الثورة الثقافية المصرية على شاكلة الثورة الثقافية الصينية ، ضرورة حتمية


محمد بودواهي
2011 / 12 / 18 - 17:27     

في المجتمعات الشمال إفريقية والشرق أوسطية ، بشقيها السياسي والمدني ، المثقلين بعملية منقطعة النظير من التصحُّر والتجريف والتجفيف ، قامت بها ، على مدار عقود عدة ، أنظمة حكم استبدادية فاسدة وتابعة، غابت عنها مساءلة الشعوب ومرجعيات القانون والدستور ، وقادتها نخب سياسية ، خرجت من عباءة أنظمة الانقلابات العسكرية والمأمرات السياسية ، وارتدت على ما أنجزته حركات التحرر الوطنية والديمقراطية ، بعد أن حولت السلطة إلى حقل للتوريث ومصدر للثروة ، بل، وإلى آلية جهنمية للتبعية والفساد والإفساد والطغيان
والثراء الفاحش والإفقار والبطالة والحط من الكرامة الانسانية والنهب المنظم لمقدرات البلدان ... الخ مما أدى إلى تدجين الجيوش الوطنية
وتهميش الشعوب وقواه الحية والديموقراية ، لمصلحة تقوية أجهزة الأمن الداخلي والاستخبارات ، التي تم دمجها عضوياً بالجهاز البيروقراطي الحكومي ، وإلى إطلاق يد الحاكم الفرد في خرق كل القوانين الدولية وقيم حقوق الانسان والمحرمات الوطنية والدولية ، ناهيك عن ما أقدمت عليه هذه النخب من سحقٍ للطبقة الوسطى والبرجوازية الصغيرة والمتوسطة ، ومن تراجع عن المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية ، وكل ذلك لمصلحة تسمين ودعم طبقات وفئات طفيلية متحالفة مع بيروقراطية منتفعة ، قادتا سوياً عملية تدمير القطاع العام ، الذي تم بيعه للمغامرين المتسلقين بأبخس الأثمان ، وأطلقتا يد السوق الحرة وقوانينها ، من خلال الاندراج في دواليب الليبرالية الجديدة المتوحشة ، والرضوخ لاملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين وسياستهما التفقيرية العدوانية ، القائمة على الخصخصة وبيع القطاع العام وفتح أبوابه أمام الاستثمارات الغربية ورأس المال الاحتكاري المعولم ، بكل ما رافق ذلك من سيادة للرشوة ، ونهب للمال العام ، والاستيلاء على الأصول الوطنية السيادية كالأراضي ومناجم المعادن وخيرات البحار وغيرها من الموارد .

في هوامش هذه البيئة ، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافيا ، نمت وترعرعت البنى الفوقية للحقبة النفطية الوهابية ، التي أنتجت فيما أنتجت، تشكيلات حزبية إسلاموية متشددة . وكان تبني السادات سياسة معاكسة لسياسة عبد الناصر حيث اتجه نحو الأمريكان وتصالح مع السعودية مما فتح مصر على مصراعيها أمام المد الوهابي الدي تمكن من استقطاب العديد من رجال الأزهر والكثير من رجال التعليم الذين كان لهم دورهم البارز في فترة السبعينات في هدا الشأن ، وداخل الجامعة المصرية حيث تم التمكن من تعبئة الطلاب بالأفكار الوهابية وهم الذين قامت على أكتافهم الجماعات الإسلامية فيما بعد.

أن الفرق بين القراءة المصرية للإسلام والأفكار المتخلفة للوهابية هو نفسه الفرق بين يحيى حقى ابن العصر التنوير المصرى العظيم الذى بدأه محمد على ورسم ملامحه الدينية الإمام المصلح محمد عبده والكثير من أمثاله من كبار عظماء مصر ، الذين قدموا قراءة مصرية معتدلة ومتسامحة ومتطورة للإسلام جعلت منه حافزا للمصريين وليس عبئا عليهم فانطلق المبدعون والمثقفون والفنانون المصريون ووصلوا إلى الذروة فى مجالات الموسيقى والمسرح والسينما والأدب والفنون جميعا ، وبين شيوخ الخردة الوهابيين الذين حطموا مزامير الأطفال باعتبارها بدعة محرمة وأطلقوا العنان للفتوى فحرموا قيادة المرأة للسيارة وإهداء الورود إلى المرضى والتصفيق وجلوس المرأة إلى الأنترنيت بدون محرم وغيرها ...إنه التزمت والظلامية التي تنادى بتحريم التماثيل حتى اكتشف فى السنين القليلة الماضية أن قسم النحت فى كلية الفنون الجميلة بالقاهرة لم يلتحق به أحد . ولم تقف أضرار الفكر الوهابى عند عرقلة الفن وتأخر الفكر بل تعدت ذلك إلى إحداث الفتنة الطائفية التي راح ولا زال يروح ضحيتها العديد من المواطنين الأقباط ..وهم الدين يعتبرون كفارا وفي أحسن الأحوال أهل دمة لا يصلحون لتولي المناصب العليا في الدولة مثل رئاسة الدولة أو قيادة الجيش ....

