علم النفس والأدب


عماد البابلي
2011 / 12 / 14 - 21:01     

( 1 )
الأدب ما هو ؟؟
هل هو لحظة التحول بين ماهو ميتافيزيقي لماهو فيزيقي عبر خلق ماهية خاصة بصاحب النص ، ماهية تجعله يقفز من حالة النقيق اللامفهوم نحو حالة مفهومة عبر تفســــير ماهو غير مدرك وإيجاد لغة مناسبة لوصف حالة الأزمة الداخلية .. الأدب هو حالة مطهر لهذا الوجود الذي خرج من ذاكرة الخالق والمخلوق ، وهو البحث عن الخلاص الأخير من حالة التيه المعاش ، ومن هنا تنشأ العلاقة التي يقيمها النص معنا التي لا تتحقق في ضوء القبول والرفض حيث يمثل صورة ذهنية مختزلة لعوالم أخرى ، صور فوتوغرافية مفتعلة كتابيا يصاحبها رابطة شرطية داينمكية بالمتخيل أو نوع الموضوع ، موضوع يصل أو لايصل في جسر خشبي مقام عبر مفردات تشكو الإرهاق مهما كانت وبلغت شدة الحرارة التي يتمتع بها النص .. لدينا نص ولدينا خالق لهذا النص ، الكاتب هو شخصية تتماهي عبر النص ليمثل الأزمة الكبرى بين العالم المعاش والعالم المثالي ، بين الوجود والماهية ، تلك الأزمة التي طالما انشغلت بها الفلسفة من بدايات أولى التأملات التي خرجت في جدران المغارات للبشر الأوائل .. النص يحاول التنفس عبر الورق ، نص يمثل حياة بشرية ولدت من المجهول وتسير للمجهول ، مسيرة من خلال تكثيف وإيقاع الصورة في العمل الأدبي سواء أكان شعرا أو سردا عبر تجسيد الفراغ البشري على هذا الكوكب الغريب انطولوجيا عن ساكنيه ، غرابة تحول بشكل قـــــــــــــسري ماهو ميتافيزيقي لماهو فيزيقي طبيعي ومفهوم ودال وواقعي بالنسبة للقارئ الذي يحاول أن يفهم مفردات العالم الغريب عبر النص الذي بين يديه .. هنا نصل لنتيجة معروفة عند الكل مفادها أن العمل الأدبي هو وســـــــــــــــيلة تحويل أو جسر أو رابطة بين ماهو ذاتي شخصي وماهو جمعي غير شخصي .. النص لايمكن أن يكون حوارا بين ذات مع داخلها وترك القارئ يتيه في بحور من الأفكار المحيرة العائمة والهائمة والهلامية التي تفشل في تشكيل معنى معين ينفع القارئ في حياته ، سأركز في هذه الدراسة المتواضعة على القصة القصيرة جدا ، كمثال سهل على العلاقة بين علم النفس والأدب .. شخوص القصة هم ثيمات وأيقونات عند القاص ، تلك الثيمات تحوي عوالم بأكملها بالنسبة للقارئ ، أي بمعنى أخر شخوص القصة هو نقاط تلامس لا شعوري بين القاص والقارئ .
هذا الموضوع هو الذي ســــــنتناقش به في مايأتي :



( 2 )
مقدمة نفسية لابد منها
تعريفات ..
النفس : منظومة تكونت من تفاعل الذات مع العالم الخارجي ومسرح عمل تلك المنظومة هو الجهاز العصبي المركزي ( الدماغ ) وتتكون من :
أولا / الهوا : أقدم منطقة تكونت للنفس وهي خلاصة الغرائـز الموجودة داخل الكائن الحي والتي ترتبط مباشرة مع التراكيب العضوية ، وضيفة الهوا الرئيسية هي وسيلة تكيف بين تراكيب الكائن العضوية والبيئة المحيطة .
ثانيا / الأنا : منطقة تكونت بعد الهوا ، وترتبط مباشرة مع العقل من جهة ومع الهوا كأداة تكيف ووسيط . وضيفة الأنا الرئيسية هي حفظ الذات .
الأنا الأعلى : منطقة تكونت داخل الأنا وهي تراكم التعديل الذي تقوم به الأنا كذاكرة ، وهي خلاصة القيم والقوانين المفروضة من العالم الخارجي والتي تبدأ عند الوالدين وحتى المجتمع ، وحين تبلور الأنا الأعلى تكون قوة مفروضة ثانية على الأنا مع الهوا الأولى
- العقل : يترادف في المعنى مع الوعي فلسفيا، ومن الناحية البايلوجية يترادف مع الدماغ في الوظيفة ، وهو أعلى نشاط بشري يتكون من مجموعة من الملكات الـفكرية ، والعقل البشري منظومة فائـقة تسمو عن معنى الحياة ويتكون من قسمين :
أولا / العقل الباطن : منطقة ترتبط أولياً بالإدراك اللاحسي أو الاستبطان ( حقائق دون مقدمات ) وهي منطقة إبداع وخلق بواسطة ملكة الخيال دون الارتباط مع العالم الخارجي ويعتقد حاليا بأن اللاوعي البشري مرتبط بنظام مركزي غيبي يسمى بالله أو العقل الكوني أو بالوعي الكلي.. الخ
ثانيا / الوعي : ناتج رئيسي من تفاعل العقل مع العالم الخارجي وهو خلاصة الأفكار والمشاعر الخاصة بالذات البشرية ، ويتكون الوعي من عدة مستويات :
أ / الشعور : حالة الأتنباه واليقظة في فترة زمنية معينة للوعي في علاقته مع المحيط كنقطة تلامس مع هذا العالم .
ب / اللاشعور : مقبرة قديمة ومنسية بشكل كامل لمجمل النشاط النفسي البشري بما فيها الذكريات والأفكار القديمة والرغبات المتحققة وغير المتحققة ، ويؤثر اللاشعور كثيرا في الشعور بصورة غير محسوسة ومعقدة ، ويؤدي الكبت دورا جوهريا في تعقيد اللاشعور ، ويرتبط اللاشعور ارتباطا وثيقا مع الهوا وظيفيا.
ج / ألما قبل اللاشعور : ذاكرة وقتية تقع بين الشعور واللاشعور ، وهو للذكريات التي تقفز بسهولة من اللاشعور نحو الشعور
- التحليل النفسي : منهج في العلاج النفسي أقترحه العالم فرويد وفق معادلة التداعي الحر لللاشعور الذي تخضع كل تصرفاتنا له ، ويضع فرويد عامل الكبت وعامل الغريزة الجنسية وعامل التسامي ( تحويل الدافع الجنسي إلى معنى أسمى مثل الفن والعلم ) كعوامل مؤثرة في اللاشعور ، وتأثير عقد نفسية رئيسية كعقدة أوديب ( تعلق الابن بأمه ) وعقدة أليكترا ( تعلق الفتاة بأبيها )وعقدة ليلث ( الأنثى القاسية ) ، والتداعي الحر مصطلح فرويدي خاص وهو محاولة كشف اللاشعور الذي يقوم بها المحلل النفسي ، ويضع العالم ألفرد أدلر غريزة الإرادة نحو التعالي
والسلطة أساسية في اللاشعور بينما يضع العالم كارل يونغ اللبيدو ( الدافع الحيوي ) أساسي في اللاشعور ويؤكد على وجود ما يعرف ب ( اللاشعور الجمعي ) وهو ارتباط الذكريات البشرية المكبوتة لمجتمع كامل في نظام واحد يؤثر بصورة غير محسوسة في تصرفات الناس ( ميولا مشتركة لتشكيل رموز معينة ) وتسمى في مواضع أخرى بالذاكرة الجماعية ، وتعتبر أهم مصادر الأدب حسب العالم يونغ .


(3 )
علم النفس والأدب
( لاشي غير الأماني الغير المتحققة أ والمخاوف المؤجلة ) ، بهذه العبارة يبنى العالم فرويد رؤيته الشخصية عن العمل الأدبي ، العمل الأدبي باختلاف نوعه مابين المسرح والقصة والقصيدة وحتى النص المفتوح ذو القوالب المجهولة هو محاولة خروج أشياء حبيسة في اللاشعور البشري ، حبيسة تحتاج أن تطفو على سطح وعينا الظاهر ، ومنه بناء علاقتنا مع المحيط ، أو كما يقول الفيلسوف بول ريكور بأن هناك حوافز ومعاني تتخفى خلف معان أخرى .. الفنان يتميز بامتلاكه وسائل لغوية بارعة للتعبير عن تلك المكنونات ، فالعمل الفني والأدبي عند فرويد يتكون من محاولة إشباع رغبات أساسية، ولا تكون الرغبةُ رغبةً ما لم يحل بينها وبين الإشباع عائق ما: كالتحريم الديني والحظر الاجتماعي أو السياسي ، ويرى فرويد في موضع أخر أن "اللاشعور" هو مكان مظلم للرغبات والدوافع المكبوتة التي تتفاعل في الأعماق بشكل متواصل ولكن لا تطفو إلى مستوى الشعور إلا إذا توفرت لها الظروف المحفزة لظهورها .. الوردة تبقى وردة مهما كانت العين التي تراها حسب شكسبير في مسرحيته الشهيرة روميو وجوليت ، لكن الفنان يحاول أعادة رسم جمال الصورة من جديد ، عبر رؤيا ذاتية خاصة به ، وتلك الذاتية هي منبع الفن والمصدر الأول لأغلب الروائع الفنية على مر العصور ، وهذا يدفع فرويد إلى القول بأن اللاشعور هو مصدر العملية الإبداعية .. يقول لنا فرويد بأن الطفولة هي المفتاح السحري لكل فنان ، يؤكد فرويد كثيرا على حالة الحرمان التي يعاني من الطفل والتي تخلق منه لاحقا أما فيلسوفا أو فنانا أو شخص ذو سلوك مضطرب كالقادة وتجار الحروب ، أذن وقبل أن أترك فرويد نصل لنتيجة مهمة وهي : الحرمان الطفولي يؤدي لطريقين : اما سلوكا منحرفا أو تساميا نحو الفلسفة أو الفن .. يضيف الدكتور علي الوردي نقطة هامة لأبحاث التحليل النفسي ، وهي النمط النفسي للطفل ، الطفل في حالة كونه مرهف الحس وذو خيال واسع يكون أرضية خصبة لنمو قابليات عقلية رائعة في المستقبل ، ويشير علي الوردي أيضا دور البيئة في رعاية تلك الأجنة الرائعة ، فهي أن كانت حاضنة متفهمة يولد عبقريا في مجال عمله وإذا العكس يكون محطة لمركبات وعقد نفسية لاحصر لها ... ألفرد أدلر من أبرز الأسماء في مدرسة التحليل النفسي الذي أكد كثيرا على عامل الإرادة الذاتية في صياغة البناء النفسي .. وباختصار شديد ومن مزج أفكار فرويد وعلي الوردي وأدلر نصل لنتيجة مهمة في بنية الفنان والفنان العربي خصوصا ، فهو ملاح تائه يملك بوصلة ، يحاول الوصول لليابسة عبر الكتابة ، الكتابة هي حالة المد والجزر مابين طور التقدم والانحسار وطور الانعتاق والكبت ، حالة التيه تلك هي المجتمع الدوغماتي الذي يرفض أي نشاط للوعي ، المجتمع بهذا النمط هو مجتمع غريزي متوحش يقدس لغة الجسد ويرفض بقوة أكبر العقل وقوانينه ، وبين هذا وذاك يكون الفنان هو الثائر المعذب الذي يقول كلمة ( لا ) بقلمه ..
تضيف لنا مدرسة "كارل يونغ" بعض الأفكار المفيدة في فهم البناء النفسي للعمل الأدبي الذي نقل بحثه من اللاشعور الفردي إلى اللاشعور الجماعي، فالشخصية الإنسانية -في نظره -لا تقتصر على حدود تجربتها الفردية، بل تمتد لتستوعب التجربة الإنسانية للتاريخ البشري ، وأن هذه الشخصية تحتفظ في أعماقها بالنماذج والأنماط العليا التي تختمر في الثقافة الإنسانية عبر الأجيال المختلفة، وتنتقل على شكل رواسب نفسية موروثة عن تجارب الأسلاف، وتدخل هذه النماذج والأنماط في تركيب الفرد وطريقة التخيل الإنساني ، ونستطيع مثلا تقديم دليل متواضع على صحة نظرية كارل غوستاف يونغ ، عن حالة مدينة بغداد ، بغداد ليست مدينة حالها باقي المدن ، كلنا نملك ذكريات خاصة في هذه المدينة ، لكن هناك شيء أكبر يصدح بالنفس ، التاريخ العريق لأكثر حضارة بشرية اهتمت بالفن في أيام الدولة العباسية ، هذا ما كان يقصده يونغ في نظرية اللاشعور الجمعي ، زمن الشعر والموسيقى محمول في داخلنا وفي طرقات لاشعورنا الجمعي .. بهذا يكون الفنان عند " يونغ " لا يعدو كونه أداة يستخدمها اللاشعور الجمعي، الذي يتحكم في مختلف سلوكيات الإنسان وممارساته، ومن ضمنها الممارسة الفنية ..



( 4 )
نماذج تطبيقية
أن العمل الفني هو دائما عبارة عن معنى ممكن ، فهو سؤال وليس جوابا وفق – لاكان – ومدرسته النقدية الشهيرة ، بين أيدينا قصص ثلاث ستكون نماذج لتطبيق أسس التحليل النفسي بشكل عام وليس متخصص ، تلك الأسس التي جاءت في ما سبق من كلام ومن شرح قد يكون أثقل مسامعكم سادتي ، ولكن أسألكم الصبر أرجوكم ، ومحاولة أتمنى أن يكتب لها النجاح في هذا اللقاء المميز وهذا المحفل الرائع .

نموذج رقم ( I )
القصة هي للأستاذ إسماعيل سكران ، القاص المعروف في مدينة الكوت ، الذي أعتبره رائدا من رواد الانطولوجيا التي تصرخ بقوة في أعماله الأدبية ، نختار من أعماله قصة ( بيوت بيضاء ) التي جاءت في مجموعة ( ثنائيات ) الصادرة عن اتحاد أدباء واسط ، في صفحة 43 وحتى صفحة 48 .. القصة تنتهي بعبارة مميزة وهي ( فلم يعد يمتلك الآن سوى أحلامه ) ، تلك الجملة هي مفتاح فهم القصة التي تتحدث عن بطلها ( بائع القبعات ) الذي يعيش مع مجموعة من السكان الهاربين من ويلات الحرب ، في سفن راسية على شاطئ الخليج ، القصة تدور حول مدينة البصرة في الحرب العراقية الإيرانية ، تلك المدينة التي كانت قربان بائس تم تقديمه لآلهة الدمار والحرب ، بائع القبعات يعمل على مساعدة الناجين والذين لم يهربوا من المدينة على تدبير حياتهم اليومية ، كان الصيد وجمع الغذاء من ساحل البحر ، هو محور الحياة اليومية لتلك المجموعة الناجية والتي تكافح أن تضل حيه رغم كل مؤشرات الموت المصاحبة لحياتهم ، بائع القبعات كان دائما يزور المدينة ليجلب احتياجات تلك العوائل المسكينة من أغطية وملابس الأطفال .
من هو بائع القبعات ؟ .. البيئة القاسية أو الملعونة التي خرجت من ذاكرة الخالق والمخلوق التي جاءت بها القصة هي نفسها ما نعيشه الآن من حالة تيه ومن حالة إعادة رسم خريطة مجتمع يسير نحو الهاوية ، بيئة تحكمها قانون الغاب ، أما مفترس أو فريسة في عراق ما بعد سقوط البعث ، القصة كانت تجسيد حي لكل خارطة داخلية عاشها السيد بائع القبعات في تفاعله مع الواقع المعاش ، الواقع بحاجة لبائع القبعات ، الرجل المنقذ ، الذي يعيد أبجدية العلاقات البشرية من جديد من خلال ما ورد في القصة ، ونستطيع أن نجد تلك الدعوة في ما ورد على لسان بائع القبعات وهو يخاطب البقية : ( ألا ترون أننا الآن نتمتع بقدر كبير من الحرية قلما توفرت لدينا قبل الحرب ، لا أحد منا يفهم مجريات الحرب ، ولكنها مع ذلك منحتنا حريتنا ، نحن نلتقط طعامنا مجانيا ، ونسكن في غرف بلا مقابل مادي ، نتجول ووقتما نشاء ، ونأوي إلى جحورنا البيضاء بحريتنا ، لا سلطة لأحد علينا سوى سلطة الأخلاق والإنسانية ) .. ذاك هو المحور الرئيسي الذي قامت عليه قصة بائع القبعات من الناحية النفسية .. العراق هو كهوف مظلمة ليس فيها حياة ، كهوف يعيشها ثلة من البشر ، وهنا يحاول السيد بائع القبعات علاقاته مع الآخرين أن يقوم بمحاولة زرع الحياة في الطقس المظلم المعاش .. بائع القبعات هنا مشابه في ثيمته للشخصية الروائية الشهيرة ( زوربا اليوناني ) ، شخصية تتحدى الملل ، تعيش من أجل الآخرين ، شخصية بسيطة تتمتع بقدر كبير من الذكاء وطاقة كبيرة من ( الليبدو ) ، مما جعلها مرحة أغلب الوقت ، شخصية رائعة لعالم ما بعد الكارثة ، الإحباط عند بائع القبعات هو نفسه عند زوربا ، إحباط موجب يبشر بالولادة دائما في عالم المنفى والصدوع الداخلية .. خارطة بائع القبعات النفسو اجتماعية تروي لنا أزمة داخلية حادة تتمحور في الصراع ما بين هو مثالي يسكن في دواخل بطل القصة ومابين هو غير مثالي يملأ العالم ، اللاشعور يطفو للسطح في محاولة إيصال رسالة للقارئ عبر بائع القبعات في أن العالم لم يعد يليق بك .. رسالة تقيس لنا المسافة النفسية بين بائع القبعات وبين وطن ما يزال حبيسا في تراثه والأرتكاسات القبلية العائدة بدولاب التاريخ نحو الوراء ..
بائع القبعات هو صك غفران خافي يقدمه القاص نحو أزمة محيط ضاغط ، مع زيادة مساحة الوعي التي لا تتناسب مع المحيط ، تولد لنا شخصية بائع القبعات ، نجح السيد إسماعيل سكران في خلق الثيمة مثلما نجح نيكوس كازنتراكس في رواية ( زوربا اليوناني ) ، ونجح همنكواي في شخصية ( سانتياجو ) في روايته الشهيرة العجوز والبحر .


نموذج رقم ( II )
القصة الثانية هنا للقاص والصديق الأخ حميد الزاملي المحترم ، القصة بعنوان ( عودة اللقلق ) وهي قصة قصيرة جدا ، يتداخل فيها الزمان والمكان بشكل رائع ، تتحدث لنا القصة عن بطلها المهاجر خارج العراق في أيام حرب الخليج الأولى ، حين قرر البطل تسليم نفسه لقوات التحالف والمضي بعيدا بحثا عن تاريخ وذاكرة جديدة له ، تبدأ القصة بحوار بين البطل وصديقه ( الراوي ) ، حوار جرى في الليلة الأخيرة قبل هجرته ، ثم يعود الحوار مجددا بعد عودة البطل لمدينته بعد رحلته الطويلة ، حبكة القصة تتمحور حول عش مهجور لطائر اللقلق ، التأمل الثنائي للبطلين جعل منهما ينسحبان في غوص نفسي عن أوجاع المدينة التي كانا يعيشان بها ، ومن تلك الأوجاع كان قصة حبه مع فتاة مجهولة التفاصيل أسمها ( خلود ) ، ليست خلود حبيبة فقط لكنها الحياة كلها في نظر البطل ، ولهذا عند زواجها قرر الرحيل بعيدا ، كانت خلود تلقب البطل بــ ( اللقلق ) لأنه كان ينتظرها حين خروجها من المدرســـــــــــــة ، اللقب شاع بين أصدقاء البطل .. اللقلق كان يقف على رجل واحدة حين يقف لساعات طويلة في عشه ، وكذلك البطل حين ينتظرها طويلا ، حالة التماهي بين اللقلق والبطل هو المفتاح أو ما يعرف بألــ ( Master Key ) لفهم كل القصة من الناحية النفسية ، المحلل النفسي يتنبه لهذا الطائر كرمز يستخدمه القاص لوصف حاله محورية أكثر من المفاصل الأخرى للقصة ..
ماذا يعني طائر اللقلق وفق كارل يونغ ؟؟
طائر اللقلق من الطيور المهاجرة وهو كائن اجتماعي من الدرجة الأولى يعيش في معيشة ذات نمط ثنائي المسكن ، أي أن الذكور والإناث تتبادل حضانة البيض حتى يفقس ، اللقلق كما عند باقي الطيور المهاجرة يعيش في بيئات مناسبة له ، فهو غير متكيف مع تقلبات المناخ ، أستخدم رمز اللقلق في الأعمال الفنية على مر العصور كرمز للحكمة والهدوء والهجرة ، ولهذا تسرب الرمز لعوالم اللاشعور للقاص حميد الزاملي ، تسرب بشكل هلامي غير قسري في أروقة القصة ، اللقلق يهاجر والبطل القصة يطلب اللجوء ويرحل ، يعود البطل مجددا ليجد اللقلق في البرج .. الهجرة عند بطل القصة هي رغبة مكبوتة لم تتحقق بعد ، الهجرة لبلاد تحكمها قوانين الياسمين والعيش في فضاء واسع من الحرية .. اللقلق غير متكيف مع بيئته الاجتماعية وهي ليست تهمة بل أعتبرها امتيازا لنمط شخصيته الحالمة الجميلة ، كلنا نحمل في داخلنا ثيمة اللقلق ..
يقول لنا القاص عبارة مميزة ( كل شيء سيكون من الماضي ، خلود ، المدينة ، اللقلق ، الانتفاضة ) ، عبارة الأخ حميد هي حكمة النص في أن الحياة هي سلسة من قارات منفصلة في شريط ذاكرة البشر ، الوعي البشري ينظر لتلك الجزر على أنها قارة واحدة ويابسة واحدة ، وعي بطل القصة جعل من الأمس نفسه هو الغد .. كل شيء باق نفسه إلا خلود !! ، تلك السيدة التي خلقت أجنحة رائعة لبطل القصة ، أجنحة جعلته يعود لوطنه الأول ، الرحم الذي انبثق منه هذا الطائر .


نموذج رقم ( III )
الآن ... مع القاص والأديب عيسى مسلم وقصة ( القلب الفولاذي ) ، القصة نشرت في جريدة الشعب في عام 2007 ، تروي لنا هذه القصة شخصية السيد ( مياح ) ، مياح شيوعي من الريف العراقي ، يروي لنا القاص عن مشهد مراجعته للطبيب لتعرضه لمرض في القلب ، عمره السبعين كان هو السبب ، التهالك العضوي المتدرج عبر السنين ، لكن أرادة بطل القصة تحاول كسر هذه القاعدة الحياتية ، وهنا جاء أسم القصة ( القلب الفولاذي ) ، مياح يسترجع بشريط صوري نحو مرحلة الاضطهاد السياسي والفكري الذي تعرضت له كل القوى الوطنية في السبعينات ، مياح أخذ نصيبه من هذا في سجون الطاغية ، هناك مر بتجربة أثبات رائعة لقوة صبره ، لم يعترف ولم يقبل التوقيع على وثائق الاعتراف رغم القسوة التي شاهدها .. مراجعة مياح للطبيب وتعجبه من كبر حجم القلب وعدم تأثير تلك الأعراض على الحالة النفسية لبطل القصة هي نهاية القصة ، القاص يمزج هنا بين عامل الإرادة وعدم تأثيرها على مرض البطل ، مزج نجح فيه من الناحية الفلسفية .. ناحية تعرج بنا لكتابات الفيلسوف شوبنهاور حول أهمية الإرادة واعتباراها قوة عليا كونية تحرك كل شيء ... السيد مياح شخص من الريف ، الريف بكل بساطته وبكل لا تعقيداته الحضارية ، الريف يعطي لنا عالم مواز لحضارتنا المملوءة بالكوابيس من القلق والفوضى ، قلق فطري متصاعد يعاكس الماهية البشرية البسيطة ، مياح سنبلة نامية في مزارع تعيش على المطر ، مذاقها مميز ، مذاق نجهله نحن المقتاتين على الأغذية المعلبة وعلى المزروعات المعاملة كيميائيا ، ومن تلك البساطة خلقت قوة الإرادة عند البطل ، أو كما يسميها القاص برمز معدني ( القلب الفولاذي ) ، الحياة في فكر السيد مياح هي الانسياب والولوج والنزوع والتماهي مع المطلق الذي أعطاه قوة ثبات رائعة في حياة تجعل من ساكنيها يجلسون على كراسي متحركة .. بطل القصة هو نموذج حي واقعي مستورد من محور فلسفة باشلار حول دور البساطة كناموس سحري يحرك هذا الكون .. مابين الإرادة ومابين البساطة يقف البطل شامخا حاملا كأسه المقدسة في سجون الأمن وفي التعامل مع مرضه الخطير ، ولكن دون هذين العاملين الساكنين في لا وعي السيد مياح هل كان سيصمد في كل تلك الصعوبات التي تهزم جبالا راسخة ..

اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا

شكرا لكم