة على تقديم الأجوبة على تلك الأسئلة، ومن ثم بحث في النص الديني فوجد ان تفسيراته لا تتعارض معه. في حين نجد ان الآخرين سلكوا الطريق المعاكس، انطلقوا من النص الحرفي الديني واعتمدوه لتفسير الطبيعة، وبذلك شوهوا الدين وحصلوا على علم مزيف. وهذا الواقع المعكوس هو المسؤول عن جميع المعارك التي خاضتها الكنيسة ضد ممثلي العلم في العصور الوسطى وفي عصر النهضة. واعتقد ان موقف الكنيسة من غاليلو ودارون وغيرهما يندرج في هذا الإطار. وهذا الموقف ذاته الذي يتخذه السلفيون في البلاد العربية والإسلامية اليوم في معارضتهم للكثير من منجزات العلم في عصرنا الراهن... وهذا الوضع المشوه هو الذي يقف وراء الوباء " العلمي " الذي استشرى في البلاد العربية منذ سبعينات القرن الماضي، والمعروف باسم " الاعجاز العلمي في القرآن.” أين هو موقع د. كامل النجار بين هؤلاء؟
...
بقيت هناك نقطة مهمة لا بد من توضيحها. قد يبدو للبعض وهو يقرأ مقارنة المؤلف الأمريكي هنري فاول بين حرية البيروني الأسير لدى السلطان في التعبير عن رأيه، وخوف دافينشي، المدلل من قبل السلطة والكنيسة، من البوح برأيه، ان ذلك السلطان كان يؤمن بحرية الفكر والتفكير. الحقيقة كانت على نقيض ذلك تماما، لقد كان موقف ذلك السلطان " الإسلامي " من حرية الفكر لا يختلف عن موقف زملائه من " المسيحيين " الذين أبدعوا محاكم التفتيش في أوربا وسلطوها على رقاب كل من كان يسعى الى بصيص نور من المعرفة. فالسلطان الذي يدور عنه الحديث هو محمود الغزنوي ، والذي كان أبعد ما يكون عن التسامح والتحرر الفكري، بل كان رمز للقسوة والتعصب، والعدو اللدود للفكر والثقافة، بالرغم من كونه قد أحاط نفسه بعدد كبير من العلماء والأدباء. وقد ترك المؤرخون شهادات مرعبة عن ممارساته ضد خصومه، وكيف كان يتعامل مع من لا يتفق معه في المذهب والملة. والتهمة الجاهزة لديه ولدى أعوانه هي التشيع والإلحاد والعلاقة بالقرامطة. وذكر بعض المؤرخين كيف كان يعلق من يخالفه الرأي من العلماء على غصون الأشجار ويولع النار في كتبهم التي يضعها تحت تلك الأشجار. ومن بين مكتبات بلاد الري المشهورة التي أحرقها كانت مكتبة الصاحب بن عباد، التي، حسب شهادة علي بن زيد البيهقي، كانت تحتوي على الكثير من الكتب التي قدرت بما يحمل على 400 بعير...
بالرغم من ذلك لم يجد البيروني، كما يقول هنري فاول، ما يمنعه من التعبير عن رأيه، الذي خالف فيه الغالبية من المفسرين ، الذين كانوا قد أخذوا بالتفسير الحرفي لأيام الخلق. المسألة هنا تتعلق باستقلالية العلم النسبية عن المؤسسة الرسمية والدينية آنذاك، وكذلك الحرية النسبية التي كان يتمتع بها علماء الطبيعة للتعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم، والتي لم يكن يتمتع بها علماء أوربا حتى قبل بضعة قرون. ولو عدنا الى تاريخ العلوم الطبيعية سنجد ان المؤسسة الدينية في الإسلام لم تتدخل في أمور تتعلق بعلوم الطبيعة، بل تركت المجال للعلماء المتخصصين في الموضوع. وقد سبق لنا ان بينا في مقالات سابقة كيف ان غالبية علماء الإسلام ( وفي مقدمتهم ابن حزم وفخر الدين الرازي والغزالي ) قدتركوا لعلماء طبيعة حرية التعبير عن آراءهم، لا بل اعتبروهم القدوة التي ينبغي ان تتبع. فأخذوا بفكرة كروية الأرض، بعد ان تبناها معظم علماء الفلك والجغرافيا المسلمين، واعتبروا رأيهم هو المعتمد، ما دام لا يوجد في كتاب الله ما يعارض ذلك. مع العلم ان ظواهر الأشياء ( وجه الأرض المنبسط الممدود ) والتفسير الحرفي لبعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن شكل الأرض كان لصالح فكرة الأرض المنبسطة وليس الكروية. ويكفينا هنا ان نتوقف عند رأي الإمام الغزالي. الذي يهمنا هنا ليس المادة العلمية المطروحة للنقاش، بقدر ما يهمنا المنهج الذي اعتمده الغزالي في التعاطي مع المعلومات العلمية في عصره، وهو موقف حري بنا جميع ان نتوقف عنده ونتأمله ، ولنحاول ان نقارن موقفه مع موقف الكثير من رجال الدين الكبار في عصرنا. يقول الغزالي في معرض حديثه عن الكسوف والخسوف وعن شكل الأرض :
" وهذا الفن لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين وضعف أمره، فأن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوف، وقدرهما، ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذ قيل له: إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقة، أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقة، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل "....
الغزالي من البداية يضع القارئ أمام حقيقة مهمة، وهي أن الموضوع الذي هو بصدده (كروية الأرض وكسوف الشمس و القمر ) ليس من اختصاصه كرجل دين
لو تمعنا مليا في موضوعنا سنجد ان الفرق الجوهري بين موقف البيروني من أصل المستحثات، وموقف علماء أوربا ليس اختلاف في جوهر التعاليم الدينية الواردة في الكتاب المقدس والقرآن، بشأن عملية خلق العالم وماضي الأرض والموقف منها، بل اختلاف أساسي في المنهجية وأسلوب البحث والتعامل مع الظواهر الطبيعية. البيروني درس الأرض كما هي في الطبيعة، .
على النقيض من ذلك سار علماء أوربا. اذا كان البيروني بدأ بقراءة الطبيعة، فان علماء أوربا بدءوا بقراءة التوراة والإنجيل، وأخذوا بالترجمة الحرفية لما ورد في قصة الخليقة، وحاولوا على أساس ذلك إيجاد تفسيرا للظواهر الطبيعية. وعند تعاملوا مع المستحثات قادتهم الى مأزق دينيقادهم بدوره الى مأزق فكري، لم يجدوا من هذا المأزق مخرجا إلا من خلال تشويه الدين والطبيعة معا. رفضوا المنشأ العضوي وابتدعوا تفسيرات عجيبة غريبة ومضحكة. فقال البعض انها عبارة عن بدع الطبيعة، وقال الآخر انها من صنع الشيطان، وسماها الآخر انها من " لعب الطبيعة " تلهو بها. وجدسر بالذكر ان المنشأ العضوي لم يعترف به في الوسط الجيولوجي في أوربا إلا قي القرن الثامن عشر...
هنا أيضا لا تهمنا المستحثات وأصلها، ولا تهمنا الجيولوجيا كلها، حتى وان كانت هي التي تمد العالم بالنفط وجميع الثروات الطبيعية. المهم هنا هي حرية الفكر، ومدى تأثير القوالب الجامدة على ابداع ذلك الفكر. . .
وجدير بالذكر ان عبقري عصر النهضة لم يكن يبالغ في مخاوفه من العواقب التي يمكن ان تجابهه فيما لو أقدم على الإفصاح عن رأيه. وقصة عالم الطبيعة الكبير بوفون ( القرن الثامن عشر ) مع رجال الدين خير دليل على ذلك. كان بوفون قد توصل الى ان عمر الأرض ليس سبعة آلاف سنة، كما يعتقد، بل ما لا يقل عن سبعين ألف سنة. عندها ثارت حمية رجال الدين واستعرت نار الغضب، ووجهت اليه تهمة الهرطقة والإلحاد. وفي نهاية المطاف أجبروه على التخلي عن رأيه أمام جمع غفير من الناس وفي أكبر ميادين باريس، حيث أعلن انه كان على " ضلال "..
لنتذكر مرة أخرى مقولة العالم الأوربي المعاصر : " من الماضي نأخذ النار وليس الرماد "... وهذا ما فعله الأوربيون بالفعل. ومرة أخرى تشير مراجعتنا المتأنية للتراث بأن السلف قد ترك لنا الكثير من جمر الغضا الذي ما زال يتقد تحت الرماد، لكنا لم نأخذ منه سوى الرماد.