أما أسوأ ما فعله الفكر الوهابى فهو إعداد المصريين دينيا وفكريا وسياسيا لتقبل الظلم والاستبداد.. فالحاكم المسلم عند الوهابيين طاعته واجبة وغير قابلة للرفض أو المناقشة ، حتى لو ظلم الناس يظل الخروج عليه محرما مادام ينطق بالشهادتين ويؤدى الفرائض ، وأن طاعته تظل واجبة حتى يغيره الله (!).. وهكذا ينزع الفكر الوهابى عن الناس حقوقهم السياسية والمدنية تماما فيجعلهم قابلين للاستبداد والطغيان وأكثر استعدادا لقبول الظلم والتبعية والهوان ..

والمحزن جدا في هدا أنه بدلا من أن تنشر مصر قراءتها الصحيحة المنفتحة للإسلام فى السعودية ودول الخليج فتساعد على تطوير الفكر والفن وكل شؤون الحياة هناك.. فقد حدث العكس تماما.. انتشر الفكر الوهابى فى مصر، مدعوما بأموال النفط ، ليصيب المصريين ومصر بردة حضارية حقيقية وهي الدولة التي تمتلك كل إمكانات ومقومات الدولة الكبرى .

حين يصرح الرجل الأول في حزب الحرية والعدالة المصري عن اعجابه بشخصية أردوغان وبتجربته الاقتصادية - مع التقزز من تجربته السياسية التي تدعو إلى تبني العلمانية وتمجيدها - وعن عزم حزبه على تقليدها وتتبعها في اية حكومة يشكلها رجاله الملتحون فانه في حقيقة الامر لن ينهج الا العمل بتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك العالمي التي يفرضها على الدول التي هي تحت وطاة الديون الخارجية والتي تعتمد في تغطية عجز موازناتها على المساعدات والمنح المالية التي تمدها بها الدول الامبريالية
مثل الولايات المتحدة ومن يسير بإشاراتها من مشيخات وممالك النفط والغاز والعمامة ، وهو الأمر الدي سيجعل حكومة آل وهاب الملتحية لا تستطيع أن تحرز اي انجاز أو تقدم على صعيد النمو الاقتصادي و بالتالي في تحقيق العدالة الاجتماعية عبر توزيع عائدات الاقتصاد القومي طبقا لقاعدة أن الاستحقاق و العمل وليس الريع والمضاربة هو اساس للكسب طالما ان برنامج الاصلاحات يشدد على تطبيق قوانين السوق وعدم تدخل الدولة في التوجيه الاقتصادي او تملكها لوسائل الانتاج مثلما يشدد على حرية التجارة والغاء كافة اشكال الحماية وطالما ان تطبيق البرنامج قد ادى الى تفاقم ظاهرتي الفقر والبطالة والى افلاس عدد كبير من المنشات الانتاجية في اكثر دول العالم التي طبقت مثل هذه البرامج الصندوقية وبما ان الاخوان لم يراكموا اية خبرات على صعيد ادارة دفتي الدولة والاقتصاد فانني لا ارى وسيلة اوسبيلا امامهم للتغلب على مشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية .... .

ولدى فلن يبدأ المستقبل فى مصرما بعد الثورة إلا إذا استعادت زخمها الحضاري العريق والدي سوف لن يتأسس إلا بالعمل على إعادة القراءة المصرية المنفتحة للإسلام و إنهاء الاستبداد الذى أذل المصريين ونهبهم وأنهكهم بالإنتقال من ثقافة الخضوع والرتابة إلى ثقافة الانتقاد والاجتراح .

فالثورة الثقافية على شاكلة الثورة الثقافية الصينية التي قادها ماو تسي تونغ عندما كانت الثورة مهددة بالسقوط في يد الخط التحريفي الانتهازي ستكون بلا شك بمثابة الخطوة الموضوعية لتحقيق هدا الإنتقال . فرغم كل الجنون والقساوة والآلام والصراخ والدموع والدماء فستمثل بالتأكيد حالة الولادة الفعلية للمجتمع المصري الحديث وهي الولادة التي قامت ثورة 14 يناير المجيدة بتجهيز ظروفها العامة الماثلة في هزيمة نظام مبارك الاستبدادي العميل وكل حلفائه الإقطاعيين والبورجوازيين و الكمبرادوريين ....

إن شباب الثورة في مصر معنيون بهدا ، ولعل ما وقع لأصدقائهم في الأيام الأخيرة من مجازر دهب ضحيتها المئات بين موتى وجرحى ، ومن تصريحات سياسية لمراكز القرار الجديدة التي لا تقبل الشك في أن توجهات الدولة المستجدة ستسير في اتجاه القطع مع كل طموحات جماهير الشعب ، لهي إشارة واضحة من التحالف الطبقي المسيطر - الجديد - المكون من الإخوان المسلمين والسلفيين من جهة أولى ومن المجلس العسكري من جهة ثانية ومن راعيتهم الإمبريالية أمريكا من جهة ثالثة ، ليعبر أصدق تعبير على أن هناك انتكاسة حقيقية وقعت لثورة الشعب التي كان المأمول منها تحقيق الديموقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ....